تقيم الصراع بين الاتجاه العراقوي والعروبوي :


عقيل الناصري
2021 / 9 / 27 - 02:42     

وإزاء هذه الحالة إنشاطر المجتمع العراقي إلى قسمين، عمودياً وأفقياً، بعد التغيير الجذري عام 1958، على وفق معايير التالية :
- المصالح الطبقية والأراء الفلسفية والفكرية ؛
- الانتماء السياسي والطبقي ؛
- الموقف من نظام وسلطة 14 تموز وماهية قيادته ؛
- البعد المذهبي ؛
- الأفق التاريخي لتطوره ؛
- قواه الاجتماعية التي تقوده وغائيتها ؛
- ومن منطلق أولوية العراق وأواليته (ميكانزم).
هذا الإنقسام لعب دوراً في غياب النهج الوطني والعودة إلى تمذهب الدولة والسلطة. تحددت ملامح هذين التياريين، في صراع كل من :
-التيار الأول: إنطلق من أولوية عراقية العراق في إمتداده العربي، وقد ضم قوى اجتماعية وأحزاب سياسية متعددة شملت أغلب أطياف المجتمع كأحزاب: الوطني الديمقراطي والشيوعي وأحزاب الحركة الكردية وأغلب الأثنيات القومية الصغيرة كالتركمان والشبك والأرمن والكلدو/ آشوريين/ سريان، واتباع الديانات: كالصابئة المندائيين واالكاكائيين وغيرهم، وهم يمثلون الأغلبية العددية مقارنة بالآخر ؛
- التيار الثاني: أنطلق من أولوية عروبة العراق، حيث شمل تقريباُ كل قوى التيار القومي وقوها الاجتماعية، سواء الملكي أو الجمهوري، التي فقدت مواقعها في السلطة السابقة والمجتمع: كطبقة الاقطاع وفئة الكومبرادور، وكذلك القوى التقليدية بخاصة الارستقراطية منها وتلك، والقوى الدينية وأغلبية رؤساء العشائر، في الريف، بالإضافة إلى بعض ضباط المؤسسة العسكرية من المغامرين البونابرتيين والوصوليين ومن ورثت العوائل العسكرية العثمانية.
وعمل التيار القومي (الملكي) بجد والمؤسسين الأوائل لهذا التيار، في أسقاط التجربة الغنية والثرية في عام 1937، حيث اسقط التيار القومي (الملكي) في منتصف الثلاثينيات بالتحالف مع البريطانيين ونخبة الحكم الملكية، حكومة بكر صدقي (انقلاب 1936)، الذي آبان حكمه ساد الإتجاه العراقوي ذو الشعبية الطاغية في الرأي العام، ولعب النفط دوراً اساسياً في هذا السقوط. إذ كانت حكومة الانقلاب ( 29/10/ 1936- 17/08/1937) متمثلتاً بالوزير كامل الجادرجي الذي كان قد أسند إليه وزارة الأشغال العامة الذي كان: كاشفت شركات النفط العاملة بالعراق بإعادة النظر في الاتفاق المبرمة معها. وقد طالبت المذكرة التي رفعها الوزير إلى الشركات والتي منحت إمتياز أستخراج وتصدير النفط وتحديد أسعاره، في ظروف خاصة لم تراعى فيها منافع العراق.
ولهذا طالبت المذكرة بما كانت الحركة الوطنية تطالب به وبخاصة جماعة الأهالي من : "... تعديلها على الأسس الاتية:
- النظر في مدة الإمتيازات ؛
- مساهمة الحكومة العراقية بأرباح شركتي النفط العراقية وخانقين المحدودتين ؛
- زيادة الحد الأدنى لحصة الحكومة من شركة النفط العراقية وجعله في الأقل 750000 ليرة انكليزية؛
- وضع حد أدنى لحصة الحكومة من شركة نفط خانقين المحدودة وعدم جعل إستخراج النفط وتصديره تابعاً لرغبتها ؛
- توزيع مناطق النفط في العراق بصورة عادلة على أساس جيولوجي ؛
- تخفيض الأسعار المحلية على أساس القاعدة التي تتبعها شركة النفط الانكليزية-الايرانية في إيران؛
- تدريب العراقيين على الاعمال الفنية في الشركات على غرار ما يجري الآن في إيران ؛
- تعديل وضع المدير العراقي في لندن ومعاملته كمندوب حكومة إيران، وتخصيص مكتب له في مركز الشركة العام ليكون على أتصال يومي بالشركة... ".
ويقيم محمد جمال باروت هذا الصراع بين التيارين العراقوي والعروبوي بالقول: "... حقائق سياسية اساسية لن يمل المرء من تكرارها ملخصها أن هناك خطيئة كبرى قد أرتكبت على أرض العراق في فترة معينة، من قوى سياسية يفترض فيها أنها تمتلك الوعي الوطني والقومي والإخلاص وحسن التقدير، مع القدرة على قراءة الواقع وتحليله وإستشراف المستقبل. وبالتالي أن ندرك - ولوكان متأخرين كثيرا- أننا مشينا جميعاً إلى الفخ الذي أعده لنا أعدؤنا بعد أن أغرقنا أنفسنا في الدم الوطني والقومي منذ أواخر الخمسينيات في القرن العشرين وحتى اليوم. ولقد كان الجذر هو ذلك الهوس السياسي والطائفة الطائشة والعداء المجنون الذي تبادلته القوى السياسية المختلفة، وخاصة المعسكرين القومي والشيوعي فكانت محصلة ذلك كله أن تحطمت قوانا كلنا وأوصلنا أنفسنا إلى الهزائم المتابدلة لينتصر أعادؤنا فتحقق لهم الكثير مما ارادوا... ". هذا من جهة.
ومن جهة أخرى "... إن القوى السياسية التي كانت في الساحة من شيوعيين وقوميين وديمقراطيين كانوا يتصارعون صراعاُ دموياً شرساً على شعارات مجردة فقدت آليات تحقيقها ولا يمكن ولا تسمح الظروف والقوى الداخلية والدولية وطبيعة تطور الأوضاع الداخلية بتحقيقها مما اتعب قواها وأفرغها من محتواها الحقيقي وبالتالي أنهى دورها في بناء الدولة وفي تحقيق التنمية، وفي تحقيق الود أو التضامن العربي والأممي وأحرج عبد الكريم قاسم وأظهره بمظهر المتردد البعيد عن الاستراتيجيات الثابتة والمتأثرة بأعوان متباينين حسب اختلاف الظروف والأحوال، اي إن الجهة السياسية التي تكونت في إطار الثورة سنة 1958- لم تكن على المستوى السياسي والشخصي الذي يمكن أن تكون دعماً لعبد الكريم، بل حملاً وعبئاً ثقيلين عليه في تلك الظروف...".
ويكمل عبد اللطيف الشواف فكرته: "...لقد أدى النزاع السياسي الذي اعقب الثورة إلى عواقب على قيادة عبد الكريم قاسم وأدت إلى التضحية بالدراسة والتخطيط العقلاني الضروريين لمصحلة التغييرات المطلوبة ولصالح وضرورات توقيتها وسرعة تنفيذها، كما أثارت الشكوك بها وشجعت التطرف في الشعارات المعبرة عن هذه الخطط والتغييرات... "
ومن جهة ثالثة، وبالعودة على سقوط التجربة التموزية، يحدد د. فالح عبد الجبار الملامح التاريخية لمرحلة الزعيم قاسم بالقول :"... سقوط الجمهورية الأولى في ظل قاسم سنة 1963، مسألة وقت، وكانت سقوطها كارثة تاريخية ثانية سدت طرق المستقبل الموعود بالإصلاح والعودة للحكم المدني التي كان زعيم الثورة يفكر بها. لقد كان حدث 14 تموز 1958، انقلاباً تطور إلى ثورة غيرت بنية الدولة، وقلبت البنية الاجتماعية وفتحت باب صعود الطبقات الوسطى. إلا أنها لم تكمل مسارها الذي انقطع بإنفلات سياسة التآمر العسكري وانقلابات القصور... نهاية الجمهورية كانت بمعنى من المعاني نهاية مسار وسطي سياسي، وبداية تقويض الوطنية العراقية، وتفاقم نزعات العنف السياسي المنظم على مستوى القمة- النخب، أو على مستوى القاعدة – الجماهير، أنها بداية حصر السياسة والمصائر بيد الجندي- السياسي، والتفكيك النهائي للمؤسسات الدستورية والتشريعية، تفكيكاً سيمتد عقوداً ... ".
وكان أكثر المتضررين من انقلاب 8 شباط هم المثقفون وبخاصة العضويين: "... كان في مقدمة هذه الضحايا ممثلو قوى التنوير والحداثة في المجتمع، متمثلة في علماء بارزين، كالعالم عبد الجبار عبد الله رئيس جامعة بغداد والدكتور في الاقتصاد إبراهيم كبه، وأساتذة جامعيين مرموقين وفنانين وشعراء وأدباء وضباط لامعين وجنود وأطباء ومهندسين ومحامين وطلبة وعمال وفلاحين وجمهرة واسعة من النساء العراقيات، حيث كان من أول قرارات الانقلابيين موجهة ضد المرأة العراقية عبر إلغاء قانون الأحوال الشخصية الذي سنته حكومة الثورة... ولعل من أبرز مظاهر الردة في 8 شباط عام 1963 هو تصدّر الأميون مهمة إدارة الدولة في كل مفاصلها، وتحوّل الدولة العراقية إلى دولة بوليسية بل وجمهورية للرعب.
فقبل هذه الردة كان تسلم المسؤولية بشكل عام يعتمد على الكفاءة وليس اصحاب " العضلات" ... حيث استوزر الاقتصادي محمد حديد لوزارة المالية و د. إبراهيم كبه لوزارة الاقتصاد ود. طلعت الشيباني للتخطيط ود. نزيهة الدليمي للبلديات. ولكن بعد الردة أوكلت المسؤولية للأميين ورجال العنف الذين لم يمر إلاّ أيام على انقلابهم حتى بدأوا "يتحاورون" بالمدافع والطيارات والقذائف لينهار حكمهم بعد حين، وليكشف حليفهم عبد السلام عارف جزءاً من جرائمهم في " الكتاب الأسود". ولكن ما أن رجعوا من جديد إلى السلطة في عام 1968 حتى تسلم المسؤولية أميون جدد لا يتمتعون حتى بشهادة الابتدائية. فصار طه الجزراوي وزيراً للصناعة وعزة الدوري رئيساً للمجلس الزراعي الأعلى وعلي حسن المجيد وزيراً للدفاع واخوة صدام أمثال سبعاوي وبرزان ووطبان حيث تقلدوا أعلى المناصب الأمنية، والحبل على الجرار، وهو ما ينطبق عليهم قول شاعرنا النابغة الجواهري في سخريته من أصحاب " العضلات".
إن هذه الأميّة في تسلم المسؤولية تحوّلت إلى ممارسة ما زالت تنخر في جسد الدولة العراقية. فبعد التغيير الأخير (2003)، تدافع الأمّيون من كل الأصناف وبلباس جديد للسطو على مقاليد الأمور، فتسلم وزارة الثقافة على هدى المحاصصة المشينة من كان يدير عصابات للقتل والغدر والذي هرب إلى الخارج بعد افتضاح أمره. وتقدم الآن حوالي 100 شخص للمشاركة في الانتخابات القادمة بين من زوّر شهادات لا يستحقها، أو من ظهر أنه في عداد المحكومين بجناية ... ". علاوة على "... الانحطاط الثقافي هو الحاضنة الفعلية للتطرف والغلو. والقضية هنا ليست فقط في أنه يمد الوعي السطحي بكل الصيغ والرموز السهلة للهضم السريع للعوام، بل ولما فيه من «طاقة» على شحذ أوهام الحثالة الاجتماعية وأنصاف المتعلمين بروح العنف والتخريب. وفي هذا يكمن سر القدرة الفائقة والاستعداد الأكبر من جانب السلفيات الإسلامية المعاصرة على ابتذال قيم الاعتدال العقلانية. ويكشف هذا الابتذال عن ضعف الثقافة العقلانية واضمحلال أو غياب الذهنية النقدية، أي كل ما تشترك به وتتسابق الأنظمة السياسية العربية والأصوليات الإسلامية المتطرفة. ومن فعل هذين المصدرين تتراكم قيم الحنبليات الجديدة بوصفها التجسيد العملي لجنون «الإرهاب المقدس». وهو جنون اتخذ صفة «العالمية» بحيث تحول إلى مصدر ما يسمى «بالإرهاب العالمي... ".
وبصورة عامة نخلص إن التغيير الجذري (ثورة 14 تموز) قد نقلت الاوضاع الاجتصادية والفكرية والسياسية من مرحلة إلى آخرى أكثر ملائمة للعصر الحديث ووضعت العراق على سكة الحداثة والتطور. ومن الناحية العددية فأغلبية سكان العراق، هم من المؤيدين للتوجه العراقوي القائم على الهوية الوطنية الموحدة، كما أثبتت كل الظواهر السياسية والفكرية والاجتماعية لعراق تلك المرحلة، مع الأخذ بنظر الإعتبار إلى الانتماء العربي الأرحب. سواء اكانوا من القومية العربية أو الكردية أو التركمانية أو باقي الاثنيات؛ ومن الأديان المسلمة أو المسيحية أو الصابئة المندائيين أوالأيزديين.
الهوامش:
- د. محمد الدليمي، كامل الجادرجي ودوره في السياسة العراقية، ص. 81- 82، المؤسسة العربية، بيروت 1999.
- محمد جمال باروت، حركة القوميين العرب: النشأة- التطور-المصائر، صص. 265 – 293، المركز العربي للدراسات الاستراتيجية، دمشق 1997.
-عبد اللطيف الشواف، عبد الكريم قاسم وآخرون، ص.134، مصدر سابق.
-د. فالح عبد الجبار، كتاب الدولة، ص.130-131، مصدر سابق .
- عادل حبه، في ذكرى 8 شباط، منشور على صفحته في الفيسبوك.
-د. ميثم الجنابي، الإرهاب الإسلامي السلفي وتحطيم العدل والاعتدال، الحوارالتمدن، في 14/7/2020.