ما وراء صخب الديمقراطوية في تونس اليوم


هيثم بن محمد شطورو
2021 / 10 / 1 - 02:43     

المثالية الساذجة هي التي تتصور الفعل السياسي خارج حلبة الصراع، فالسياسة في نهاية الأمر هي الفعل الأكثر جاذبية للصراع والتي لا لذاذة له بدون حرب. السياسة تحقق تـقدمها بتـقـدمها العقلاني أكثر فأكثر للخروج من دائرة الصراع المتوحش إلى الصراع السياسي بما هو تكتيكات في إطار تصورات عامة ومشاريع متطاحنة. هذه المشاريع قد تتصارع فيما بينها بحكم التناقض بين منطق المصلحة العامة والمصالح الذاتية الضيقة، بين منطق إرادة الاستـئـثار بالثروة العامة أي اللصوصية المقنعة بألف قناع وبين إرادة تجسيد الحق بما هو مصلحة عامة. فالاستبداد السياسي هو ما يتضمن اللصوصية وإرادة الاستمتاع الامحدود بالثروة العامة والسيطرة عليها والذهاب في ذلك إلى منطق الإخضاع بالقوة للأغلبية والاحتواء للأقلية التي يحكم بواسطتها مع تحكمه فيها، وحين تتوصل هذه الأقلية إلى درجة من القوة يمكنها أن تـنـقلب على المستبد لتأخذ مكانه، كما أن هذا المنطق من شأنه أن يخلق التجزئة لتمركز عدد من مراكز القوى المختلفة التي تتمكن من الانفصال عن الدولة الأم لتؤسس دولها بمثل ما حصل في دول الطوائف في الأندلس، وبالتالي تـفككها وضعـفها إلى غاية انتـفاء الوجود العربي في اسبانيا الفردوس المفقود إلى اليوم في الوجدان السياسي العربي، وهي مثال حي في كون الاستبداد السياسي هو المتسبب الرئيسي في الضعف والتجزئة والعدمية، لأنه من المستحيل أن تبقى يد السلطة قوية على الدوام مهما كانت، وبالتالي فالمصلحة الذاتية بما هي خروج عن الحق والخروج عن الحق بما هو فساد ولصوصية وهذا الفساد بما هو عنوان على انتـفاء الحرية للشعب، فهو يهدد الكل بالاضمحلال والعدمية، وقدر الإنسان أنه خُلق ليوجد نفسه في العالم، وبالتالي فالاستبداد مضاد لغاية الوجود برمته، ويبقى الوجود الإنساني الحق في حريته، بما هي الحرية صراع ضد منطق الذاتوية والمصلحية الخاصة المضادة للمصلحة العامة.
من هنا تأتي الشرعية الواقعية والفعلية للمطلب الأخلاقي في السياسة. هذا المطلب الذي هو ليس بمطلب مجرد أو فكروي محصور في دائرته الملائكية المتعالية بعيدا في السماء، وإنما هو المطلب الحي الضروري باستمرار كضمير جماعي يقوم بالرقابة الدائمة، والرقابة الدائمة بما هي إمكانية الشعب الدائمة في الثورة على الفساد الذي هو الاستبداد وان كان مقنعا بالديمقراطوية بمثل ما مثلته مرحلة حكم الإسلاميين البغيضة في تونس وتحالفهم مع شبكات الفساد المختلفة بمختلف رداءاتها السياسوية والاقتصادوية المافيوية. ودق جرس الآلهة عاليا باندفاع الشباب إلى انتخاب الرئيس الطهوري الحالي "قيس سعيد" بكثافة. "و يمكرون ولكن الله أشد مكرا". فالرجل الغامض هو ليس بالعصفور النادر وإنما هو بالقوة العقلانية الساحقة الماكرة بما هو متمثل للحق في أعماقه، وتمثل الحق بما هو عبودية عميقة تجاه لله والتي تكون تحررا عميقا تجاه العالم بمثل ما تـفكر الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي والذي يدقق مسألة الوجود الإنساني الحق بكونه وجودا برزخيا، أي متأرجحا بين عبودية الله التي تكون بالعلم والمعرفة والتحرر من العالم مع حسبانه والتراوح في التعامل معه لتجسيد الحق أكثر ما يمكن في العالم.
ويرى البعض أن الاستبداد السياسي مرادف للاستعمار الأجنبي، وهو صحيح من وجهة تصرف الأجنبي في الثروة العامة لصالحه على حساب الشعب، إلا أن الاستعمار الخارجي يختلف عن الاستبداد السياسي من أهل البلد في معطى حضاري هام جدا، وهو أن الاستبداد يركز نفسه بتثبيت العقلية الارتكاسية الخضوعية الجامدة أي نشر الجهل وإدخال الشعب في الظلامية الروحية والمعاشية، أي إن الاستبداد يقوم بإطفاء جذوة الروح لدى الشعب وبالتالي إطفاء جذوة الحياة، فيغرق في الخرافة والاتكالية والكسل والموت بكل أشكاله الثقافية وأهمها شيوع ثـقافة الكآبة والمحرمات والإحساس بالذنب لمجرد الوجود وكأن الإنسان هو الذي خلق نفسه، وبطبيعة الأمر يتمثل هذا من الناحية الطبيعية في قهر الطبيعة في الإنسان وشيوع عقلية الكبت مع الممارسة الهمجية المنفلتة من وراء الستار، بحيث يكون حيوانا في ستره وكائنا اجتماعيا ممسوخا في ظاهره، وبطبيعة الحال شيوع أخلاق الكذب والنفاق وانعدام المصارحة مع الذات والآخر، أي الغرق في لجج الجهلوت والظلامية..
أما الاستعمار الخارجي، فإن له دلالة إيجاد روح جديدة في الشعب وليس مجرد احتلال عسكري. إنه يمثل حالة تـقدمية، فالاستعمار الأجنبي في النهاية هو غلبة روح وثـقافة شعب على شعب آخر ولذلك تمكن من الانتصار العسكري عليه. روح حية جديدة تزحف على روح منطفئة ووجود متكلس.هذا التـقدم الروحي يتمثل في التقدم المادي أي التـقني. فتـقدم الإسلام روحيا جسد نفسه في تـقدمه تـقنيا من حيث تكوين آلة عسكرية متـقدمة بروح جديدة تمكنت من إسقاط إمبراطوريات كبرى، وكذلك الاستعمار الأوربي الذي كان استمرارا لحروب عديدة هي الحملات الصليبية التي كانت حملات اليقظة الأوربية تجاه العالم الإسلامي والنضال المستمر لقرون لأجل التغلب عليه. ذاك النضال له وجه آخر وهو الانفتاح على الحضارة العربية وأخذ علومها وفكرها و إعادة صياغتها وفق بناه الثـقافية العامة ووفق أهدافه، وفي النهاية تمكنت أوربا من ثورتها على ذاتها ومن تأسيس حضارة إنسانية شاملة جديدة هي الروح المتسرب في تلابيب وقائع العالم الحديث.
ولكن، يأتي من يحاجج هذا الرأي بالقول، أن التتار متوحشون ولكنهم تمكنوا من إسقاط الخلافة العباسية. وهنا، يتـناسى محاوري أن الخلافة سقطت فعليا قبل الهجوم التتاري المتوحش، مع أن صفة حصر التوحش في التتار مبالغ فيها لأن كل حرب هي متوحشة، ومن الممكن أن يكون التتار لهم نسبة إضافية في توحشهم ولكن العرب متوحشون كذلك في حروبهم، و هل من حرب غير متوحشة أصلا. أما عن وصايا الرسول في الحرب فهي في الأغلب الأعم بقيت مجرد وصايا لم تطبق على ارض الواقع دائما ابتداء من حروب الردة أصلا في بعض أحداثها، وأبرزها قـتل خالد ابن الوليد لمالك ابن نويرة، برغم كونه ارتد عن ردته وأعلن إسلامه، وسبب ذلك أن زوجته في غاية الجمال والبياض والتي دخل عليها في مساء مقتل زوجها. ولكن، لنـقل بالفعل أن توحش التتار زائد، فما ورائه روح انصهارية عظيمة بين المقاتلين التتار، وتلك الانصهارية القبلية في ذاتها تمثل انتـفاء الأفراد في الكل بحيث أن كل فرد ليس إلا الكل أو القبيلة، وواجهوا جيشا عربيا ممزقا لم يقرر حتى الحرب، وواجهوا حالة دولة وحالة وضع حضاري بائس مرتد سمته التفكك والأنانية والفردية التي صاغت لنفسها إسلاما منحرفا بعيد كل البعد عن الإسلام التوحيدي الأول، وهذا الإسلام الشكلاني التحريفي هو إسلام الخرافة والتقديس للأشخاص والذي مازال متواصلا إلى اليوم، إسلام الظلامية المعاكس للإسلام المنـقلب على الجاهلية بكل ما تحمله من دلالات الدناءة الأخلاقية والمعرفية والروحية وبكون الإسلام خروج من الظلمة إلى النور...فالتتار كانوا أقوى روحيا لذلك انتصروا على المسلمين أو العباسيين..
تقول لي أن وصايا الرسول في الحرب أن يعامل الأسرى بإنسانية قد خالفها هو نفسه مع اليهود حيث قتل أسراهم من الرجال المحاربين، فأقول لك أنه فعل ذلك ليـبهر بقية العرب بوجود قوة حربية منظمة فيهابونه، وبالفعل فقد سرى خبر تلك المجزرة في ربوع جميع القبائل العربية بتـقدير وتهيب، كما أنه قام بالحسم النهائي مع اليهود الذين كانوا يهددون الإسلام، إضافة إلى تملك أراضيهم الخصبة، مما وفر له الأموال ليؤسس نواة دولة. يعني لم يكن ذلك توحشا صرفا أو تصرفا حيوانيا وإنما ذو غايات سياسية إستراتيجية وقد حقـقها بالفعل.
وقصة التتار أن توحشهم كميا أكثر بكثير، ولكن رابطتهم الروحية لم تكن قوية بما يكفي، فهي تأسست على القوة الشخصية لجنكيز خان المُرعب، والإنسان يعشق القوة والأقوياء، فكانت تلك الوحدة بينية شخصية أي طبيعية، ولم تكن روحية متعلقة باللانهائي أو ذات معرفة جديدة سوى في تقنيات الحرب التي أدخلها جنكيز خان. لكن الرعب الذي أحدثه التتار في بغداد ثم في الشام، حفز أهل مصر بقيادة المماليك للتوحد لأجل محاربة التتار، والمماليك قوة مرتزقة ذات تكوين إسلامي أسسها الفاطميون، والفاطميون بنوا المدارس وأشهرها وأكبرها هو جامع الأزهر الذي لا يزال مدرسة إلى اليوم، ولازال يمثل نوعا من الاكليروس الديني وفق الرؤية الشيعية في أعماقها التي بنت سلطة دينية اقتداء بالمسيحية، أي إن الحالة الحضارية لمصر والروحية كانت نشيطة في ذلك الوقت. والمماليك جيش نظامي منذ صغرهم، ومتدربون جيدا كما أن الرابطة الحربية والتربوية التي تجمعهم جعلتهم قوة متراصة. ألم يقل ربك "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا". فالقوة المجتمعية والفردية تقوم على مبدأ التوحد والتوحد رابطة روحية ليكون قائما على عنصر الحرية الذاتية، فيندفع الفرد نحو الجماعية بدافع حريته الذاتية، وتلك الحرية تـقوم على الحق أو القناعة بما هو حق. انظر كيف تـتـشابك الأمور، وانه من السذاجية إقصاء العامل الروحي في الوجود. تحرك أهل مصر بجيش المماليك المنظم وكمنوا للتتار وهزموهم شر هزيمة في عين جالوت. بعد الانتصار المصري اهتدى التتار إلى الإسلام، وهنا مكمن الفكرة الصميمة فهم وإن انتصروا في العراق والشام، فذاك لبهتان الروح هناك والوجود السلطوي الغرائزي الشهواني وواقع الاستبداد الذي أشاع إسلاما جامدا مشوها طقسيا يعبد الأشخاص ولا يعبد الله. أما في مصر فالوضع مختلف فأيامها كانت الخلافة في مصر فاطمية شيعية وجيش المماليك مشبع بالتعاليم الإسلامية. اعتـنق التتار الإسلام لأنهم وجدوا فيه الرابطة الروحية التي تحقق لاتـناهيهم وتربطهم باللاتـناهي وتلك هي الرابطة الأعمق. تلك الرابطة التي تحقق الحرية الذاتية في تعلق الإنسان بالله الواحد الأحد وعبادته دون سواه. تلك الحرية الممتعة التي أسست لرابطتهم الجديدة المتسعة وتلك الرابطة ثـقافية حضارية دينية. لقد انفتحوا على الكون برمته بعدما كانوا محصورين في نطاق رؤية قبلية ضيقة. فدائما يكون مبدأ التـقدم الحضاري والعقلاني هو الذي يحكم خط سير التاريخ، والانتصار دوما للتقدمية الحضارية..
واليوم، مازال العرب يقولون عن أوربا أنها حضارة مادية. أوربا روح عالمي جديد. مفاهيم فلسفية جديدة وانتصار للعلم والتـفكير العلمي بمثل ما هي قوة مادية.. والحقيقة أن التـقـسيم بين المادي والروحي تقسيم ساذج لا يستـقيم. فأوربا هي التي حركت العالم العربي ليمتلك وعي الحرية وبفضلها تملك العرب الأفكار الجديدة في الحرية ليصارعوا أوربا ذاتها كاستعمار، مع العلم انه لولا أوربا والحضارة الحديثة لما علمنا أن هناك ثروات تحت أقدامنا وأنها تساوي أموالا لم تكن حتى في خيالات علي بابا. لولا الحضارة الأوربية لما كان بترول ولا فسفاط وبالتالي لا أموال تشكل ثروة وطنية، لنقصر الاستعمار في كونه نهبا لثرواتنا. فثرواتنا تحت أرضنا بجهلنا لها ولقيمتها وكيفية استخراجها هي بمثابة العدم/ فأوربا هي التي جعلتها ثروات..
إذن فالاستبداد السياسي الداخلي لا يرادف الاستعمار الأجنبي، فالاستبداد عامل انحطاط حضاري والاستعمار عامل تجدد وتـفاعل حضاري..من جهة أخرى فالاستبداد هو فكرة وواقع نهب الثروة والجمود الحضاري العام وقتل روح الشعب. الاستبداد هو منظومة تـقوم على مبدأ الاستـئـثار بالخيرات لصالح المتعة لفئة قليلة تسيطر على السلطة على حساب الشعب ومصالحه. يجب أن ننظر إلى المسألة في مضمونها الحي وليس في شكلانيات السلطة التي قد تكون ديمقراطوية. ولكن، الاستبداد السياسي الديمقراطوي في تونس منذ 2011 إلى غاية 25 جويلية 2021 تاريخ الثورة الشعبية عليه وتحقيق الانقلاب السياسي عليه، لا يمكن القضاء عليه بدون شكل استبدادي بمضمون تحرري بمثل ما كان الاستبداد كمضمون متـشكل ديمقراطويا.. وهذا ما خلق صفة الاستـثـنائية، برغم تعهد الرئيس قيس سعيد بعدم المس بالحريات المضمنة في الدستور..
فالمضمون السياسي هو الأهم من الشكل أو النظام السياسي مع أهمية هذا الأخير. فالمحدد الأساسي هو الغاية السياسية في تحقيق المصلحة العامة. يقول الفيلسوف الألماني "هيغل": " الشكل الأفضل للحكومة؟ أهو النظام الديمقراطي أم النظام الملكي.. هو سؤال سخيف لأن الأشكال الدستورية ليست سوى أشكال أحادية الجانب فهي تستطيع بذاتها أن تساند مبدأ الذاتية الحرة، وأن تعرف كيف تلتـقي مع العقلانية الناضجة".
ويقول "ميشيل متياس" أحد شراح فلسفة الحق عند هيغل : " عندما نحلل الواقع السياسي، فإن المشكل عند هيغل، ما إذا كان الواقع السياسي يزودنا ببنية اجتماعية وجو سياسي يستطيع المواطن أن يوجد بداخله في ظروف من العقلانية والأخلاقية والإبداع. أعني إذا كان يعمل بوصفه فردا. فالنظر إلى النظام السياسي من الناحية الفلسفية عند هيغل يكون حول الإشكالية المبدئية، وهي، هل هذا النظام يزود المواطن بفرصة ليحقق ذاته كفرد".
تحقيق الفرد لذاته على أساس الوعي الذاتي ككل، أي كتحقق لحريته أخلاقيا، أي أن النظام السياسي هل يحقق إمكانية تلك الحرية والأخلاقية التي تجعل تحقيق الذات منسجما مع الجوهرية الكلية أي مع المصلحة الكلية. أي هل أن النظام السياسي يحقق المبدأ الفيثاغوري الذي يقول أنه لكي يكون المرء مواطنا صالحا عليه أن يعيش في دولة ذات قوانين صالحة. والدولة الصالحة عند هيغل وفق قول ميشيل متياس هي " الدولة العقلانية على نحو مطلق بمقدار ما تكون هي التحقيق الفعلي للإرادة الجوهرية التي تمتلكها في وعيها الذاتي بصفة خاصة، بمجرد أن يرتفع هذا الوعي إلى مرحلة الوعي بكليته".
وبالتالي فالسؤال الأساسي المطروح وراء هذا الصخب الكبير في تونس اليوم، هو هل لدينا دولة عقلانية تحقق مبدأ الحرية جوهريا؟