آفة التخلف السياسي


فؤاد النمري
2021 / 9 / 26 - 20:39     

كشف حوار نقيب اليساريين رزكار عقراوي حول اليسار ومبادئه المزعومة عن آفة التخلف السياسي التي يرتع فيها المتسيّسون العرب وتستلب منهم الوعي بحركة التاريخ المستقلة نسبياً عن إرادة الشعوب وهو ما سيودي بالتالي بالشعوب العربية إلى الضياع والتهلكة . نحن نتحدث هنا عن كافة المتسيّسين العرب ومنهم محاورو رزكار حول الأسس الفكرية لليسار، ولا أعتقد أن المتسيّسين من غير العرب هم أفضل حالاً .
ثلاثمائة محاوراً حاوروا السيد عقراوي بخصوص مبادئ اليسار المزعومة، وعدمت أحدا منهم يفهم ما يتحدث فيه أو حتى يمتلك اللغة السياسية والتي بغيرها يغدو الكلام هذراً بذراً .
السياسة علم له مبادؤه الحديّة الصارمة التي لا شأن لها بالمعتقدات الرغبوية “Wishful thoughts” كما تجلت سياسات كافة المحاورين .
علم السياسة يبحث في النظام الدولي العامل في العالم والتناقض الرئيسي فيه الذي يدفع بالنظام الدولي على طريق التطور والذي منه تحديداً تنبثق كل المشاريع الوطنية والبنى الإجتماعية بغض النظر عن نزوعاتها الطبقية .

ثورة أكتوبر البئلشفية بقيادة لينين وستالين استطاعت نقل العالم بتناقضاته الرئيسة الثلاث، التي حددها لينين، إلى مسار سياسي جديد يتحدد بمجرى الثورة الإشتراكية العالمية ؛ ذلك ما ثبت بانتصار البلاشفة في الحرب الأهلية وفي حروب التدخل حيث ألحق البلاشفة هزيمة مجلجلة بجيوش العالم الرأسمالي بأجمعه، تسعة عشر جيشاً مجهزة بأحدث التجهيرات في حين لم يمتلك البلاشفة آنذاك جيشاً منظماً ولا حتى خبزاً يطعمهم .
بعد إنتهاء ثمان سنوات من حروب مدمرة كانت شعوب الإتحاد السوفياتي "تبيت على الطوى" بكلمات لينين في العام 1922، وأثبتت الأحداث أن الإتحاد اتلسوفياتي في العام 41 بداية الحرب الوطنية في مواجهة النازية أنه كان أقوى دولة في الأرض . طيلة الحرب العالمية الثانية التي امتدت لست سنوات (1939 – 45) ظلت الدول الرأسمالية الكبرى الثلاث، بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا منصرفة إلى مواجهة إيطاليا على شواطئ المتوسط التي لم تمتلك أكثر من 30 فرقة عسكرية سيئة التدريب والتسليح وتركت الإتحاد السوفياتي وحيداً يواجه 180 فرقة نازية في قمة التدريب والتسليح . المجهودات الحربية التي جهدها الإتحاد السوفياتي تزيد على خمسة أمثال الجهود التي جهدتها الدول الغربية الكبرى الثلاث مجتمعة، ولولا الإتحاد السوفياتي لانتهت هذه الدول الثلاث قبل نهاية الحرب في العام 45 – كان تروتسكي قد كتب في مجلة بوست ديسباتش (Post Despatch) الأميركية في عدديها ليناير ومارس 1940 أن هتلر يستطيع احتلال الاتحاد السوفياتي خلال اسبوعين فقط والإتحاد السوفياتي مارد لكن ساقيه من فخار . ذلك ما أغوى هتلر إلى انتهاك اتفاقية عدم الإعتداء والهجوم المباغت على الإتحاد السوفياتي في الساعة الأولى من صياح 22 يونيو 41 .
الدمار الذي لحق بالإتحاد السوفياتي من الحرب يزيد على عشرين ضعفاً مما لحق بفرنسا وبريطانيا ومع ذلك أنجز الإتحاد السوفياتي إعادة الإعمارفي فترة قياسية هي خمس سنوات (1946 – 51) بينما بريطانيا وفرنسا لم تستكملا إعادة الإعمار خلال عشر سنوات .
نحن هَهُنا نقرأ التاريخ كما هو كي نؤكد أن البلاشفة تمكنوا من نقل العالم إلى مسار جديد مخنلف هو مسار الثورة الإشتراكية .

غير أن الحرب العالمية الثانية بكل أهوالها وفظائع النازية حتى وصل الأمر بهتلر لأن يطالب قادة الغزاة الفاشست أنه يريد أرض روسيا بلا شعبها، تركت آثاراً عميقة في المجتمع السوفياتي ليس بوسع أحد تجاهلها . دولة دكتاتورية البروليتاريا الإشتراكية السوفياتية في العام 1938 انقلبت إلى دولة حرب القوى الأولى فيها للعسكر وليس للبروليتاريا . نهض ستالين بمفرده في العام 52 يستعيد الإشتراكية دون الحزب الذي بات حزباً مغككاً نتيجة تعطيل الصراع الطبقي طيلة فترة الإستعداد للحرب والحرب وإعادة الإعمار التي امتدت لأربعة عشر عاماً، بل إن ستالين في الندوة اليتيمة التي عقدها الحزب في العام 51 رفض رفضاً قاطعاً إحياء الصراع الطبقي من جديد لما لذلك من خطورة على مستقبل الثورة حيث كان الماركسي الوحيد الذي أدرك بنظرته الشمولية الثاقية أن ميزان القوى في دولة الحرب السوفياتية في العام 51 لم يكن لصالح البروليتاريا .
لا تخامرنا أدنى شكوك في أن ستالين كان قادراً بمفرده أن يستعيد الإشتراكية إلى الإتحاد السوفياتي وحجتنا لذلك ليست هي السياسات الجديدة فقط والتي طرحها ستالين على المؤتمر التاسع عشر للحزب في أكتوبر 52 ومنها الخطة الخمسية التي لو لم تلغَ حال إغتيال ستالين لكان عالم اليوم في سلام وديموقراطية لا تشوبهما شائبة كما تنبأ الرئيس الأميركي الأعظم فرانكلن روزفلت ؛ ليس هذا وحسب بل لأن ستالين كان قادراً، كما كتبت الموسوعة البريطانية، على تشكيل قوة خلفه لم يعرف مثلها التاريخ .
لكن ستالين أغتيل في الأول من مارس 53، إغتاله رفاقه في المكتب السياسي لأنه كان يبغي إحالة جميعهم بمن في ذلك ستالين نفسه على التقاعد . وحالما لفظ ستالين أنفاسه الأخيرة آلت كل السلطة للجيش وتحول الحزب بقيادة خروشتشوف إلى كراكوز يحركه الجيش بخيوط من وراء الستار . طبعاً الجيش أبقى على دولة الحرب في الإتحاد السوفياتي مكرساً كل قوى الإنتاج فيه لصنع الأسلحة وهو ما كانت تؤكده وزارة الخارجية الأميركية كل عام في تقريرها السنوي الخاص بالموضوع . دولة الحرب السوفياتية هي التي فرضت سباق التسلح على الولايات المتحدة وليس العكس كما هو شائع بين العامة، علماً بأن النظام الرأسمالي لا يسمح لأميركا بمسابقة دولة الحرب السوفياتية بالتسلح .

القضية ذات الأهمية القصوى والحدية في هذا السياق هي أن مختلف الإقتصاديين والمحللين السياسيين يتجاهلون أن أشتات البورجوازية الوضيعة السوفياتية تمكنت عام 53 من تعطيل مجرى الثورة الاشتراكية العالمية لكنها بالمقابل لم تمتلك الإقتصاد البديل، ولا السياسات البديلة، لم تمتلك أي نظام للإنتاج ؛ كل ما كان بإمكانها القيام به هو الإحتفاظ بدولة الحرب السوفياتية (1939 – 52) كما هي . ما زالت روسيا وريثة الإتحاد السوفياتي دولة حرب إنتاجها للأسلحة قد يصل إلى 80% من مجمل إنتاجها العام . بعد سنتين من تدخلها في سوريا أعلن وزير الدفاع أن روسيا جربت 200 سلاحاً جديداً في حربها على الشعب السوري . منذ العام 1939 والإتحاد السوفياتي ليس إلا مصنعاً للأسلحة ولم ترث روسيا منه غير صناعة الأسلحة . صناعة الأسلحة لا يمكن أن توصل لبناء نظام إنتاج رأسمالي كما يعتقد كثيرون ممّن ينتقدون الاشتراكية السوفياتية .

لمّا كانت الثورة الإشتراكية البولشفية قد نقلت العالم إلى مسار جديد هو مسار الثورة الإشتراكية العالمية، ولما كانت أشتات البورجوازية الوضيعة السوفياتية وفي طايعتها شت القوات المسلحة قد تمكنت من تعطيل مجرى الثورة بعد اغتيال ستالين في العام 53 فكان من الطبيعي بغياب طبقات الإنتاج الكلاسيكية أن تقفز البورجوازية الوضيعة في مختلف بلدان العالم إلى دست الحكم . ولما كانت مختلف أشتات البورجوازية الوشعة لا تمتلك وسيلة للإنتاج باستثناء الفلاحين، فكانت النتيجة وقد استقلت البورجوازية الوضيعة بقيادة مختلف المجتمعات أن لم يبقَ للعالم سوى الوقوع فريسة لفوضى الإنتاج وهي أصلاً فوضى الهروب من استحقاق الإشتراكية بدءاً بهروب البورجوازية الوضيعة السوفياتية من العودة للإشتراكية في العام 53.

الحقيقة الصادمة والتي لا يصطدم بها مختلف أشتات البورجوازية الوضيعة من شيوعيين سابقاَ ويساريين وليبراليين وقوميين ومتأسلمين هي استفحال تخلف الفكر السياسي منذ أن توقّف مجرى الثورة الإشتراكية العالمية في خمسينيات القرن الماضي وحنى اليوم وهو ما يثير الاستغراب حقاً بأن يستفحل تخلف الفكر السياسيي في ذات الوقت حيث تتقدم العلوم بمختلف الحقول وخاصة في المعلوماتية والتقنيات الرفيعة . فما عساه يكون الرحم الذي تخلّقت فيه مثل هذه الحقيقة الغريبة الصادمة !؟

في البيان الشيوعي 1848 أدان ماركس البورجوازية الوضيعة كقوى رجعية حتى وهي تناضل ضد النظام الرأسمالي، وفي "نقد برنامج غوتا" 1875 نسب ماركس البورجوازية الوضيعة إلى تكتل القوى الرجعية . وفي العام 1922 وصف لينين البورجوازية الوضيعة بالعدو الرئيسي للإشتراكية في الإتحاد السوفياتي . ماركس ولينين أكدا الدور الرجعي للبورجوازية الوضيعة بناءً على تقسيم العمل فالبورجوازية الوضيعة لا تنتج بل تعمل في خدمة الإنتاج، لكنهما لم يعاشياها طويلاً كي يتعرفا على انحطاطها الأخلاقي والإجتماعي .
البورجوازية الوضيعة التي عانت من تهميش متزايد في ظل دولة دكتاتورية البروليتاريا (1917 – 1939) فقدت كل خصيصة إنسانية وباتت في الدرك الأسفل من الإنحطاط الحضاري ؛ مثالها السلطات الروسية الجاكمة اليوم التي حولت الدولة السوفياتية الأعظم إلى دولة من العالم الثالث تنشط في محاور الرجعية المنغلقة السوداء، علماً بأن خروشتشوف ليس أقل انحطاطاً من بوريس يلتسن الذي باع أهم مراكز الأمن السرية السوفياتية للمخابرات الأميركية .

البورجوازية الوضيعة الموسومة بالمخاتلة وابتداع الحيل والأكاذيب أنكرت انها قامت بانقلاب على الإشتراكية حال اغتيال ستالين وهي تدرك تعلق الشعوب السوفياتية بالنظام الإشتراكي والدفاع عنه ؛ تلك الحيلة القذرة لم تفت على الشيوعيين وحسب بل فاتت أيضاً على قوى الشر الرأسمالية فلم يصدق هؤلاء وأولئك أن الإشتراكبة لم تعد قائمة في الإتحاد السوفياتي منذ أن قررت اللجنة المركزبة للحزب في اجتماعها المنعقد في سبتمبر 53 قرارها غير الشرعي بإلغاء مقررات مؤتمر الحزب العام التاسع عشر في أكتوبر 52، لا بل منذ العام 39 حين أقر مؤتمر الحزب الثامن عشر تحويل الإتحاد السوفياتي الإشتراكي إلى دولة حرب – غبر اشتراكبة بالطبع .
السياسة العامة التي انتهجها خروشتشوف وعصابته في قيادة الحزب منذ العام 54 تركزت في ملاقاة فلول الإمبريالية في منتصف الطريق، ذلك ما قاله بريجينيف في مؤتمر هلسنكي في العام 75 مخاطباً رؤساء الدول الإمبرالية الكلاسيكية دون حياء أو خجل .. "دعونا نتقابل في منصف الطريق فلا يخسر إحدانا" – وهكذا باتت القيادة السوفاتية تعمل على الحفاظ على مصالح الإمبريالية.. ذلك لم يفاجئنا فقد كنا أكدنا ذلك لقيادة الحزب الشيوعي الأردني في العام 1965، بل ما هو حقيق بالإستهجان هو أن الأحزاب الشيوعية ظلت تعتبر القيادة السوفياتية هي القيادة العليا للثورة الإشتراكية العالمية !!!

الإنتصار التاريخي الذي حققه الشيوعيون البلاشفة في الحرب العالمية الثانية سمح لقوى التحرر الوطني في العالم لأن تنهض وتقضي على مختلف أشكال الإمبريالية في العام 1972 وهو ما أدى لانهيار النظام الرأسمالي في العالم ودفع بقادة الدول الرأسمالية الخمس الكبرى، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان، للإجتماع على مستوى القمة في رامبوييه/ باريس (G 5) لأول مرة في نوفمبر 75 ليقرروا العبث بقانون القيمة (Value Law) وأن القيمة تتأصل في نقودهم الصعبة وليس في البضاعة التي لم يعد بإمكانهم إنتاجها نظراً لفقدانهم الأسواق الخارجية ؛ وأعلنت الدول الخمسة تضامنها في الحفاظ على أسعار صرف عملاتها، وأعطت أوامر للجنة المؤقتة لصندوق النقد الدولي المقرر إجتماعها في يناير 76 في جمايكا بإلغاء شرط غطاء النقود بالذهب الذي فحواه أن النقود لا تستمد قيمتها من البضاعة . تلك حماقة لن تمحوها صروف الزمان ؛ وما من تفسير لها غير انهيار النظام الرأسمالي ذي القناة الوحيدة وهي إنتاج البضاعة (نقد – بضاعة – نقد) .

بات العالم في الربع الأخير من القرن العشرين وحتى اليوم على الأقل لا يعرف النظام الدولي الذي يرسم تطوره وبذلك يكون قد فقد أول شروط الفكر السياسي وهو محاكاة النظام الدولي الماثل .
بناء عليه فأولى أوراق إعتماد المفكر السياسي هي التعرف على النظام الدولي الماثل ؛ وأي كلام خلاف ذلك فإنما هو هذر بذر .
مختلف أشتات السياسيين اليوم ينكرون هذه الحقيقة التي تتحدى صدقيتهم .
كل سياسي لا يواجه هذه الحقيقة الصادمة عليه أن يبلع لسانه ويخرس .