نيتشة وعزة تلجراف عند-مصطفى أبوحسين-.


محمد فرحات
2021 / 9 / 27 - 09:32     

البدايات دائما بقصص "مصطفى أبو حسين" أسئلة وجودية تشعر دائما بعبثية البقاء الإنساني وهامشيته الطارئة على الأرض.
تبدأ قصة "عزة تلجراف" تلك البدايات الكلاشيهية المميزة لعالم القاص الفريد إبداعا.
"عمر الأرض، يدكها بعنف، وهو ينصت لصوت ارتطام قدمه بها، 13.8 مليار سنة، ظهر الإنسان الحديث منذ 300 ألف سنة فقط، كأننا نعيش في آخر 0.1 من الثانية، في الدقيقة الأخيرة، من الساعة الأخيرة، من اليوم الأخير على الأرض، ما أقصر حياتنا، وما أتفهها! وما أهون تصوراتنا عن أنفسنا.
نتخيل بحمق وغباء أننا محور الكون، وأنه خُلِق من أجلنا، يتوقف مصيره على مصيرنا، بينما نحن في الحقيقة،لاشئ... لاشيء...لاشيء."
كذلك شخصية البطل المهمش المهزوم أصبحت من لوازم إبداع "مصطفى أبو حسين" لتكون أفعاله نابعة من تلك الخلفية النفسية المتأزمة.
بطلنا هو"كامل أشرف" والاسم ليس علما مجردا ولكن له دلالة ستظهر في نهاية القصة، "كامل" ذلك الكمال السوبرماني النيتشوي الطوباوي.
"أشرف كامل" يرتحل من عزلته نحو "القاهرة" على معاد مع أحد المتنفذين بحثا عن وظيفة تخرجه من عزلته وخمول ذكره كروائي محاصر بجنبات الحياة. ولكن المصادفات تنافس أبطال القصة في تصدر أحداثها.
يصتدم صدفة بحبيبته الأولى"عزة رمضان" والتي نالت قسطا كبيرا من الشهرة ككاتبة، ولكن "عزة رمضان" ستنكره وتصر على جحد أي علاقة ربطت يوما بينهما.
الصدفة وحدها هي حدث القصة المركزي والذي سيدور حوله البطل مجترا تاريخا طويلا من الخيبة والإحباط.
دلالات التفاصيل الصغيرة تحمل معاني مكثفة؛ وتلك الخصيصة الثالثة عند كاتبنا"مصطفى أبو حسين".
ينصت "كامل أشرف" إلى خطوات نعله، وحين دخوله المؤسسة، وبسيره على البساط الأحمر الوثير يفقد القدرة على سماع خطوه، فصوت دبيب خطوه كان "علامة" لذاته والتي بالرغم مما أصابها، طوال
واحد وثلاثين عاما، مازالت تعتز بوجودها الفريد، وكأنه يباهي العالم بانكساراته وهزائمه، إلا أن استسلامه المتمثل في "حدث" دخوله "المؤسسة" والمراودة عن"ذاته" كان بمثابة الهزيمة النهائية الشاهدة على استسلامه،ولو مؤقتا، وفقده ما كان يعتز به من الاستغناء عن كل أوهام وأباطيل الحياة من شهرة وذيوع صيت.
"تقدم أكثر في الردهة الطويلة، المغطاة بسجادة حمراء بلون الدم، ذهب حدسه أنها مخصصة لرئيس الهيئة وضيوفه الكبار، من الشخصيات اللامعة ونجوم المجتمع. وبسيره عليها، صار الآن واحدا منهم(...)
لا يعرف الروائي المغمور، لماذا لم يعد يسمع صوت ملامسة أقدامه للأرض، منذ وطأ السجادة الحمراء الناعمة؟! فقد كان يَخْلُد منذ زمن بعيد، إلى الإنصات له. بل تعود عليه وأحبه، كان يُذْكِرْه بالمسافة المضنية التي يقطعها، والوقت الثقيل الذي يبدده."
استلاب مقاومة"البطل"السلبية كانت آخر ما يلوذ به من قلعة ذاتية محصنة تبدت بتاريخ رفضه أخلاق "القطيع" تلك التي هجاها"نيتشة" تلك الأخلاق التي تختصر تاريخيا طويلا من الانسحاق العبودي الذي تخلق به الإنسان بعد خضوعه لعوامل الضعف والخبو.
"تقدم الروائي المغمور، وبتأدب المهزومين يدخل مكتب رئيس هيئة الثقافة، لا كما دخله أول مرة منذ واحد وثلاثين عاما، آخر مرة زاره فيها، شابا صحافيا ثائرا.".
الخصيصة الرابعة تمثلت بنزعة القاص الفلسفية والمتخفية تماما بإطار فني، وبمقدار براعة التخفي كفيلسوف في رداء قاص تطرد كدلالة حذق وامتلاك مهاراته الكتابية الأدبية.
"كان أشرف كامل مثل نيتشه لا يحب الضعف، لكن مع تقدمه في العمر يقترب منه، لديه رغبة جامحة في أن يعيش كثيرا لكن ها هو العمر يتسرب منه سنة وراء أخرى، كان في بداية حياته يطمح أن يكون نصف إله، الآن والجميع ينكره هو نصف إنسان.
ينظر خلفه في غضب لمرحلة العشرينيات من عمره، ويتحسر كيف تركها تمر دون أن يمكث فيها طويلا، دائم الترديد على مسامع أبنائه، أنه في مثل سنهم كان يقلقل الحجر، فتجيب زوجته، من ساعة ما تزوجنا من 20 سنة، وأنت ما قلقلت حجرا واحدا، فيختفي بداخله الإنسان السوبر ابتكار نيتشه، ويحل محله شوبنهاور بأحزانه.".
ينتهي مشهد النكران وجحود حبيبته بنوع من موساة الذات في ظاهرها والتي تمارس فعل جلدها وتعذيبها بباطنها.
"كان كامل أشرف، لا يشعر بالطمأنينة تجاه أي شيء، كانت حياة العزلة التي يعيشها انعكاسا للأفكار التي آمن بها، كتب ثم توقف عن الكتابة، لأسباب نفسية ثم عاد لها لأسباب أخلاقية، عاد يشاهد من هم أقل منه موهبة، أكثر منه شهرة، بينما هو حبيس ركن مظلم لا يعلم أحد شيئا عما يكتب.
لهذا لم يشكل إنكار عزة رمضان له مفاجأة، لآن رؤيته للعالم والأشياء من حوله، كانت انعكاسا لرؤيته لنفسه."
يلملم البطل أشيائه الصغيرة تلك التي خلقت عالما حميميا احتمى به من تغول نكران العالم له.
"حزم متعلقاته، التي كان ينثرها حوله، كي لا يشعر بالوحدة، الهاتف النقال، النظارة الطبية، والحقيبة السوداء، التي بداخلها نسخة من مجموعته القصصية الأخيرة، علبة مناديل ورقية، زجاجة مغلقة بداخلها عدد كبير من الجنيهات الفضية، حريص على اصطحابها معه في كل سفرياته.".
تبدأ المرحلة الثانية من القصة بدخول البطل على المسؤول المتنفذ بأخلاق تأدب المهزومين(أخلاق القطيع).
ليبغت بوجود "عزة رمضان" أمامه بذات مكتب المتنفذ الكبير، لا يفصل
بينهما سوى متر أو أقل...لتتوحد عوامل السحق على البطل ما بين إنكارين إنكار الحبيبة وإنكار صديق الشباب/المسؤول الكبير.
"تحدثا في كل شئ، ماعدا ما حضر لأجله كامل أشرف، البحث عن عمل يليق به داخل هيئة الثقافة، تجاهل رئيس الهيئة الأمر فلم يشكل له من أهمية، كأن كامل اشرف قد حضر خصيصا.".
"عزة رمضان" بمكثها بمكتب رأس "المؤسسة"، واجتماعها بالبطل بذات المكتب، بطلة منسحقة تماما هي الأخرى. "عزة" صورة لانسحاق من نوع أخر كان سيصل له البطل إن صار بطريق آخر غير استسلامه لمنفاه الاختياري، "عزة" هي انعكاس صورة مرآة ل"كامل"، باختزال رمزي يشير إلى نتيجة واحدة وإن تبدلت المصائر وتباينت.
لتؤطر "هزيمة" البطل الظاهرة أنها نتيجة مشرفة لرفضه الانضمام للقطيع، ومقاومته سلطة "المؤسسة" والتي عاقبته وعاقبت فعله الإبداعي المقاوم بالحصار لذاته المبدعة، وعدم الاعتراف بنتاج إبداعه والذي تمثل في تصرف رأس المؤسسة. أولا، بتجاهل رغبة البطل. ثانيا، إقرار البطل نفسه عدم قراءة رأس"المؤسسة" لعمله الأخير كرفض "المؤسسة" له، وإمعانها نفيه...إن استمر رفضه الانصياع والسير بذات طريق"عزة"/نموذج الابنة البارة لل"مؤسسة".
"استأذن كامل أشرف في الانصراف، غادر مقعده بعد أن ودع صديقه القديم ومضى، بعد أن وضع نسخة من مجموعته الأخيرة على مكتبه، وهو يعلم جيدا أنه لن يقرأها، و لن يهتم بما يكتبه صديقه، أغلق الباب خلفه.".
ظاهر النهاية هزيمة جديدة للذات المبدعة المقاومة، ولكن ما وراء "النص" يسجل انتصارا واضحا وإصرارا على رفض الانصياع، ليقرر سماع خطواته بعيدا عن بساط السلطة الوثير/السجادة الحمراء...
"وخرج دون أن يمشى على السجادة الحمراء، أهملها و فضل السير على الرخام الأبيض".