محو العراق (4)


عبدالحميد برتو
2021 / 10 / 1 - 21:55     

أصوات لاجئة
يتناول هذا الفصل حياة وظروف ومعاناة الهاربين العراقيين، من جحم الحصار والغزو وما نتج عنهما. كذلك يتوقف عند أهم محطات اللجوء أو الهروب أو محاولات الخلاص من الموت أو الفقر أو المخاطر وغيرها من الأسباب الداهمة. يسعى الكتاب الى التناول الأمين لأوضاع العراقيين في كل من الأردن، سوريا، السويد وأستراليا وغيرها. دَوَّنَ هذا الفصل مقابلات، أجراها المؤلفون أنفسهم، كل على حدة، في الأردن، سوريا والسويد وغيرها. تمت الإشارة في كل مقابلة الى إسم مَنْ أجرى المقابلة ومع مَنْ ومكانها.

سد هذا الكتاب فراغاً موحشاً، حول أوضاع ملايين العراقيين، الذين أضطروا الى مغادرة بلادهم عنوة، تحت تأثير عوامل متباينه. لكل هارب أو مغترب أو لاجئ أسبابه العامة والخاصة. هذا فضلاً عما ترتب على تلك الهجرة على الأشخاص والوطن ككل. لم ينل موضوع الهجرة العراقية الواسعة، الى يومنا هذا، إهتماماً مناسباً يستحقه، من الجهات السياسية أو المؤسسات الثقافية المحلية، الرسمية منها والأهلية. تقلص الأمر بمجمله في حدود الأغراض السياسية اليومية، ذات الطابع الوصفي في أحس الأحوال. تستهدف التحريض أو الدعاية حسب الإتجاهات المتضاربة.

ظهرت بعض الكتابات، لكنها ظلت في حدود ضيقة، من حيث إنتشارها وعمقها، ومن حيث إستخلاص النتائج. لم يُدرس الأمرُ كظاهرة إجتماعية، سياسية وإنسانية. من سوء حظ الدراسات الإجتماعية الواسعة النطاق، إنها تتطلب إستثمارات وفرق عمل. لا يملك الباحثون الجديون في الغربة تلك الإمكانات، والذين يملكون الإمكانيات، ليس من صالحهم، أو من مصلحتهم المعالجات الدقيقة، أو إنها لا تشغل أيَّ جزء من إهتماماتهم، وربما غير جديرين بمثل تلك المهمة.

يبدأ هذا الفصل بنقل صورة، عن حياة زوجين عراقيين (فاضلة وباسل)، هربا من العراق عام 2002 الى الأردن. ليهاجرا بعدها الى أستراليا. أجرى ريتشارد هيل، وهو ثالث ثلاثة من مؤلفي كتاب "محو العراق"، مقابلة معهما يوم 15/3/2006 في نيو ساوث وايلز ـ أستراليا.

حاول هيل نقل تفاصيل إنسانية صغيرة، من حياة الزوجين وأجواء المقابلة ذاتها، على أمل أن يجسد ذلك، جانباً من معاناة العراق والمغتربين العراقيين أيضاً. أثناء المقابلة فضل الزوجان متابعة التلفاز ـ محطة الجزيزة، التي كانت تنقل أخبار إنفجار مفخخة، أدى الى سقوط أعداد كبيرة من الضحايا، في منطقة قريبة من بيت أهل فاضلة.

تأتي المقابلة بعد مضي أربع سنوات، على هروب الزوجين. ظلت خلالها إتصالاتهما بعوائلهما في العراق شغلهما الشاغل. عندما يعرض التلفاز خبراً عن العراق، يتوقف الزوجان عن الكلام، حتى عن الإهتمام بالمحيط حولهما، لمعرفة ما يهم وطنهما ـ العراق. ما أدهش هيل هو شدة إلتصاق العراقيين بوطنهم المبتلى، ومتابعة أدق التفاصيل عن أوضاعه وشؤونه.

النزوح
بدأ ريتشارد هيل بوصف هيئة فاضلة وباسل، اللذين أكدا على إنهما لم يتصورا، أن أمريكا ستغزو بلادهما. إنما هي تمارس التهديد كضغوط سياسية وإقتصادية حسب. لكن تحت ضغوط والدا باسل قررا اللجوء. كانت عائلة باسل واثقة من أن الغزو سيقع. أسكنتهما عائلة باسل في شقة مجاروة في عَمّان. بدأا عندها متابعة الأخبار. مما وَلَّدَ عندهما قناعة، بأن الحرب قادمة لا محالة. في بداية الحرب بكت فاضلة وخافت على أهلها في العراق، من مشاهد الصواريخ التي تسقط على بغداد.

حاولت الإتصال بعائلتها دون جدوى. لكن بعد حوالي إسبوعين إتصلت على الجوال مع والدتها. أخبرتها بأن الوضع سيء جداً. قالت لها: بأن والدها لا يخرج من البيت، بسبب خطورة الأوضاع. أصيب بيت جارهم وتكسر زجاج بيتهم. قال والدها لا توجد حكومة ولا أمن. لم تعد فاضلة وباسل وطفلتاهما الى بغداد، أصبحوا في عداد مليون أو مليوني لاجي عراقي، هربوا بين حربي الخليج الأولى والثانية.

عاد الكتاب الى متابعة سيرة نهى الراضي، التي أصبحت لاجئة في لبنان. تتردد في بعض الأحيان على الأردن، لوجود أقارب لها هناك. توصلت الراضي الى خلاصة، تفيد بأن بقاء الإنسان دون وطن له ثمن باهظ. على الرغم من ذلك، كانت الهجرة لمعظم المهاجرين رحلة مغادرة حسب.

سجل هيل كذلك مقابلة 15/7/2008 مع محمد. وهو من كربلاء، عمره 36 عاماً، يعيش مع أهله وزوجته وأولاده الخمسة في رينكيبي بالسويد. عاش في السويد منذ عام 2002. سجن بين الأعوام 1991 ـ 1998 في فترة النظام السابق. حقق محمد إنفصال مادي ونفسي عن الحرمان في العراق. يقول: توجد مشكلة سياسية مع السلطات لأبي وإبناء عمي. جاؤوا لإعتقالهم ولم يجدوهم. أخذنوني بدلاً عنهم. تعرضت للتعذيب على أيدي أجهزة النظام السابق.

إبتعد محمد عن مدينته، لكي لا يعتقل مرة أخرى. عمل في الموصل كهربائي. شعر هناك بالأمن، حيث لا يعرفه أحد. ووصف المدينة بأنها جميلة. ذهب الى مدينته مرة واحدة، لترتيب شؤون العائلة. إشترى في الموصل جواز سفر مزور، ذهب بفضله الى الأردن. عاش ظروف صعبة في الإردن. لكنه سياسياً عارض إحتلال بلاده. يقيم محمد مع عائلته في رينكيبي بالسويد. يقول محمد: أريد أن أشم تراب العراق. إعارض نظام صدام، ولكن لا أقبل بإحتلال بلادي.

ثلاث موجات من المعاناة
غادر العراق خلال فترة العقوبات نحو مليون مهاجر. غير أن الغزو والإحتلال عام 2003 تسبب بتسونامي فعلي من الهجرة. أسفرت الحرب وتبعاتها عن 2.4 مليون لأجئ إضافي. كما هَجَرَّ الغزو في عام 2003 أكثر من 2.7 مليون في داخل العراق. هذا العدد، كما يصفه الكتاب، غير مسبوق في المنطقة.

توقع تقويم الأمم المتحدة في كانون الأول/ ديسمبر 2002، الذي جاء تحت عنوان "السيناريوهات الإنسانية المحتملة" للشتات العراقي بعد الحرب، بتدفق نحو 900 ألف لاجي، 100 ألف منهم يحتاجون الى مساعدات فورية. كما سيحتاج مليونان إضافيان الى مساعدات مع تأمين مأوى لهم. حذرت المنظمات الإنسانية من وقوع مأساة إنسانية خطيرة. توقع كينزو أوشيما نائب الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، بنشوء حاجة لعشرة ملايين عراقي الى مساعدات غذائية، وغير ذلك من المساعدات بأعداد فلكية. لم تتخذ الولايات المتحدة أية إجراءات، ولم تضع أية خطط لمواجهة تلك الحالات، خوفاً من إنكشاف خططها الحربية وطبيعتها.

يقول ماكيل شوارتز مؤلف كتاب "حرب دون نهاية: الحرب العراقية في السياق": إن ضعف كفاءة السلطة المؤقتة للإحتلال ومكتب الإعمار في تلبية الإحتياجات الإنسانية للعراقيين، أي إعادة الماء والكهرباء والنظام المدني، وكذلك المبالغة في إزالة آثار حزب البعث، قد ضاعفت وأنتجت الموجة الأولى من ثلاث موجات تهجير.

شرعت سلطة بول بريمر بإجراءات حل الجيش العراقي، تفكيك أجهزة الدولة العراقية، فصل آلاف الموظفين البعثيين، فصل عشرات الآلاف من العمال من المصانع، التي تمتلكها الحكومة، تسريح مئات الآلاف من العسكريين من الجيش العراقي. إنعكس ذلك على القدرة الشرائية. بدأت عمليات البحث عن عمل بشروط أسوأ، على أمل مرور الفترات الأصعب. ذهب الكثيرون من أصحاب المهارات الى الدول المجاورة. هكذا تشكلت الموجة الأولى من الهجرة الى دول اللجوء.

انطلقت الموجة الثانية للهجرة، في أثر حصارين أمريكيين ضربا على مدنية الفلوجة. تم تدمير 36 ألف منزل من مجموع 50 ألف منزل في المدينة، الواقعة على مسافة 60 كم غرب بغداد. هذا الى جانب تدمير 125 مدرسة ومستشفى وجامع. تشرد 200 ألف إنسان من عدد سكان المدينة البالغ 280 ألفاً. كما إن ضغوط تهجير الفلوجيين والعنف في المدن الأخرى أدى الى موجة هجرة ثالثة.

إن إنتقال مهاجرين من مدينة الفلوجة، الى ضاحيتي العامرية والغزالية في بغداد، خلق بدايات الإحتكاك الطائفي. خاصة في مجال تقويم الإحتلال نفسه. الذي حظى بسخط من جهة وإرتياح من أخرى. تواصل الإستهداف الطائفي عام 2005 والتهجر المتبادل. إن إغتيال الشيخ الصدري هيثم الأنصاري أدى حسب عبد الأمير علاوي وزير المالية، الى تشكيل أولى فرق الموت الشيعية. هكذا بدأت حملات التطهير الطائفي. إرتفعت وتيرة الهجرة الداخلية في عام 2006، أثر تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء. بلغت أعداد المهجرين داخلياً في عام 2008 نحو 2,77 مليون موزعين على أطراف محافظات بغداد، الموصل، دهوك وديالى. وبلغ عدد المهاجرين الى دول جوار العراق أكثر 2 مليون مهاجر.

في الأردن
ينقل الكتاب قصة حياة ليث وعائلته. يقول ليث أبن بعقوبة: حالفني الحظ بالحصول على عمل في مهنة النجارة. لكن خلال العمل تعرضت لإصابة فقدت على أثريها أربعة من أصابع يده. باعت زوجته كل مقتنياتها من الذهب لمواصلة حياة الكفاف. أشار الى أن مفوضية اللاجئين لم تسجل من نحو 700 ألف لاجئ سوى 53 ألفاً. بسبب عزة النفس رفض عدد تسجيل أسمائهم لدى المفوصية، للحصول على المساعدات الغذائية وبعض العلاجات الطبية الأولية. يذكر أن أهم بلدين من حيث أعداد اللاجئين العراقيين، هما سوريا والأردن، لم توقعا على الميثاق الخاص بحقوق اللاجئين الصادر عام 1950، الذي وقعت عليه 144 دولة.

شرح ليث الظروف البائسة، التي أحاطت باللاجئين العراقيين في الأردن، حيث لا يحق لهم العلاج المجاني، ولا التعليم المجاني للأطفال، ولا تخدمهم حتى الوثائق التي تمنحها المنظمة الدولية.

ثم ينقل الكتاب حديث لأحمد، في مقابلة أجراها معه مايكل أوترمان وتمارا فنجان في 1 شباط/ فبراير 2008. أحمد هو لاجي عراقي عمره 21 عاماً. وهو على خلاف ليث، ينحدر من عائلة ميسورة الحال. والده طبيب عيون خريج موسكو. عمل طبيب عيون في ليبيا. كما فتح عيادة له في بغداد بين الأعوام 1983 ـ 2006. ظل في العراق الى عام 2006، لأنه وعائلته توقعوا تحسن الوضع في العراق. يذكر أن العراق خسر حتى 2006 نحو 40% من المهارات الفنية والتخصصية. خسرت بعض الجامعات والمستشفيات نحو 80% من طواقمها. قتل 380 عالماً وأكاديمياً وطبيباً بين الأعوام 2003 ـ 2006.

عملت والدة أحمد في الجامعة المستنصرية. لكنها تلقت رسالة تهديد في مرآب البيت. أكد أحمد بأن قرار العائلة بالهجرة كان صائباً، حيث قتل في الجامعة عدد غير قليل بسبب تفجير. إن والد أحمد غير سعيد في الأردن، لأنه لا يستطيع العمل بشهادته، حيث يتطلب ذلك إجازة عمل صعبة المنال.

يقول أحمد: إن والده يتقاسم مردود أية عملية يجريها مع الأطباء الأردنيين، الذين يعمل بإسمهم. يحصل على عملية واحدة في الشهر، يدفع أربعة دنانير للذهاب والإياب الى بيتنا البعيد عن العيادة. يبقى لديه عشرة دنانير فقط من كل عملية. بينما كانت المراجعات على عيادته في بغداد تصل الى خمسين مراجعاً. من أجل الإقامة إضطر ووالدته، الى الدراسة الجامعية في الأردن، بتكاليف مالية ضخمة وباهظة. هو يدرس الهندسة المعمارية ووالدته لنيل الدكتوراه في إدارة الأعمال.

أحمد غير متأكد من مسألة عودته الى العراق. قال: "إنه حلمٌ بالنسبة لي أن أضيف شيئاً الى ذلك البلد". لكن واقع العودة مختلف. لن أعود الى العراق بعد التخرج على الأقل لعشرة سنوات. أريد أن أعيش حراً. البلد ليس للشباب إنه للسياسيين حسب. يرى أحمد أن مدخرات العائلة توشك على النفاد. يخشى من أي طارئ، ويخطط لتحمل أعباء العائلة مستقبلاً.

يفكر أحمد بالعمل في الخليج، حيث شروط العمل مناسبة. يضيف: وقعت عملية إرهابية في عام 2005 بأحد فنادق عمان. ظهر أن الإنتحاريين من العراق. هذا زرع بعض الشكوك إتجاه العراقيين. كما يُحمل الأردنيون العراقيين مسؤولية أرتفاع أسعار إيجارات البيوت، انقطاع المياه، وحتى الإزدحام والإختناقات المرورية. يحاول أحياناً إخفاء هويته العراقية، إذ يلف يشماغ أردني على كتفه.

أفرد هذا الفصل إهتماماً ملحوظاً بالمدونات العراقية. تناولت تلك المدونات الكثير من القضايا والأحداث، عن مختلف جوانب حياة العراقيين. كتب أحد أصحاب المدونات يدعى د. محمد عن الإذلال، الذي تعرض له في مطار الملكة عاليا الدولي بعمان. أشار الى عدم التعاطف معه، لمس ذلك خلال زيارته لعائلته في عمّان، كان يهدف من زيارته البقاء مدة ثلاثة أيام فقط.

يضرب هذا المدون مثالاً، عن سيدة سعت الى تبديل حفاظة طفلها، في صالة الإنتظار. توسلت السيدة بالمسؤولين في المطار، لكنهم طلبوا منها بأن تكف عن طلبها. سيدة أخرى أعطتها منشفة، لكنها إتسخت أيضاً. جاء ضابط وشرحت له قصة حفاظات طلفها، لكنه إزدرى بها، من خلال إشارة بصبعه. تنم عن عدم الإحترام والتعالي على الآخرين.

أعيد د. محمد وزوجته الى بغداد، بعد 12 ساعة من الإنتظار في تلك قاعة، التي وصفها بالقذرة. ظل محمد وعائلته في الإنتظار، دون طعام أو ماء. أضاف محمد قائلاً: كان مشهد العراقيين ممددين على أرض قاعة المطار مؤلماً ومهيناً. هم لم يرتكبوا أي خطيئة ... إلاّ الخطيئة الأصلية ... خطيئة أنهم عراقيون.

في سورية
تعتبر سوريا جنة إقليمية للمهاجرين العراقيين. إستقبلت نحو 60 ألف مهاجر، شهرياً كحد أعلى، سواءً مَنْ توجه إليها مباشرة، أو لم يستطع البقاء في الأردن، أو مَنْ لم يسمح له بدخول الأردن أصلاً. بين شباط/ فبراير 2006 وتشرين الأول/ أكتوبر 2007 تخلت دمشق عن سياسة الباب المفتوح للاجئين العراقيين. على الرغم من أن سوريا تسمح بعمل العراقيين، إلا أن الفرص المتاحة قليلة، ومردودها لا يسد الإحتياجات الضرورية.

إن التدفق الواسع للاجئين خلق صعوبات، أمام عمل المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة، التي تقابل يومياً نحو 500 لاجئ عراقي. تقدم بعض المساعدات الى جانب الهلال الأحمر السوري. إن صعوبات العيش دون عمل، قد إضطرت أعداد من اللاجئين للعودة الى العراق، بسبب نفاد مدخراتهم.

من سخرية الأقدار، أن سوريا في 1 تشرين الأول/ إكتوبر 2007 أنهت سياسة الباب المفتوح لطالبي اللجوء العراقيين. بناءً على طلب (حسب النيويورك تايمز) من رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، الذي كان لاجئاً سابقاً في سوريا. وهو لا يملك أية مهارة تؤهله للعمل بمهنة ما في سوريا، ولا يرغب بالعمل معتمداً على ذراعه وجهوده البدنية. ثم عاد مع الإحتلال ليصبح رئيساً للحكومة العراقية، لمدة ثماني سنين عجاف. إحتل خلالها موقع النهاب الأول، للأموال والممتلكات العائدة للدولة العراقية. بدد خلال فترة تسلطه، خادماً للإحتلال ولكل الأطراف، التي لا تريد خيراً للعراق وشعبه، بدد ثروات العراق، وأضر بالوحدة الوطنية للمجتمع. فتح بكل رعونة أبواب القتل لداعش وغيرها.

مارس هذا اللاجئ السابق ضغوطاً بدعم من حلفائه وأسياده الجدد والقدامى (الأمريكيين والإيرانيين) على المسؤولين السوريين لإغلاق الباب بوجه اللاجئين العراقيين. مدعياً أن قبول اللاجئين العراقيين يقوض جهود حكومته لبسط الأمن في البلاد.

في العبور
لم يمض سوى شهر واحد، على مغادرة رافد للعراق الى سوريا، حتى أرتفعت رغبته بمغادرة سوريا. يروي الكتاب قصة ذلك العراقي الشاب الثلاثيني، الذي إختار أسم رافد. إلتقاه مايكل أوترمان وتمارا فنجان في 13 كانون الثاني/ يناير 2008 بضاحية جرمانه في دمشق. عمل رافد بعد الإحتلال مع شركة "كيللوغ، براون وروت" المتفرعة من هالليبورتون حارساً. زود بدرع واقي ومسدس وجهازاً لاسلكياً. كانت مهمة التبليغ عن كل شيء يراه غريباً. هرب بعد أن قُتِلَّ عددٌ من نظرائه وأصدقائه المتعاونيين مع الإحتلال. يسكن على مسافة ربع ساعة عن المنطقة الخضراء، لكن ذهابه وإيابه إليها، يشكل خطراً دائماً عليه. هرب مع والدته وشقيقيه الأكبر منه سناً، وشقيقته الأصغر منه. أما والده فإنه لجأ الى إستراليا منذ التسعينيات.

درس رافد في الجامعة علوم الكومبيوتر. إستفاد من دراسته بإدامة حياته، بما وفرته له من مدخولات قليلة. لكنه تعرض الى إعتداء وضرب بسبب عراك، حصل بين أطفال عراقيين واردنيين. استدعي لاحقاً الى مركز الإستخبارات. ثم نُقل الى مركز صحراوي للاجئين. بعد أسبوع عرف شقيقه مكان إحتجازه. زاره ومعه بطاقة سفر الى أربيل، التي وصفها بالآمنة. توجه عائلته الى دمشق بالحافلة. بدا المشهد عراقياً في ضاحية جرمانة السورية، لكثرة عدد اللاجئين العراقيين فيها. كان همه الإلتحاق بعائلته. حصلت والدته في عام 2006 على حق الإلتحاق بزوجها.

في أستراليا
سمحت أستراليا منذ عام 2003 بدخول 11 ألف عراقي إليها. هنا عاد الحديث عن عائلة مكونة من زوجة وزوج؛ فاضلة وباسل، اللذين جرى الحديث عنهما في بداية الفصل.

نقل الكتابُ عنهما فحوى حديثهما: لما جاءت الموافقة على قبول لجوئهما، ظهر لديهما شعور يجمع مزيجاً من الفرح والمرارة. لأن الوداع مرير للعائلة في بغداد، لا أحد يعلم كم يدوم. تركا بيتهما والأغراض والممتلكات والمجوهرات. خرجا بحقيبتين فقط. عليما أن فيلاتهما حل بها ناس غرباء غير معروفين لهما.

وصلا الى أستراليا، بعد رحلة جوية، إستغرقت 13 ساعة. وفرت لهما منظمة إنسابية بيتاً جميلاً عند وصولهما. ثم بدأت رحلة التآلف مع الوضع الجديد، حيث بدأا كورساً لتعلم اللغة الإنكليزية. باسل طبيب أسنان والكورس ساعدة في تقوية لغته الإنكليزية. بدأ لديه إحساس بأن أستراليا وطنه. أما فاضلة فإنها تحب أستراليا، لكن لا يفارقها الحزن على العراق والحنين إليه. قالت: أمتلك عينين واحدة للعراق والأخرى لإستراليا.

لابد هنا من التأكيد على أهمية الجهود الكبيرة المبذولة، في إجراء مقابلات هذا الفصل من الكتاب. والإشادة بها من ناحية منهجيتها وأمانتها في عمليات تسليط الضوء على المحنة العراقية. إن الكتاب أجاد في إختيار عيناته المعبرة عن مساحة واسعة من واقع الهجرة العراقية، على مستوى الأشخاص والحالات الإجتماعية والمواقع والتعبيرات الإنسانية الأخرى فيها وعنها. بديهي أنه بحكم ضخامة المأساة العراقية، نتيجة لما عرف بعاصفة الصحراء والحصار الإقتصادي وغزو العراق عام 2003، وما تبع ذلك كله، فإن ما تضمنته تلك المقابلات من آلام لأصحابها، تُمَثِلُ بالمقارنة مع المأساة العراقية غيضاً من فيض.

يتبع: محو العراق (5)