حظوظ الاشتراكية


فريدة النقاش
2021 / 9 / 30 - 11:10     


شكل سقوط منظومة البلدان الاشتراكية منذ أكثر من ربع قرن ضربة قاصمة لأحلام وطموحات البشرية لبناء عالم قائم علي العدل والمساواة والحرية. وحين السقوط ظن حراس الاستغلال المستفيدون ماديا ومعنويا, سياسيا واقتصاديا من الظلم ظنوا ان الاشتراكية – كيوتوبيا خيالية قد انتهت إلى الأبد وآن لهم أن يهدأوا بثرواتهم ونفوذهم الشامل دون قلق.

ولطالما أفسد التاريخ أحلام الظالمين فبعد سقوط ما وصفتهم حينها “بالبروفة” الأولى لبناء الاشتراكية” توالت الاجتهادات والتجارب التي قامت أساسا على نقد ذاتي قاسٍ وصارم من قبل الاشتراكيين أنفسهم لتجاربهم الأولى متطلعين الي تبين حقيقة الأخطاء الفادحة التي وقعوا فيها والمصائب التي ترتبت على السقوط.

وظن الشامتون بالاشتراكية – حراس العالم القديم- أن الحكم الاشتراكي الذي مثل بالنسبة لهم كابوسا ثقيلا قد انزاح عن كاهلهم إلى الأبد. ونشطت كل أجهزتهم الدعائية والثقافية التي وظفت الدين في هذا السياق بمهارة فائقة حتي قال أحد الباحثين الثقاة إنهم في حقيقة الأمر قد استولوا علي الدين والتفتت القوي التقدمية والاشتراكية – عامة- وان متأخرة- الي حقيقة ان الدين – اي دين- ينطوي علي امكانات كبيرة عبر القراءة والتأويل والمقارنات العلمية لكي يكون سيدا لتطلعات الشعوب للعدالة والمساواة والكرامة الانسانية تطلعا للعيش الكريم, ونشأت في هذا السياق مدارس فكرية, وحركات سياسية- واجتماعية وضعت علي رأس جدول أعمالها مصالحة, الدين والاشتراكية دولا من الخصومة المفتعلة بينهما, وكان من أبرزها لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية.

وتقدم لنا علوم الاقتصاد والاجتماع والنقد الثقافي وعلوم السياسة كل يوم اضافات جديدة في هذا السياق, وذلك عبر التجارب بالغة الثراء والتنوع التي تطلقها الشعوب بصفة دائمة سعيا نحو حلمها لتحقيق العدالة الشاملة, وهي تبدع في هذا السياق في كل المجالات.

وليس غريبا علي أي منها المهارة والقدرة والتفوق العملي والتقني الذي تحظي به القوي المتنفذة والتي غالبا ما تهيمن علي السلطة والثروة طالما بقي المجتمع الانساني منقسما الي طبقات. وذلك هو الجوهر الاولي للصراع القائم في العالم بين الذين يملكون والذين يعملون وهو الصراع الذي لا يكف عن التجلي في اشكال جديدة كل يوم.

ولعلنا نذكر جميعا كيف دقت طبول الابتهاج لدي انهيار منظومة الدول الاشتراكية حتي كتب أحدهم ان الرأسمالية هي نهاية التاريخ, ولكنه عاد بعد ذلك واعتذر قائلا انه كان مخطئا.

وتأكد لنا ان مكر التاريخ أقوى, فسرعان ما اخذت تتوالي جهود الاشتراكيين – بل وأقول إبداعهم حول العالم- خاصة في بلدان ما سمي منذ نصف قرن بالعالم الثالث الذي قدم للبشرية خبرات فذة وثمينة ان في مجال سعيه للتحرر الوطني في مواجهة الاستعمار القديم, او التحرر الاجتماعي والاقتصادي بعد الاستقلال.

وعرفت الجهود النظرية والفكرية لبعض أبرز مفكري بلدان ما سمي بالعالم الثالث إبداعا متنوعا قائما علي اكتشاف خصوصيات هذه البلدان وقضاياها وادراجها – بمفرداتها- في سياق حركة التحرر العالمي التي بلغت أوج ازدهارها بعد الحرب العالمية الثانية, وكانت تلك هي الحقبة المجيدة في التاريخ الحديث لهذه البلدان التي قدمت للعالم خبرات ودروسا ثمينة, ودفعت إلى قمة الحياة الثقافية والفكرية بالمبدعين المميزين الذين خرجوا من أعطافه.

وأصبح العالم الثالث رقما صعبا وحاسما في الصراع العالمي من أجل المستقبل. ففي تربته نبتت أعظم الأعمال الفكرية, ونشأ مثقفون ومفكرون ومبدعون كبار حملوا قضاياه الى العالم, وسعي بعضهم لتخليص شعوبهم من الشعور بالدونية ازاء الغرب المتقدم الذي استعمر بلدانه واستنزف ثرواتها ودفع بها الي هامش التاريخ, والى الفقر والتخلف.

فأين نحن الآن من كل هذا. اظن ان علينا أن لا ننسي ابدا أن مصر هي دولة كبيرة لا فحسب فعدد سكانها وبحارها وبحيراتها, وانما هي أساسا كبيرة بتاريخها الضارب في القدم, وبحضارتها العريقة التي أهلتها لتكون أم العالم, وعلينا أن نكون جديرين بكل هذا في كل وقت.

شعرة هي تلك التي تفصل بين الفخر بحضارتنا وتاريخنا وبين الغرور فوقانا الله هذا الاخير. ولكن علينا أن نتذكر دائما ان لهذا الاعتزاز بالتاريخ والانجاز تبعات ومسئوليات كبيرة طالما ادركها مثقفونا وزعماؤنا عبر العصر الحديث.

ولعل اخطر ما يمكن أن يواجهنا في هذا السياق لا إعادة النظر في افكارنا ورؤانا القديمة- وهو اجراء ضروري للتقدم, ولكن الخطر الحقيقي ان نغفل عن حقيقة ما يتجه اليه العالم, لان ثمن مثل هذه الغفلة باهظ في هذا الزمن.

ادرك المفكر الذي قال بنهاية التاريخ انه كان مخطئا, واخذت الاضافات الفكرية الجديدة تتوالى عبر اجتهادات تستلهم التجارب- خاصة تلك التي يطلقها العالم الثالث وتتلقفها الأحزاب والمؤسسات التقدمية في الغرب.

وأخيرا, وبعد صراع طويل ضد الاستعمار والاستغلال تبين البشر الخاضعون للاستغلال ان الاشتراكية التي بشر بموتها رعاة الاستقلال لا تزال حية ولم تمت كما تمنوا. ويواصل الاشتراكيون عبر العالم ابتكار السبل والطرائق وانتاج الافكار التي تتلاءم مع متغيرات عصرنا المتسارعة. وعلينا نحن التقدميين المصريين والعرب أن يتعلم من تجاربنا وخبراتنا العالم ان ننسج التحالفات ونوحد الجهود في اتجاه هذا الهدف العظيم.