حبيب صادق: مفرد بصيغة الجمع


محمد علي مقلد
2021 / 10 / 11 - 00:18     

حبيب صادق: "مفرد بصيغة الجمع"

مع تدويرالأرقام يمكن أن أجزّئ مراحل حياتي إلى عشرينات متداخلة، منها عشرون قبل الوظيفة وعشرون في التعليم الثانوي وثالثة في التعليم الجامعي. وبمعيار النضال، عشرون في الحزب مطيعاً وعشرون منها مشاكشاً، إلى أن ضاق ذرع القيادة مني واتخذت قراراً بفصلي، لأقضي بقية حياتي النضالية مع مجموعات عديدة، أولها أصدقاء التقوا في رحاب المجلس الثقافي للبنان الجنوبي متحلقين حول من لعب بحق، خلال أكثر من نصف قرن، دور راعي الثقافة في الجنوب وفي لبنان، حبيب صادق.
اختارني الحزب لأعمل مع حبيب على سبيل العقوبة، لأنه رأى في ذلك أكثر الأساليب لياقة لإبعادي عن العمل التنظيمي، إذ إنه كان مشغولاً بالبحث عن "قيادة من طراز جديد"، لا تنطبق مواصفاتها، من وجهة نظر أهل السلطة الحزبية، على كثيرين من القيادة القديمة وأنا منهم، ما يعني أنني لن أكون في عدادها. كان ذلك قبل نهاية الحرب الأهلية. شكلت رغبة الحزب دافعاً لي للبحث عن المعايير المغلوطة التي يعتمدها ويطلق بموجبها أحكاماً مغلوطة ويصدر استناداً إليها قرارات مغلوطة.
منذ ذلك الوقت بدأت تظهر في كتاباتي ملامح موقف نقدي لنهج الحزب، لا لأضع نفسي خارج النقد، فانا من صلبه، لي منه غنمه وعلي غرمه، بل لأنني لم أقصر بواجبي الحزبي ولم أخرج يوماً عن طاعة الالتزام، بالقناعة لا بالإكراه. قضيت سنوات طويلة كان ممنوعاً علي فيها ممارسة أي نشاط حزبي، باستثناء عشرات الاجتماعات التحضيرية للمؤتمر السادس، ولم يدخل قرار نفيي إلى العمل مع حبيب حيز التنفيذ، وذلك لأسباب تقنية، جغرافية بعد انتقالي إلى سكني وعملي في صيدا، ومالياً بعد تدهور سعر صرف العملة الوطنية.
الانتخابات النيابية الأولى بعد الطائف أظهرت تبايناً في الموقف بين الحزب وحبيب. في هذا الظرف وقع اختيار حبيب عليّ لأكون إلى جانبه في المجلس الثقافي، لأنه سيضطر إلى اقتطاع وقت من نشاطه الثقافي وتحويله إلى نشاطه البرلماني. فاجأني في أول اجتماع للهيئة الإدارية، وهي المرة الأولى التي أكون فيها في عدادها، حين اقترحني أحدهم لموقع نائب الأمين العام، على حساب آخرين لهم أسبقية علي في نشاط المجلس. إن أنس لا أنسى أن الذي كان صاحب رغبة في تبوّء هذا الموقع غادر الجلسة في نهايتها ولم يعد.
تأكد لي أن الديمقراطية في المجلس نسخة مصغرة من مثيلتها في الحزب، ولم نكن في ذلك الوقت بعيدين عن المؤتمر السادس الذي صدرت وثائقه وفيها نص على لسان جورج حاوي ورد فيه، إن الديمقراطية في الأحزاب الشيوعية كذبة كبرى، وما يقال عن أن اختيار القيادات الحزبية يتم في المؤتمرات غير صحيح. الصحيح هو أن الأمين العام يختار المكتب السياسي والمكتب السياسي يختار اللجنة المركزية وهو الذي"يركّب المؤتمرات كما الفاخوري إذن الجرة".
الأمين العام هو الأمين العام في أحزابنا أو في مؤسسات المجتمع المدني. والرئيس رئيس إلى الأبد في سوريا الأسد وفي أحزابنا ومؤسساتنا في العالم الثالث، شاء من شاء وأبى من أبى. تكيّفنا مع هذا الجو حتى صار جزءاً من تقاليدنا، فلم يعد يرضينا الخلف. ربما لأننا شهدنا مرحلة من عمر أوطاننا وأحزابنا كان فيها المؤسسون أفضل من الورثة. بكينا على عبد الناصر، وتحسرنا على عهد فؤاد شهاب وعلى فترة الانتداب. كتبت، بعد وقت، مقالتين عن حاجتنا إلى الاستعمار وعن فضائل الاستعمار. وفيما أنا مشغول بالكتابة عن الموضوع ذاته، وجدتني أمام نص للصديق السفير خضر حلوة يستذكر فيه "نصري المعلوف وبهيج تقي الدين وحسن الرفاعي وخاتشيك بابكيان كلما سمع لغة الابتذال والسوقية على لسان سياسيين يحكمون البلد في عشرينات القرن الواحد والعشرين".
حبيب صادق كان من طينة هؤلاء الكبار من بلادي. تعاقبنا على عضوية الهيئة الإدارية في المجلس الثقافي عشرات من الناشطين والعاملين في الحقل الثقافي خلال أكثر من خمسين عاماً تولى فيها الأمانة العامة، وانتخب خلالها لأكثر من دورة عضواً في الهيئة الإدارية لاتحاد الكتاب اللبنانيين، شهد خلالها لبنان، في ظل الحرب وبعد توقف الأعمال العسكرية أيضاً، أهم النشاطات والمؤتمرات واللقاءات العربية والدولية الثقافية والمعارض الفنية. كان خلية من نشاط، حزباً في فرد. بمبادرة منه أنشئ تجمع الهيئات الثقافية في لبنان وعقدت اجتماعات ومؤتمرات وأصدرت بيانات في كل مناسبة وطنية.
هذا ليس مدحاً ولا ذماً ولا أسوقه لتبرير تكاسلنا في متابعة تنفيذ المهمات بالقياس إلى دوام حضوره في كل شاردة وواردة. فهو،على ما قال لنا مرة، كان يرى مقر المجلس كأنه بيته العائلي. كما أنه كان يعد برامج النشاطات لشهر قادم أو لفصل، خلال جلساته الصباحية مع الصحف والمجلات، يتقصى منها أخبار الثقافة والمثقفين ويؤرشفها بعد استخدامها باباً للتواصل مع المبدعين والاتفاق معهم على إحياء نشاطات حول إبداعاتهم.
هذا كان لسان حالنا في غيابه. حللت محله ذات مرة لإلقاء كلمة المجلس في العشاء السنوي، فوجهت باسم الحاضرين"تحية التقدير والحب والاحترام لأستاذنا الحبيب حبيب صادق، الذي ما كان لهذا الصرح الثقافي لولاه أن يستمر من غير انقطاع، منذ أكثر من نصف قرن؛ ومع أن البعض أطلق على المجلس تصنيفاً يضعه في عداد الإقطاع الثقافي، بحجة وجود نواقص في تجربتنا الديمقراطية، فللأمانة، ما كان لأحد منا، لأي واحد ممن تعاقبوا على عضوية الهيئة الإدارية، لا بمفرده ولا لنا مجتمعين، أن نوفر للمجلس من ديمومة في أنشطته وحضوره والتزاماته الثقافية والفكرية والسياسية ما وفره له حبيب". قلت ذلك في العشاء السنوي الأخير الذي لم يعد يطيعه جسده على حضوره، وكنا نكرر الكلام ذاته في اجتماعات الهيئة العامة التي ما كان يغيب عنها إلا نادراً ولأسباب صحية.
تجاوزت رعايته الثقافة حدود الجنوب ولبنان فوظف علاقاته مع المثقفين العرب في خدمة المجلس واستقبل على منبره وفي قاعته كل نتاج ثقافي أو فني جديد. كنت من بين المحظيين بتشجيعه على كتابة أول بحث عن الشاعر عبد المطلب الأمين، كما كان له فضل في كتابة هذا النص الذي تحول إلى كتاب يحكي سيرتي النضالية، لكن فارق الظروف كان كبيراً. بناء لطلبه واقتراحه كتبت النص الأول في نهاية 1981 في غمرة انشغالاتي النضالية في الحزب، وكنت لا أزال في التعليم الثانوي، وقد حكيت حكايته. أما هذا النص الذي بين أيدينا فله حكاية أخرى.

دامت عضويتي في الهيئة الإدارية للمجلس الثقافي منذ دخول حبيب إلى الندوة النيابية حتى اليوم، أي في ربيع 2021. كان حبيب يميل إلى حشد ثلاثة على المنبر في كل ندوة ثم يضيف إليهم واحداً من أعضاء الهيئة الإدارية ليقوم بواجب الترحيب وتقديم المنتدين. عام 2012، وعلى عادته، طلب مني أن أقدم ندوة لم أعد أذكر موضوعها ولا المشاركين فيها، اعتذرت منه بلياقة لا تخلو من شكوى مضمرة. قلت له وهل كتب علي أن أتخصص بتقديم المنتدين، ألا يصح أن أكون محاضراً على منصة المجلس؟ طبعاً كنت قد اعتليت منصته محاضراً في العديد من المرات. الشكوى المضمرة تعود لسبب آخر، يتعلق باختلاف وجهات نظرنا بشأن الانتخابات. وعلى عادته أيضاً، مبادراته حاضرة دوماً. قال، لك المنبر يا عزيزي، تعال حدثنا ضمن سلسلة، تجربتي في ساعة، عن تجربتك بعد استقالتك من الجامعة. هي مبادرة عزيزة علي لأنها أطلقت هذا الكتاب، ولأن الإجراءات التنفيذية جعلتني أحظى بموافقة السيد هاني فحص الذي كان شريكي في هذا اللقاء، والذي أشار علي، في نهايته، أن أتوسع في كتابة النص وأزيده تفصيلاً وأصدره في كتاب، وها أنا عملت بوصيته وجعلت كلمته يومذاك تتصدر الصفحات الأولى.
رد حبيب صادق على الشكوى المضمرة بطريقة لا تخلو من القسوة ولا أحد سوانا يعرف أسبابها، أو هكذا خيل إلي. كانت ندوة "بتراء". الصحافي كامل جابر، كما في كل ندوة في النبطية، كان يتولى تقديم المحاضرين أو يختار من يقوم بهذا الدور بالتنسيق مع حبيب. هذه المرة كانت ندوة بلا تمهيد. دعانا إلى الصعود بإشارة من يده وبكلمة "تفضّلوا" من غير أن يقدمنا أحد، اعتلينا المنصة وبدأ السيد هاني بالكلام. أزعجني ذلك لما فيه من إساءة لمقام السيد هاني.
قدرت في سري، بل أرغمت نفسي على هذا التقدير حرصاً مني على علاقات الود والاحترام والخبز والملح، أن ما حصل يتعلق بذيول آخر دورة انتخابية في النبطية، وأن مسؤولية حصوله تقع على كامل جابر. لم أعاتب، لكن شيئاً ما انكسر في علاقتنا الوطيدة، وكان قد بدأ يهتز منذ أواخر التسعينات، يوم قرر حبيب حل الحركة الشعبية الديمقراطية، من غير الرجوع إلى أحد من شركائه ومعاونيه أو رفاقه في قيادة الحركة التي عقدت آخر اجتماعاتها في منزلي الكائن في عبرا شرق مدينة صيدا في أواخر صيف 1998.
كنا، نحن مساعدوه وزملاؤه في الهيئة الإدارية، نتعامل معه كأب روحي لنا، لا لأنه بنى فحسب مؤسسة المجلس ورعاها ورعى نشاط المثقفين من خلالها، مثلما يرعى أي أب عائلته بكل الحب والإخلاص والتضحية، إذ كان يستيقظ في مقر المجلس الذي ابتاعه بأموال المتبرعين من أصدقائه، وجمع فيه كتب الجنوبيين، وشجع على منبره الباحثين على البحث وأصحاب المواهب الأدبية والفنية على إبداعاتهم في الشعر والموسيقى والرسم والنحت، ولا يغادره إلا مع آخر زائر بعد غروب الشمس، بل أيضاً لأنه كان مدرسة تعلمنا منها قيماً يعز وجودها بين أهل السياسة، منها النزاهة والاستقامة وصلابة الموقف والزهد بكل ما يتعلق بالأموال والنقود.
وفر لي المجلس الثقافي فرصة التواصل مع مفكرين ومناضلين من العالم العربي ومن العالم، ومنحني شرف استقبالهم في منزلي على مائدة كانت رفيقة عمري دنيا تتقن إعدادها لأنها تتقن استقبال ضيوفها، الطيب تيزيني وصادق جلال العظم من سوريا، محمود أمين العالم وأمينة رشيد وسيد بحراوي من مصر.من بين من حظيت باستقبالهم المناضل التشيلي غوستافو ماران، وهو أستاذ جامعي مقيم في فرنسا ويشرف على إحدى الجمعيات التي تمول نشاطات عن التنمية والديمقراطية في العالم، وكان يرئس وفد الجمعية التي مولت مؤتمراً عن الديمقراطية نظمه المجلس الثقافي في فندق الكارلتون في بيروت. ودعني بقوله، نحن بانتظارك في ندوات عالمية. بعد أشهر قليلة تلقيت دعوة للمشاركة في مؤتمر سيروس في اليونان، وهو المؤتمر الذي قدمت فيه النص مع بطاقة التعريف المرفقة اللذين تصدرا الصفحات الأولى من هذا الكتاب، ودعوة أخرى إلى مؤتمر في برشلونة.
في مؤتمر سيروس أصابني نزيف حاد ودخلت إلى المستشفى فلم أتمكن من متابعة أعماله وعدت إلى لبنان قبل جلسته الختامية. أما مؤتمر برشلونه فقد رسخ أفكاراً كانت ضبابية في ذهني. في الطائرة من باريس أخبرتني جارتي في المقعد عن احتفالات تقام في برشلونة لم أفهم تماماً مضمونها، لأننا كنا نتبادل الحديث بلغتين مختلفتين، الإسبانية والفرنسية، تجمع بينهما مصطلحات كثيرة مشتركة. استقبلتني في المدينة ناديا عيساوي، جزائرية مقيمة في فرنسا، وتمثل الجهة الداعية، أي الجمعية ذاتها التي يرئسها غوستافو ماران. وهي السيدة ذاتها التي حضرت باسم الجمعية في مؤتمر بيروت وتعرفت خلاله على زياد ماجد وتتوجت علاقتهما بالزواج بعد سنوات.
سألتها عن تلك الاحتفالات فشرحت لي أن مقاطعة كاتالونيا وعاصمتها برشلونة تحتفل في كل عام بالعيد الوطني، وفيه يحيون مناسبة سنوية يتذكرون فيها انتفاضة فاشلة للاستقلال عن إسبانيا. الناشط الأبرز في مؤتمر برشلونة هو أول من قاد مظاهرات في المقاطعة تعترض على قانون التجنيد الإجباري في إسبانيا، وهو اعتراض يندرج في إطار المطالبة بالاستقلال. أكدت لي تلك المناسبة أن الوطن الإسباني، الذي كان مع بداية الثورة الرأسمالية، مملكة مترامية الأطراف، تضم إلى جانب شبه الجزيرة الإيبيرية الجزء الجنوبي من القارة الأميركية التي اكتشفها كريستوف كولومبوس، ومقاطعات وجزراً إيطالية، فضلاً عن البلاد المنخفضة، الملحقة بمملكة إسبانيا والتي تديرها شقيقة الملك، والتي تحولت إلى مكان آمن للذهب القادم من أميركا اللاتينية، وعن هابسبرغ أيضاً التي كانت مملكة مستقلة يحكمها شقيق الملك الإسباني، صار بعد ترسيم حدود الأوطان والدول، مجموعة من المقاطعات، لكل منها تاريخها وخصوصياتها اللغوية والإتنية، وليست كاتالونيا الوحيدة من بينها التي تطالب باستقلالها، إذ إن مقاطعة الباسك هي الأكثر شهرة والأكثر استخداماً للعنف ضد الدولتين الإسبانية والفرنسية.
توصلت إلى خلاصتين، واحدة قلتها للمحتفلين بعيدهم الوطني وأخرى تابعتها في أبحاثي. قلت لهم إن هجوم النظام العالمي الجديد على يوغسلافيا والذي يشارك فيه اليسار الأوروبي، بما فيه اليسار الشيوعي المشارك في سلطات بعض البلدان يومذاك، والمشابه لليسار التقدمي في بلادنا المشارك في الهجوم على العراق، هو نموذج لما يمكن أن يكون عليه مستقبل إسبانيا، إذا ما شاءت مصالح الرأسمالية أن تفكك المملكة على غرار ما تفعله بتفكيك الاتحاد اليوغسلافي. أما في ما يخصنا فقد استنتجت من تلك الوقائع أن سايكس بيكو في بلادنا لم يكن مؤامرة، بل حاجة رأسمالية لإنشاء بلاد ورسم حدود لأوطان مستحدثة على أنقاض ولايات ومقاطعات متحدرة من ممالك وأمبراطوريات ومن السلطنة العثمانية، وهي الفكرة التي بنيت عليها تحليلي فيما بعد وفصلته في كتابي، أحزاب الله.
عدت من ذلك المؤتمر لتصلني دعوة جديدة إلى برشلونة في العام التالي لأقدم محاضرة عن الوضع السياسي اللبناني في الجامعة الصيفية في جزيرة مايوركا. رافقتني زوجتي في تلك الزيارة وكانت رحلة ممتعة في ربوع الجزيرة لمدة أسبوع ثم في المدينة لثلاثة أيام، حيث أكرم وفادتنا الدكتور حسان فضل الله، شقيق نهاد زوجة الدكتور عباس أبو خليل من مواليد القليلة في قضاء صور، إذ أخلى لنا شقته في برشلونه وذهب مع زوجته إلى بيته الريفي في عطلة نهاية الأسبوع.
محاضرتي تلت محاضرة موراتينوس الدبلوماسي الإسباني المعروف، الذي تحدث عن دور إسبانيا في المجموعة الأوروبية. كان عليّ أن أعبر بفرنسيتي المتوسطة الحال، على أن يترجم أحدهم إلى الإسبانية. تحدثت أمامهم عما أسميته الموزاييك اللبناني، الموزع بين الطوائف والمذاهب والأحزاب والكتل السياسية ومراكز النفوذ المحلي والخارجي. تفاجأوا بتعقيدات أوضاعنا. ولست أعلم ما إذا كانت الترجمة قد أوضحت لهم الفارق مثلاً بين السرياني syriac والسوريsyrien، أو التداخل المصطلحي بين الشيعة والسنة أو بين الشيعة والشيعية السياسية أو بين الموارنة والكاثوليك، أو بين المارونية والمارونية السياسية، ومن المؤكد أنهم لم يكونوا قد سمعوا قط بمذاهب وبطون وأفخاذ سياسية ليست معروفة إلا في بلادنا.
أعجبتني فكرة الجامعة الصيفية التي هي أشبه بمخيم شبابي ثقافي وتثقيفي تنظمه جمعيات وهيئات غير حكومية، ويكتتب فيه طلاب من مختلف الأعمار ومن كل المقاطعات الإسبانية، ليتابعوا فيه، كل على نفقته، وبحضور حر وخلال مدة شهر سلسلة من الحوارات واللقاءات الفكرية والسياسية والفنية. بعد عودتي لم أجد من أطرح عليه الفكرة لأن أسئلة من نوع آخر كانت مفروضة على أجيالنا الجامعية، من بينها أسئلة الحرب والسلم والمقاومة والتحرير والهوية الوطنية والقومية والدينية والطائفية.
من بين تلك الأسئلة الكبرى ما يتعلق بالنظام العالمي الجديد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج الأولى. كنا في تلك الفترة قد أسسنا جمعية ثقافية في مدينة صيدا حملت إسم منتدى الفكر والثقافة، وتولت إدارة حوار حول هذا الموضوع، فاستقبلت، في محاضرات منفصلة، كلاً من طلال سلمان ليتحدث عن النظام العالمي الجديد والقضية القومية، والشيخ محمد مهدي شمس الدين عن الدين والنظام العالمي الجديد وسمير أمين عن الاشتراكية والنظام العالمي الجديد.
في كل تلك الفترة كنت عضواً في قيادة الحزب من غير مهمات، ما جعل النشاطات الثقافية التي شاركت في تنظيمها أو كانت لي مساهمات فيها، بما في ذلك نشاطات منتدى الفكر والثقافة، تبدو كأنها جزء من عمل المجلس الثقافي وصنفتها قيادة الحزب المرتبكة في خانة المناكفة معها. قدم لمحاضرة طلال سلمان الدكتور أسعد النادري وهو مناضل ذو انتماء قومي ناصري، ولمحاضرة الشيخ محمد مهدي شمس الدين الدكتور علي الشامي المقرب من حركة أمل، وأوكل المنتدى إليّ تقديم المفكر سمير أمين. استفدت مما تبقى لي من علاقات مع المنظمات الحزبية في الجنوب ووزعت الدعوة على رفاقي في كل القرى غير الخاضعة للاحتلال في مناطق الزهراني والنبطية وصور. حضر الندوة حشد غفير من كل المناطق اللبنانية ممن يشغلهم السؤال عن مصير الاشتراكية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ما أحدث مفاجأة لدى زملائي في منتدى الفكر والثقافة الذين قدروا أن عدد الحضور لن يملأ قاعة المكتبة في مركز معروف سعد، وهي قاعة صغيرة، وإذا بالقاعة الكبرى تمتلئ بكامل مقاعدها والممرات، ومفاجأة لدى القيادة الحزبية العاجزة عن تنظيم أي نشاط جماهيري.
النشاط الأكثر جماهيرية في تلك المرحلة هو مهرجان ربيع صيدا الثقافي، الذي نظمه المنتدى بالتنسيق والتعاون مع محافظ الجنوب حليم فياض والهيئات الاقتصادية ممثلة بجمعية التجار وغرفة التجارة، ومع كل أندية المدينة ومؤسساتها الثقافية وثانوياتها الرسمية والخاصة. وتشكلت لجنة لإدارة هذا النشاط برئاسة الشاعر حمزه عبود من منتدى الفكر والثقافة وتوليت فيها مسؤولية المكتب الإعلامي. كان المهرجان ناجحاً بكل المقاييس باستثناء المقياس السياس.
نجحنا في إبعاد المهرجان عن التوظيف السياسي لصالح أي من قطبي المدينة، مصطفى سعد ورفيق الحريري، لكن المنتدى سقط في نهاية المهرجان بضربة سياسية قاضية سببها الظاهري التنافس المحلي في صيدا وجوهرها عودة أعضائه إلى اصطفافتهم السياسية، إذ لم يقبل الموالون للسلطة من زملائنا أن أستنكر باسم المهرجان قرار إقفال جريدة السفير وأن أتضامن مع حرية الصحافة. ذلك أن نظام الوصاية هو الذي أصدر قرار الإقفال أيام حكومة رفيق الحريري التي كان عليها تنفيذه تحت طائلة المسؤولية. أذكر أن الصحيفة صدرت في اليوم التالي تحت إسم بيروت المساء. استمر المنتدى بعد المهرجان يجرجر أذيال هزيمته أمام سطوة السياسة إلى أن قرر المؤسسون طي صفحته والحفاظ على ما تبقى بينهم من علاقات شخصية.
*********
فضلاً عن كل ذلك، كان حبيب مثالاً يحتذى بلياقة التخاطب ولغة التهذيب، ما يجعلنا نطوي اعتراضاتنا ونخجل من قولها، ويجعل البعض منا يتعامل معه بآليات الطاعة الحزبية التي تدربنا عليها في عملنا الحزبي. كنت الوحيد الذي كان يكسر أجواء المهابة هذه ببعض الصراحة في قول رأي مختلف أو انتقاد أو اعتراض، في قالب من الدعابة حين يحتاج الأمر إلى تلطيف حدة النقد. ربما لأن بداية نشاطي في المجلس تزامنت مع بدايات الجهر بقراءتي النقدية للتجربة الحزبية. تمثل الدرس الأبرز الذي استخلصته منها بأن أزمة الحزب والعالم العربي والعالم الثالث ليست ناجمة عن الاستعمار والرأسمالية والإمبريالية، مع أن هذه ليست بريئة من المسؤولية، بل عن غياب الديمقراطية إن لم نقل تغييبها بأشكال شتى، من بينها قواعد التنظيم اللينيني القائم على المركزية الديمقراطية، أو طرق اختيار الحاكم أو المسؤول بالتعيين تحت خيمة الانتخاب ولجنة الترشيحات، أو خلق مناخ وتكوين وعي داخل الجماعة الحزبية يجعل الرأي المختلف نافراً ومعزولاً يسهل استفراده و"إفراده إفراد البعير المعبّد" بحسب شعر طرفة.
في دورة انتخابات 1996 نكث حزب الله اتفاقاً جرى التوقيع عليه بتفاصيله ذات ليلة في مكتب الشيخ نعيم قاسم، كان يقضي بتعاون حزب الله مع حبيب صادق في تشكيل لائحة مشتركة، غير أن صحف الصباح أعلنت عن اتفاق بين الثنائي الشيعي وقعه نبيه بري وحسن نصرالله في مكتب غازي كنعان في البقاع. نال حبيب صادق ثلث أصوات الناخبين في الجنوب فيما جمعت لائحة الثنائي الثلثين الآخرين. جهاز المخابرات السوري، أملى على الثنائي الشيعي اتفاقاً انتهى مفعوله عشية يوم الاقتراع، ليغذي بينهما تنافساً في الانتخابات البلدية والاختيارية بعد عامين.
في تلك الانتخابات أطلق محمد رعد عبارته الشهيرة عن تشظي الحزب الشيوعي، وفي تلك الانتخابات رفض حزب الله التعاون مع اليساريين بكل أطيافهم، مع أنه كان يخوض معركة "كسر عظم" ضد حركة أمل في كل بلديات الجنوب. موقف حزب الله السلبي من قضية التعاومن مع اليسار لم يكن إذن أمراً طارئاً أملاه الحاكم العسكري السوري قبل عامين، بل هو خيار استراتيجي على ما بينت الانتخابات البلدية. كانت ردة فعل حبيب على تلك السلبية حادة لا على حزب الله وحده بل كذلك على كل من تعاون معه ترشيحاً واقتراعاً، ما يعني أن هذه الحدة ستطال أنصار الثنائي الشيعي وأنصار الحزب الشيوعي وسائر من لهم طموحات شخصية في تبوء مقعد بلدي أو اختياري، وما أكثرهم، حتى لو كان واحدهم مرشحاً بدافع هذا الطموح وحده، مستقلاً عن الثنائي الذي قد يمنحه أحد طرفيه تأييده ترشيحاً واقتراعاً.
تلك الحادثة كانت النقطة التي أفاضت الكأس. لم يعد أمام الحركة من تشكو إليه. زيارة وحيدة رافقت فيها حبيب إلى منزل الرئيس الحص، كررت فيها على مسمعه عبارة سبق لي أن قلتها للنائب البعثي عبدالله الأمين يوم استقبلناه في منتدى الفكر والثقافة في صيدا، "أن في لبنان الكثير من الحرية والقليل من الديمقراطية". معادلة أعجبت الرئيس الحص فاستخدمها وتسجلت باسمه. حوصرت الحركة الشعبية الديمقراطية وأوصدت أبواب الإعلام أمامها، وضاقت مساحات نشاطها. رفض حبيب، لعزة نفسه، أن يكسر الحصار بتصريحات من على باب أي مسؤول، لا باب القصر الجمهوري ولا باب البطركية ولا غيرهما. شعر أن الطعنة أصابت القيم الأخلاقية التي يتمسك بها ويعتمدها في إدارة الصراع، في مواجهة أسلوب لدى الخصوم يقوم على المكائد والمناورات الرخيصة. إذن لا بد من دفع الثمن.
الحركة الشعبية التي بدت نقطة ضوء في ليل اليسار المغبش هي التي دفعت الثمن، إذ سقطت ضحية ذلك الصراع بين معايير حبيب الأخلاقية الحازمة والقاطعة كحد السيف ومعايير المصالح السياسية، وقرر حبيب أن يلغيها بصمت، وحده من دون التشاور مع أحد من معاونيه. ولم يبق منها إلا سجل محاضر الجلسات الموجود بين أوراقي وآمال تبددت وعلاقات صداقة مع يساريين وديمقراطيين وعلمانيين من كل لبنان، كررنا معهم محاولة البحث عن صيغ جديدة لاستنهاض اليسار.
كنت أعتقد أن نشاطي في إطار الحركة الشعبية الديمقراطية بمثابة التزام بقرارات المؤتمر السادس للحزب. فقد دعت الوثيقة الصادرة إلى البحث عن صيغة لتجميع القوى الشعبية ، فاستخدمت الإسم حرفياً لتكون رافعة استنهاضية بعد أن باتت الأطر اللينينية عاجزة عن القيام بأعباء الخروج من الحرب وإعادة بناء الوطن والدولة. عندما قرر حبيب صادق حلها، رحت أحاول من داخل الحزب، مع سناء أبو شقرا ومع كمال حمدان، كل على حدة، ليتولى أحدهما الأمانة العامة للحزب، ولم يكن ذلك انتقاصاً من قيمة أو قدرات وكفاءات سواهما من أعضاء القيادة، فمعياري في هذا المسعى هو البحث عن إسم يحوز الإجماع ليكون أداة لتجميع الشيوعيين ولم شمل الحزب.
فصل من سيرة ذاتية