حول مُشكلة التحليل البنيوي للتاريخ


مالك ابوعليا
2021 / 10 / 10 - 13:53     

كاتبة المقال: ايلينا ميخايلوفنا شاتيرمان*

ترجمة مالك أبوعليا

ان النمو السريع للغاية للمعرفة الوقائعية الذي يُميّز البحث المُعاصر قد واجه العلماء بمهمة تجميع المعارف وتوظيفها لتطوير أفكار متكاملة حول الموضوعات التي تمت دراستها. لا تقتصر هذه المهمة على مجال العلوم الطبيعية، ولكنها تواجه أيضاً البحث التاريخي بكل تعقيداته. وهكذا، في السنوات الأخيرة، حظيت مسألة امكانيات ومناهج تطبيق التحليل البنيوي والمنظومي على العلوم الاجتماعية، وخاصةً التاريخ، باهتمامٍ متزايد، لأن هذا التحليل يفترض نهجاً مُتكاملاً للموضوعات التي تتم دراستها. انها حقيقة أن الكمية الهائلة من الحقائق التي تم جمعها وتحليلها في الدراسات المُتخصصة والتي تم استخلاص استنتاجات عامة منها على المستوى التجريبي، في جانبها كمشاكل وفترات معزولة في تاريخ بُلدان مُنفردة، تتطلب مزيداً من التعميم لكي تتجاوز هذه الحدود الضيقة. لكن هذا يتطلب تطوير مبادئ تصنيف كيانات اجتماعية مُعينة- والتي يتم الشعور بغيابها باستمرار في المناقشات حول النظام الاجتماعي الذي ينتمي اليه مُجتمع مُعيّن (وهذا ينطبق بشكلٍ خاص على المُجتمعات ما قبل الرأسمالية، سواءاً القديمة منها أم المُعاصرة)، ومكانها في تاريخ العالم، والمسارات التي اتبعتها في تطورها، وسمات الانتقال الى أنماط انتاج أُخرى، والانتظامات الخاصة التي تعمل في داخل كُلٍ منها. أصبحت هذه المسائل مُلحّة بشكلٍ خاص مؤخراً فيما يتعلق بالمناقشات حول المسارات التي يجب اتباعها لتخليص الشعوب والبلدان المُحررة من التبعية الاستعمارية. يرتبط تعقيد مجموعة المسائل التي طرحناها بشكلٍ مُباشر بتعقيد التفسير التاريخي للحقائق وتحديد القوانين والانتظامات السارية على مدار التاريخ كله، والتي تعدلت وتغيرت في مراحل مُعينة أو لم توجد الا في ظروف مُعينة.
ان دراسة تُراث مؤسسي الماركسية اللينينة ونهجهم تجاه المُجتمع ككل متكامل ومنهجهم في تحليل الروابط بين العناصر الفردية التي تُشكل الجسد الاجتماعي الحي، وتقييمهم لمعنى هذه الروابط من أجل توصيف البُنى الاجتماعية، يُشكل مهمةً مُلحةً ومرحلةً ضروريةً في تطوير التأريخ. على هذا المستوى، فان كتاباً للمؤرخ الماركسي المعروف موريس غودليير Maurice Godelier مُحللاً فيه منهجية ماركس في دراسة الرأسمالية، له أهمية كبيرة(1). بادئ ذي بدئ، يؤكد غودليير أن ماركس قارَبَ الرأسمالية ككل والتي كانت كل عناصرها (المنظومية الفرعية والبُنيوية) مُرتبطةً بقواعد أو قوانين مُحددة. ومع ذلك، في سعيه لاكتشاف القوانين العالمية التي تُحدد حركة النظام الرأسمالي ككل، لم يقصر ماركس نفسه على توصيق تلك العناصر والصلات بينها. كما قام بتحليل النظم الفرعية التي تتكون منها الرأسمالية، وأخذَ بعين الاعتبار العناصر (البُنى) التي تتكون منها، وكذلك الروابط المُميزة لها، مما أدى الى اظهار كل نظام فرعي وكل بُنية كوحدة كاملة قابلة للتحديد بقوانين تطورها الداخلية الخاصة بها، كقوانين خاصة تتعلق بالقوانين الاجتماعية العامة. وهكذا، فان دراسة ماركس للرأسمالية، تحليلاً لمستويات النظام الاجتماعي المُختلفة كشريحة فوق الأُخرى، وصولاً الى بحث كل بُنية فردية كمجموعة من الأشياء (فرد، شيء، مؤسسة) يجمعها قواعد مُحددة (العلاقات المُتبادلة، المعايير، وما اذا كانت المسألة المعنية هي القرابة، والمعايير الفنية للانتاج، والمعايير القانونية لحيازة الأرض وما الى ذلك). هذه القواعد تُظهر نظامية الحياة الاجتماعية، حيث يُنظم المُجتمع من خلالها أشكال النشاط المتنوعة على مستويات مختلفة أو في أنظمة فرعية مُختلفة للنظام المُعطى. وبالتالي، تجب دراسة كل مُستوى من مستويات النظام الاجتماعي بالارتباط مع مستوياته الأُخرى، ولكن بدون اختزال أحدها الى مستوىً آخر، كما يحدث في التفسيرات المُبسطة للسببية.
يتميز كل نوع من أنواع المُجتمع بعلاقات مُحددة وتسلسل هرمي وأهمية مُحددة بين بُناه، تتجلى في جميع جوانب الحياة الاجتماعية. تُحدد هذه الأشياء أيضاً معنى ونتائج الأحداث الفردية في نظام مُعيّن. ان الماركسية بعيدة كل البُعد عن أن تكون خطية سببية مُبسطة كما يتهمها العلماء البرجوازيين. أكّدَ ماركس وانجلز دائماً على أن كُلية خصائص البُنية الاجتماعية تقف بين الحدث وعواقبه. ان الحدث الذي يفعل على عنصر واحد من البُنية يفعل عليه طوال الوقت، وخصائص البُنية، بدورها، تُعطي الحدث أبعاده وتُفسّر تأثيره. لذلك تكون شروط التغيّر في البُنية دائماً مُميزة في كل حالة خاصة. لا توجد وصفات لتفسير مُشترك لجميع الحالات(2). يكتب ماركس "ان القاعدة الاقتصادية الواحدة نفسها-نفسها من ناحية الشروط الأساسية- بفعل ما لا عد له من الظروف التجريبية المتنوعة، والشروط الطبيعية، والعلاقات العرقية، والمؤثرات التاريخية التي تفعل فعلها من الخارج، الخ، من أن تُبدي في تجليها صوراً وتدرجات لانهائية، لا يُمكن ادراكها الا عبر تحليل هذه الظروف المُعطاة تجريبياً"(3). على أساس هذه الأحكام ومنهج رأس المال يُقارب غودليير تحليل النُظم الاقتصادية وبُناها (الانتاج والاستهلاك والتوزيع) في المُجتمعات الطبقية المُبكرة والتي كانت مُرتبطةً بالبيئة المُحيطة والتسلسل الهرمي لاحتياجات المُجتمع، وبالتالي الى أنظمة القرابة والسياسة، وما الى ذلك. نحن نعلم أنه في المُجتمعات ما قبل الرأسمالية، لم يكن الاقتصاد قد ظهر بعد كمجالٍ مُستقل. يقرن غودليير هذه الفكرة بمبدأ ماركس المعروف جيداً بأنه من الضروري ليس فقط مُلاحظة الدور السياسي للعلاقات السياسية في المُجتمع القديم والدين في العالم الاقطاعي، ولكن اكتشاف ما الذي أدى الى جعل هذا الدور هام، مع الأخذ بنمط الانتاج المُعطى كنقطة انطلاق(4). يكتب غودليير أنه حتى في المُجتمعات ما قبل الرأسمالية، كانت البُنى الاقتصادية هي المُحددة، لكنها كانت مُتشابكة بشكلٍ وثيق مع البُنى غير الاقتصادية وكانت تتميز بالرابط بينها وبين النُظم الاجتماعية والمؤسسات الأُخرى، الخ. ان طبيعة هذه الروابط تُحدد أيضاً هرمية القِيَم، وتؤثر هذه الأخيرة، بدورها، على الاقتصاد، على سبيل المثال على استهلاك فائض القيمة. لذلك فان وجود هذا الأخير لم يؤدِ بشكلٍ تلقائي الى مزيد من التطور الاقتصادي والاجتماعي. ترفض الماركسية اللينينية التفسير الميكانيكي الوضعي لعملية التطور الاجتماعي وتُطالب بمنهج مُتكامل تجاه المُجتمع. يكتب غودليير، أن النهج المُتكامل هو بالضبط الذي قاد الماركسيين الى استنتاج يقول بأن العقلانية في النشاط الاقتصادي لكل مُجتمع هو الذي يجعله (يجعل النشاط الاقتصادي) يتطابق تماماً مع عمل النظام المُعطى ككل ومع البُنى الفردية التي تُشكله. لذلك فان معدّل تطور قوى الانتاج يختلف مع كل نمط من أنماط المُجتمع، ليس فقط بالاقتران مع علاقات الانتاج الذي تُميّزه، ولكن مع جميع بُناه. وبالتالي، فان الحد الاقتصادي الأمثل ليس سوى جزء من الحد الاجتماعي (بالمعنى الواسع للكلمة) الأمثل للشروط العامة للحفاظ على عمل النظام حين تكون التناقضات المُلازمة لحركته غير تناحرية بطبيعتها، أي تلك التناقضات التي لا تنتهك الروابط بين عناصرها الأساسية. ان التناقضات التناحرية فقط هي التي تُحطّم بُنية النظام الاجتماعي والروابط الموجودة بين عناصرها القاعدية، وتجعل من المُستحيل دمج عناصر جديدة فيه. و يُقدّم غولديير تطور المُجتمعات البدائية مثالاً على ذلك. تدريجياً، تختفي الوظائف الاجتماعية من بُناها الاجتماعية وتحل محلها وظائف جديدة، وهذا يُغير البُنى نفسها. وهكذا، عندما يتطلب تطور الانتاج تنظيماً يقف فوق نظام القرابة، تظهر بُنى دينية وسياسية تعمل كشكل لعلاقات الانتاج الجديدة. يتغير نظام المُجتمع والتسلسل الهرمي لأنظمته، أي كل البُنية الاجتماعية: تنسحب علاقات القرابة الى الخلفية، في حين تُصبح البُنى الدينية والسياسية مركزية. تُحدد الطريقة التي يتشكل المُجتمع فيها من الأنظمة كلاً من السببية التي تعمل في حدودها المُناسبة، والقوانين السارية في المُجتمع ككل. ستكون ذات طبيعة واحدة في تلك المُجتمعات التي تعمل فيها القرابة والعلاقات الدينية والسياسية كعلاقات تتداخل في الانتاج، وذات طبيعة أُخرى حيث تظهر أشكال الاستغلال خارج هذه العلاقات وتخضع للتغيير الى بُنية فوقية، أي حيث من المُمكن حقاً التحدث عن الاستقلال الذاتي للاقتصاد(5).
لقد دخلنا في مثل هذه التفاصيل في عمل غودليير لأنه، يُظهر، كما نعتقد، عدم جدوى استمرارا المخاوف التي يتم التعبير عنها أحياناً حول أن تطبيق التحليل البنيوي يؤدي حتماً الى التعددية وبالتالي لا يتوافق مع الماركسية اللينينية. يتضح من هذا العمل، أن الطريقة البُنيوية ان وُضِعت بشكلٍ صحيح، ليس أنها لا تتعارض مع منهجية ماركس فحسب، بل على العكس من ذلك، تتوافق بشكلٍ مُباشر مع مطلبه بتجنب نظريات (المُفتاح الذي يصلح لتفسير كل شيء) اللاتاريخية. ان التحليل البنيوي هنا يقترح نهجاً عيانياً لتحديد السببية التاريخية ليس كفعل وحيد الجانب للنشاط على موضوع يتلقاه بشكلٍ سلبي (وهي فكرة احتج عليها مؤسسو الماركسية دائماً)، ولكن كتفاعل بين العناصر والميول التي تخلق الحركة الذاتية للنظام المُعبّر عنها في التغيرات المتنوعة داخله.
تستحق تصريحات لينين، في هذا السياق، اهتماماً خاصاً، وهي لم تحظى حتى الآن بالاهتمام الكافي، على الرغم من أنها وثيقة الصلة بموضوعنا بشكلٍ مُباشر وقابلة للتطبيق العملي في البحث التاريخي. لاحظَ لينين، في مُلاحظاته الموجزة حول كتاب هيغل (المنطق)، أن "السببية، كما نفهمها عادةً، ليست الا وجهاً صغيراً من الترابط الكُلّي الكوني" وأن "السببية ليست الا واحدة من أوجه الترابطات الشاملة". لكن لينين اعتبر أنه من الضروري الكشف عن الترابط العالمي على أساس تكامل العوامل التي تفعل فعلها في الواقع: "الكشف عن الكُلية الشاملة التي تُشكّل الواقع= جوهر الادراك الدياليكتيكي". ويُعلّق لينين كذلك، "من جهة، يجب تعميق معرفة المادة حتى معرفة (حتى مفهوم) الماهية، لكي نجد أسباب الظاهرات، من جهة أُخرى، ان المعرفة الفعلية للسبب هي تعميق المعرفة الذاهبة من سطح الظاهرات الى الماهية". فيما يتعلق بكلمات هيغل حول بُطلان محاولات البحث في التاريخ حول "الوقائع الصغيرة كأسباب صغيرة لأحداث كبيرة" وبأنها "ليست سوى ذرائع، سوى الحافز الخارجي الذي كان بامكان روح الحوادث الداخلي أن لا يكون بحاجةٍ اليه"، يُعلّق لينين: "هذه (الروح الداخلي)... هو ايحاء صوفي، مثالي، ولكنه عميق، عن الأسباب التاريخية للحوادث. هيغل يُخضع التاريخ كُلياً للسببية ويفهم السببية فيها أعمق وأغنى ألف مرة مما يفهمها حشد من (العلماء) المُعاصرين". ان "حركة العلاقة السببية بالواقع: حركة المادة أو حركة التاريخ، مُدرَكة، مُستملكة في ترابطها الداخلي الى هذه الدرجة أو تلك". يقول لينين،، أن هيغل قد شدّدَ على نقص وفراغ مفهوم الفعل المُتبادل عارياً. ينسخ لينين ما كتب هيغل: "صحيح أن الفعل المتبادل هو الحقيقة التالية مباشرةً للعلاقة سبب-نتيجة وهو نوع على عتبة المفهوم. ولكن لذلك بالضبط لا يُمكن الاكتفاء بتطبيق هذه العلاقة حين نكون في صدد المعرفة المفهومية. ان اعتبار مفهوم مُتعطى ما فقط من وجهة نظر الفعل المُتبادل هو موقف غير مُتبصر على الاطلاق، عندما لا يكون أمامنا سوى واقعة جافة أو اشتراط الوساطة، الأساسي حين نكوون بصدد علاقة سببية، يبقى من جديد غير مُشبَع. منظوراً اليه عن قُرب، هذا النقص في تطبيق علاقة الفعل المُتبادل يكمن في أن هذه العلاقة، بعيداً عن أتكون مُساوية للمفهوم، ينبغي أن تُفهَم هي (أن يتم تصورها مفهومياً)، ولهذا الغرض يجب أن لا يُترَك حدا العلاقة في حالة مُعطىً مُباشر، بل يجب... أن نتعرف عليهما كلحظتين لحدٍ ثالث، أعلى، وهو بالضبط (المفهوم). هكذا مثلاً، اذا اعتبرنا عادات شعب سبارطة نتيجةً لدستوره، وبالعكس، اذا اعتبرنا دستوره نتيجةً لعاداته، فان هذه الطريقة في الفهم يمكن أن تكون صحيحةً فعلاً، دون أن ترضينا مع ذلك، لأنها لا تُتيح لنا أن نفهم لا دستور ولا عادات هذا الشعب، ذلك لا يكون مُمكناً ما لم نفهم حدّيي العلاقة وكذلك سائر وجوه وحياة شعب سبارطة، على أنها نابعة من المفهوم الذي يقبع في أساسها". ثُم يُعلّق قائلاً: : "الفعل المتبادل لوحده= فراغ. اشتراط الوساطة (الارتباط، ذلك هو معنى السببية. كل (الوجوه الخاصة)-المكتوبة أعلاه في مُقتطف هيغل- والجمع الكُلّي (الكُلية الجامعة) Begriff (6).
كما نرى، يؤكد لينين في هذه الأفكار، على الحاجة الى التعمق أكثر فأكثر في كل حالة، والوصول الى جوهر أي كُلّية وأي نظام، دون الاكتفاء بالبقاء على السطح، ويؤكد على الحاجة الى أخذ الصلات بعين الاعتبار كوظائف لبُنية النظام وضرورته الداخلية المُلازمة له. في مقالة للفيلسوف السوفييتي غينادي اليكساندروفيتش سفيتشنيكوف المنشورة في مجلة Kommunist "أهمية لينين في البحث حول مسألة السببية"(7)، يُلاحظ مؤلفها أن الطابع الضروري أو الصُدفي للحدث يُحدده كُلية الشروط، وأن الروابط السببية تشترطها بُنية الأشياء وتفاعلها.

غينادي اليكساندروفيتش سفيتشنيكوف 1914-1974

هذه المقالة مبنية على بيانات العلوم الدقيقة، الفيزياء في المقام الأول، ولكن افتراضاتها النظرية الأساسية القائمة على أفكار لينين، تنطبق تماماً على العلوم الانسانية.
وجّهَ الأكاديمي بيوتر نيكولافيتش فيدوسييف (8) الانتباه أيضاً الى أهمية مفهوم البُنية كمقولة فلسفية والى دورها في العلوم الاجتماعية، حيث تم تطبيقها بشكلٍ فعال من قِبَل مؤسسي الماركسية اللينينية.

بيوتر نيكولايفيتش فيدوسييف 1908-1990

من الواضح أنه سيكون من الخطأ مُطابقة التحليل البُنيوي كمنهج خاص للتحليل التاريخي بتحليل البُنية، وهي مدرسة خاصة في المنهجية البرجوازية لعلم التاريخ. غالباً ما تتناقض هذه الأخيرة مع الماركسية اللينينية بنظرتها الواحدية للمواضيع، وهي شكل مُقنّع الى حدٍ ما من أشكال التعددية. لكن منهجية التحليل البُنيوية-المنظومية تُشكّل تجسيداً مُتسقاً لمبادئ المادية الدياليكتيكية عندما يستخدمها المؤرخ الماركسي.
لا تصلح تلك المُمارسة التي نواجهها غالباً في الوقت الحاضر والتي تضع التحليل البنيوي كتحليل يُزعَم أنه يصلح فقط لدراسة مُجتمع مُعيّن في لحظة معينة من وجوده، في مواجهة ديناميكيات العمليات التاريخية، بقدر ما تتمثل أحد المهام الرئيسية للتحليل البنيوي في الكشف عن مسارات وامكانيات وحدود تطور أي نظام، بما في ذلك الأنظمة الاجتماعية، والذي يُمكنه (اي التحليل البُنيوي) أن يُعزز فهماً أعمق لديناميكياتها في المسار التاريخي ككل. أخيراً، من الصعب الموافقة على الرأي السائد الى حدٍ ما، بأن التكنيك البنيوي المنظومي الذي أصبحَ منذ فترةٍ طويلة جزءاً من ترسانة العلوم الفيزيائية والطبيعية، قد استعاره المؤرخون منها بشكلٍ مصطنع دون أن ينظروا الى الخصائص التي تُميّز المُجتمع. صحيح أن هناك حالات حدث فيها هذا، وصحيح أن التحليل البنيوي المنظومي لم يتطور الا قليلاً في العلوم الاجتماعية (باستثناء علم اللغة)، لكن هذا في حد ذاته لا يدحض فائدة تطويره ولا الآفاق التي يُبشّر بها هذا المنهج. ان المُحاولات التي تمت في هذا الاتجاه لم تكن نتيجةً لتكييف مُصطنع لتقنيات العلوم الاخرى مع التاريخ، بل نتيجة لاحتياجات هذا التخصص المُلحّة.
لقد أدت مسألة قابلية تطبيق المنهج البنيوي في التاريخ الى ظهور أدب برجوازي واسع النطاق، يستحيل وصفه بأي اكتمال في حدود هذا المقال. يعترف عدد من الباحثين الغربيين، أن غياب المبادئ التي تجعل من الممكن ربط تفرّد وتنوع تواريخ مُختلف الشعوب والعصور في تاريخ عالمي واحد هو أحد الأسباب الرئيسية لانهيار المفاهيم البرجوازية السابقة في تاريخ الفلسفة، استناداً الى مادة أكثر محدوديةً والأزمة العامة للتأريخ البرجوازي تبعاً لذلك.هذا هو أصل اهتمام هذا الأخير في التحليل البنيوي-المنظومي والذي يُعطي آفاقاً جديدة لمقارنة وتصنيف الكيانات الاجتماعية التي يعتبرها العديد من الباحثين كوحدات أساسية لتاريخ العالم، مثل الأُمم والدول والثقافات والحضارات وما الى ذلك. ان نقاط الضعف المنهجية للنظريات البرجوازية المعنية في نظريات تاريخ الفلسفة مسؤولةً أيضاً عن حقيقة أن مؤلفيها يستخدمون التحليل البنيوي بشكلٍ غير مُقنع وغير فعّال بالمرة، لأن التحليل البنيوي، بمفرده، لا يُمكنه بأيّ حالٍ من الأحوال أن يكون بمثابة المفتاح لحل كل المسائل التاريخية. ان نطاق الآراء، في التأريخ البرجوازي فيما يتعلّق بمسألة تطبيق التحليل البنيوي، واسع جداً.ان موقف مُختلَف المؤلفين حول ذلك التطبيق، يُخبرنا أيضاً عن موقفهم تجاه امكانيات ومهام البحث التاريخي: ان كانوا يلجأون الى جمع وتفسير الحقائق والأحداث الفردية الفريدة، ام يريدون تطوير نظرية تستند الى ما هو عام ومُتكرر، وهي نظرية قادرة ليس فقط على الكشف عن انتظامات العملية التاريخية في الماضي، بل توقّع اتجاهها المُستقبلي. ان أحد أقسام العلماء البرجوازيين، الذي يُمثّلهم أحد قادة الوضعية الجديدة كارل هيمبيل Carl Hempel عبّر عن موقفهم بشكلٍ أوضح، وهو ينطلق من أن منطق التفسير العلمي يجب أن يكون واحداً بالنسبة للعلوم الطبيعية وعلم التاريخ، وبالتالي، فان تفسير حدث تاريخي أو فئة معينة من الأحداث يعني تقديمها كنتيجة لعمل شروط سابقة ومتزامنة أو على الأقل نظرية عامة واحدة يُمكن التحقق منها تجريبياً.

العالم الألماني كارل هيمبيل
قام آخرون مثل م. سكريفين ون. روتشر و أ. هيلير بتعديل فرضية هيمبيل بعض الشيء، مُفترضين أن فعل القانون العام محدود وبالتالي يسمح بالاستثنائات، أو أنها تُحِل محلها التعميمات الضيقة بدلاً من مفهوم القانون العام، مثل المكان والزمان والتي لا تكون صالحة الا في ظل ظروف مُعيّنة(9). ولكن مفهوم القانون العام، حتى بهذا الشكل، يواجه اعتراضاتٍ عديدة من جانب المؤرخين البرجوازيين. تستند هذه الاعترضات جزئياً الى انكار الحتمية التاريخية، والتي تم التعبير عنها في كتاب آزايا بيرلين isaiah berlin(10)، الذي اكتسب شعبيةً كبيرةً في الغرب، وجزئياً على انكار امكانية اكتشاف القوانين التي تعمل في التاريخ. يُنظَر الى التاريخ على أنه سلسلة من الأحداث الفريدة التي تستدعيها عوامل متنوعة ومُعقّدة ومتشابكة للغاية، بحيث يستحيل فرز أي حدث يُمكن أن يكون شبيهاً بأحداثٍ أُخرى. يعتقد مؤيدوا وجهة النظر هذه أنه لا يُمكن تحديد الحتمية السببية واتجاهات التطور الا لحدثٍ واحدٍ فريد من هذا القبيل. ومع ذلك، لا يُمكن اعتبار الاستنتاج المدعوم بقضية أو حدث واحد بمثابة قانون. ستكون الظروف الأولية مُختلفة، وهذا يعني أن اتجاه التطور سيكون مُختلفاً أيضاً. يعتقد العلماء المُتطرفين في هذا الموقف مثل كارل بوبر والكندي ويليام دراي William Herbert Dray، أن التعميمات، حتى تلك ذات الطبيعة المحدودة قد تكون قادرة على تفسير انطلاق حدث واحد، ولكن لا يُمكنها تفسير خصائصها الملموسة. من وجهة نظرهم، فان المؤرخ الذي يسعى الى تفسيرها على أساس قانون عام أو استنتاج شامل، والذي لا ينطبق على حالة مُعينة، سيقدّم حتماً بعض العوامل الجديدة غير المتوقعة، فانه لن يتمكن من تحقيق دمج هذه العوامل في ذلك القانون العام. ولنفس السبب، يرى العديد من المؤرخين البرجوازيين أن الباحث لن يستطيع اكتشاف الشروط الضرورية والكافية التي بموجبها يدخل القانون العام حيز التطبيق ويُحدد الحدث قيد البحث. هنا، يرى المؤرخ الذي يُعالج ظاهرة تاريخية ما سبباً واحداً ضرورياً لها، في حين أن النتيجة نفسها قد تكون ناتجة عن أسباب أُخرى. قد يتم اعتبار السبب ضرورياً وكافياً فقط على أساس قانونٍ عام، ولكن مثل هذه القوانين، كما يرونها، لا يُمكن كشفها، أو يتم الكشف عنها بشكلٍ صحيح، نظراً لأن دور السبب يُنسَب الى عامل واحد قد تم اختياره تعسفياً، والنتيجة هي حلقة مُفرغة(12).
قام اولئك الذين لا يُنكرون وجود القوانين التاريخية فحسب، بل يضعون السببية أياً كانت موضع شك، بحمل تلك الافتراضات الى أقصى حدودها، مثل رايموند آرون وهنري مارو Henri-Irénée Marrou وغيرهم). من وجهة نظرهم، الماضي لا ينضب، وبالتالي لا يُمكن معرفته أو تفسيره بالكامل. في رأيهم، هناك فقط ظواهر تاريخية مُعيّنة تشترك مع بعضها البعض وترتبط في تجمعات قابلة للتفسير جُزئياً فقط، لكن هذه التفسيرات أيضاً ستكون مشروطة واحتمالية. يُمكن للمرء فقط أن يشترط وجود ارتباط مُعيّن بين ظاهرتين وتقديم مُلاحظات صحيحة من ذلك النوع الضيّق، والتي، مع ذلك، سوف تتحدد بالكامل من خلال وجهة النظر الذاتية للمؤرخ. في تفسيرهم، يُصبح التاريخ بالتالي سلسلةً من الأحداث غير المنطقية والمُتحددة جُزئياً من خلال سببية محدودة للغاية تصلح فقط لمجموعة مُعيّنة من العوامل. يقول هنري مارو، على سبيل المثال، أنه من المُستحيل تحديد سبب مُهيمن مُشترك لأي فترة تطول أو تقصُر، وبالتالي لا يُمكن للمرء أن يتحدث عن القوانين العامة أو الحتمية التاريخية(13). يعرض مارو وآرون وبوبر وغيرهم منهجيات مُختلفة، والتي في رأيهم، تتوافق تماماً مع طبيعة البحث التاريخي (الذي له وظيفة مُعالجة الأحداث الفريدة) وطبيعة المعرفة التاريخية (التي لا يعتبرون أنها معرفة موضوعية)- على عكس التفسيرات التي تتخذ القوانين العامة أو التعميمات الجُزئية كنقطة انطلاق. وهكذا، يقترح بوبر الانطلاق من منطق "الوضعية التاريخية" الذي يُشير الى حاجة البشر الى اتخاذ اجراءات مُعينة تحت تأثير الحركات والمؤسسات والأفكار والتقاليد الاجتماعية كما تظهر للمؤرّخ، والذي تكون استنتاجاته وافتراضاته غير قابلة للتحقق منها، حيث أن هذه ليست أكثر من تفسيرات ذاتية لها الحق في الوجود مثل أي تفسيرات أُخرى(14). يتمتع الافتراض الذي يعود بالأساس الى روبن كولينغوود Robin George Collingwood بشعبية كبيرة والذي يقول أن التاريخ هو تاريخ أفكار، وبالتالي فان تفسير أي حدث يعني اعادة انتاجه في الفكروفهم قناعات ودوافع أفكار المُشاركين فيه. يرى ي. رايدينغ، على سبيل المثال، أن مثل هذا الاجراء-ان تم اجراؤه بحذر بما فيه الكفاية- قد يخدم المؤرخ كما تخدم التجارب غيره(15). تم تطوير مُقاربة "التفسير العقلاني" بشكلٍ عاملٍ من قِبَل داري dary الذي أكّد أن تفسير حدث ما، يعني وصفه على أكمل وجه مُمكن مع الأخذ بعين الاعتبار ارادة وعقل ودوافع الشخصية التاريخية المعنية التي تُفهم حينما "يضع المؤرخ نفسه في الوضع" المعني.
بالطبع، تستبعد مثل هذه المقاربات معرفة الانتظامات التاريخية. لكن حتى العديد من المؤرخين البرجوازيين، الذين يعترفون بوجود هذه الأخيرة، يميّزون أنفسهم بشدة عن التفسير الأُحادي للحتمية التاريخية. ان الموقف الذي يتخذه المؤرخ الأمريكي مورتون وايت Morton White مميز للغاية في هذا الصدد. على الرغم من أنه لا يعتبر التفسير التاريخي المُستمد من الانتظامات والقائم على اكشتاف الأسباب الضرورية والكافية للأحداث مُستيحلاً، الا أنه يؤكد بكل طريقة مُمكنة أن مثل هذه الانتظامات ليست مُطابقة بأي حالٍ من الأحوال لتلك القوانين الموضوعية للتاريخ التي صاغتها "الفلسفة التأملية" ذات الموقف الأُحادي. تُعارض "الفلسفة التحليلية" التي يُدرج وايت نفسه من بين أتباعها، تُعارض الواحدية التاريخية بالتفسير التعددي للسببية، بما في ذلك البحث عن الشروط الضرورية والكافية وامكانية الانتظامات (وان كانت جُزئية) وعمليات اعادة الانتاج، الصالحة للأحداث التاريخية المتماثلة(16).
هذه، بعبارات مُختصرة جداً، هي المدارس الرئيسية للتفسير السببي للتاريخ السائدة في التاريخ. في هذا الصدد، تجدر الاشارة الى أن مبادئ التطبيق العياني لأيٍ من هذه المقاربات قد تم العمل به بشكلٍ ناقص، ولا يُمكن للمرء أن يتفق مع المؤرخ الاسكوتلندي والتر غالي WBryce Gallie عندما كتب أن غالبية الكتابات الغربية المُعاصرة حول تفسير التاريخ هي تمارين في المنطق التطبيقي، انهم ينطلقون من الفكرة العامة عن التفسير، ويطبقونها، بطريقةٍ أو بأُخرى على التفسير التاريخي، مُظهرين درجة اختلافه عن النماذج الشائعة، وهذا لا ينتُج عنه سوى القليل لفهم طبيعته وطُرُق تطبيقه(17). تُنكر وجهات النظر هذه بشكلٍ أساسي أحقية وجود التاريخ كعلم، وتقول بأن الاتجاه التجريبي في البحث التاريخي، والتي-بكلمات مارو نفسه وآخرين- حوّلت التاريخ من "مدرسة الحياة" التي كانته في السابق، الى مُلكية لمجموعة صغيرة نسبياً من المُحترفين.
ومن هذا المُنطلق بالنسبة للمؤرخين البرجوازيين الذين يعز عليهم العلم ، تنشأ الحاجة الى البحث عن طرق جديدة يُمكن من خلالها الكشف عن الانتظامات التاريخية، وخاصةً منهج التحليل البنيوي للكيانات التاريخية. وهكذا، على سبيل المثال، توصل المؤرخ الأمريكي روبرت براون Robert Brown عند مُعالجته لمناهج التفسير الموجودة في العلوم الانسانية، الى استنتاج مفاده أن أياً منها ليس شاملاً لأنه لا يوجد بينها ما يؤدي الى تطوير نظرية كاملة. انه يعتبر، كخطوة مهمة نحو انشاء نظرية، تطوير منهجية للمقارنة بين المسارات المُتبعة في تطور المؤسسات والظواهر وما شابه ذلك، ضمن حدود النظام المعني، مما يساعد على الكشف عن القوانين التي تحكم هذه الأنظمة(18). من وجهة نظر توينبي، فان المنهجية الأكثر نجاحاً لتفسير ظاهرة اجتماعية هي الكشف عن مكانها في نظام اجتماعي أكبر، والذي لا يُمكن فهمه الا من خلال الدراسة المُقارنة لبُنيتها والعمليات التي تحدث في هذه البُنية، فضلاً عن بُنية العمليات التي تحدث في أنظمة أُخرى(19). ينطلق جميع الباحثين البرجوازيين المؤيدين للدراسة المُقارنة للثقافات أو الحضارات من هذا الافتراض بطريقةٍ أو بأُخرى. يستفيد البعض، لدن قيامهم بذلك، من المنهج الاستقرائي أو التركيبي، الذي يتكون من فرز عدد مُعيّن من العناصر التي تشترك بها الأنظمة المُختلفة، والصلات بينها، والتي يبنون منها نماذج من الأنماط تخضع لقواعد وانتظامات وقوانين مُعينة. يستخدم البعض المنهج الاستنباطي أو التحليلي، مُنطلقين من مفهوم الكيان التاريخي الذي يختلف عن مجموع العناصر التي يتكون منها، وهو يسبق تلك العناصر منقياً وتاريخياً. لذلك، لا يُمكن استنباط خصائص هذا الكل من مجموع خصائص عناصره. يتم التعرف اليها من خلال الانتقال نظرياً من بُنى الكُل الى مكوناتها من خلال منهجية التحليل والاستنباط، مع التحقق اللاحق من النتائج عبر تركيب جديد أكثر اكتمالاً. هنا أيضاً، نواجه ضعفاً شديداً في العمل الناتج عن التطبيق العياني لهذه المناهج، على الرغم من أنه صارت الحاجة الى استخدامها لتحديد الانتظامات الكُليّة ولتفسير الظواهر التاريخية، مُعترفاً بها من قِبَل عدد متزايد من المؤرخين الأجانب(20).
في التأريخ البرجوازي ، كثيراً ما تتم مُعارضة التفسير بمنهجية التحليل البنيوي، بالتفسير السببي. كثيراً ما يُعتَبَر هذا الأول أكثر مرونةً ويؤمن نطاقاً أكبر لاظهار ما هو ضيّق وصدفي. في الوقت نفسه، وليس كما اللاحتمية، فهي تضع حدوداً مُعينة لعمل النظام وتطوره، مما يجعل من الممكن اكتشاف الانتظامات التي تعمل بداخله(21).ان مواجهة هذين المنهجين خاطئ من حيث الجوهر، لأن الروابط البنيوية (سواءاً كانت نشوئية أو وظيفية أو غير ذلك) هي روابط سببية في التحليل النهائي (ما لم نختزل السببية الى سلسلة سببية سطحية). ولهذا السبب على وجه التحديد، لا يُمكن اثراء التحليل السببي الا من خلال استخدام المنهجية البنيوية. ان تحديد البُنية التي تُميّز جميع مجالات حياة المُجتمع يجعل من المُمكن رؤية وحدتها (وحدة المجالات) وراء تنوع الظاهرات. انه يوفّر امكانية البحث في كل ظاهرة في سياقها وتوضيح كيف تؤثر على الظواهر الأُخرى في المجالات الأُخرى، وكيف هي نفسها تخضع لتأثير تلك الظواهر. انها تُسهّل تحديد المكان الذي تحتله العوامل المُختلفة في تسلسل عناصر البُنية، وكيف تتحرك في ترابطها، وليس تحت تأثير سبب واحد. غالباً ما يتم الاستشهاد بأعمال الباحث الفرنسي جورج دوميزيل Georges Dumézil لاثبات ضعف التحليل البُنيوي. حاول دوميزيل استخدام هذه المنهجية لتفسير عدد من المؤسسات الاجتماعية والدينية في الهند واليونان وروما على أساس افترض أنها بُنية ثلاثية لنظرة الشعوب الهندوأوروبية، والتي تنعكس في أفكارهم عن الكون والمُجتمع والدولة والدين(22). ان هذا المثال الأخير بالتحديد هو الذي يوضح أن المنظرين البرجوازيين يسعون في أغلب الأحيان الى وضع أساس البُنية والعامل الذي يُشكلها والعُنصر المكون لها في مجال الوعي. هذه سمة خاصة لجميع المدارس التي تتخذ الدراسة المُقارنة للثقافات كنُقطة انطلاق (ستتم مناققشتها بتفصيل أكبر أدناه). ولكن، هذا لا يُثبت خطأ المنهجية في حد ذاتها-وهي منهجية يستخدمها الماركسيون لأسباب مُختلفة تماماً.
يفتتح المنهج الماركسي آفاقاً واسعاً للبحث في العلاقات والتفاعلات بين جميع الأنظمة التي يتكون منها المُجتمع. ومع ذلك، فانه تقبع هنا صعوبات كبيرة نتيجةً لحقيقة أنه لم يتم العمل كثيراً على وضع المبادئ العامة لتطبيق المنهجية البنيوية على التاريخ. أولى تلك الصعوبات هي البحث عن عنصر تشكيل البُنية، أي العامل الذي يُحدد بُنية كل نظام اجتماعي مُعطى. كما أشرنا سابقاً، يسعى العديد من المنظرين البرجوازيين الى البحث عن هذا العامل في مجال الروح: منظومة الحقائق والقِيَم وصورة العالم، والتي في حين أنها تلعب دوراً مُهماً في تحليل أنظمة الثقافة الفكرية ومكوناتهاـ لا يُمكنها تقديم تفسيرٍ مُرضٍ على الاطلاق للترابط بين البُنية الاجتماعية-الاقتصادية وثقافته غير المادية(23). من وجهة نظرنا، يتكون عُنصر تشكيل البُنية من علاقات الانتاج-أولاً وقبل كُل شيء، أشكال المُلكية. يُعزز رأينا هذا تعريف ماركس المعروف جيداً للبُنية الاقتصادية للمُجتمع على أنها كُليّة علاقات الانتاج والتي تُمثّل علاقات المُلكية الشكل القانوني لها(24).
ولكن تنهضُ هنا الأسئلة التالية: هل تُحدد هذه العلاقات البُنية بالكامل، أم أنها قادرة على احداث أنظمة بُنية مُختلفة؟ كيف يفهم المرء المُجتمعات التي توجد فيها أكثر من بُنية واحدة، والتي لا يوجد أيّ منها مُحدد للبُنى الأُخرى (كما كان الحال في أواخر الامبراطورية الرومانية على سبيل المثال)؟ بالنسبة للسؤال الأول، قد يبدو أن الاجابة الايجابية فقط هي المُمكنة: حسب كلمات ماركس تُحدد أشكال مُعينة من المُلكية اما غياب الاستغلال أو وجود شكل مُعيّن منه، أي شكل الاستيلاء على فائض المُنتَج الذي يُميّز الشكل الاقتصادي الذي يُميّز بالتالي المُجتمع وبُنيته بالكامل، على الرغم من أنه من المُمكن دائماً أن يحتفظ هذا المُجتمع ببقايا أشكال المُلكية السابقة أو قد تظهر أجنّة جديدة من المُلكية الى جانب العلاقات المُقابلة لها. السؤال الثاني هو أكثر تعقيداً الى حدٍ كبير، وبالتالي غالباً ما تم التعبير عن رأي مفاده أن المنهج البنيوي المنظومي لا يُمكن أن يُطبّق الا فيما يتعلق بالمُجتمعات البسيطة (المُتجانسة)، وليس المُجتمعات المُعقدة (غير المُتجانسة). ولكن، يبدو لنا أن هذه الصعوبة ليست مُستعصية على الحل. تتكون المُجتمعات غير المُتجانسة من عددٍ من الأنظمة المُعقدة، وقد يساعد تحديد بُناها، وبُنية النظام ككل، الى هذا الحد أو ذاك، في ايجاد أي الروابط هي الأكثر فعاليةً في أداء المُجتمع وتطوره وانتقاله المُحتمل الى بُنىً أكثر مُحدة أكثر وأعلى وأكثر استقراراً.
تكمن الصعوبة أيضاً في تحديد طابع الروابط في بُنية مُعيّنة، نظراً لأن هذا الطابع هو بالضبط الذي يُحدد خصائصها. ان العناصر التي قد تكون مُشتركة للعديد من الأنظمة (على سبيل المثال، نجد، في جميع المُجتمعات السابقة على الرأسمالية تقريباً، عناصر من العبودية والعمل المأجور بالاضافة الى أشكال مُختلفة من التبعية للأرض وللأشخاص)، ولكن سيكون طابع ارتباطها مع العناصر الأُخرى ومع النظام مُختلفاً تماماً. تم الكشف عن أنماط الروابط وأشكال التفاعل (على سبيل المثال روابط الجذب والتنافر) للعناصر والأنظمة في العلوم الفيزيئاية والبيولوجية(25) ولكن ليس في ميدان التاريخ.
اقترحَ ميخائيل أبراموفيتش بارغ ضرورة تحديد الروابط الوظيفية (تحديد عمل النظام) والنشوئية والتحولية (التي تُحدد حالاته الماضية والمُستقبلية)(26).


المؤرخ السوفييتي ميخائيل أبراموفيتش بارغ 1915-1991

هذا السياق مُهم جداً، ولكنه أيضاً لا يؤمّن تحديد تلك الروابط التي تُحدد ما هو خاص بنظام مُعيّن ملموس. هنا، على ما أعتقد، من المُمكن اتباع نهج مُزدوج. من جهة، من المُمكن الحديث حول روابط وتركيبات وتوازنات وعناصرمُهيمنة مُسبقاً داخل النظام: روابط تُحدد طابع النظام ونوعه وخصائصه. سيكون هذا هو الحال مع الروابط الاقتصادية والسياسية على سبيل المثال (يتم تضمين الاكراه المُباشر، غير الاقتصادي بشكل تعسفي في الأخير) بين مالك وسائل الانتاج والمُنتِج المُباشر، بين وحدات الانتاج الفردية ومجالات الانتاج، بين الجماعات الاجتماعية والدولة ومواطنيها. يُمكن أيضاً دمج هذه الروابط، وقد يسود هذا النمط أو ذاك فيها. على سبيل المثال، العلاقة بين السيد والعبد الذي يستأجر أرضاً أو ورشة ستكون بمثابة رابطة عبودية من العالم القديم، أو علاقة سيد برجل حر مُرتبطين بالواجبات. قد تختلف طبيعة الروابط داخل حدود نظامٍ واحد تحت تأثير كُلٍ من العوامل الخارجية والداخلية والعناصر الجديدة. أدّى تطوّر العلاقات السلعية والنقدية، في العصور القديمة على سبيل المثال، الى تقوية المكونات الاقتصادية للروابط. لكن مثل هذه التغيرات كانت مُمكنةً فقط الى حدٍ مُعيّن. ستخضع البُنية للتشوه من ثم الى التدمير عندما يتم تجاوز ذلك الحد. قد يُحاول المرء تحديد هذه الروابط المُميزة وتراكيبها في أي نظامٍ يدخل في كُلٍ اجتماعي. ان تحدثنا، مثلاً، عن نظام علمي، سيصبح من المُمكن التحدث حول روابط في مجال النظرة الى العالم والروابط الادراكية-العملية، بالاضافة الى تركيبٍ من كليهما. في علم العصور القديمة، كانت الروابط في مجال النظرة الى العالم هي الأقوى، وقد حدد هذا الدور الرائد للفلسفة آنذاك. ولكن ما هو الذي يُحدد التطابق العام للأنظمة المتنوعة التي تُشكّل المُجتمع: ذلك التطابق كنتيجة له سيكون لأي مجال مُجتمع مُعطى سمات مشتركة مع المجالات الأُخرى، تماماً، كما هو الحال، على سبيل المثال، كأي مقطع عرضي من خلال اسطوانة تحتوي على منحنيات وأي مقطع من خلال منشور يحتوي على خطوط مستقيمة؟ يبدو أن هذا التطابق مشروط بطبيعة ثانية للروابط التي تعتمد على عوامل النظام المُشكّلة للبُنية، ويتجلى في جميع مكوناته. يُمكن تحديد الروابط مبدئياً على أنها جماعية وفردية وهي تدخل في تركيبات مُختلفة. نجد، في عالم العصور القديمة، مثل هذا المُركّب من الطابع الجماعي والفردي للروابط على وجه التحديد، يتغلغل من أسفل الى أعلى ان جاز التعبير، من شكل مُلكية المُجتمع القديم المُحدد من خلال الاشتراط المُتبادل للمُلكية الشخصية والجماعية ومُلكية الدولة ووحدتها، الى الدين، حيث يتم الجمع بين العبادة الالزامية في التي أسسها المواطنون مع أقصى قدر من الحرية الفكرية للفرد، بما في ذلك الالحاد. ولكن في هذه الحالة أيضاً، تُحدد طبيعة الروابط حدود بقاء البُنية. على الرغم من التأرجح بين الفردية والجماعية، فان الاطاحة الكاملة لأيٍ منهما من قِبَل الأُخرى لا يتوافق مع بُنية ذلك المُجتمع. الى أي درجة يُمكن للمرء أن يقول ان نوع الروابط العاملة في نظامٍ فرعيٍ مُعيّن مشروطةً بنوع الروابط العاملة في النظام ككل؟ يبدو ان مثل هذا الاشتراط موجود. في مثالنا، يتجلى الطابع المُزدوج للروابط التي تتخلل النظام ككل، في ازدواجية الروابط الفرعية الفردية الأكثر عيانية: على سبيل المثال، في ازدواجية تلك الروابط الاقتصادية والسياسية التي لا تندمج مع بعضها تماماً، كما هو الحال في المُجتمعات القائمة على المُلكية المشاعية، كما هو الحال أيضاً على تلك التي لا تنفصل في المُجتمعات القائمة تماماً على المُلكية الخاصة، حيث يكون الاقتصاد مُستقلاً. علاوةً على ذلك، يوجد حد مُماثل تقريباً للتغير بين العام والخاص والعياني، والذي بعده تخضع البُنية بأكملها للتشوه والدمار.
دعونا نحاول الآن تحليل ما يُمكن لمفاهيم "النظام" و"البُنية" أن توفره لنا لغرض التفسير التاريخي. في المقام الأول، هذه المفاهيم تُحدد مكان وأهمية العناصر الفردية في الأنظمة المُختلفة، وبالتالي، من ناحية، تجعل من المُمكن مقارنتها، بينما من ناحيةٍ أُخرى، تجعلنا نتجنب سحب انتظامات نظامٍ مُعين على نظامٍ آخر. وهكذا، على سبيل المثال، فان عامل Factor نظام تملّك العبيد، أو، ان أردنا أن نكون أكثر دقة، النظام الميكروي "السيد-العبد" (ان اعتبرنا العبد، من وجهة النظر "الكلاسيكية" لهذا المُصطلح، مُنتجاً مُباشراً محروماً من وسائل الانتاج والحقوق القانونية والمدنية ويكون مُلكيةً مُطلقةً وغير محدودة لمالكه)، نقول، هذا العامل Factor يتحدد دائماً من خلال ارتباط الاكراه المُباشر والعنف للأول ضد الثاني. هذا هو أساس ما تشترك فيه مثل هذه العلاقات، بغض النظر عن المكان الذي نشأت فيه. لكن هذا النظام الميكروي يأخذ معنىً مُختلفاً عندما يتبين أنه مُدمَج كعُنصر في بُنية منظومة أُخرى. ان كانت الروابط المشاعية الجماعية هي السائدة في مثل هذه المنظومة، وكانت هناك عناصر مثل التقسيم الاجتماعي للعمل وتسويق مُنتجات للبيع، فان عُنصر "السيد-العبد" ليس ضرورياً ولن يكون في مكان يُمارس فيه تأثيراً كبيراً على البُنية ككل، في حين يتحدد وضع العبد في هذه الحالة من خلال ظروف عيانية مُختلفة. في ظل النظام الرأسمالي (في الولايات المُتحدة، على سبيل المثال)، مع وجود سوق رأسمالية عالمية، لَعِبَ مالك العبيد نفس دور رجل الأعمال الرأسمالي، أي أنه سعى من أجل المزيد من التوسع المُستمر في الانتاج وتسريع دوران رأسماله. في هذه الحالة لا يكون العنصر الذي نُفكر فيه ضرورياً ويصير غير مقبولاً ان وضعناه في سياق غير سياقه الحقيقي. في حين أن استغلال العبد هو الأكثر قسوةً وغير مُقيّد بأي شيء، بقدر ما يكون العبد هنا-ان استخدما كلمات ماركس رأسمالاً ثابتاً، اي يُشبه الآلة، يُمكن استبداله عند تآكله ومع تقدم عمره بشخص، بآلة، أكثر حداثةً. ومع ذلك، فان العبد يخلق قيمةً تبادليةً تنافس في السوق العاملة قيمة التبادل التي أنشأها العامل الحر. في عالم العصور القديمة، كنتيجة لما هو خاص بالشكل القديم للانتاج، والذي يستبعد الاستغلال الواسع للمواطنين بغض النظر عن الشكل، كان العبد عاملاً Factor ضرورياً، وأثبتت العبودية، التي كانت تتطور جنباً الى جنب مع العلاقات السلعية النقدية، أنها تُمارس تأثيراً كبيراً على النظام بأكمله. على عكس فائض القيمة، تم الاستيلاء على فائض العمل على شكل مدخولات(27)، بقدر ما كان يُقصد بالانتاج اعادة انتاج العلاقات القديمة، وزيادة قيمة الاستخدام وليس القيمة التبادلية، على حد تعبير ماركس. وفقاً للطابع المزدوج للروابط المتأصلة في شكل المُلكية في المُجتمع القديم، كان الدخل المُستحصل من عمل العبيد يُقسّم بين تلبية احتيجات مُلّاك العبيد (سواءً الشخصية أو تلك التي يتطلبها تطور السلعة والعلاقات المالية)، واحتياجات مُجتمع المواطنين ككل (الأشغال العامة، الاحتياجات العسكرية وما الى ذلك). هذا هو أصل اهتمام مجموع المواطنين بأن على العقارات الفردية أن تكون مُنتجة للدخل، حيث تسمح القوانين بالاستيلاء على قطعة أرض من مالكٍ لا يعمل بها، أو القيود المفروضة على الانفاق على المعيشة الفارهة، الخ. وهذا أيضاً هو أصل الرأي العام الذي يُطالب بأن يكون المواطن الصالح مالكاً حصيفاً وزارعاً مُجتهداً. بقدر ما تم الاعتراف بالاجماع على أنه من أهم الشروط لازدهار الاقتصاد أن يكون العبيد في حالةٍ بدنيةٍ –ولاحقاً، أخلاقية- مُرضية، فان القسوة المُفرطة على العبيد وسوء مُعاملتهم كانت-مع تطوّر العبودية- موضع ادانة وتقنين من قِبَل الدين والجمهور والرأي العام. من المُثير للاهتمام أنه يبدو أن تعسّف الأسياد كان مقصوراً على صقلية خلال فترة الجمهورية الرومانية، وأن مُعظم التقارير عن الوضع الرهيب للعبيد جاءت من تلك الجزيرة. ومع ذلك، كانت صقلية بالضبط في ذلك الوقت هي التي قال ماركس أنها الوحيدة في العصور القديمة التي كان من المُمكن مُقارنتها الى حدٍ ما مع بلدٍ رأسمالي، لأن هذه الجزيرة كانت قائمةً بمثابة دافع الجزية لروما، وكانت الزراعة موجهة في الأساس، نحو التصدير(28). بالضبط لأن بُنية الاقتصاد الصقلّي كانت قريبةً من تلك الموجودة في مناطق امتلاك العبيد في العالم الرأسمالي، احتل عنصر "السيد-العبد" مكانةً مُشابهةً. في حالاتٍ أُخرى، فان الحكم على هذا العنصر بالقياس على العبودية في العصر الحديث، كما يحدث غالباً، هو أمرٌ غير مُبرر.
ان التفسير الذي يأخذ الروابط البُنيوية كنقطة انطلاق يؤدي الى توسيع مفاهيمنا عن الأشياء قيد الدراسة. وهكذا، على سبيل المثال، ناقش الأدب أكثر من مرة مسألة عدم حدوث ثورة صناعية في عالم العصور الكلاسيكية، على الرغم من وجود ظواهر مثل طرد الفلاحين من الأرض وتركيز وسائل الانتاج، بينما اقترب العلم بالفعل من انشاء الآلات (كان تأثير البخار معروفاً، وصُنِعَت مُختلف أنواع الآلات الأوتوماتيكية، وما الى ذلك). الاجابات على هذا السؤال هي تقريباً ما يلي: كانت الآلات غير متوافقة مع العبودية من حيث أن العبد، الذي ليس له حافز لكي يعمل، لن يكون حريصاً بما فيه الكفاية عليها. لم تكن الآلات ضرورية لأن عمل العبيد كان رخيصاً بما يكفي لاتاحة التوسع في الانتاج عن طريق زيادة عدد العبيد وتكثيف استغلالهم بدلاً من التحسينات التكنيكية. لم يتطور الابداع التكنيكي بسبب ازدراء الأحرار للعمل والجهد العملي، والنمط العام للحضارة القديمة وأن "مناخها الثقافي" لم يؤيد تطور التكنيك.
هناك قدر من الحقيقة الى هذا الحد أو ذاك في كل هذه التفسيرات. لكن كلٌ منها هو عُرضة للنقد. ان "المناخ الثقافي" بحد ذاته هو مُصطلح يحتاج الى تفسير. كما أن ازدراء العمل والنشاط العملي من جانب الطبقات العُليا، وهي سمة من سمات المُجتمع الاقطاعي، لم يمنع نمو بذرة الصناعة في رحمه. بقدر ما يتعلق الأمر بالطبقات المُنتجة في العصور القديمة، بما في ذلك جزء من المثقفين، فقد قدّروا العمل تقديراً عالياً، بما في ذلك العمل البدني البسيط (ان موقف الطبيب الشهيراليوس غالينوس (غالين Galen) وأفكاره الذي عارَضَ بين العلماء والحرفيون المهَرَة بالمُتعطلين، وعارَضَ بين العبد الماهر الذي يعرف عمله جيداً وكان يساوي عشرة آلاف دراخما، والسيد الذي لم يكن يعرف صنع أي شيء ولم يُساوي دراخماً واحداً، لهو موقف مُهم بهذا الصدد). كما أن فكرة رُخص العمل العبودي نسبية للغاية. كانت أسعار العبيد رخيصةً فقط خلال فترة البيع الجماعي للسجناء من حينٍ الى آخر، ولكن في فترات أُخرى، كانت أسعار العبيد، ولا سيما المَهَرة منهم، مُرتفعة للغاية، وبالكاد يُمكن للمرء أن يُثبت أن شراء العبد الماهر والحفاظ عليه كان أقل تكلفة من أُجور العمال خلال الثورة الصناعية. علاوةً على ذلك، نجد في المصادر أدلةً كثيرةً على أن فئات واسعة من المُجتمعات الرومانية واليونانية كانت تُعارض النمو المُفرط في عدد العبيد والاستغلال واسع النطاق لعملهم. كان من الطبيعي أن تُرحّب هذه العناصر بتخفيض عدد العبيد من خلال ادخال الآلات. الحجة الأكثر اقناعاً هي افتقار العبيد لحافز العمل، والتي تستند بشكلٍ خاص على تجربة مزارع العبيد في الولايات المُتحدة. ولكن هنا من الضروري النظر في حقيقة أن الوضع هناك مُختلف تماماً عن العصور القديمة. في المقام الأول، لم يكن العبيد وحدهم هم من كانوا يعملون، ولكن أيضاً الأشخاص الأحرار، الذين كان لديهم الحافز لزيادة انتاجهم. في المقام الثاني، تطورت مُمارسة تأجير الورش والحِرَف وقِطَع الأراضي للعبيد. بطبيعة الحال، كان للعبيد أنفسهم مصلحة ملحوظة للغاية في زيادة عائداتهم، وبالتالي زيادة انتاجية العمل. وبذلك، ان انطلقنا من منظومة "السيد-العبد" الميكروية فلن نجد اجابةً نهائيةً للسؤال المطروح.
يتغير الوضع الى حدٍ ما ان تناولنا السؤال من وجهة نظر النظام ككل. يفترض عمل دُول المدينة القديمة، التي كانت التجسيد الاقتصادي-الاجتماعي والسياسي للشكل القديم للمُلكية، اعادة انتاج الروابط في ذلك النظام، أي رابط مُزدوج (اقتصادي وسياسي) بين المواطن وجماعة المواطنين، والدولة. ان طابع هذه الروابط تضع التزامات مُعينة على كُلٍ من المواطن الفرد والدولة، والتي كانت مطلوبة بُكل الوسائل المُمكنة (حروب للاستيلاء على مناطق جديدة وقيم مادية لمنحها لمن لا يملكون، الاستعمار والحد الأقصى لمُلكية الأراضي، ضبط الأسعار، الضرائب على الأثرياء، ودفع الدولة الأموال للأشخاص الذين يعملون لأشغالها) للحفاظ على المساواة الاقتصادية النسبية بين المواطنين، أو على الأقل لتزويدهم بالحد الأدنى من مستوى المعيشة. لو لم يتم ذلك، لكان المُكوّن الاقتصادي لهذا الرابط قد اختفى، وكان من المُمكن أن يؤدي ذلك الى تغيّر في البُنية بأكملها. أدى تطور عنصر موجود في النظام من الخارج (العلاقات السلعية والنقدية- الى زيادة أهمية الروابط الاقتصادية بين مكوناته المتنوعة: بين قطاعي الانتاج الرئيسيين-الزراعة والحرف-، بين مُلّاك الأراضي والمستأجرين أو العمال المأجورين، وبين مالكي العبيد وجزء من العبيد، بين الأسياد والمواطنين الأحرار، الخ). لقد مارست هذه العملية تأثيراً كبيراً على جميع مجالات الحياة، وعلى جميع العلاقات، بما في ذلك التقسيم الشرائحي للمواطنين أنفسهم، ولكنها لم تكن قادرة على تدمير الترابطات القائمة على النظام. وبالتالي، كان من المستحيل حدوث انقسام كامل للروابط الاقتصادية والسياسية، الأمر الذي كان من شأنه وحده أن يجعل من المُمكن تحوّل الدولة الى بناء فوقي في شكل نقي، وحدوث "ثورة صناعية" عندما قد تحدث في ظل ظروف المُلكية الخاصة لوسائل الانتاج، تؤدي حتماً، ليس فقط الى استبعاد جزء من المواطنين من الانتاج (كان لتطور العبودية نفس التأثير)، بل وحرمانهم حتى من الحد الأدنى من وسائل العيش وتحويلهم الى موضوع استغلال غير محدود على الاطلاق من جانب مواطنيهم، أي الى بضاعة. تظهر بوضوح الطريقة التي تنعكس بها هذه الاحتمالية في أذهان مُمثلي دول العصور الكلاسيكية القديمة، من مثال الحكاية المعروفة عن الامبراطور فيسباسيان (حَكَمَ منذ عام 69-79 ميلادية) الذي عندما عَرَضَ عليه مُخترع نمط آلة لسحب الأشياء الأعمدة والحجارة الثقيلة المُستخدمة في ترميم مبنى الكابيتول، كافئ المُخترع، ولكنه رفض الآلة، لأن استخدماها سيحرم الناس العاديين الموظفين في البناء من أرباحهم.
من الواضح أنه لهذا السبب على وجه التحديد، تم بذل الكثير في عالم العصور الكلاسيكية القديمة لتحسين جودة وتنوع انتاج الزراعة والحرف اليدوية (أي في اتجاه زيادة قيمة استخدامها)، وقليل جداً لزيادة الانتاجية (اي في اتجاه زيادة قيمتها التبادلية). تم تحقيق هذا الهدف الأول من خلال تراكم الخبرات، والتكثيف التدريجي للتخصص وزيادة مُقابلة في مهارة الناس المُشاركين، مع تقسيم العمل وتحسين تنظيمه، أي الأساليب التي لا تنطوي على اخراج القوى العاملة خارج الانتاج. كان تطور هذه الأساليب مقيداً بحقيقة أن العبيد كانوا يفتقرون الى الحافز نحو العمل، وموقف الأسياد الحذر والشكاك تجاههم وتجاه كل من يُظهر منهم مبادرةً ومهارةً خاصة (وهذا هو أصل القول المأثور المعروف: "من الضار والخطير أن يتجاوز الوضيع الآخرين في الفن")، والصعوبات في مجالات الانتاج والسياسة التي نشأت عندما كان هناك مُحاولات لتنظيم الانتاج واسع النطاق على أساس السُخرة. كان تطور هذه الأساليب مُقيّداً بحجم السوق الصغير، أي بشكلٍ عام، بالظروف التي يُمكن العثور عليها بدرجة أو بأُخرى في المُجتمعات المبنية على الانتاج البضاعي الصغير المُتضمنة نسبة عالية من العمالة غير الحرة. لم يكن من المُمكن تحقيق الهدف الثاني الا من خلال زيادة حادة في انتاجية العمل، لا سيما من خلال تحسين كبير جداً في أدوات العمل وادخال الآلات، لكن كان ذلك مُقيداً بالبُنية الكُليّة لعالم العصور القديمة الكلاسيكية. ومع ذلك، سنجد هنا عناصر ومؤشرات قليلة على نقص الحافز من جانب العبيد. توضّح لنا الروابط البُنيوية اعتماد تطور الانتاج على طبيعة النظام الاجتماعي ككل.
يبدو أن التغيرات البُنيوية توفر أيضاً آفاقاً جيدة لتحليل العلاقة بين نمط الانتاج والثقافة غير المادية. على سبيل المثال، ان محاولة تفسير التغيرات في فلسفة ودين المُجتمع القديم فقط عبر دراسة احتياجات اقتصاد العبيد، هي مُحاولة بدائية وغير مُقنعة. من الواضح، أنه من الضروري أن نأخذ، وظائف النُظُم الفرعية البنيوية الفوقية التي تضمن عمل النظام ككل، وكذلك استخدام طبيعة الروابط المُحددة لهذا الأخير، كنقطة انطلاق من أجل الدراسة. وهكذا، على سبيل المثال، كان النظام، في عالم العصور الكلاسيكية القديمة، مُصمّم لأن يُعيد انتاج العلاقات القديمة، وهذا هو سبب النداءات حول "أيامنا القديمة" و"أخلاق أجدادنا"، الخ. استدعى التقدم والتغير توتراً مُستمراً، واخفاءاً للجديد في ظل القديم. ظلّت أنظمة القِيَم، التي كانت وظيفتها أن تلعب دوراً مُحافظاً، دون تغيير خارجي لفترة طويلة، على الرغم من تغير مُحتواها الحقائقي. وهكذا، في العصور القديمة، كانت اعادة انتاج علاقات البولس (المُدُن القديمة) هي المسؤولة عن حقيقة أن لها الدور الأساسي في معيار القِيَم. هذا هو السبب وراء الدور الأساسي لمسألة "الدولة المُثلى" التي فيها يتحقق أفضل تلبية لاحتيجات المواطنين المادية وغير المادية، وهي دولة تُجسّد "الانسجام الكوني التام"، حيث كان التأمل بها على هذه الحالة احدى أهداف الفلسفة ويُستقى منها التعميمات الفلسفية من العلم، والتي وفقاً لها، لعِبَت دوراً مُختلفاً في مقياس أنظمة ثقافة العصور الكلاسيكية القديمة عن دورها في الثقافة المُعاصرة. وهذا هو أصل مقياس الفضائل المدنية ومثال المواطن الصالح القادر على خدمة الدولة في كل مجالات الحياة، ورؤية الدين باعتباره قوة تُدعّم الجماعية الكُلية للمواطنين ومؤسساتها، والتي حل الدين بسببها في المقدمة وكان يُدرَك بشكلٍ خاص في العصور القديمة كشكلٍ من العلاقات الاجتماعية بشكلٍ واضح.
هنا، لم يظهر الدين في تناقض مع الأنظمة الأُخرى، ولم يدّعي الاحتكار أو حتى الأسبقية، أو دور حامل الوازع الأعلى، لأن هذه الأخيرة كانت مُلكاً للدولة. لقد حددت الثقافة غير المادية عناصره وطابع روابطه. تتجلى ثُنائية هذه الأخيرة في الارتباط بين الجماعي والفردي: في اشتراطهما المُتبادل. كانت الحرية الشخصية وحرية المواطنين، والقيم الفردية والجماعية مشروطة بشكلٍ مُتبادل. لم يتعارض "الحُكم Judgment الفردي" والحكم الصادر عن ضمير الفرد مع الحُكم الجماعي لأن مسؤوليات الفرد كانت تتطابق مع واجباته كمواطن. قد يضل في اختيار طريقه، ويتعرّض للعقوبة أو النفي، ولكن هذا لم يكن ينتقص من شرفه ان سعى فعلاً لخدمة مصالح مواطنيه وليس مصالحه. فقط ان سعى لمصالحه وحدها، فان هذا سيسمه بالعار. لذلك كان البطل القديم خادماً لجماعة ما، لكنه لم يكن أبداً "سوبرمان" يقف فوقها. وهذا، من بين أمورٍ أُخرى أصل النظر الى الجريمة والضلال ليس على أنها خطيئة، أو صراع مع الذات، بل انتهاك للقيم الجماعية وتصالح معها بطريقة أو بأُخرى. وهذا، كما يجب أن نُلاحظ، يُفسّر غياب الروايات السيكولوجية القائمة على الصراع الداخلي في العصور القديمة (على الرغم من حقيقة أن عدد من كُتباها كانوا قادرين على التعمق في النفس الانسانية)، ويُفسّر لنا الدورالأساسي الذي لعبه التاريخ في الأدب الروماني-اليوناني، حيث يكون البطل اما جماعة من المواطنين أو أفراد لتلك الجماعية التي تُجسّد أحكامها القيمية على الفضيلة والخطأ، في حين يتجلّى كلاهما في صراعات خارجية والتي تكون المشاعر الداخلية هي أرضية لها. البطل يقمع أو لا يقمع مصلحته الشخصية في تعارض مع ما هو اجتماعي. يُمكن رؤية ازدواجية الروابط هذه في أي مجال من مجالات الثقافة. وقد تجلّى هذا في الفنون في شكل مُعالجة الفرد على أنه تعبير عن ما هو كوني.
على الرغم من الطبيعة المُحافظة للثقافة في تلك الفترة، فقد تغيرت بُنيتها تدريجياً، حيث تكيّفت مع التغيرات التي كانت تحدث مُسبقاً في النظام الاجتماعي بأكمله. لكن هذا النوع من التكيّف أيضاً لا يُمكن أن يكون غير محدود. تعرضت الثقافة في مرحلةٍ ما، للتشوه والدمار. وهكذا، حاول اوغسطس، عندما وصل الى السُلطة، وتحت شعار اعادة تأسيس الجمهورية واحياء "أخلاق الأجداد"، تكييف بُنية الايديولوجيا والثقافة الرومانية القديمة مع عناصر جديدة أهمها الامبراطور نفسه، واستبدال "حكومة الشعب" بـ"حكومة الامبراطور"، التي يُزعم أن الشعب قد جعلها في مركزٍ قياديٍ في الدولة. لكن هذا الاحلال الجديد للسُلطة قد قوّض طابع الروابط الأولى (بُنية ايديولوجيا الثقافة الرومانية القديمة)، وقلل من أهمية المُكوّن الجماعي فيها. لقد وقف الامبراطور نفسه فوق الجماعة، وكان موقف رعاياه منه أكثر فرديةً بما لا يُقاس من موقف المواطنين تجاه الدولة. وَجَدَ هذا الموقف الجديد تعبيره في عبادة الامبراطور، مما أدى تدريجياً الى تغيّر في التسلسل الهرمي للأنظمة الثقافية. الآن لم تعد الفلسفة والتاريخ هما اللذات يسعيان الى الوضع المثالي كمكوّن عضوي للـ"الحالة المثالية للعالم"، بل الدين، الذي رَبَط الأباطرة بالآلهة والرعايا بالأباطرة. نما الدين والدولة معاً أكثر فأكثر، وصار عصيان الامبراطور ليس جريمةً ضد الدولة فحسب، بل تدنسياً للمقدسات. تم انتهاك التوازن النسبي الذي كان قائماً بين الجماعة والفرد بشكلٍ مُتزايد لصالح الأخير، مما أدى الى ظهور صراع بين الجانبين، وتطور تدريجي، وغير مُكتمل لـ"الرأي الفردي". وصار مفهوم الحُرية الشخصية والمعتقد الشخصي والضمير والخطيئة، وهي عناصر لم تعد متوافقة مع البُنية القديمة. ثبُتَ أن الآفاق الكامنة في هذه البُنية قد استُنفدَت. اختفى حافز خدمة تلك القِيَم، وبالتالي الحافز للابداع. استُبدِلَ التطور بالاستقرار، والاستقرار بالتراجع، وعندما ظهرت مسألة عدم موثوقية القيم القديمة، التي كانت في تناقضٍ حاد مع الواقع، فقد أدى ذلك الى ظهور احتجاج شديد ضدها. ومع ذلك، فان هذا الاحتجاج على القِيَم القديمة ظل داخل حدود البُنية القديمة طالما أن هذه البُنية التي أدت الى ظهورها ظلت ماثلة. كان الصراع في ظل دولة المدينة يدور حول المسائل السياسية والاجتماعية عندما كانت الفلسفة الاجتماعية والسياسية تتصدر التسلسل الهرمي للثقافة. أما في ظل الامبراطور، أصبحت المسائل الدينية تتصدر ساحة المعركة لأن الدين هو الذي صار يحتل المركز القيادي الآن. كان هناك، وعلى أساس الدين، انكار لجميع القِيَم القديمة، تلاه بداية انشاء قِيَم جديدة أصبحت عُنصراً بُنيوياً مُشكلَاً لأنظمة الثقافة غير المادية.
وهكذا، فان بُنية الثقافة غير المادية، التي تُحدد بُنية المُجتمع ككل في التحليل النهائي، تُحدد بدورها الشكل الذي تتخذه الصراعات الاجتماعية. قد يكون المظهر الحقيقي لهذه الصراعات-على سبيل المثال-في نفس الامبراطورية الرومانية (التيارات الدينية، والتيارات الفلسفية داخل وخارج اطار المسيحية)- مُختلفاً تماماً، ويُمكن تفسير الانتصار النهائي لاتجاه مُعيّن منها من خلال الأسباب العيانية المتنوعة، لكن طابعها العام يتحدد من خلال بُنية النظام وروابط أنظمته الفرعية. من الواضح أنه يُمكن رؤية مزايا التحليل البُنيوي من خلال المثال التالي. من المُمكن تطوير تفسير مُنعزل، للأسباب التي جعلت المسيحية أقوى من المُعتقدات الميثراوية Mithaism (المُعتقدات الصوفية الغامضة حول الاله ميثرا)، أو لماذا انتصرت المسيحية الأرثذوكسية على الغنوصية. ولكن هذا التفسير لن يكشف عن الانتظام الناتج عن الصراع الطبقي الذي اتخذ شكل الصراع الديني في الامبراطورية الرومانية. ان تفسير هذه الحقيقة، المحصور ضمن حدود النظام الفرعي المُعيّن، يعزو الأسباب الى استسلام الطبقات الدُنيا من النضال السياسي بعد قمع تمرّد العبيد والفقراء في فترة نهاية الجمهورية (هزيمة ثورة العبيد الثالثة بقيادة سبارتاكوس)، والبحث عن عزاء ديني لمواساة ظروف الحياة الصعبة، وأعمال القمع الحكومية. كل هذا يُقدّم تفسيراً جُزئياً فقط، لكنه لا يكون مُقنعاً تماماً في غالب الأحيان. كانت الحياة على الفقراء والعبيد في فترات سابقة من تاريخ عالم العصور الكلاسيكية القديمة صعبة للغاية، ولم تتوقف عمليات انتشار الفقر، ولا حتى انتشار المسيحية، من ثم لاحقاً انتشار الحركات الهرطقية المُختلفة، الخ. لكن على الرغم من أن الروابط البُنيوية لا تُفسّر كل حقيقة عيانية، الا أنها (أي الروابط) تجعل من المُمكن التعرف على بعض الانتظامات العامة لمرحلة مُعينة من التطور التاريخي لبلدٍ مُعيّن، ويجب على المرء أن يبحث، ضمن حدودها، عن دور وأهمية الظواهر الفردية والعمليات في الكُلّ الاجتماعي، وتقييمها وفقاً لذلك (على سبيل المثال، قد تكون الحركات الدينية في بعض الأحيان عاملاً رجعياً في نظام ما، وقد تكون عاملاً تقدمياً في نظامٍ آخر).
تؤمّن لنا، طبيعية روابط البُنيوية، الى هذا الحد أو ذاك، تصوراً عن حركة النظام ككل. وهكذا، فان ازدواجية روابط المُلكية في العصور الكلاسيكية القديمة افترضت منذ البداية أن الاقتصاد قام بتسويق سِلعه الى حدٍ ما، لأن هذا هو رفيق حتمي للمُلكية الخاصة. أدى بيع السوق، بدوره، بشكلٍ طبيعي، الى الاستقطاب الطبقي على طول خطوط المُلكية. لكن المساواة الاقتصادية بين المواطنين كانت شرطاً ضرورياً لتحقيق التوازن في النظام. هذا هو السبب في أن الحرب كان لها وظيفة كمصدر للحصول على الأراضي والقِيَم المادية (وليس بحالٍ من الأحوال فقط الحصول على العبيد، كما كان يُفتَرَض في كثيرٍ من الأحيان) لاعطائها لأولئك الذين ليس لديهم هذه المُمتلكات. يُمكن تعريف روابط الدولة-المدينة بالبيئة الخارجية في ذلك الوقت على أنها روابط تنافر مُتبادل. أعادت الحرب التوازن داخل النظام الى حدٍ ما، ولكن في الوقت نفسه، أدت الى مزيدٍ من التقسيم الطبقي الاجتماعي وزيادة نسبة الانتاج الذي يتم تسويقه وفي زيادة دور العبودية، وبالتالي، الى نمو الاحتياجات، سواءاً الخاصة أو الجماعية، والتي كما سعينا لتوضيحها في الأعلى، لم يكن من المُمكن تلبيتها من خلال اعادة الانتاج الموسعة ضمن حدود النظام القائم، والتي تمت تلبيتها عن طريق تأمين التدفق المُتجدد باستمرار للقيَم المادية من الخارج. في الوقت نفسه، أدت الحرب الى دمج دولة المدينة (المُنتصرة أو المهزومة) في نظام جديد أكثر تعقيداً، حيث تصير هي نفسها أحد العناصر جنباً الى جنب مع عناصر أُخرى لها بُناها المُختلفة الخاصة بها. في الامبراطورية الرومانية، هذه العناصر كانت تتألف من كوميونات من أنوع مُختلفة، بالاضافة الى أقطاب من مُلّاك أراضي يتمتعون بالاعفاءات، وفلاحي أراضي على مستويات مُختلفة من التبعية. في ظل هذه الظروف الجديدة، صار من المُمكن، من ناحية، اعادة انتاج البُنى الحضارية المتعددة في العديد من المُدن الجديدة، مما أدى الى تقوية النظام المُعطى، ولكن ومن ناحية أُخرى، كان هناك تطور في الروابط الجديدة للامبراطورية مع البيئة الخارجية السابقة. وهكذا، لم يعد الأمر كما في السابق تنافراً مُتبادلاً، بل أصبح علاقة جذب سياسية واقتصادية (بعدما تقوّت هذه العلاقة الأخيرة)، بين الأنظمة وداخلٍ كُلٍ منها، وخصوصاً داخل المدينة. ولكن كما لاحظنا مُسبقاً، لم يكن الانتصار الكامل للروابط الاقتصادية الخارجية في هذا النظام مُمكناً، والهيمنة المُفرطة لهذه الروابط قد شوّهَت وأثقلت البُنية بأكملها. كما أشار ماركس، استشهاداً بالامبراطورية الرومانية على وجه الخصوص كمثال: ان كانت القوة الانتاجية للعمل الاجتماعي متطورة بشكلٍ غير كافٍ، فلن يكون من المُمكن الاستعاضة الكاملة عن الاقتصاد الطبيعي بالاقتصاد النقدي(30). ان تقوية الروابط الاقتصادية يفترض على وجه التحديد الانتقال الى الاقتصاد النقدي.
كان هناك كذلك تحوّل في الروابط السياسيةالمُميزة لدولة المدينة المُستقلة. أصبح عدد مُتزايد من الأحراروالعبيد رعايا ليس فقط لأسيادهم، وانما للامبراطور أيضاً، ليس فقط أعضاء للجمعيات الفردية ولكن للدولة بأكملها، وهي جمعيات أصبحت الآن مُرتبطة بشكلٍ وثيق مع بعضها أكثر مما كانت عليه للبولس المُستقلة. من ناحيةٍ أُخرى، توقفت البيئة الخارجية، التي أصبحت الآن جزء من النظام، عن ضمان تدفق القِيَم التي التي كانت ضرورية للحفاظ على الروابط السياسية المُزدوجة بين المدينة والمواطن. ازداد التمايز الاجتماعي بشكلٍ لا رجعة فيه، وأدى الى ظهور مساحات واسعة من اللاتيفونديا، وهي عنصر لا يتوافق مع بُنية شكل مُلكية العصور الكلاسيكية القديمة، والتي افترضت استغلال العبيد، بقدر ما كان الانتاج الضخم القائم على مُلكية العبيد مُستحيلاً في ظل هذه الظروف. لا يُمكن لحيازة الأرض على نطاقٍ واسع أن توجد الا بالاقتران مع الاقتصاد الزراعي ضيق النطاق، لكن المتطلبات الأساسية لتطوره لم تتشكل داخل حدود البُنية الحضرية. كان من المُستحيل، أن تتطور الروابط الشخصية المُباشرة بين مالك الأرض والكولون بداخلها، لأن الكولون استمر في كونه مواطناً في المدينة. ولم يكن للعبد الذي استقر في الأرض أن يُصبح فلاحاً تابعاً، بقدر ما أنه وعلى الرغم من الروابط بين العبيد والحكومة المركزية، فقد بقيَ العبد بعيون الدولة مُلكيةً لسيده (بغض النظر عن الأساليب التي تم استغلاله من خلالها، ومتميزاً عن الفلاح التابع اقطاعياً)، ويقع خارج كل المؤسسات القانونية والاجتماعية . تُعتَبَر الكوميونة التي ترسخّت في بعض الأنظمة، شرطاً ضرورياً للانتاج الزراعي ضيق النطاق، وكانت، على حد تعبير انجلز أهم عامل في تجديد مُجتمع العصور الكلاسيكية القديمة الذي كان قد دخل في زقاق مسدودة(31). لم يكن من المُمكن اعادة انشاء الكوميون، في ظل ظروف المدينة، الا على نطاق ضئيل جداً. كان هذا الزقاق المسدود هو نتيجة لبُنية المُلكية في العصور الكلاسيكية القديمة، والتي لم تكن متوافقة مع المزيد من التطور الذي حدث بالفعل في الأنظمة الفرعية الأُخرى للامبراطورية التي تعايشت مع ذلك، وأدى هذا الى ابطاء التطور. يرجع التوتر في النظام بأكمله، من بين أمور أُخرى، الى تنوع روابط أنظمته الفرعية. ظلت الروابط في مدينة العصور الكلاسيكية القديمة، على الرغم من التغيرات التي خضعت لها في حدود الامبراطورية، ظلت مُزدوجة، أي سياسية واقتصادية، بينما كانت، في أنظمة فرعية أُخرى اما غير مُتمايزة (كما هو الحال في الكوميونات الحرة) أو مبنية على أساس تبعية الأرض والأشخاص (كما كان الحال في العقارات خارج المُدن، حيث كان النوع السائد من العمل هو عمل أنواع مُختلفة من المُزارعين، والذين غالباً ما اتخذت اعتماديتهم شكل علاقات التبعية النفعية clientele and patrons، (أي أن السيد يقدم الحماية للرجل الحر أو العبد المُحرر في حين يؤدي هذا الأخير خدماته لأعمال سيده-المُترجم). مع تغيّر أساس شكل مُلكية العصور الكلاسيكية القديمة القائمة على هذا، تم فتح الطريق للتطور غير المُقيّد للأنظمة المذكورة أعلاه. استمرت عناصر النظام القديم لفترة طويلة كما كان من قبل، أي لوردات الأراضي من مُختلف الأوساط، والكولون والعبيد وأعضاء الكوميونات، لكن هنا تغيّرت الروابط ، مما جعل النظام أكثر استقراراً.
نحن هُنا نُقارب مسألة كيفية تحديد فئة النظام الاجتماعي التي علينا أن نُصنف مُجتمعاً في اطارها عند وجود العديد من الأنظمة ذات البُنى المُختلفة. ومن أجل الاجابة على هذا السؤال، نقوم في العادة بتحديد أي شكل من أشكال الاستغلال كان سائداً، ولكن غالباً ما يكون من الصعب القيام بذلك. يعتقد البعض، فيما يتعلق بالامبراطورية الرومانية المتأخرة، أن العبودية كانت المعيار الحاسم، يعتقد البعض الآخر أن الكولونية، بما يشبه القنانة المُبكرة، هي التي كانت المعيار الحاسم، وحُجج نفس الفريقين لها نفس القدر من الأهمية بشكلٍ عام. يبدو أنه في هذه الحالة، لا يوجد حل واحد مُمكن لهذا المُجتمع غير المتجانس ككل، حيث كان لكل نظام من الأنظمة المُكونة له شكله الخاص من المُلكية وشكل الاستغلال خاصته. النظام الذي كان يلعب الدور الأساسي هو ذاك الذي جعل الأنظمة الأُخرى تتلائم معه، حتى ولو جزئياً، وفي أوقات مُختلفة. وهكذا، طالما كان انهيار الكوميونات وتفتيت تجمعات الأرض الكبيرة والعمليات المُماثلة في ظل الامبراطورية هي النتيجة التي جعلت مدينة العصور الكلاسيكية تتطور، فقد كان شكل مُلكية العصور الكلاسيكية القديمة هو الذي كان مُحدداً. ولكن عندما كان النظام يتوقف عن لعب هذا الدور، عندما لم تتوقف بُنى الأنظمة الأُخرى عن تلقي تأثيره وحسب، بل على العكس تماماً، بدأت في التأثير عليه بشكلٍ مُتزايد، مما أدى الى تشويهه الى أقصى الحدود المُمكنة، مما أدى بدوره الى تشويه جميع مجالات حياة المُجتمع: النظام الحكومي، طبيعة الصراع الطبقي، الايديولوجيا، الثقافة وما الى ذلك. وبالتالي، أصبح هذا الشكل من المُلكية عاملاً من عوامل الانهيار وكان لا بد من تدميره.
لقد ذكرنا أمثلة لتطبيق التحليل البُنيوي لتحديد الانتظامات التاريخية وتفسير الظواهر. يبدو ان استخدام هذا التحليل يفتح آفاقاً مُعينة لتحليل أعميق لدرجة تحديد العملية التاريخية، لأنه يُحدد النتائج العامة لمجموعة كاملة من الشروط وتفاعلها واتجاه تطور النظام وحدود امكاناته. ان هذه الشروط بالتحديد هي التي تُفسّر لماذا يقوم عامل مُعيّن بافراز نتيجة مُعية في حالة، ونتيجة أُخرى في حالةٍ أُخرى. قد تساعد المقارنة بين العوامل، في الحالات المُتعددة، في تحديد القوانين التي تُميّز كل كيان اجتماعي ملموس بشكلٍ أكثر دقةً من تلك التي يتم تحديدها من خلال البحث في الحركة العامة للنظام الاجتماعي-الاقتصادي، وفي نفس الوقت يُمكن ايجاد قوانين أكثر عموميةً من تلك التي تُحددها المناهج التقليدية.

* ايلينا ميخايلوفنا شاتيرمان
1914-1991 مؤرخة سوفييتية للعالم القديم ومُتخصصة في تاريخ روما ودكتورة في العلوم التاريخية وحاصلة على جائزة الدولة السوفييتية عام 1987. انخرطت في دراسة المسائل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للتاريخ الروماني القديم وخاصةً أزمة الامبراطورية الرومانية في القرن الثالث، وكانت تدرس القضايا المُتعلقة بالتشكية الاجتماعية-الاقتصادية العبودية الرومانية ودرست عدداً من مؤلفات الكُتّاب القدماء. كانت ايلينا عالمةً ماركسية درست خصوصيات المُجتمع القديم وفسّرَت بشكلٍ خلّاق مبادئ المادية التاريخية عند النظر في مشاكل مُحددة وعيانية. نَشَرَت شاتيرمان مقالاً في مجلة (نشرة التاريخ القديم) عام 1989 فتحت نقاشاً مُهماً حول طبيعة الدولة في روما القديمة. صارت شاتيرمان أشهر باحثة سوفييتية لمسائل روما القديمة في الغرب بفضل ترجمة أعمالها الى اللغات الأوروبية (الألمانية في المقام الأول).
من كتبها: (أزمة نظام العبودية في المقاطعات الغربية للأمبراطورية الرومانية 1957). (أخلاق وديانة البقات المُضطهدة في الامبراطورية الرومانية 1961). (ازدهار العلاقات العبودية في الجمهورية الرومانية 1964). (علاقات العبودية في بدايات الامبراطورية الرومانية 1971). (أزمة الثقافة القديمة 1975). (روما القديمة: مشاكل التطور الاقتصادي 1978). (الأُسس الاجتماعية للدين في روما القديمة 1987). ومن مقالاتها (بعض الدراسات الايطالية الجديدة حول التاريخ الاجتماعي-الاقتصادي لروما القديمة 1982).

1- العقلانية واللاعقلانية في الاقتصاد، موريس غودليير، ترجمة عصام الخفاجي، منشورات وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية 1955.
2- M. Godelier, Rationalite et irrationalite en bconomie, Paris, 1966
3- رأس المال- المُجلّد الثالث، كارل ماركس، ترجمة فالح عبد الجبار، دار الفارابي، ص918
4- K. Marx and F. Engels, Vol. 23, p. 92, footnote Vol. 17, p. 92
5- See M. Godelier, op. cit., pp. 92-94
6- دفاتر عن الدياليكتيك، لينين، ترجمة الياس مرقص، دار الحقيقة 1988، ص169-172
7- G. Svechnikov, Генна́дий Алекса́ндрович Све́чников "Znachenie leninskikh idei dlia issledovaniia problemy prichinnosti," -Kommunist, 1966, No. 16.
8- See P. N. Fedoseev, "Idei Lenina i metodologiia sovremennoi nauki," Problemy mira i sotsializma, 1967, No. 4, p. 14
9- Sidney Hook, ed., Philosophy and History, a symposium, New York, 1963, pp. 106-123, 151 A. C. Danto, Analytical Philosophy of History, Cambridge, 1965, pp. 203-209.
10- I. Berlin, Historical Inevitability, London, 1954: compare E. Carr, What Is History?, London, 1964, p. 100
11- عقم المذهب التاريخي، كارل بوبر، ترجمة عبدالحميد صبره، دار المعارف 1959، ص123
W. Dray, Philosophy of History, New York, 1964, pp. 5-16, 62
12- Cf. W. Gallie, Philosophy and the Historical Understanding, New York, 1964, pp. 105-106 E. Ryding, The Concept, Cause, as Used in Historical Explanation, New York, 1965, pp. 5-7, 23, 42, 44 M. Cohen, The Meaning of Human _History , Illinois, 1961, pp. 112-114, 225.
13- H. Marrou, De la connaisance historique, Paris, 1954, pp. 168, 170-177, 180 R. Aron, Introduction to the Philosophy of History, Boston, 1962, pp. 16-17, 225, 238-259, 264.
14- K. Popper, Misère de l historicisme, Paris, 1956, pp 147-149
15- E. Ryding The Concept, Cause, as Used in Historical Explanation, New York, 1965, pp. 63-79.
16- M. White, Foundations of Historical Knowledge, New York and London, 1965, pp. 16, 28, 35, 181.
17- Cf. W. Gallie, Philosophy and the Historical Understanding, New York, 1964, pp 10-19.
18- R. Brown, Explanation in Social Science, Chicago, 1964, pp. 190-193.
19- A. Toynbee, A Study of History, Vol. MI, Oxford, 1961, pp. 27, 165, 167
20- See O. Anderle, "Die Geschichtswissenschaft in der Kriese," Festgabe Lortz, Vol. 11, Baden-Baden, 1958 J. Vogt, Geschichte des Alt ertums und Univer-sal ges ch ich te , Wiesbaden, 1957, p. 30
21- See, for example, The Problems of Civilisations. ReDorts of the First Synopsis Conference of the S.I.E.C.C., edited by o. Anderle, London and Paris, pp. 135-139, 376, 379
22- J. Dumezil, Les dieux des indoeuropeens, Paris, 1952
23- For more detail on this see the survey "Problemy kul tury v zapadnoi sotsiologii," Voprosy filosofii, 1967, No. 1
24- نقد الاقتصاد السياسي، كارل ماركس، ترجمة راشد البراوي، دار النهضة العربية 1969، ص3
25- See, for example, the collection Problemy struktury v nauchnom posnanaii, Saratov, 1965, pp. 83, 86
26- M. A. Barg, "Strukturnyi analiz v istoricheskom issledovanii," Voprosy filosofii, 1964, NO. 10, pp. 86-87.
27- تم استخدام مصطلح "الدخل" هُنا بشكلٍ انتقائي، باعتباره مُتميزاً عن الريع وفائض القيمة، طالما أن تخصصنا لا يحتوي على مًطلح مناسب لشكل الاستحواذ على العمل الفائض للعبيد. كان الدخل (من الأرض والحِرَف والتجارة والربا) هو المُصطلح الأكثر شيوعاً في الفكر الاقتصادي للعصور القديمة الكلاسيكية، اشارةً الى نسبة عوائد الأموال المُستثمرة. تم اعتبار الدخل المُستخلص من عمل العبيد في سياق أنواع المدخولات المُمكنة الأُخرى من الأنماط المذكورة.
28- رأس المال- المُجلّد الثالث، كارل ماركس، ترجمة فالح عبد الجبار، دار الفارابي، ص914
29- نفس المصدر، ص924
30- See Marx and Engels, op. cit., Vol. 21, p154

من مقالة:
E. M. Shtaerman (1969) On the Problem of Structural Analysis in History, Soviet Studies in History, 7:4, 38-55