في معركة القيم والمعايير


التيتي الحبيب
2021 / 10 / 13 - 09:34     

على اي أساس يمكننا الارتكاز لكي نصدر حكمنا بتفوق نظام اقتصادي وسياسي واجتماعي عن نظام أخر؟ السؤال معقد والجواب عليه يتطلب عرض قضايا متداخلة جدا، انه يشبه كبة خيط ملفوفة بطريقة ملبكة. كيف يمكننا تناوله بكثير من التبسيط وبدون الإخلال بجوهره؟ في مثل هذه الحالات قد تسعفنا طريقة القبض على رأس الخيط او على الحلقة المركزية التي بها تتعلق او تشتبك باقي الحلقات وعند جر راس الخيط او الحلقة المركزية تتداعى البقية.
إن القيم ومعايير التقدم أو جودة الحياة والرفاهية في مجتمع ما، هي قيم ومعايير الطبقة السائدة الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج في تلك المرحلة من تطور المجتمع، وقد أصبحت قيم ومعايير المجتمع نظرا لهيمنة تلك الطبقة ولدور الدولة باعتبارها أداة أيديولوجية وقوة منظمة تستطيع أن تصور لباقي طبقات المجتمع بأن قيم ومعايير الطبقة السائدة هي القيم والمعايير لكل المجتمع هذا اولا؛ ومن جهة ثانية وبما أننا نحن في هذه المرحلة نعيش تحت هيمنة وطغيان النظام الامبريالي العالمي، فان الدول المسيطرة تستطيع ان تجعل من قيمها ومعاييرها قيما للبشرية جمعاء.
إن هذه القيم والمعايير، في الحقيقة، تعبر عن موقف ووضع السيادة لطبقة مهيمنة في المجتمع نظرا لامتلاكها لوسائل الإنتاج والسلطة العسكرية والسياسية. إنها إذا قيم ومعايير تقوم على أساس طبقي، وتوظفها الطبقات السائدة في صراعها مع باقي طبقات المجتمع لأنها توفر الشروط الفكرية والإيديولوجية للسيطرة ودوامها. في مقابل هذه القيم والمعايير تولد قيم ومعايير نقيضة، أساسها موقف وموقع طبقة اجتماعية لا تملك أي شيء ولم يتبقى لها الا قوة عملها تبيعها لتعيش وفي نفس الوقت يستحوذ الرأسماليون على فائض القيمة ويحولوه إلى ثروات هائلة يراكمونها في بنوكهم ووحدات إنتاجهم. من خلال هذا الصراع يولد المجتمع البديل الذي تتحول فيه الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج إلى ملكية جماعية، وعلى قاعدة هذه الملكية الجماعية تنمو وتنشا قيم جديدة. ولما تنضج الشروط الموضوعية والذاتية تنتزع الطبقة العاملة السلطة وتعمل على جعل قيمها هي قيم المجتمع وتعمل دولة البروليتاريا وحلفائها على تسييد هذه القيم وتلك المعايير وجعلها قيم ومعايير المجتمع برمته.
رب قائل يقول بان التجارب السابقة لم تتقدم على هذا المنحى، هذا صحيح الى حد كبير لقد حدثت انتكاسات خطيرة جعلت التجربة تصاب بالفشل وتتراجع الى الخلف. في هذه القضية لا بد من التسلح بالنظرة التاريخية البعيدة المدى؛ إننا أمام حالة من اعقد حالات الولادة لنظام جديد في تاريخ البشرية. فإذا كانت جميع أنماط الإنتاج التي عرفتها البشرية، منذ انحلال المشاعة البدائية حيث سادت الملكية الجماعية، فقد توالت أنماط إنتاج نقيضة له أساسها الملكية الخاصة. ولقد دامت هذه التجربة آلاف السنين، ويعتبر نمط الانتاج الراسمالي استمرار لتلك الانماط القائمة على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. فنظرا لطول المدة التاريخية، أصبح من نافل القول او من البديهي اعتبار المجتمع البشري هو مجتمع طبقي وهذا هو الوضع الطبيعي ولا يوجد مجتمع غيره يمكن ان يولد. حسب هذا الزعم باتت الملكية الخاصة جزء أصيل من فطرة الإنسان، وقد يفقد إنسانيته إن حاولنا نزعها عنه إنها بمثابة الروح للجسد.
إن الملكية الخاصة أمر طارئ على تطور الإنسان وهي نتيجة تطور اجتماعي وتقسيم للعمل داخل المجتمعات البشرية الأولى. إن التطور البشري الذي حصل إلى يومنا هذا، جعل مستقبل تطور البشرية يقف عند مفترق الطرق نظرا بالضبط للتناقض الذي وصله موضوع تراكم الملكية الخاصة في يد المالكين الاحتكاريين. يكمن هذا التناقض في حقيقة وجود طبقة اجتماعية تملك أهم وسائل الإنتاج وتحتكرها، وهي طبقة متقلصة العدد جدا ولا تتعدى كمشة من العائلات، وقد تحصلت على هذه الملكية الخاصة نتيجة استغلالها لطبقة اجتماعية كبيرة جدا ولا زالت صفوفها تتوسع باستمرار وهي الطبقة العاملة. إن المزيد من تطوير هذا الاستغلال أوصل غالبية الطبقات الاجتماعية إلى حافة الفقر والإفلاس، وبات يهدد مصير المجتمع برمته من جهة، ومصير البشرية من جهة ثانية؛ لأن محتكري وسائل الإنتاج يتعرضون للازمات الحادة فيعملون على حلها على حساب الطبقة العاملة بالمزيد من استغلالها وعلى حساب الطبيعة بالمزيد من تدميرها. فمن اجل إنقاذ الطبقة العاملة والطبيعة أصبح من الضروري نزع ملكية وسائل الإنتاج من يد هذه الكمشة من الاستغلاليين ووضعها كملكية في يد المجتمع. والمجتمع الاشتراكي يسعى لحل معضلة ملكية وسائل الانتاج الاساسية والاهم وليس باقي اشكال الملكية الخاصة الأخرى التي ستتوفر شروط حلها مع تقدم المجتمع الاشتراكي وتوفر شروط زوال الطبقات الاجتماعية واسبابها المادية والمعنوية.
وفي هذه الدينامية التاريحية لبروز قيم ومعايير جديدة تقوم على قاعدة الملكية الجماعية تبرز قيم المجتمع الجديد ومعايير التقدم والرفاه والحياة الكريمة لا علاقة لها بقيم ومعايير المجتمع الرأسمالي او القائم على الملكية الخاصة. فالعديد من القيم مثل الحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة ومعايير التقدم والتطور والجمال ستتغير ويصبح لها مضامين تختلف عما هو سائد اليوم. لم يتم الانتباه الى هذا الامر بما يكفي من نباهة ويقظة فاستمر الحكم على منجزات المجتمع الجديد بنفس قيم ومعايير المجتمع القديم الطبقي. بل انجرت القيادات نفسها الى سباق منهك وسقطت في فخ واجب اللحاق بركب مجتمع الاستهلاك وقيم السوق والسلعة.
للقطع مع هذه الهيمنة الفكرية والسياسية تأكد بالتجربة التاريخية أن للثورة الاجتماعية والسياسية بعد ثقافي. لن تنجح الثورة وتكتمل مسيرتها ان لم تندلع ثورة ثقافية وسط الشعب وجميع طبقاته وفئاته وكل دواليب الدولة والمنظومة الحزبية والجمعوية. اتضح أيضا عبر التجربة التاريخية ان جميع مخلفات المجتمعات القديمة والإرث التاريخي المنصهر مع الملكية الخاصة سيعمل على إشعال فتيل الثورة المضادة بما فيه القضاء على الثورة الثقافية.