النزاع حول نهر النيل والحل الاشتراكي


محمد حسام
2021 / 10 / 11 - 09:23     

أزمة مياه نهر النيل والنزاع حوله وصلت لطريق مسدود، بعد سنوات من التفاوض والخطابات العدائية المتبادلة واللغة الشوفينية المقيتة. نحن هنا نتحدث عن أزمة جدية تؤثر على حياة مئات الملايين في مصر والسودان وإثيوبيا، أزمة لا يفاقمها سوي ضيق الأفق وقصر النظر الرأسمالي والسعي وراء المصالح القومية الضيقة التي لا ترى حل إلا على حساب الطرف الآخر.

لا مخرج من الأزمة على أساس الرأسمالية، الرأسمالية هي سبب الأزمة. في ظل فدرالية اشتراكية يمكن للطبقات العاملة في البلدان الثلاث وضع خطة متناغمة لا يجني طرف على الآخر في ظلها، خطة تراعي أهمية المياه والزراعة في مصر والسودان، وتجنب السودان ويلات الفيضانات، وتراعي مقتضيات التحديث والصناعة والكهرباء في إثيوبيا. في ظل اقتصاد اشتراكي مخطط يتجاوز فوضى الرأسمالية والمصالح القومية الضيقة ودافع الربح على حساب الأرواح يمكننا تحويل تلك المنطقة من العالم، بلدان حوض النيل، المليئة بالموارد الطبيعية والبشرية المهولة لجنة على الأرض.

نفاق الطبقة الحاكمة المصرية

دعونا نبدأ بحقيقة ثابتة يعلمها الجميع، حتى أن رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي اعترف بها بشكل علني، أن مصر دخلت حيز الفقر المائي منذ سنوات بالفعل، صحيح أن سد النهضة سيفاقم الأزمة المائية لكنه لن يبدأها لقد كانت موجودة بالفعل. إن كل دعاية أبواق النظام الإعلامية ما هي إلا كذب فج، ليس صحيح أن الوضع المائي في مصر كان هادئاً مستقراً وأتي السد الإثيوبي يعكر صفوه.

إن الطبقة الحاكمة المصرية هي أول من أهانت مياه نهر النيل وأساءت استخدامها بتبذير وقصر نظر، وتلك صفات متأصلة في الرأسمالية. إن مصالح الطبقة الحاكمة المصرية لا تهتم بشيء غير الربح وتنامي ثرواتها، أما تخطيط الاقتصاد بشكل مستدام ومتناغم مع البيئة وعدم استنزاف الموارد فليس في قائمة اهتمامات الطبقة الحاكمة المصرية اصلاً.

إن مزاعم الطبقة الحاكمة المصرية في الدفاع عن نهر النيل ليست سوى نفاق محض. تلك الطبقة الحاكمة التي تدعي دفاعها عن النيل سمحت بإهدار حوالي 29,7% من مياهه سنوياً، سواء نتيجة سوء الإدارة، مثل عدم صيانة مواسير المياه والاعتماد على طرق قديمة في الري والزراعة وعدم الاستثمار في البحث العلمي في المجال الزراعي، أو عن طريق التبذير واستخدام مياه نهر النيل في ري ملاعب الجولف والمنتجعات السياحية للأغنياء، في الوقت الذي فيه حوالي 17% من الأسر المصرية محرومة من الوصول لمياه شرب آمنة و حوالي 53.4% دون صرف صحي محسن، هذا بخلاف تلوث المياه في نهر النيل، المسؤول عن نسبة 90% منه هو الصرف الصناعي.

النظام المصري الذي سمح بتلويث مياه النيل من قبل رجال الأعمال، و تبذير المياه في منتجعات الأغنياء، ولم يستثمر قرشاً واحداً في تطوير البنية التحتية ووسائل الري إلا بعد تراكم الأزمات والمشاكل، استفاق هذا النظام فجأة من غفلته على وقع الأزمة التي استفحلت ليدعي أنه حامي النيل والأمة المصرية.

لا ثقة في ادعاءات النظام في دفاعه عن نهر النيل وحياة الجماهير، لا يجب أن نقدم أدنى تنازل للنظام تحت دعاوى “الوحدة والاصطفاف الوطني” في مواجهة الخطر المشترك، لأنه جزء من هذا الخطر على حياتنا ومسبب له. ليست الجماهير والطبقة العاملة الإثيوبية هم من يمثلون خطر على حياة ومستقبل الطبقة العاملة المصرية والجماهير الفقيرة بل الطبقة الحاكمة المصرية من رجال أعمال وجنرالات، هؤلاء هم أعدائنا الحقيقيين.

هؤلاء الذئاب لم يشعروا بذلك “الخطر المشترك” وهم يلوثون مياه النهر لتعظيم أرباحهم، ولم يشعروا به وهم يستخدمون مياهه لري منتجعاتهم، لم يشعروا بذلك الخطر وهم يتعاملون طيلة عقود مع النهر كحق مكتسب و منبع لا ينضب لا يحتاج للتطوير والاستثمار، ويريدون الآن أن نثق فيهم ونصدق أنهم يهدفون مصلحتنا حقاً.

النظام الرأسمالي المصري، والديكتاتورية العسكرية التي تحميه، بقصر نظره وسعيه وراء مصالحه الأنانية و الضيقة التي لا يرى سواها يهددنا اليوم نتيجة جرائمه المستمرة منذ عقود بالعطش والجوع بشكل مباشر. إن لم نتخلص من الرأسمالية فنحن محكوم علينا بالبقاء أسرى التبذير ودافع الربح ورفاهية أثرياء هذا الوطن.

وحدها الطبقة العاملة المصرية هي القادرة على توفير طريق للخروج من هذا المأزق، بمصادرة البنوك والشركات الكبرى ووضعها تحت رقابة العاملين فيها، واستخدام تلك الثروات والموارد بشكل ديمقراطي لمصلحة الأغلبية وفي تناغم مع البيئة، استخدام تلك الموارد لتحديث شبكة الري وشبكة الصرف الصحي، للاستثمار في المجال الزراعي الحيوي. وحدها الطبقة العاملة المصرية التي تستطيع توجيه خطاب لرفاقها ورفيقاتها في إثيوبيا، خطاب رفاقي أممي يدفع نحو وحدة المصالح والمصير الذي يربط الطبقة العاملة العالمية ببعضها البعض. ما يحول دون ذلك هو الرأسمالية ومصالحها الأنانية والدولة البرجوازية التي تحميها.

الطبقات الحاكمة تستغل الأزمة لصالحها

كل من النظام المصري والإثيوبي يستغلون الأزمة لمصلحتهم الخاصة ولتعزيز موقفهم وتدعيم سلطتهم. كلا النظامين يعمل على بث خطاب شوفيني بدعوى “المصلحة العامة”، وهذا ليس للتغلب على أزمة المياه أو الكهرباء فقط، وإنما أيضاً للتعمية على الأزمات الداخلية المستفحلة. كلا النظامين لديه أزمات اقتصادية وسياسية عميقة، وفي سياق ذلك جاء النزاع على نهر النيل كفرصة ذهبية لكلاهما لإخراس الأصوات الساخطة بدعوى “الوحدة” ضد “العدو الخارجي”. هذا يمكن أن يوفر بعض الوقت الآمن لكلا النظامين، لكن الأكيد أنه بسرعة سوف تتبدد الغيوم الشوفينية وتتحطم على صخرة الأزمات والتناقضات الداخلية المستعصية كل دعاوى الاصطفاف والوحدة.

النظام المصري يواجه أزمة اقتصادية عميقة، استطاع التحكم فيها بمزيج من الاستدانة واسعة النطاق والوعود بمستقبل بعيد مشرق عن طريق الإعلان عن مشاريع قومية لا تنتهي، تمتص أحياناً جزء من العمالة و تعمل كمحرك للاقتصاد في الفترة الحالية، وفي سياق ذلك يحمل الجماهير فاتورة الأزمة عن طريق رفع الأسعار والتضخم ورفع الدعم عن السلع والخدمات الأساسية. كما أنه يعاني من أزمة سياسية مزمنة، فهو فاقد لأي شرعية سياسية سوى الخوف، ولا يحميه سوى القمع العاري والجمود المؤقت للجماهير، الذي لا يعلم أحد متى يمكن أن ينتهي. النظام المصري يستخدم أزمة المياه للتعمية عن كل هذه التناقضات الداخلية، هو يحتاج إلى “عدو خارجي” لتحميله سبب الفشل بوعوده المستقبلية، التي حتماً سيفشل في الإيفاء بها، بعد أن فقدت ورقة “الحرب على الإرهاب” جزء من تأثيرها وقوتها.

لكن في نفس الوقت لا يريد النظام المصري من الجماهير أن تكون شريكة في القرار أو أن تتدخل في الأحداث، خطاب النظام في منابره الإعلامية يدفع نحو استنهاض روح “الوحدة الوطنية“ بدون أن يؤدي ذلك لتدخل الجماهير أو تخويف الجماهير من الأزمة للدرجة التي تبدأ فيها الجماهير بمساءلة النظام. فهو يدعوهم إلى عدم تضخيم الأزمة وأن كل شيء تحت السيطرة، ولندع أولي الأمر، الأفهم منا جميعاً، يتولوا زمام الأمور.

لكن النظام المصري برغبته الاستفادة دعائياً من الأزمة دون اتخاذ إجراءات جدية لمواجهتها، فهو يغامر بمفاقمتها، مغامرة في الغالب لا تستند إلا على الإيمان بأن كل شيء سيسير على ما يرام، والحق أنه إيمان الضعفاء. نحن نتحدث هنا عن نهر النيل الذي يعتمد عليه القطاع الزراعي بشكل شبه كلي، هذا القطاع المسؤول عن تشغيل حوالي 30% من العمالة المصرية، بعضهم سيكونون مهددين بالبطالة أو الزحف للمدن والانخراط في اقتصاد الأعمال اليومية، المشبعة بالملايين أصلاً، في السنوات القليلة القادمة، وهذا سيؤدي لتفاقم التناقضات الداخلية والطبقية، مع آثار هذا على وضع الاقتصاد السيء، الذي تمثل فيه الزراعة 14,5% من ناتجه الإجمالي و11% من مجمل الصادرات. كل هذا يجعل خيارات النظام محدودة وشديدة الخطر ويمكن أن تؤدي لبؤس مئات الآلاف إن لم نقل الملايين في السنوات القادمة.

أما النظام الإثيوبي الذي كان ينظر إليه كنموذج صاعد في منطقة القرن الإفريقي، الآن يواجه أزمات داخلية تضعه على حافة الهاوية. مع انفجار الصراع المسلح في إقليم تيجراي والهزائم التي مني بها هناك، لم يتبقى لرئيس الوزراء آبي أحمد سوي ورقة التوت المتمثلة في سد النهضة كآخر معاقل شرعيته المتآكلة باستمرار. وهو يعلم ذلك جيداً ويستخدم ورقة سد النهضة بكلبية وانتهازية منقطعة النظير، إلى درجة أن يبرر هزائمه في إقليم تيجراي بانشغال قواته بالدفاع عن السد ضد “التهديد الخارجي”، وأعلن بعدها مباشرة بدأ الملء الثاني للسد، الذي على الأغلب كان مجرد مناورة إعلامية للتغطية على الهزائم الميدانية في إقليم تيجراي.

في قلب هذا الواقع المعقد والمليء بالأزمات وتاريخ متوارث من النزاعات تبدو خيارات الطبقة الحاكمة المصرية والإثيوبية محدودة جداً، وجميعها ليست في مصلحة الجماهير المصرية والإثيوبية. النظام المصري بسوء استخدامه للمياه وعدم تطوير البينة التحتية طيلة العقود الماضية لم يحسب حساب هذه اللحظة، وميراث التعالي الحكومي المصري على التطلعات التحديثية الإثيوبية يمنعه من مد حبال الود والتواصل مع النظام الإثيوبي، النظام المصري في أزمة وهامش المناورة لديه ضئيل جداً. والنظام الإثيوبي على الناحية الأخرى يمثل له السد عمود بقائه، وأزمته الداخلية تجعل موقفه أكثر تصلباً. سد النهضة يمثل أمل الجماهير الإثيوبية في مد البلاد بأكملها بالكهرباء وتحديث المجتمع، وقد تغاضي الجماهير عن الهجمات التي يقودها آبي أحمد على بعض حقوقها الاقتصادية والسياسية بشكل مؤقت في سبيل إكمال هذا المشروع، هذا التغاضي مرهون بشكل جزئي بمشروع السد، فشل أو تعطل مشروع سد النهضة سيمثل خطر حقيقي على آبي أحمد والنظام الإثيوبي كله، وهذا يقلص هامش المناورة الضئيل اصلاً عند النظام الإثيوبي.. وتشابك المصالح الدولية والإقليمية يعقد الوضع ولا يسمح بوجود وساطة تلقي رضا الطرفين. السعودية والإمارات حلفاء النظام المصري هم من أهم من المستثمرين في سد النهضة والمشروع الزراعي حوله، الصين هي أكبر مستثمر في السد، والولايات المتحدة تدعم مصر لمجابهة النفوذ الصيني في القرن الإفريقي.

على الماركسيين المصريين والاثيوبيين أن يفضحوا نفاق طبقاتهم الحاكمة، لا يمكن أن نقدم أدني تنازل للطبقات الحاكمة التي وضعتنا في الأزمة. وبالطبع نحن ضد الحرب، إن حدثت. تلك الحرب لن تؤدي سوى إلى تعقيد الموقف وزيادة الأحقاد القومية بين الطبقات العاملة لبلدان حوض النيل. نحن أمميون، وموقفنا يعتمد على المصالح التاريخية للطبقة العاملة وتطوير الصراع الطبقي وليست المصالح القومية الضيقة، المصالح التاريخية للطبقة العاملة تقتضي التآخي والترابط ووحدة النضال والمصير وليس العداء تحت أي دعوى من الدعاوى. لسنا مثل القوميين المصريين الذين ينادون اليوم على لسان أحد رموزهم، أحمد طنطاوي، بضربة عسكرية للسد تقسم إثيوبيا لثلاث دول. تلك الهستيرية الشوفينية المتعالية، المحببة للقوميين والناصريين، هي من أهم أسباب تعقيد الموقف اصلاً، ولن تؤدي سوى لزيادة الأحقاد القومية وتفجير النزاع بشكل أكبر في المستقبل.

موقفنا، كماركسيين، هو عداء متساوي اتجاه الطبقة الحاكمة المصرية والإثيوبية، تلك القلة المتحكمة في ثروات البلدين، الذين يفقرونا ويقمعونا ويستلغونا ويقتلوننا، تلك القلة اليوم تدفع جماهير البلدين ليكرهوا بعضهم بعضاً، ليكونوا أعداء، في الوقت الذي ينبغي فيه أن تتكاتف الجماهير المصرية والإثيوبية لمواجهة قلة الموارد الآخذة في ازدياد.

وصول الرأسمالية لحدودها وضرورة الحل الاشتراكي

أن أزمة مياه نهر النيل تُظهر بوضوح أن الرأسمالية وصلت لحدودها وأصبحت عقبة أمام تطور المجتمع البشري.

والحق أن العمودان اللذان تقومان عليهما الرأسمالية، الملكية الخاصة والدولة القومية، ليس فقط أصبحا يعيقان المجتمع البشري عن التقدم، بل الأكثر أنهم أصبحوا يهددان المجتمع البشري بجره نحو البربرية. مثلما ظهر بشكل واضح خلال الجائحة، التي تحولت خلالها الدولة القومية لقاطع طريق، وبدأت الدول تستولي وتحتجز الشحنات الطبية لبعضها البعض، في الوقت الذي كان يمكن السيطرة على انتشار الفيروس في بدايته وتفادي مئات الآلاف من الضحايا الذين كان يمكن إنقاذهم، فقط لو تم وضع خطة عالمية وتجميع كل الموارد والمعارف البشرية لمواجهة فيروس لا يحترم الحدود القومية وإجراءات الهجرة.

الرأسمالية التي تقوم على الخصاص واستنزاف الموارد الطبيعية والتبذير وتدمير البيئة، تدفع الطبقات العاملة والجماهير في البلدان المختلفة للوقوف ضد بعضهم البعض.

ما يعيق الوصول لحل لأزمة مياه نهر النيل هي المصالح المتناقضة للطبقتين الحاكمتين المصرية والإثيوبية، اللتان تدفعان نحو مواقف لا تؤدي إلى أي شيء سوى تعقيد الوضع.

في ظل الرأسمالية ستظل أزمة مياه نهر النيل مستمرة وسوف تتفاقم، حتى إن جرى تسكينها اليوم باتفاق بين الطرفين، وهذا السيناريو ليس مستبعداً بعد، فستعود للظهور مجدداً في المستقبل بشكل أكثر حدة، خصوصاً في فترات الجفاف، وقد يكون هذه المستقبل أقرب مما نتصور، خصوصا لو نظرنا إلى الموضوع من زاوية التغيرات المناخية الحادة التي نشهدها في العالم اليوم.

الحل هو تجاوز الرأسمالية واسقاطها، في مصر والسودان وإثيوبيا، مصادرة البنوك والشركات الأجنبية والشركات الكبرى، واستخدام تلك الموارد والثروات لمصلحة شعوب المنطقة، الحل هو في تحالف الطبقات العاملة لبلدان حوض النيل، لإسقاط الطبقات الحاكمة التي تجرنا جميعاً نحو الهاوية.

بإسقاط الرأسمالية نستطيع أن نحيا جميعاً حياة إنسانية حقاً، نستطيع أن نتجاوز إرث الفقر والجوع والبطالة والتخلف والأحقاد القومية والحروب والحروب الأهلية، نستطيع أن نتمتع جميعاً بمياه صالحة للشرب وبزراعة متطورة وصناعة حديثة وقوية وكهرباء دائمة وبسكن آدمي وعمل لائق وذو أجر جيد في سياق خطة اقتصادية تحديثية ومخططة ديمقراطياً، لتكون الخطوة الأولى نحو إنشاء مجتمع اشتراكي في كل من البلدان الثلاث، كجزء من الثورة الاشتراكية الإفريقية والعالمية. فقط في ظل فدرالية اشتراكية لبلدان حوض النيل، تستطيع الطبقات العاملة والجماهير تقاسم الموارد بشكل عادل، دون اعتبارات الربح وتجاوز المصالح القومية الضيقة.

لا للحرب!
لا للصفقات البرجوازية!
تسقط حكومات رجال الأعمال!
نحو تحالف الطبقات العاملة وجماهير المنطقة!
لا حل سوى انتصار الثورة الاشتراكية بقيادة حكومة عمالية!

17أغسطس 2021