حول النخبة العربية المفكرة


محمد علي سليمان
2021 / 9 / 28 - 20:23     

إن النخبة المفكرة ترى الواقع الاجتماعي المتخلف وتحاول أن تعمل على تغييره، ولكنها تجد نفسها عاجزة عن التغيير حتى في الساحة الفكرية. وفي الحقيقة فإن في المفكر الوطني شيئاً من صاحب الرسالة، وخاصة في مجتمع متخلف مثل المجتمع العربي بسبب وعيه وتميزه عن الآخرين ثقافياً، ولذلك فإنه يصبح من القادة في المجتمع، أو يعطي لنفسه دوراً قيادياً، رؤوياً، يدفعه لاستشراف المستقبل، والمطالبة بالتغيير نحو الأفضل. ولكنه أيضاً كمثقف يطرح إشكالية التقدم والتأخر من ضمن مجاله الثقافي، ويرى أن المطلوب هو تغيير ثقافي بالدرجة الأولى، وهو يرى ذلك الانتقال الثقافي انتقالاً من ثقافة المجتمع التقليدي إلى ثقافة المجتمع الحديث عبر نخبة نقدية تقود عملية التحديث الاجتماعي.
لقد خلخل عصر العولمة _ عصر الإمبريالية المتوحشة القوى الاجتماعية العربية والقوى السياسية الحاكمة، وبالتالي فإن المثقف العضوي انشغل بترتيب أوضاع قوته الاجتماعية والفكرية بطريقة براغماتية بحيث تحول إلى مثقف السلطان، أو الحزب اللاحزب من الناحية السياسية، أو تحول إلى مثقف هامشي ك " نبي " غير مرغوب فيه. والدولة، من جانبها، تخلت من زمان عن المثقف النقدي صاحب الرسالة واكتفت بالمثقف الموظف من أهل الثقة، مما دفع المثقفين النقديين المستقلين إلى طرح مشاريعهم لتقدم المجتمع العربي بعيداً عن الدولة ومؤسساتها، مشاريع تعتمد على مؤسسات خاصة ذات طابع فكري تمول ذاتياً وذلك بعد أن نفضت الدولة يدها من قيادة المجتمع المدني لصالح المجتمع السياسي، ولكنها لم تنفض يدها من السيطرة على ذلك المجتمع المدني وتحجيمه ضمن حدود قيودها الطبقية حتى تحافظ على سيطرتها على القوى الاجتماعية المعارضة وتأبيد سلطتها السياسية. ولذلك يغلب على النخبة المفكرة المطالبة بفضاء اجتماعي، مجتمع مدني متحرر يسمح لها بممارسة دور فاعل فكرياً.
والمشكلة الرئيسية التي تحد من فاعلية هذه النخبة الفكرية هي غربتها عن الجماهير الشعبية، فهي ليست مصدر ثقتها بسبب تمايزها الاجتماعي كنخبة خاصة، وتشبعها بالثقافة الغربية وبعدها عن ثقافة تراثها. كما إنها ليست مصدر ثقة الدولة، القوى الاجتماعية الحاكمة _ السلطة السياسية الحاكمة التي تخاف من تداول أفكار نقدية تطرح أسئلة حول شرعية تلك السلطة السياسية الحاكمة، وفي غياب المجتمع المدني تبدو تلك النخبة المفكرة وكأنها تحرث في البحر. وبالتالي فهي نخبة قلقة اجتماعياً، إنها تجد نفسها على هامش المجتمع، متأرجحة بين الرفض والتأييد لإجراءات السلطات السياسية الحاكمة، والظروف السياسية في الوطن العربي كثيراً ما تدفع هذه النخبة للاغتراب الداخلي والخارجي، والابتعاد عن العمل السياسي، والثقافي النقدي والانخراط في العمل الأكاديمي، أو الانخراط في خدمة السلطان. ومعروفة تقلبات السلطة السياسية في عهد عبد الناصر حول النخبة المفكرة بين القمع والاحتواء. فقد تم قمع المفكرين التقدميين في الأعوام 1952، 1954، 1956، 1959، 1964، وخاصة الذين كانوا ينتمون لأحزاب يسارية، ذلك أن الأحزاب تتطلع للسيطرة على السلطة السياسية، فما قيمة حزب سياسي لا يسعى إلى السلطة السياسية. ولذلك عملت القوى السياسية الحاكمة على اختراع الحزب الواحد_ حزب السلطة، أو أنها سمحت بأحزاب لا أحزاب: لا تمتلك حرية العمل السياسي في المجتمع المدني _ أحزاب شكلية أو أنها تعمل تحت رعاية السلطة السياسية الحاكمة. ورغم ذلك ظلت النخبة المفكرة على تعاطفها مع تطلعات عبد الناصر الوطنية، وقد اعترفت للقوى السياسية الحاكمة في عهد الثورة قيامها بأعمال ذات فائدة اجتماعية كالتأميم _ تحطيم الطبقة الرأسمالية، والإصلاح الزراعي _ تحطيم الطبقة الإقطاعية، دون أن تدرك، أو حتى مع إدراكها، أن تلك الإجراءات تهدف إلى إلغاء القوى الاجتماعية التي تشكل تهديداً سياسياً على القوى الاجتماعية الحاكمة. ولأن النخبة المفكرة أخذت على القوى السياسية الحاكمة أن تلك الأعمال الاقتصادية بقيت محددة بحدود الطبقة الوسطى، ولأنه كما يقول غالبريث فإن " الإنسان يغدو أكثر استعداداً للدفاع عن الحرية الفردية وأكثر اطمئناناً على سلامته عندما تمتلئ معدته " ، فإنها سلبت الشعب حقه بالحرية، وجعلت تأمين لقمة العيش محور حياته الاجتماعية، ولأن الشعب قلق دائماً على وضعه الاقتصادي _ المعيشي، ويدور مثل حمار الطاحون خلف لقمة العيش، فإن النخبة المفكرة عملت على مطالبة السلطات الحاكمة بمزيد من الحرية السياسية والعدل الاجتماعي بالتقدم نحو الاشتراكية دون الأخذ بعين الاعتبار حدود القوى السياسية الحاكمة الطبقية التي ترى في الاشتراكية نفياً سياسياً لها كسلطة، مما جعلت النخبة المفكرة تعيش هم المطالبة بالقضايا الاجتماعية _ السياسية: تعددية الأحزاب، استقلال المنظمات المهنية والنقابية عن الدولة، تداول السلطة، ولكن لا جدوى، فالدولة لن تقدم خدمات مجانية ضد نفسها كقوى حاكمة. ولذلك أبعدت النخبة المفكرة النقدية عن المجتمع المدني وحاصرتها بمؤسسات المجتمع السياسي لصالح القوى المحافظة ومفكريها، وخاصة القوى الإسلامية التي أصبحت تتحكم بمؤسسات المجتمع المدني برغبة الدولة كورقة في مواجهة اليسار الماركسي والقومي.
إن النخبة الوطنية المفكرة تعيش في وهم النظرية، وعندها أنه لا نهضة بدون عصر تنوير باعتباره هو الذي يصنه النهضة _ الثورة اجتماعياً، وهي تنسى أو تتناسى أن عصر التنوير يجب أن تقف خلفه قوى اجتماعية مهيمنة تسعى إلى النهضة، كما حدث في أوروبا. إن حرث المفكرين العرب في حقل البنية الفوقية بعيداً عن حقل البنية التحتية، في حقل الأفكار _ الفلسفة بعيداً عن حقل العلم والصناعة _ التكنولوجيا لا يجدي، خاصة وأن تلك الأفكار كثيراً ما تكون غريبة عن المجتمع العربي، وتساهم بزيادة غربته الاجتماعية وإبعاده عن طريق النهضة. ومما يزيد في غربة النخبة العربية المفكرة ثقافة الصورة (التلفزيون خاصة)، ويرى الدكتور عبدالله الغذامي " أن الثقافة التلفزيونية أدت إلى سقوط ثقافة وفكر النخبة وبروز ثقافة وفكر الجماهير. ويتابع: لقد سقطت النخبة الثقافية (الفكرية)، تلك النخب التي تعودنا عليها فكرياً واجتماعياً وسياسياً، وكانت تقود الناس وتؤثر عليهم، وتشكل رموزاً حية لهم، لقد سقطت هذه وزال دورها وحلت الصورة محلها. ولكن الصورة لم تخلق ثقافة ديمقراطية.. لأن الصورة ظلت تخدم الهيمنة " . ويتابع الدكتور الغذامي أن ثقافة الهيمنة تلك هي ثقافة فحولية جديدة، وهي ثقافة الجنس والمال وخاصة هيمنة الرأي الواحد ونفي الرأي المعارض.
لقد أفرغت الساحة الفكرية من المفكرين النقديين الذين يمكن أن يخلقوا حراكاً فكرياً اجتماعياً عبر تكوين نخبة فكرية تقود الحركة الفكرية، وحتى السياسية، كما حدث في روسيا في القرن التاسع عشر. ويرى الدكتور نديم البيطار في كتابه " المثقفون والثورة " أن كل الثورات في التاريخ قامت بقيادة المثقفين، هذه النخبة الفكرية _ الثقافية هي ما افتقده الحراك الشعبي العربي، والذي كان يمكن أن تقوده على طريق الوضوح الفكري والسياسي. ولقد أظهر حراك الشعب العربي أن الدعوة لتكوين " نخبة فكرية " تقود حركة الشارع السياسة غير فاعلة لا اجتماعياً ولا سياسياً ولا حتى ثقافياً. وما مسار تلك النخبات الفكرية العربية الوطنية _ التقدمية: القومية والماركسية التي تعيش في الداخل العربي، أو في الخارج الأوروبي، لم تكن سوى ظاهرة إعلامية استطاعت القوى العالمية والإقليمية والعربية الخليجية عبر أموال النفط أن تحول تلك النخب الفكرية، وخاصة الماركسية، إلى حصان طروادة للدخول إلى ساحة " الثورات العربي " وتمزيقها من الداخل.
يقول الفيلسوف الألماني كانت إن الواقع مصنوع، تركيب، وكل ما يجعل العالم ذا معنى يأتي عن طريق الفهم. وهذا الفهم يجب أن ينطلق من أرض الواقع الاجتماعي، عبر خلق تواصل مع الشعب. وقد أصبح معروفاً كيف خلخل انهيار الاتحاد السوفييتي القوى الاجتماعية التقدمية في الوطن العربي وأفقدها استقرارها النظري والعملي، وهكذا بدأت تقترب من الوقع الاجتماعي العربي بعد أن ابتعدت عنه لصالح النظرية الأوروبية الليبرالية والماركسية، محاولة فهمه وخلق نظرية ترتبط بهذا الواقع الاجتماعي المتخلف. وهذا أيضاً مطلب من مطالب النخبة العربية المفكرة، فالدكتور حسن حنفي يجعل الاقتراب من الواقع أحد أركان مشروعه الفكري. كما، أن هناك محاولة قام بها الدكتور محمد عزيز الحبابي لمناقشة مفاهيم الفكر العربي، التي يرى أنها أصبحت ضبابية، من أجل إعادتها إلى أرض ذلك الواقع الاجتماعي. ولكن إنتاج نظرية عربية تنطلق من الواقع العربي الاجتماعي، يتطلب تفكيك هذا الواقع وفق أيديولوجية قوى اجتماعية عربية مهيمنة، وحدها قوى اجتماعية عربية مهيمنة قادرة على إنتاج نظرية فكرية فاعلة عبر نخبة فكرية حديثة.