الستالينية والكارثة البيئية السوفييتية

تامر خرمه
2021 / 10 / 13 - 09:45     

بقلم جيفرسون شوما


في هذه البرهة للتاريخ، والتي تقوم فيها الرأسمالية، بتوقها للمراكمة، باقتراف كارثة بيئية غير مسبوقة في كافة أنحاء العالم، وبافتتاح عهدها الجيولوجي الخاص “الكابيتالوسين”[i]، بات النضال من أجل التحول الاشتراكي للمجتمع يكتسب مساحة ويتم تقديمه كبديل عن الأزمة البيئية التي تهدد البشرية.

ومع ذلك، فإن دعاة حماية البيئة البرجوازيين، والمدافعين عن برنامج “التنمية المستدامة” الذي يحاول إصلاح الرأسمالية، ينشرون التشويش عن قصد: إنهم يقدمون الأزمات البيئية الضخمة والخطيرة للاتحاد السوفيتي كمثال على ” اللا استدامة البيئية” للاشتراكية. من ناحية أخرى، فإن الكثير من النشطاء الاشتراكيين (وحتى بعض الاشتراكيين البيئيين) يرفضون مع الأسف انتقاد “الأثر البيئي” السوفييتي بشكل محدد وعميق. البعض، وهم الأقلية لحسن الحظ، يدافعون عن النموذج السوفييتي ولايزالون يعتبرونه “اشتراكيا”. هذه هي حالة ظاهرة الستالينية الجديدة، تيار يساري يكاد يشبه دعاة الأرض المسطحة، ينكر الحقائق وينشر الأكاذيب.

في الحقيقة، كان الاتحاد السوفييتي مسرحا لمآسي بيئية هائلة، كثير منها يعد من أسوأ مآسي القرن العشرين، وتلوثه الصناعي أسهم بالتأكيد في التغير المناخي. هذا لم يكن نتيجة لما يسمى بـ “عدم الاستدامة البيئية” للاشتراكية، بل نتيجة للستالينية، وهي الصيرورة التي خنقت الثورة وأسست دكتاتورية بيروقراطية.

تحت قيادة ستالين، تم استخدام هذه الثورة المضادة من أجل طائفة من البيروقراطيين (القادة وموظفي الدولة والحزب) للحفاظ على امتيازاتهم، والقضاء على قادة البلاشفة، وحتى العلماء الذين لم يوافقوا على خططهم. هذه الحالة البيروقراطية هيمنت على أجهزة الدولة السوفييتية والحزب الشيوعي، وفي النهاية قادت إلى استعادة الرأسمالية.

في الاتحاد السوفياتي، لم يكن هناك أبدا تخطيط ديمقراطي مركزي للاقتصاد، يأخذ في عين الاعتبار علاقة تمثيل غذائي اجتماعي عقلانية ومتوازنة مع البيئة، بل على العكس تماما؛ ما كان سائدا هو تخطيط بيروقراطي، موسوما بعمق بأيديولوجيا إنتاجية صناعية لا تهتم بالبيئة على الإطلاق.

في التخطيط البيروقراطي، يتم إبعاد المنتجين والمستهلكين عن أي نقاش للخطة الاقتصادية. التخطيط يكون حكرا على مجموعة من المختصين الذين يتولون وظائف إدارية وقيادية. ومسؤولية تنفيذه في يد هذه المجموعة. القرارات عامودية ودكتاتورية. وكل الإمكانات الإنتاجية للبلاد يجب أن تتبعه، حتى وإن أدى إلى قرارات غير عقلانية وقمعية. البيروقراطي الذي يدير المصنع يقاتل دائما بأسنانه وأظافره للحفاظ على منصبه وامتيازاته المادية. لذا، فإنه يتبع أوامر التسلسل الهرمي البيروقراطي بشكل أعمى ويخفي الهدر والفشل، ويفسد البيروقراطيين الإداريين الآخرين، ويستغل القوى العاملة.

إن منطق التخطيط البيروقراطي قصير المدى. يجوعهم للوصول إلى أهداف كبيرة والفوز بامتيازات في التسلسل الهرمي للحزب (سواء أكانت ترقيات داخل الجهاز، أو سيارة خاصة، أو داشا [منزل ثان موسمي] لقضاء العطلات، أو أسواق خاصة فيها أشياء فاخرة، أو تعليم خاص، أو غرف خاصة في المستشفيات)، فإن المواصفات المحلية وقدرة الطبيعة على التعافي يتم تجاهلها تماما. هذا هو السبب في أن الآثار البيئية كانت كارثية، سواء في الزراعة أوالصناعة السوفيتيتين.



اتباع آثار الأقدام البيئية


مأساة تشيرنوبيل هي بالتأكيد رمز الدمار الأكبر الذي تسبب به التخطيط البيروقراطي الستاليني. عدد لا يحصى من الناس تأثروا بها. النظم البيئية، والتربة، والمياه، باتت كلها ملوثة للغاية. التقديرات تشير إلى أن المنطقة المتضررة من الحادث النووي ستبقى غير صالحة للسكن لمدة تصل إلى 20 ألف عام. لكن تشيرنوبيل ليس الرمز الوحيد “لآثار القدم البيئية السوفيتية”. هناك رموز أخرى يتم تذكرها بشكل أقل.

في الزراعة، أفضى التخطيط البيروقراطي إلى استثمار كبير في إنشاء قنوات الري التي أضرت بمجاري الأنهار الطبيعية بأسرها. والأراضي الصالحة للزراعة عانت من عمليات التآكل والتملح.

بحر آرال يعد أحد أسوأ رموز الكارثة البيئية التي سببها التخطيط البيروقراطي. بحر آرال، الواقع في أوزباكستان بآسيا الوسطى، والذي كان ذات يوم أكبر بحيرة في العالم، بمساحة أكثر من 68 ألف كيلومتر مربع ومنطقة مزدهرة لصيد الأسماك، يحتفظ اليوم بنسبة 10٪ فقط من حجمه الأصلي. ابتداء من الستينيات، قامت مشاريع الري السوفيتية بحرف الأنهار التي تغذيه لري صناعات القطن. وهكذا، تم حرف أكبر نهرين في المنطقة لتحويل آسيا الوسطى إلى أكبر منتج للقطن في العالم. لبعض الوقت، حققت أوزبكستان نموا اقتصاديا هائلا، ولكن بعد فترة بدأت الآثار البيئية تصبح ملموسة.

تقلص البحيرة سرعان ما أثر على المناخ، وقلل بشكل جذري من كمية المطر. النباتات بدأت تموت، وجفت البحيرات الأصغر من حولها. للتعويض عن عدم كفاءة ممارساتهم الزراعية، لجأ السوفييت إلى الاستخدام المكثف وغير المنضبط للمنتجات الكيماوية السامة. ولكن بجفاف بحر آرال، تحولت البقايا السامة التي ألقيت في الأنهار، وانتهى بها المطاف في قاع البحيرة، إلى غبار مسموم حملته الرياح إلى الحقول الخصبة، التي كانت تقع على بعد ألف كيلومتر.

في القطاع الصناعي، كان إهدار المواد الخام شائعا نظرا لضغوط البيروقراطية لبلوغ النقاط. المصانع كانت تفتقر إلى المعدات اللازمة للسيطرة على التلوث البيئي، وكان الأطفال المولودون بالقرب من مصانع الألمنيوم أكثر عرضة 7 مرات للإصابة بالكساح مقارنة بصغار المناطق النظيفة. مشكلة تلوث الهواء والماء والتربة كانت مزمنة للغاية، لدرجة أنه قد تم الاعتراف بها من قبل المسؤولين السوفييت في ذلك الوقت. “الجمهورية في وضع كارثي”، هذا ما أوضحه رئيس لجنة الاتحاد الروسي لحماية البيئة في نيسان 1989. ووفقا لتقريره، كانت المناطق الخمس في البلاد على شفا كارثة بيئية، والعيش في إحدى تلك المدن الروسية السبعة كان نظريا مستحيلا.

في أوروبا الشرقية كان الوضع مماثلا، إن لم يكن أسوأ، وذلك نظرا للدور التبعي لبلدانها تجاه الاتحاد السوفيتي. حزام الفحم والفولاذ الذي امتد من جنوب شرق ألمانيا، عبر تشيكوسلوفاكيا، إلى جنوب بولندا، كان أثرا حقيقيا للدمار. في عام 1990، كان أكثر من 15 مليون شخص يعيشون في هذه المناطق، حيث تضرر نحو 40 ٪ من غاباتها بسبب الأمطار الحمضية. في بولندا، دخان مصاهر الصلب، ومحطات الطاقة، والمصانع الكيماوية عاقبت مدن سيليزيا، حيث مات رجال في الثلاثينيات والأربعينيات من أعمارهم بالسرطان، وأمراض القلب، وانتفاخ الرئة.

في القرن الماضي، كان الاتحاد السوفييتي ثاني أكبر منتج عالمي لغازات الاحتباس الحراري. بلغ إجمالي الانبعاثات للبلاد عام 1988 نحو 79 ٪ من إجمالي الانبعاثات من الولايات المتحدة. ومع ذلك، كان الناتج المحلي الإجمالي السوفييتي حوالي 54 ٪ فقط من نظيره في الولايات المتحدة. أي أن الاتحاد السوفيتي أحدث تلوثا يزيد بمقدار 1.5 مرة عن الولايات المتحدة لكل وحدة من وحدات الناتج المحلي الإجمالي. يمكننا أن نرى أن “اشتراكية” ستالين السوفيتية، المحصورة “في بلد واحد”، كانت في الحقيقة مجرد إضفاء للطابع الاشتراكي على البؤس. إضفاء لاشتراكية محدودة وبالية وملوثة.

كما لم يقتصر التسمم الإشعاعي على تشيرنوبيل. بين عامي 1949 و1989 ، قام الاتحاد السوفياتي بتفجير نحو 456 قنبلة ذرية في ما يسمى بـ “المضلع” بكازاخستان. كان في موقع الاختبار الواقع في مدينة سيميبالاتينسك أهم برنامج نووي للاتحاد السوفيتي، بمساحة تبلغ نحو 18 ألف كيلومتر مربع. عندما تم إنشاؤه في العام 1947، قال البيروقراطيون في موسكو إن المنطقة كانت عمليا غير مأهولة بالسكان، ولكن كان هناك نحو 700 ألف شخص يعيشون حولها. لمدة أربعة عقود تعرضوا لإشعاع التجارب النووية. سجلت المنطقة تفشي الأمراض، بما في ذلك حالات لا حصر لها من السرطان، واللوكيميا، والأطفال المولودين بدون أطراف، والاكتئاب، والانتحار.

في الثمانينيات، في بداية الثورات الشعبية ضد الديكتاتورية البيروقراطية السوفيتية، كان التلوث البيئي في قلب مطالب الكثير من الاحتجاجات. في كثير من المدن الصغيرة والمتوسطة، كان النضال ضد تلوث الهواء والماء هو الحافز للسخط على النظام. لم تكن صدفة أنه بين عامي 1988-1989، قام عمال المناجم المضربون في أوكرانيا وسيبيريا بإعطاء الأولوية لتطهير البيئة في قائمة المطالب السياسية. في الجمهوريات غير الروسية، اندمجت البيئية بالنضال من أجل تقرير المصير الوطني للعديد من الأعراق المضطهدة، والذي عبر عن غضب واسع النطاق ضد استغلال الموارد المحلية على حساب معيشتها. القرارات التي يتخذها التقنيون والبيروقراطيون بسهولة، لم يعد من الممكن تنفيذها بنفس الطمأنينة كما في السابق.



لينين وحماية الطبيعة


نظرا إلى الكارثة البيئية التي أثارها التخطيط الصناعي البيروقراطي السوفيتي، يصعب تصديق أن الاتحاد السوفيتي كان من أول الدول التي اتخذت إجراءات لحماية البيئة في القرن العشرين.

لكن هذا كان قد حدث خلال السنوات الأولى للثورة الروسية، عندما كان لينين لا يزال على قيد الحياة. ممارسا لتسلق الجبال ومحبا للطبيعة، الزعيم البلشفي تحرك عندما طلب منه مهندس زراعي شاب يدعى نيكولاي بوديابولسكي الموافقة على “زابوفيدنيك” جديدة، وهو الإسم الذي تعرف به المحميات الطبيعية السوفيتية.

بوديابولسكي طلب إنشاء “زابوفيدنيك”، التي يدافع عنها دعاة حماية البيئة الروس، قبل الثورة بفترة طويلة. بعضها تم بالفعل إنشاؤه. لا يمكن أن يتاح فيها الاستغلال لااقتصادي، ولا حتى السياحة، فقط للرصد العلمي.

المهندس الزراعي الشاب أراد إنشاء إحدى مناطق حماية البيئة هذه على دلتا نهر الفولغا، والتي كانت مهددة بالتفسخ. لينين وافق على الفور، واقترح عليه، في اليوم التالي، أن يضع مسودة مرسوم حول حماية الطبيعة، وهي وثيقة مهمة للغاية اعتبرها لينين “مسألة عاجلة”. يتذكر بوديابولسكي الاجتماع: “بعد أن سألني بعض الأسئلة حول الوضع العسكري والسياسي في منطقة أستراخان، أعرب فلاديمير إيليتش عن موافقته على كل مبادراتنا، وخاصة تلك المتعلقة بمشروع زابوفيدنيك. وذكر أن قضية المحميات مهمة ليس فقط لمنطقة أستراخان، ولكن أيضا للجمهورية بأكملها، وأنه يعتبر هذا أولوية عاجلة”.

بوديابولسكي جلس وكتب قرارا انتهى بموافقة الحكومة السوفيتية في أيلول 1921، بعنوان “حماية آثار الطبيعة والحدائق والمتنزهات”. تم إنشاء لجنة للإشراف على تنفيذ القوانين الجديدة، وقد تضمنت عالم جغرافيا وأنثروبولوجيا، واثنين من علماء الحيوان، وعالم بيئة، والذين أنشأوا معا ” زابوفيدنيك” غابة أستراخان. بعد ذلك، تم إنشاء “زابوفيدنيك إلمينسكي”، وهي منطقة تضم معادن ثمينة. في ذلك الوقت، كان البلاشفة يخوضون حربا أهلية، وكان اقتصاد البلاد في حالة يرثى لها، وكانوا في أمس الحاجة إلى الموارد. ورغم العلم بأنه توجد في إلمينسكي العديد من المعادن لاستخراجها، اعتقد لينين أنه يجب الحفاظ على المنطقة للبحث العلمي. وهكذا تم وضع الفهم العلمي الخالص قبل مراكمة رأس المال.

موقف لينين البيئي كان واضحا أيضا بعد فترة وجيزة من استلام البلاشفة للسلطة، عندما أصدرت الحكومة مرسوما “حول الأرض”، معلنة أن جميع الغابات والممرات المائية والمعادن هي ملك للدولة، وهذا شرط أساسي للعلاقة العقلانية والمتوازنة مع الطبيعة.

كما أصدرت الحكومة السوفييتية بعد ذلك مرسوما “حول الغابات” في اجتماع ترأسه لينين في أيار 1918، لتأسيس ما نسميه اليوم تقسيما بيئيا واقتصاديا للغابات، مقسمة ما بين قطاع قابل للاستغلال، وآخر محمي، للسيطرة على التآكل، وحماية تجمعات المياه، و”الحفاظ على آثار الطبيعة”. في عام 1919 أصدرت الحكومة أيضا مرسوما “حول مواسم الصيد والحق في حيازة أسلحة الصيد”، والذي يحظر صيد الموظ والماعز البري خلال فصلي الربيع والصيف.

هناك بعض الإجراءات التي تبنتها الجمهورية السوفيتية الفتية، والتي تلبي المطالب الرئيسية لحماة الطبيعة. فيليكس شيلمارك، في كتابه “تاريخ الزابوفيدنيك الروسي، 1895-1995، يحلل بدقة الفترة الزمنية للينين باعتباره متحمسا لسياسات المحافظة الطبيعية الإقليمية، التي دافع عنها العلماء والأيكولوجيون السوفييت. يعلق المؤلف على أن إنشاء الزابوفيدنيك على مساحات شاسعة من الاتحاد السوفيتي بقوله: لا يمكن أن يحدث إلا تحت سلطة السوفييتات. كان إلغاء الملكية الخاصة للموارد الطبيعية وتأميم الأراضي من الإجراءات الأساسية. ومع ذلك، فقد أوضح أنه يجب علينا أن ننسب الفضل إلى الجهود غير العادية للأيكولوجيين والعلماء والقادة السوفييت في تلك السنوات، والذين دفعوا بحماس باتجاه حملة لحماية البيئة في لحظة تاريخية لبلادهم:
“يجب ألا ننسى أن نظام الزابوفيدنيك السوفيتي العلمي ولد بينما كان لينين يقود الحزب والدولة. في ذات الوقت، عند مراجعة الكم الهائل من الأدبيات السوفيتية حول الدور الاستثنائي للينين في قضايا حماية البيئة، علينا أن ننظر إلى هذا الأمر بحذر شديد. من المعروف أن المحرضين على العديد من قرارات لينين بشأن المحميات – وكان هناك حوالي 300 خلال حياته – لم يكونوا فقط ف. بيتروف، ون. فيدوروفسكي، أو ف. شيلينجر، ولكن أيضا في. دي. بونش برويفيتش، ون. ب. جوربونوف، وأفراد آخرون قريبون من مركز السلطة. يمكننا أن نتذكر أن العديد من القادة السياسيين السوفييت الأوائل – وخاصة تروتسكي وبوخارين وكريلينكو وفوروشيلوف – كانوا من عشاق الطبيعة، باعتبارهم صيادين أو مسافرين أو متسلقي جبال. البحث الأوسع سيساعد الأبحاث المستقبلية، التي لا تثقل كاهلها الصور النمطية للماضي القريب، لتعكس بشكل أكثر موضوعية على ما حدث بالفعل خلال هذه الفترة التاريخية غير العادية والمعقدة”.



الإرهاب الستاليني


لسوء الحظ، في ظل حكم ستالين أصبح “الزابوفيدنيك” شركات اقتصادية متعددة الأغراض. الخطة العظيمة لتحول الطبيعة (بهذا الاسم تماما!) التي اقترحها الدكتاتور، نالت تصميما إنتاجيا فادحا غير قابل للنقاش. كانت الفكرة أن الاستغلال المخطط للموارد الطبيعية يجب أن يكون الشرط الأساسي لحماية الطبيعة، وفقا لـ ف. شتيلمارك. وهكذا، في عام 1951، قام ستالين باقتطاع 89 ٪ من نظام الزابوفيدنيك، ولم يتبق سوى 40 محمية، تتألف من نحو 3.5 مليون فدان. وهكذا تم فتح هذه الأراضي للتوسع في الزراعة وقطع الأشجار والتعدين والصيد.

كانت هذه أيضا أوقاتا صعبة بالنسبة لمعظم المدافعين عن البيئة السوفييت. وقد كانوا كثيرين وموهوبين للغاية. إننا نتحدث عن أشخاص من أمثال فلاديمير فيرنادسكي، مبتكر مفهوم المحيط الحيوي، وفلاديمير ستانتشينسكي، المدافع عن الديناميات الغذائية (أو الديناميكية البيئية)، وسوكاتشوف، المعروف بمفهوم التكاثر الحيوي، الذي استوحاه من أفكار فيرنادسكي حول المحيط الحيوي والدورات البيوجيوكيميائية، والكسندر أوبارين، أول من قدم فرضية أن الحياة على الأرض قد تطورت من التطور الكيميائي التدريجي للجزيئات القائمة على الكربون في الحساء البدائي للكوكب، وعالم الاقتصاد ألكسندر شايانوف، الذي كشفت أبحاثه عن المنطق الغريب للاقتصاد الفلاحي (أو الطبيعي)، والذي أجرى نقاشا هاما مع لينين حول التعاونيات، وأحد أبرز علماء البيئة في سنوات ما بعد الثورة، عالم الوراثة وعالم النبات الروسي نيكولاي فافيلوف (1887_ 1943).

الإرهاب الستاليني الكبير أسكت الكثيرين منهم عبر الترهيب والسجن والإعدام. من المؤكد أن فافيلوف هو المثال الأكثر دراماتيكية على اضطهاد علماء البيئة السوفييت. لقد كان مهووسا بإنهاء المجاعة، ولهذا سار في كل قارات الأرض تقريبا، وجمع عينات من الخضروات، واتصل بالمزارعين التقليديين، محاولا دمج معارفهم وتقنياتهم. كان فافيلوف من أوائل العلماء الذين استمعوا فعليا للمزارعين التقليديين، لسكان الأرض في كافة أنحاء العالم، لفهم سبب اعتقادهم بأن البذور المتنوعة مهمة لحقولهم. لقد حاول بهذا اختراق ثقافات الأجداد، ومعرفة أفضل الأسرار المحفوظة في الذاكرة الجمعية، وربطها بمعرفته الأكاديمية.

لقد حاول تطبيق علم الوراثة المندلية على نظرية الانتقاء الطبيعي لتطوير الأنواع، وتحسين قوة النباتات، وزيادة إنتاجية الزراعة في البلاد، من خلال طريقة كانت مختلفة تماما عن الزراعة المكثفة الضارية، التي فرضتها “جماعية” ستالين بالقوة.

كما هو الحال مع أي بحث علمي جاد، كان عمل فافيلوف بطيئا، والنتائج الدائمة لن يتم بلوغها إلا على المدى المتوسط أو الطويل. لكن هذه كلمات غير موجودة في قاموس المنطق الآني للبيروقراطيين. تم إلحاق العار بفافيلوف، ووضع مكانه عالم طموح آخر في ذلك الوقت، والذي وعد سيده بنتائج فورية. كان اسمه تروفيم ليسينكو (1898_ 1976)، المتهم بإحدى أكبر حالات الدجل العلمي في التاريخ.

في تموز 1941، تم الحكم على فافيلوف واثنين من زملائه بالإعدام. وقد تم إطلاق النار على زملائه، ولكن تم تخفيف عقوبة فافيلوف إلى 20 عامًا في السجن. في 6 كانون الثاني 1943، كان الرجل الذي حارب كثيرا لإنهاء المجاعة في العالم، والذي كان يبلغ من العمر 55 عاما، قد مات جوعا في السجن.

كانت حياته مكرسة لفهرسة وتوثيق وجمع التنوع البيولوجي الزراعي العالمي، من أجل إنشاء زراعة بيئية يمكن أن تحل قضية الجوع. اليوم، يطلق على علم فافيلوف اسم الايكولوجيا الزراعية. إنه لأمر مدهش أن نتخيل للحظة ما كان يمكن أن تكون النتائج العملية لهذه الجهود في تطوير الزراعة السوفيتية. كانت ستكون نموذجا للبشرية جمعاء، في تنظيم نظام للإنتاج الزراعي يكون مستداما بشكل فعال من وجهة النظر البيئية. لكن هذه العملية الرائعة أخضعت تحت وحشية إرهاب ستالين.

فافيلوف، وكافة علماء البيئة السوفييت، أظهروا في السنوات الأولى للثورة إلى أي مدى يمكن للعلم أن يتقدم عندما يتحرر من قيود الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، والمنافسة التجارية. إنهم يعلموننا أن الثورة الاجتماعية يجب أن تغير العلاقات الاجتماعية للإنتاج جذريا، وأن تؤسس نمطا متفوقا من الديمقراطية، بحيث تكون السلطة السياسية فعليا في يد العمال وحلفائهم الفلاحين والمضطهدين. لكنهم، فوق كل شيء، يبينون أيضا أن المجتمع الجديد يجب أن يثوّر كل قوى الإنتاج، ليوازن من ثم الاختلال الأيضي الذي تسببه الرأسمالية.

__________



[i] المصطلح يشير إلى الحقبة الجديدة للرأسمالية، والتي تشهد تغييرا مناخيا بيئيا.. وقد اعتمده المدافعين عن القضايا البيئية في أوساط اليسار عوضا عن مصطلح “الأنثروبوسين” الذي يعني العصر الجديد للإنسان، وذلك لأن مصطلح “الكابيتالوسين” أكثر دقة، حيث يعبر عن حقيقة كون الرأسمالية هي التي أنتجت الأزمة البيئية الشاملة التي قادت إلى تغيير الحقبة الجيولوجية


ترجمة تامر خرمه
مراجعة فيكتوريوس بيان شمس