نِقَاش وَثِيقة اليَسار الإلِكْتْرُونِي


عبد الرحمان النوضة
2021 / 9 / 29 - 00:15     

أنا رحمان النوضة، المُوَقِّع أسفله، من المغرب، أعتبر أن وثيقة «اليسار الإلكتروني»، المنشورة من طرف المناضل رزكار عقرأوي، على موقع الحوار المتمدّن ، في يوم 5 شتنبر 2021، تحت رقم 7010، (https://www.ahewar.org/debat/s.asp?aid=730446)، أعتبر هذه الوثيقة مهمة، وتستحق أن تُـقرأ، وأن تُناقش، وأن تُطَوَّر، من طرف قوى اليسار. (وأقصد بِـ «اليسار» القِوَى التي تَسْتَنِير بالفكر الماركسي، وَيَصُبُّ نضالها نحو أُفُق الاشتراكية). وتظهر وثيقة رزكار كَنَتِيجَة لعمل مُبدع، ولِتَرَاكُم في التفكير، وفي التجربة. وأتفق بشكل عام مع مضمون وثيقة «اليسار الإلكتروني». وأتّـفق مع منهجها العام، وأساند انتـقاداتها لقوى اليسار، وأتبنى معظم مطالب أو اقتراحات هذه الوثيقة، رغم أنني سأُدْلِي، فيما يَلِي، ببعض الملاحظات الجزئية، على بعض الفقرات الواردة في هذه الوثيقة. وأنا مُستعد للالتزام بهذه المبادئ المعروضة في هذه الوثيقة، (لكن سنِّي المتـقدم لا يسمح لي بِتَحَمُّل أية مسؤولية حزبية).
وللتَأْكِيد على وجود مناضلين كثيرين يُنَادون بِأفكار مُماثلة لِمَا ورد في وثيقة رزكار، (ودون أن يعني ذلك منازعة المناضل رزكار عقرأوي في السبـق إلى طرح هذا التصور الجديد لليسار)، أُشِير إلى أنه سبـق لي أن نشرتُ كُتُبًا ومقالات، أدافع فيها عن بعض الأفكار المشابهة (ليس في مجال استعمال الأنترنيت، ولكن في ميدان تَـقْيِيم، ونـقد، وتَـقْوِيم، وتَثْوِير، قوى اليسار). [أذكرُ مِن بين ما نشرتُه شخصيا : كتاب «نقد أحزاب اليسار بالمغرب» المنشور في سنة 2012، وكتاب «نقد تعاون اليساريين مع الإسلاميين»؛ وكتاب «هل ما زالت الماركسية صالحة بعد انهيّار الاتحاد السُوفْيَاتِي؟»؛ وكتاب «كيف؟ (في فنون النضال السياسي الثوري)»؛ وَ وَثِيقَة «ما هي الدينامية القادرة على تَـقْوِيم قِوَى اليسار»؛ ومقال «نَـقْد الزَعِيم وَالزَعَامِيَة»؛ ومحاضرة على اليُوتْيُوب «كَيْفَ نُـقَوِّمُ وَنُـقَوِّي أحزاب اليسار»؛ ومقال «العلاقة بين السياسة والأخلاق»؛ ومقال «ما هو نوع النّقد الذي تحتاج قوى اليسار إلى تبادله ؟»؛ الخ. ويمكن قراءة أو تنزيل هذه الوثائق من مدوّنتي :
«http://LivresChauds.Wordpress.Com»،
أو من موقع :
https://nokkade.wordpress.com/2020/12/28/rahman-nouda/ ].
ومن الأكيد أنه تُوجد مقالات ومساهمات أخرى، من إنتاج مناضلين آخرين مختلفين، مَـكْتُوبَة في موضوع نَـقْد قِوَى اليسار، أو في مجال المطالبة بضرورة تَـقْوِيمِ قوى اليسار، وأن هذه المساهمات نُشرت على عدّة منابر (من بينها «الحِوَار المُتَمَدِّن»). لكن قيادات أحزاب اليسار القديمة تَتَجَاهَل تلك الانتقادات، وتَتَمركز حول ذَوَاتِهَا. وبعض أحزاب اليسار يَظُنّ أنه هو وحده يُجسد اليسار، ويَتجاهل كلّ ما هو ليس جزءًا منه، ولا يَهتمّ، ولا يعترف، بأي مناضل غير عضو فيه، ولا بأية حركة نضالية جماهيرية اِنْبَثَـقَت بشكل مستقل عن هذه الأحزاب.
وَ نِسْبَة هامّة من المناضلين يَجهلون وجود هذه المقالات والوثائـق المُختلفة الناقدة، أو أنهم أضاعوا فرصة قراءتها. وَالملاحظ هو أن مُجْمَل قيادات قوى اليسار يَتَجَاهَلُون هذه الاجتهادات السياسية، ولا يُعطونها الأهمية التي تستحقّها، فَبِالْأَحْرَى أن يعملوا من أجل تَطْوِيرها، أو تحسينها.
وكان على وثيقة رزكار أن تُسجّل وجود عدد هام من الاقتراحات النظرية الأخرى، والاجتهادات النقدية. لكن عامّة مناضلي اليسار، قِيَّادات وقواعد، لا يقرؤون بما فيه الكفاية، أو أن نمط عَيْشِهِم لا يسمح لهم بِمُمارسة القراءة، أو أنهم لا يهتمون بالاجتهادات الفكرية اليسارية المُجَدِّدَة. وبعد ذلك، يأتي بعض الأشخاص وَيُصَرِّحون أن «المثـقّفين الثوريين، أو المُثـقّفين العُضويّين، غير موجودين في البلدان الناطقة بالعربية، أو أنهم عُـقَـمَاء، ولا يُنتجون شيئا، ولا يقترحون أطروحات مُجَدِّدَة».
1) فكرة «اليسار الإلكتروني» في وثيقة رزكار تتطلّب توضيحا أعمق. حيث إذا درسنا بِتَمَعُّن وثيقة رزكار، سنجد أن وثيقة «اليسار الإلكتروني» تحتوي على موضوعين مُتَمَيِّزَيْن، أو جانبين هما في نفس الوقت مُختلفين وَمُتكاملين. الموضوع الأوّل هو حَثُّ قوى اليسار على تَجْوِيد استعمالها لِتقْنِيّات الإنترنيت؛ والموضوع الثَاني هو الدعوة إلى تَـقْيِيم، وَتَـقْوِيم، وتَثْوِير قوى اليسار. وهذان الموضوعان هما أمران مختلفان، ولو أنهما مترابطين. بل الموضوع الأول (استعمال الإنترنيت) هو مجرد فَرْع جُزْئِـي من الموضوع الثاني (تَـقْوِيم قوى اليسار). وأُفَضِّلُ أن نتطرّق إلى كل موضوع على حِدَة، وفي وثيقة مُخَصَّصة له، لكي نتناول كل جانب بالعمق المطلوب، ولكي تكون حُججنا أكثر إقناعًا.
وفي الموضوع الأول (من وثيقة رزكار) والذي هو استعمال الإنترنيت، نلاحظ أن وثيقة رزكار لم تُـقَدِّم أمثلة عملية كثيرة، أو كَافية، أو مُقنعة، أو مُرضية. فوثيقة رزكار تَطلب من قيادات اليسار أن تُطَوِّر استعمالها للإنترنيت، لكن قيادات اليسار لا تعرف عمومًا تقنيات الإنترنيت، ولا تدري كيف تستغلّها. وتحتاج لِمَن يقدم لها اقتراحات جاهزة، وعملية، ومتكاملة، وسهلة الاستعمال. لكنني لا أنكر على المناضل رزكار ورفاقه أنهم أنجزوا أعظم اقتراح في ميدان استعمال الإنترنيت، وهو موقع «الحِوَار المُتَمَدِّن». وقد حقّق هذا الموقع نقلة نوعية وتاريخية في مجال التواصل الفكري، والسياسي، فيما بين مختلف مناضلي البلدان الناطقة باللغة العربية. وكلنا نستفيد اليوم من هذا الموقع لِتَبليغ آرائنا، وللإطلاع على آراء غيرنا. وما زال تطوير موقع «الحوار المتمدن» يتطلب إنجاز مجهودات مُضنية، وتحسينات متواصلة. فَـكُل الشُّكْر والامتنان لرزكار ولِلمُتَعَاوِنِين معه.
أمّا في الموضوع الثاني (من وثيقة رزكار)، والذي هو «تَـقْوِيم قوى اليسار»، لِخَلْق يسار من نوع جديد، ومن مستوى أعلى، فقد اقترح رزكار قدرًا مُهمًّا من الانتقادات، والأفكار، والمبادئ، والتوجيهات، لِتوضيح تصوراته. وأنا أتفق عُمُومًا مع وثيقة رزكار في هذا المجال.
2) من خلال عنوان الوثيقة («اليسار الإلكتروني»)، يظهر أن موضوع هذه الوثيقة هو اليسار الذي يستعمل «الإنترنيت»، أو هو دعوة قِوَى اليسار، الموجودة حاليًّا، إلى تَـقْوِيَة «استعمال الإنترنيت». لكن قرابة 95 في المِئَة من وثيقة رزكار يُجيب على السؤال: كيف نُخْرِجُ قِوَى اليسار الحالية من أزمتها، ومن رُكُودها (سواءً كانت هذه القوى اليسارية تستعمل الإنترنيت أم لَا)، وكيف نُـقَوِّيها، وكيف نُـقَوِّمُهَا، لكي تُصبح أكثر فعالية، ومُرُونة، وحداثة.
ولا تطرح وثيقة رزكار فقط «أبرز الأسـس الفكرية لليسار الإلكتروني»، ولكنها تطرح أيضًا «أبرز الأسـس الضرورية لِتَقْوِيم وَتَـقْوِيَة قوى اليسار»، سواءً كانت هذه القوى اليسارية المعنية تُجِيدُ استعمال الإنترنيت أَمْ لَا. وقد يكون السبب في الربط بين هذين الموضوعين، (وهما تَـقْوِيم قوى اليسار من جهة، وَمن جهة أخرى تَجْوِيد استعمال الإنترنيت) هو أنهما يَتَرَابَطَان، وَيَتَدَاخَلَان، ويَتَكَامَلَان. وأنا أتـفـق مع الوثيقة على وجود ترابط فيما بينهما. ولكنني اُفضّل دراسة، أو تحليل، كل موضوع بشكل منفصل، أو بشكل شبه مستقل، لكي يكون هذا التحليل مُعمّـقًا بالقدر المطلوب، أو المُرضي.
3) حول إسم «اليسار الإلكتروني» المقترح في وثيقة رزكار، أظن أنه غير مُرْضٍ. وهو ترجمة غير مُلَائِمَة لِلعبارة الإنجليزية «E-Left». لأن كلمة «الإلكتروني» (في اللغة العربية) تُعِيدُنَا إلى فكرة «الإلكترون» (électron)، أو إلى فكرة «الرَّقَائِق الإلكترونية» (Puces électroniques)، أو «الآلات الإلكترونية» (Appareils électroniques). بينما المقصود في وثيقة رزكار هو اليسار الذي يستعمل شبكة «الأنترنيت». لِذَا أرى أن الاسم الأكثر ملائمةً هو «يسار الإنترنيت» (وليس «اليسار الإلكتروني»). لكن إذا رَكَّزْنَا على المضمون السياسي الأساسي في هذا اليسار الجديد، أي تَعامله المَرِن مع الواقع، ومع النظرية، سيكون الاسم الأكثر مُلائمةً هو «اليسار المَرِن» (flexibel left)، مِن كلمة «المُرُونَة» (flexibility).
4) جاء في مدخل وثيقة رزكار، أن "اليسار الإلكتروني" «هو تيار جديد يطرح مفاهيم علمية ديمقراطية معاصرة». وكتب رزكار في آخر وثيقته «يُمكن ان يكون اليسار الإلكتروني حزبا يساريا متعدد المنابر، أو تنسيقية تشاركية، أو تحالف، الخ». لكن هذا «التيار» السياسي لا يتجسّد بَعْدُ في حزب، أو في مجموعة من التنظيمات، أو في تنسيقات، أو في تحالفات، موجدة في الميدان. وقد يكون قَصْدُ رزكار هو أن المناضلين الذين يتـفقون على الأفكار الواردة في وثيقة «اليسار الإلكتروني» يشكّلون «تِيَّارًا» فكريا وسياسيا من نوع جديد. وفي هذه الحالة، فإن تسمية «اليسار الإلكتروني» ستكون غير ملائمة. لأن الجوهر المُمَيِّز لِلأفكار ولِلمبادئ المعبر عنها في وثيقة رزكار يتجأوز حدود استعمال تقنيّات الإنترنيت.
5) تَدْعُو وثيقة رزكار، ليس فقط إلى حَثِّ قِوَى اليسار على إِتْـقَان استفادتها من تـقنيّات الإنترنيت (في مجالات الإعلام، والتثـقيف، والتواصل، والحَشْد، والتعبئة، والتَأَهُّب، والاحتجاج، والتكوين النظري، والتوعية، والتنظيم، الخ)، ولكن وثيقة رزكار تدعو أيضًا قوى اليسار إلى مُراجعة الذَّات السياسية، وإلى التَـقْوِيم، والتصحيح، والتَـفْعِيل. وعليه، فالمقصود (من طرف وثيقة رزكار) ليس هو «يسار افتراضي»، أو «ضَبَابِي»، أو «مُبْهَم»، وإنما المقصود هو يسار موجود على أرض الواقع، وَيُجِيد، في نفس الوقت، أساليب النضال الثوري، ويستفيد كذلك من تِـقْنِيَّات الإنترنيت. وقد أشار رزكار هو نفسه إلى أن «اليسار الإلكتروني يهدف إلى تعزيز وَتَـقْوِيَة التَشَابك بين النشاط الميداني على الأرض، والنضال الالكتروني... من خلال التحالفات الواسعة، والتنسيق، والعمل المشترك».
وفي الوثائق التي نَشرتُها واِنْـتَـقَدتُ فيها قوى اليسار (بالمغرب)، اِستعملتُ مِرَارًا شِعَار ضرورة «التَـقْـيِـيم، والتَـقْوِيم، والتَـثْـوِير»، بينما رزكار اِستعمل عبارة «التطوير، والتحديث الكبير، في آليات التنظيم، والقيادة، والعمل، والتفاعل مع الجماهير». وهذا تَوافق في التصوّرات، أو انسجام في الأهداف.
لكن معضلتنا اليوم، هي أن كثيرًا من قِيَادَات قوى اليسار (مثلًا في المغرب)، لَا تَسْتَمِــع، أو لا تُريد، أو لا تَـقدر، على «تَـقْوِيم، وَتَـقْوِيَة، وَتَثْوِير» ذَوَاتِهَا. وَوَاجِبنا كمناضلين، هو أن نستمر في مُساعدة قوى اليسار، وفي نَـقدها، أو الضغط عليها باحترام، وبدون عَيَاء، حتى تُطوّر نفسها، وذلك عبر تَـقْديم الحجج العقلانية، والاقتراحات البناءة، وليس عبر الـلَّامُبَالَاة، أو السَبِّ، أو الإهانة، أو التَعَالِي، أو العُدْوَانِيَة.

6) من المُـفيد أن نعرض بدقّة أهم الأفكار، أو المبادئ، التي جاءت بها وثيقة رزكار، وأعلّقُ عليها بِتَركيز بين خُطَّافَتَيْن [ ]، وهي التَالِيَة :
- «عدم التمسك الحرفي بنصوص، وخطاب سياسي، وآليات عمل، وتنظيم، تقليدية، تقادمت إلى حد كبير». [ما هي بالضبط العناصر التي تقادمت؟ وما هي العناصر التي ما زالت صالحة؟].
- «تلافي ترديد الجمل الثورية، والوصفات الكلاسيكية الجاهزة، التي تَتِيهُ في الأوهام، أو في نصوص نظرية جامدة». [ليست النصوص هي الجامدة، ولكن مستعملها هو الذي قد يستعملها بأسلوب جامد، أو مُتَجَمِّد].
- «يدعو إلى مراجعة الماركسية، والمدارس اليسارية المختلفة، وتراثها، وتقييم التجارب الاشتراكية واليسارية». [مَنْ عنده مُراجعات للماركسية، فَلْيَتَـفَضَّل بِعَرْضِهَا. وحينما سَتُـقْتَرَحُ «مُراجعات» ملموسة، أو «تَـقْيِيمات» مُحدّدة، سَنُنَاقِشُها. واذكّر أنه في هذا المجال، سبق لي أن اقترحتُ كتاب «هل ما زالت الماركسية صالحة بعد انهيّار الاتحاد السوفياتي»، الصيغة 13].
- «يسار علمي يستند إلى... مواثيق حقوق الإنسان العالمية، ويستفيد من الجوانب الإيجابية، لكافة الاتجاهات الماركسية، واليسارية، والتقدمية، المختلفة، ويقر بتعدد المرجعيات الفكرية اليسارية، ولا يعتبر أي نظرية، أو أيديولوجية، نصاً دينياً مقدساً». [مقبول].
- «أن نواجه الرأسمالية ”بأسلحتها” المتطورة، العلوم الحديثة والتجديد، والتطوير المتواصل، في كافة المجالات». [مقبول].
- «تغيير، وتطوير، وتحديث، وتجديد خطاب، وبرامج، أحزابنا اليسارية، وآليات التنظيم، والقيادة، والتعامل مع الجماهير». [نعم للتجديد، لكن ما هو بالضبط التجديد الملموس الذي تَقترحه؟ من له تجديدات، فَلْيَعْرِضْهَا].
- «التفاعل السريع مع التغييرات المحلية والإقليمية والعالمية». [مقبول].
- «تفعيل الحوار المحلي، والإقليمي، و العالمي، بين قوى اليسار». [ضروري].
- «تأسيس أطر، وتحالفات يسارية ديمقراطية». [مقبول، لكن تأسيس تحالفات بين مَنْ؟ وأين؟ وعلى أية أسـس؟ وما المعنى العملي لِلتحالف؟].
- «العمل بما هو ممكن الآن، وليس بما هو مطلوب استراتيجيا». [ما هي في رأيك الأهداف المطروحة الآن؟ وما هي الأهداف المُؤجّلة؟ ولماذا؟].
- «أساس اليسار الإلكتروني هو تغيير حياة البشر نحو الأفضل، ولو بخطوات محدودة، وتدريجية، من خلال طرح بدائل مرحلية واقعية». [نعم للعقلانية، وللواقعية. لكننا لا نقدر على نقاش إعطاء الأسبقية لإنجاز هدف مُحدّد على آخر، إلّا إذا حدّدنا هذه الأهداف بشكل ملموس، وفي إطار وضع مُجتمعي ملموس، وحلّلنا دوافعها].
- «تَحْيِيد الدين عن الدولة، المواطنة المتساوية، احترام التعدد القومي، وحق الشعوب في تقرير المصير، وسيادة القانون المستند إلى مواثيق حقوق الإنسان الدولية، و احترام الحريات، والعدالة الاجتماعية، والضمانات، وحق التنظيم، والتظاهر، والإضراب، وفصل السلطات، والقضاء المستقل، والإعلام الحر المفتوح لكافة التوجهات الفكرية والسياسية، مناهضة عقوبة الإعدام، الابتعاد عن التحالفات مع الحكومات والقوى الاستبدادية، والدينية، والقومية المتعصبة، المناهضة لحقوق الإنسان الأساسية». [مقبول. وأسجّل إيجابيًّا الرفض الضِمْنِي لِلتعاون مع الحركات الإسلامية الأصولية، باعتبارها قوى استبدادية].
- «التَوَجُّه نحو العمال، والكادحين، وكافة الفئات المُسْتَـغَلَّة، والمهمشة، و الطاقات الشابة، وكل الفئات المتعطشة للتحديث، والتغيير، والعدالة، والمساواة». [نعم لِلْاِنْحِيَّاز للكادحين والمُسْتَغَلِّين].
- «في المرحلة الإصلاحية، الدعوة إلى نظام اقتصادي عادل وشفاف... مع إعطاء الأهمية لدور الدولة في التخطيط الاقتصادي المركزي، وتحت إشراف ديمقراطي جماهيري». [مقبول، لكن كيف نُحقِّـقُ «تحت إشراف ديمقراطي جماهيري»؟].
- «النضال الاصطلاحي لا يناقض النضال المتواصل». [نعم].
- «مجانية التعليم، والصحة، والرعاية الاجتماعية، وكافة الخدمات العمومية الأخرى». [نعم].
- «تجاوز الشمولية، والإيمان بالعملية الديمقراطية، والتعددية، والتداول الديمقراطي السِلْمِي على السلطة، والتغيير التدريجي نحو أنظمة أكثر عدلا، حسب توجهات أغلبية الجماهير، ... ورفض كافة أنواع الدكتاتوريات، ... ورفض الحزب الواحد المحتكر للسلطة». [مقبول، بشرط عدم الإفراط في «التَدَرُّج»، أو في «الإيمان بالعملية الديموقراطية»، أو في الاعتماد على آليّات الديموقراطية البرجوازية، في مجتمعاتنا التي تَتَمَيًّزُ بالاستبداد، وبانتشار الأُمِّيَة، والجهل، وتقاليد الغِشِّ، وعادات التحايل، وَعَدْوَى الأنانية، والانتهازية. أنظر في هذا المجال كتابي «نقد الشعب»، وكتابي الثلاثي: «Le Sociétal»، و«Le Politique»، و«L’Éthique politique»؛ ويمكن تنزلهما من «https://livreschauds.wordpress.com/2018/09/13/كتاب نقد الشعب، الصيغة 54/»].
- «بناء وتقوية اتحادات، ونقابات عمالية، ومهنية مستقلة، وموحّدة، تدافع عن الفئات التي تمثلها... ورفض خُضوع الاتحادات والنقابات العمالية والمهنية إلى سلطة الأحزاب وتأثيراتها». [معقول].
- «المساواة الكاملة للمرأة، والتميز الإيجابي، وتكريس حصّة ” كوتا” تصاعدية في المؤسـسات لحين تحقيق المساواة». [مقبول].
- «تحييد دور الدين عن الدولة، مع ضمان حرية التدين، والعقيدة، واحترام حرية المعتقدات الدينية الشخصية لعامة الجماهير». [ضروري].
- «رفض التعصب التنظيمي...وَتَـقَبُّل الاختلاف الفكري الداخلي... وتعدد المنابر [التيارات؟] اليسارية، والتحالفات، والعمل المشترك». [ضروري].
- «لابد من التنسيق والعمل المشترك بين القوى اليسارية في المنطقة، وفي عموم العالم». [قضية حياة أو موت بالنسبة لقوى اليسار].
- «طرح، وتنظيم، أشكال تنظيمية جديدة، وحديثة، باستخدام الإنترنت، وشبكات التواصل... واستعمالها في تكوين الوعي، والحَشْد، والتنظيم، والاحتجاج، ودعم وتنسيق النشاط الميداني للجماهير». [مَا هي هذه الأشكال التنظيمية الجديدة المُبْتَغَات؟].
- «تجاوز نَمَط التنظيم التقليدي، المركزي، الذي يعطي للهيئات القيادية حقّ الاحتكار، والسيطرة الكبيرة، على التنظيمات الداخلية، والعمل بآليات تنظيمية تكون ديمقراطية، وجديدة، ومرنة، للبناء التنظيمي، كنوع من ”التحالفات، أو الشبكات، أو التنسيقيات التشاركية الفيدرالية”، التي لا تتبني المركزية الهرمية، الصارمة، والتبعية الإدارية الشديدة، وتتيح قدرًا كبيرًا من الاستقلالية، واللامركزية، و الديمقراطية، والحرية الكبيرة للمنظمات الحزبية والجماهيرية، وللتحالفات، والمجموعات، والأشكال المختلفة الأخرى». [نعم بشكل عام، ولكن ما هي بالتدقيق هذه الأنماط التنظيمية، وآلياتها الجديدة؟].
- «ضمان حق الأعضاء في التعبير عن الرأي، داخل وخارج التنظيمات اليسارية». [ضروري].
- «لابد أن يكون الإعلام الحزبي منبرا واسعا لِلْـكُلِّ في الحزب، ومن خارجه، من حاملي الأفكار اليسارية، والتقدمية، والإنسانية، وحتى الناقدة لليسار». [ضروري].
- «تجنّب كلمات الشيوعي، أو الاشتراكي، في أسماء التنظيمات، والأحزاب، والتحالفات، والشبكات». [رُبَّمَا. لكنه لا يَصِحُّ أن نُخْفِيَ أهدافنا الاستراتيجية على الجماهير].
- «تجاوز كافة أنواع المركزية المفرطة، والانضباط الحزبي الصارم، [وتعويضه] بالانضباط الذاتي الحر»... «يحق للعضو عدم تنفيذ سياسات رسمية لتنظيمه، إن كان غير مقتنع بها». [يُمكن للأنصار والمساندين أن لا ينضبطوا، بينما الأعضاء في التنظيم هم ملزمون بالانضباط. كل تنظيم جماعي، يناقش، ثم يُصوت، دون أن يكون فيه الانضباط للقرارات مطلوبًا، يُصبح وجود هذا التنظيم عَبَثِيًّا].
- «نطالب بالديمقراطية، والتعددية، والشفافية، والانتخاب المباشرة، وإشراك الجماهير في القرارات، والحريات الفردية والعامة، وحق التعبير العلني، والاختلاف، والرأي الآخر، والإعلام المفتوح والمتنوع،... الخ، لكننا لا نطبّقها في تنظيماتنا اليسارية». [نعم، لكن عبارة «إشراك الجماهير» العامّة في اتخاذ قرارات التنظيم غير ملائمة، أو فيها مشكل].
- «ضمان مساهمة أعضاء وكوادر الحزب في صياغة سياسة الحزب، من الأسفل إلى الأعلى». [نعم، لكن، إن لم تكن هذه «المساهمة» من خلال المؤتمر، والحوارات العامّة على المنابر، فَـكَيْفَ نُحقق ذلك؟].
- «تَنْوِيع أشكال ودرجات العضوية المرنة (الفاعلة، المؤازرة، المؤقتة، الخ)، التي تتيح العمل التنظيمي وفق الظروف الشخصية». [تنويع «درجات العُضوية» ضروري].
- «الحق في”العُضوية المركبة”، أي الانضمام إلى أكثر من حزب، أو تنظيم يساري، في آن واحد». [ما العمل حينما تُصبح قرارات هذه الأحزاب متناقضة؟].
- «حق عزل أعضاء القيادة الذين لا يُثبتون كفاءتهم». [كيف نُثْبِتُ ضعف الكفاءة، وَكَيف نُنْجِزُ ذلك العزل؟].
- «حق الأعضاء في التَـكَتُّل داخل الحزب». [أَرَى أن تجربة "الحزب الاشتراكي الموحّد"، الذي عمل بأسلوب "التيارات" في المغرب خلال أكثر من 20 سنة، أثبتت سلبيّتها].
- «إلغاء عقوبة الطرد من الحزب». [يستحيل في هذه الحالة تطهير الحزب من العناصر المُندسّة].
- «ضرورة بناء نظام قضائي، ومحاكم حرفية، وهيئات تحقيقية مستقلة، ومنتخبة، داخل أحزاب اليسار... ويحق للعضو-ة الحزبي، أو للتَـكَتُّلَات الحزبية، توكيل محامي للدفاع عنهم، سواء كان المحامي من داخل أو خارج الحزب، أو التحالف». [نعم بشكل عام، لكن ما هي التفاصيل العملية لِـآليات هذا النظام القضائي؟].
- «مصدر السلطات داخل الحزب، هي القاعدة الحزبية». [مبدئيا نعم، لكن الحزب لا يعرف سوى أسلوب المؤتمر لِإِعَادَة ترتيب هياكله].
- «تُصَاغُ سياسات الحزب، وبرامجه، من طرف القاعدة، وتناقش بشكل علني... تُبَثُّ المؤتمرات بشكل علني للجماهير». [كيف يمكن «للقاعدة» أن «تصيغ سياسات الحزب»؟ لا يُعقل أن يُناقش الحزب، بشكل «علني»، بعض القضايا التي يوجد فيها بُعْدٌ أمني. لأن الصراع الطبقي بَعِيدٌ عن أن يكون كله أَخْلَاقِيًّا أو مُتحضِّرًا].
- «إجراء انتخابات ديمقراطية علنية لقيادة الحزب... ويتم انتخابهم مباشرة من قبل كافة عضوات وأعضاء الحزب، وليس من قبل مندوبي المؤتمرات فقط». [يمكن تجريب هذا الأسلوب، لكن ما هي تفاصيل الإجراءات لتنظيم هذه الانتخابات، وضمان أمنها، وسلامتها؟].
- «دعوة الجماهير إلى المشاركة الفاعلة في مراقبة الحزب، وفي إقرار سياساته، وتقييمها، والحوار حولها». [نعم مبدئيًّا لهذا الأسلوب الذي طُبِّـقَ خلال «الثورة الثقافية» في الصين. لكن، ما معنى «الجماهير»؟ هل تشمل «الجماهير» أعداء وخصوم الحزب؟ ما العمل إذا لم تهتم الجماهير بالحزب وبسياساته؟ وكيف يُمكن لجماهير لا تُؤْمِنُ مبادئ الحزب أن تَـقدر على تَـقْيِيم برامجه، وممارساته؟ هل يُعقل أن تُحدّد مصيرَ الحزب جماهيرُ غير مُؤمنة بمبادئ الحزب؟].
- «طرح برامج الحزب، ووثائقه، وأنظمته الداخلية، للنقاش العام، والمفتوح، بشكل دائم، من خلال مواقع إلكترونية متطورة، تسمح بالآراء المختلفة، وتتيح التفاعل، والتعليق، والتصويت... الخ، وفي مجموعات وشبكات التواصل الاجتماعي، والاستفادة من البرامج التي توفر تحليلات وإحصائيات علمية». [نفس التعليق السابق].
- «أن تُـقدم أحزاب اليسار اعتذارات علنية للجماهير وللأعضاء على الأخطاء التي اِرتكبتها». [ضروري].
- «إلغاء كافة المناصب التي تُرَسِّخُ السلطات الفردية، مثل الأمين العام، السكرتير، الرئيس، القائد، الخ. وتعزيز القيادة الجماعية في الحزب، ومن الجنسين، واستحداث منسقين ومنسقات في الأقسام المختلفة، وناطقين باسم الحزب في المجالات المختلفة، مثل مجالات الشباب، الاقتصاد، المرأة، الدفاع، مجلس النواب، السياسة الخارجية، الخ). وتقاسم الصلاحيات، والمسؤوليات، والخبرات، بين كَوَادِر الحزب، وَقِيَّادِيِّيه، بشكل جماعي، وتخصصي، وإنجاز التطوير، والإبداع، حسب المسؤوليات». [نعم].
- «تَدَاوُل القِيَادة، وإلغاء البقاء في كرسي القيادة، أو تحويلها إلى ”مِلْـكِيَة خاصة مُطلقة”، مُكَافَحَةُ حالات الذاتية، والنرجسية المفرطة، وتشجيع تغيير القيادات اليسارية... لا يحق تبوء المناصب القيادية لأكثر من دورتين انتخابيتين، خلال حد أعلى يتراوح بين 6 و 8 سنوات». [ضروري جدًّا].
- «تشجيع تكوين قيادات شابة، وتحديد نِسَب وَمُعَدَّل مُعين للأعمار في قيادة الحزب، وإعطاء أهمية للمنحدر الطبقي في تبوء المناصب القيادية». [نعم، دون إهمال ضرورة الكفاءة].
- «ضرورة تواجد كافة أعضاء قيادة التنظيم داخل البلد». [نعم].
- «اِسْتِنَاد الحزب إلى الشفافية الكاملة، في كافة أنشطته الداخلية والخارجية، باستثناء الحالات الأمنية». [نعم].
- «يُـقَدِّم أعضاء الحزب اشتراكات مالية للحزب، أو أنواع مختلفة من الدعم المادي». [نعم].
- «فَرْضُ ضريبة ”الحزب التَصَاعُدِيَة”، حسب نسبة من رواتب ممثلي الحزب، العاملين في الوظائف الحكومية، أو أنواع الدخل الأخرى». [نعم].
- «تَنْمِيَة قدرات أعضاء الحزب، وقياداته، في استيعاب واستخدام التطور التكنولوجي، والتقني، والعلمي، وبالأخص تقنية المعلومات، والإنترنت، وشبكات التواصل». [نعم].
- «مواجهة اختراقات الخصوم، وحملات التخريب، والتجسس، والحروب الإلكترونية، وحماية الأنظمة الإلكترونية للحزب، وللمنظمات، وللأعضاء». [ضروري].
وبالنسبة لي (رحمان النوضة)، هذه الأفكار والمبادئ (المعروضة في وثيقة رزكار) كافية لكي أقبل خوض النضالات المشتركة مع كل من يتفق عليها، سواء في حزب، أو نقابة، أو حركة، أو تحالف، أو تنسيقية، ولو كانت بعض الأفكار الواردة فيها، أو الغائبة منها، تُثِيرُ بعض الملاحظات، أو الخلافات الجزئية.


7) من المعلوم أن قوى اليسار القائمة حاليا، تخشى، أو ترفض، أن يُنافسها أيّ كان، عبر اللجوء إلى خلق أحزاب يسارية جديدة. ولِتَلَافي كلّ سوء تَـفَاهُم، وَلِطَمْأَنَة أحزاب اليسار القائمة حاليا، كان يُسْتَحْسَن من وثيقة رزكار أن تـقول، بشكل صريح ومباشر، أنها لا تدعو إلى خلق حزب يساري جديد، أو عابر للحدود، كبديل عن قوى اليسار الموجودة حاليا في البلدان الناطقة بالعربية. [أنظر مقالي: «نقد الدّعوة إلى تأسيس حزب يساري جديد»، الصيغة 5]. وإنما تُريد وثيقة رزكار (حسب فهمي) تَغْيِير، وَتَـقْـوِيم، وتـثـوير، قوى اليسار الموجودة حاليا، وَتَجْوِيد تَـقَارُبِها، وتـفاعلها، وَتَعَاوُنِهَا، وتحالفها، وخوضها للنضالات الجماهيرية المشتركة، وتحسين استعمالاتها لتـقنيات الإنترنيت. وأنا أتّـفـق على هذه الأهداف، وأساندها. كما أتفق مع رزكار على أن قوى اليسار، ومنذ قرابة 30 أو 40 سنة، «في تراجع متواصل».
لكن، ما العمل إذا استمرّت قوى اليسار القديمة في التَبَاطُؤ، أو في رفض تَـقْـوِيم مناهجها، وَتَـثْـوٍير أساليبها، في شَتَّى المجالات ؟ وقد حدث لي، حينما كنتُ أناقش هذا الموضوع مع المناضل الفقيد شَوْقِي لُطْفِي، (وهو مثقف ماركسي يساري من مستوى متقدّم، ونشر عدّة دراسات رائدة)، أنه قال لي: «أنا شخصيا أتوقع أن لَا تَـقْدِرَ أحزاب اليسار بالمغرب (الأربعة) الحالية على تَطْوِير ذَوَاتِهَا. أُنْـظُرْ إلى تجارب الأربعين سنة الأخيرة، كل الحركات النضالية الجماهيرية الثورية التي حدثت في المغرب، اِنطلقت من خارج أحزاب اليسار، ولم تكن من مُبادرة أحزاب اليسار، ولم تَـقدر أحزاب اليسار حتّى على الالتحاق بهذه الحركات، وعلى تطويرها». فما العمل إذن في حالة عجز أحزاب اليسار الحالية على تَـقْوِيم ذَوَاتِهَا ؟ هل نستمر في الوَعْظ والانتظار، أم نخلق تنظيمات وحركات بديلة، ومن النوع الذي نَطْمَحُ إليه ؟
8) دافعتْ وثيقة رزكار على شعار «تَحْيِيد دور الدِّين عن الدولة» [بَدَل عبارة «فَصْل الدين عن الدولة»]. وأتفق مع وثيقة رزكار على مضمون هذا الشعار. وابتكار أو اقتراح هذا التعبير (تَحْيِيد) مُفيد، ويُغْنِي النقاش. لكنني أرى أن عبارة «تحييد» غامضة شيئا مَا، وتترك مجالًا للمساومة، أو المُناورة، حول درجة هذا «التحييد».
وفي العُمق، «تحييد الدين عن الدولة» يعني الفصل بينهما. كما أن «فصل الدين عن الدولة» يعني تَحْيِيد الدين. وعبارة «فصل» الدين عن الدولة، وعن السياسة، وعن الاقتصاد، وعن التعليم العمومي، لا تعني «القضاء» على الدين، ولا «العداء» له، ولا «مضايقة» ممارسته. وإنما تعني تحويل الدين من شَأْن عُمُومِي مُلْزِم للدولة وللشعب، إلى شَأْن شخصي، يكون كل مُواطن حرًّا في التعامل معه، وبالطريقة التي تُرضيه.
وحينما كتب رزكار «ليس هناك دولة في العالم فصلت الدين عن الدولة بشكل كامل، بما فيها فرنسا»، فإنه قد بالغ شيئًا مَا. الحاصل هو أن الدول الأكثر تقدّمًا، وخاصّة منها غالبية بلدان أوروبا الغربية، بما فيها فرنسا، أقامت فصلًا بين الدين والدولة، وبين الدين والسياسة، وبين الدين والاقتصاد، وبين الدين والتعليم العمومي، دون أن يعني ذلك إحداث أي نَـقْـص في حرّيات الاعتقاد والعبادة.
وأفضّل شخصيًّا عبارة «فَصْل الدِّين عن الدولة». لأنني أعتـقد أن الدين لَعِبَ، وما زال يلعب، دورا أساسيا في التخلّف الشُمُولِي، والمُجتمعي، الذي أصاب الشعوب المسلمة، أو الناطقة بالعربية. ومن الأحسن رفض إخضاع إنجاز هذا الشعار إلى «مَرَاحِلِيَة» (étapisme) تاريخية، على شكل شعار المرحلة 1، ثم شعار المرحلة 2، ثم 3، إلى آخره. ومن الخطأ قبول الخضوع لضغط «الطَابُوهَات» (tabous) الدينية في هذا المجال. لذلك أرى أنه من واجب قوى اليسار أن تتميّز بالدفاع الواضح، والعَلَنِي، والصريح، والمُتَوَاصِل، على ضرورة إحداث «قطيعة» مع الدِّين، وتحويله إلى شَـأْن شخصي. وهذا الهدف السياسي ممكن، وليس «متطرّفا»، ولا «متسرّعًا».
وأفهم أن وثيقة رزكار تدافع على عبارة «التحييد»، بحجّة الحَاجَة إلى «الواقعية»، وإلى «التَدَرُّج» في الأهداف. وأتفق مع رزكار على أنه، في حالة وجود «فصل» الدين عن الدولة، أو «تحييده»، فإن هذا الحال لا يمنع الدولة من أن تُـقَدِّم بعض المساعدات للمؤسّـسات الدينية، حتى في مجال تنظيمها، أو تمويلها، أو هيكلتها، وذلك وِفْقَ ظروف كل بلد. وفي حالة تفضيل أغلبية اليسار لشعار «تحييد»، وليس لشعار «فصل» الدين عن الدولة، فإنني سأقبله. [وفي موضوع علاقة الدين بالسياسة، يمكن رؤية كتابي «نقد تعاون اليساريين مع الإسلاميين»، الصيغة 7؛ وكتابي «أَيَّة عَلَاقَة بين الدِّين والقانون»، الصيغة 23؛ ومقالي «يَستحيل تحقيق الدّيمقراطية بدون فصل الدّين عن الدّولة»، الصيغة 6].
9) طرحت وثيقة رزكار أن «أساس اليسار الإلكتروني هو تغيير حياة البشر نحو الأفضل، ولو بخطوات محدودة، وتدريجية». وهذا التعريف لليسار مَطَاطِي، أو واسع جدًّا، وقد يحمل تَسَاهُلًا كبيرًا، أو قليل الدِقَّة. وَأَتَـفَهَّمُ أن رزكار يَحْرُص، من خلال تعريفه السابـق، على تنبيه المناضلين إلى أن كل الأشخاص والجماعات الذين يعملون بهدف «تغيير حياة البشر نحو الأفضل، ولو بخطوات محدودة، وتدريجية»، هم أصدقاؤنا، ومن الخطأ أن نَتَعَامَلَ معهم كَأَعداء. وهذا القَصْدُ لَدَي رزكار هو صحيح، ومفيد، وحكيم. وأنا أوافق عليه. لكنني أفضِّل شخصيا تعريف «اليسار» بِكَونه «يشمل القِوَى التي تَنْطَلِقُ من الواقع وليس من المُعتقدات، وَتَعمل بهدف مُعالجة مشاكل الجماهير، وَتَسْتَرْشِدُ بالفكر الماركسي الكَوْنِي، وَتُطَوِّرُه دون تَـقْدِيسِه، وَيَصُبُّ نضالها نحو التَحَرُّر، وَالعَدَالَة، والمُساواة، والحُريات، وَنَحْوَ أُفُق الاشتراكية، والمنهج المُتَوَاصِل لِقِوَى اليسار هو تَـقْيِيم التَجارب، وتصحيح الأخطاء، وتَـقْوِيم التَوَجُّهَات، وَتَثْوِير المناهج والاختيارات».
وأتّـفـق مع رزكار حينما يُشَدِّدُ على ضرورة اهتمام قوى اليسار بالتُرَاث المعرفي، والعلمي، والعقلاني، والحقوقي، لمجمل الإنسانية. كما أتفق مع رزكار على أَهَمِّيَة العمل بِـ «مواثيق حقوق الإنسان العالمية، والاستفادة من الجوانب الإيجابية لكافة الاتجاهات الماركسية واليسارية والتقدمية المختلفة، والإقرار بتعدد المرجعيات الفكرية اليسارية، وعدم اعتبار أية نظرية أو أيديولوجية نصاً دينياً مقدساً». وعلى خلاف بعض التجارب السابقة، يجب على اليساريين أن يَتَـقَبَّلُوا وجود خلافات في الآراء فيما بين أعضاء الحزب الواحد. ولتلافي اتهامه بأية مُراجعة تحريفية أو يمينية، أكّد رزكار أن الهدف الكبير يبـقى «هو دولة اشتراكية ديموقراطية، ونظام لا طبـقي، والمساواة الكاملة». وهذا جَيِّد.
وأَقْدَم رزكار، في بداية وثيقته، على نـقد «التمسك الحرفي بنصوص، وخطاب سياسي، وآليات عمل وتنظيم تـقليدية، تـقادمت إلى حدّ كبير». وانتـقد رزكار كذلك كون قوى اليسار بـقيت «أسيرة الأيديولوجيا، وترديد الجمل الثورية... وترديد الوصفات الكلاسيكية الجاهزة» ... وطرح البعض (غير رزكار) أن «الفكر الماركسي تلاشى، وحان دفنه»، وأن «تاريخ صلاحية الماركسية والاشتراكية قد تُجُووِزَ»، وأن «فكرة الطبقة العاملة، والصراع الطبقي، أصبحت مهزلة». وحسب تقديري، المشكل اليوم، لا يَـكْمُنُ في «ترديد الجمل الثورية... وترديد الوصفات الكلاسيكية الجاهزة»، وإنما يكمن في العكس، أي في كون عدّة أحزاب محسوبة على اليسار، تُوجد كلمة «الاشتراكي» في اِسمها الرَّسمي، لكنها تعوّدت خلال ثلاثين سنة على اِهْمَال التُرَاث الفكري الماركسي، أو الاشتراكي، إلى درجة أن قادة وقواعد هذه الأحزاب (المحسوبة على اليسار) أصبحون يجهلون تقريبًا كلّ شيء عن الفكر الماركسي، وعن التجارب الاشتراكية. بل أصبح بعضها يُعادِي الماركسية والاشتراكية. ولم تعد بعض هذه الأحزاب (المحسوبة على اليسار) ترتبط باليسار سوى باسمها القديم.
10) بعض الأشخاص رفضوا، أو اِسْتَصْغَرُوا قيمة وثيقة رزكار. وقد يصدق على بعض هؤلاء الأشخاص المثل القائل: «يَأْكُلُون الغَلَّة، وَيَشْتُمُون المِلَّة». بينما هم يُمارسون «اليسار الإلكتروني»، ويستفيدون منه، وَلَا يُدْرِكُون ذلك. حيث أنه، حينما يقرؤون مَا يُنْشَر على موقع «الحوار المتمدّن»، أو حينما ينشرون مقالاتهم على «الحوار المتمدن»، يُوصِلُون هكذا آراءهم الشخصية، بِدِقَّة وَبِسُرعة، إلى الآلاف من القراء المُهِمِّين، والمتواجدين في الكثير من البلدان الناطقة بالعربية. ولم يكن هذا التَوَاصُل الفكري مُمْكِنًا لَوْلَا وجود هذا «اليسار الإلكتروني»، والذي يُسمَّى في هذه الحالة «الحوار المتمدّن». وما مَوْقِـعُ «الحوار المتمدن» إلّا جزءا ضئيلًا مِمَّا يُمكن ابتكاره، واستعماله، من بين تِـقنيّات الإنترنيت. وفيما يخص حالة المغرب، أشهد أن تهيئ اِنْطِلَاقة «حركة 20 فبراير» في سنة 2011 (أي ما يُعادل «حركات الربيع العربي»)، بَدَأَ الشُبّان تنسيقها على شبكة «الإنترنيت». حيث خاضوا معظم مشاوراتهم، وتنسيقاتهم الأوّلية، على الإنترنيت. ولولا شبكات الإنترنيت، لما كانت «حركة 20 فبراير» بالمغرب كما كانت.
11) بادرتُ إلى تصحيح بعض الأخطاء الإِمْلَائِيَة أو اللغوية القليلة، أو البسيطة، الواردة في وثيقة «اليسار الإلكتروني»، وأضفتُ إليها التنقيط (Ponctuation)، أي النقط (.) والفواصل (،)، التي كانت ناقصة في النص الأصلي، وذلك بهدف تسهيل قارئتها وفهما. وسأنشر هذه الصيغة المُصحّحة على صفحتي على "الفيسبوك" (Abderrahman Nouda)، وعلى مدوّنة نَادِي النُـقَّاد (https://Nokkade.Wordpress.Com).
اِنتهى نقاشي لوثيقة رزكار عقراوي التي تحمل عَنْوَان «اليسار الإلكتروني».
رحمان النوضة
(اِنتهى تحريره في 28 شتنبر 2021).