لا التاريخ انتهى ولا الجغرافيا


حسن مدن
2021 / 9 / 26 - 14:57     

أردنا من عبارة "نهاية الجغرافيا" أن تكون تنويعاً على مفهوم "نهاية التاريخ" لصاحبه فرانسيس فوكاياما، وهو المفهوم الذي مات وهو لما يزل في مهده، فقد أراده فوكاياما تبشيراً بالنصر المبين لليبرالية الغربية، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ونهاية ما عرف يومها ب"الحرب الباردة"، حيث جرى الترويج لسقوط "الشموليات"، كأن الشمولية سمة لكل ما هو شرقي فقط، حتى لو كان هذا الشرق في أوروبا نفسها، والتغاضي عن شمولية أشد فتكاً ومكراً في الغرب الليبرالي المأخوذ بنفسه زهواً وغروراً.

كان بطل رواية "أوراق إسكندرية" لجميل عطية إبراهيم الذي اختار له الكاتب اسماً مركبا لافتاً: «عجيب كفافي»، كأنه مستوحى من اسم شاعر الإسكندرية القديم وعاشقها كفافيس، يقول إنه "يعشق التاريخ ويكره الجغرافيا". ولا نحسبه الوحيد الذي يسكنه هذا الشعور، فلعل الكثيرين منا يجدون في التاريخ تشويقاً أكبر من الجغرافيا، التي تبدو لهم مادة جافة، وفي هذا الحكم شيئاً من التسرع.

صاحب عقل نادر هو المفكر الراحل جمال حمدان لخّص العلاقة بين الجغرافيا والتاريخ في عبارة بليغة، لا نحسب أن أحداً سبقه إليها، حين قال: "الجغرافيا تاريخ ساكن، والتاريخ جغرافيا متحركة"، وبذا وضعهما في تلازم، أو حتى في اتحاد، حيث لا سبيل لقراءة التاريخ من دون معرفة الجغرافيا، ولا سبيل لتتبع مسار الجغرافيا، من دون معرفة التاريخ، فما بالنا إذا كانت هي نفسها تاريخاً، حتى ولو كان ساكناً؟

ربما لم يجر الحديث صراحة عن "نهاية الجغرافيا" بالوضوح والصراحة اللتين بهما تحدث فوكاياما عن «نهاية التاريخ»، لكن قيلت أقوال تعطي المعنى نفسه عبر تداول مفهوم "القرية الكونية" الذي كان الكندي مارشال ماكلوهان أول من اجترحه قبل عقود، متحدثاً عن أثر ثورة الاتصالات لا في تقريب المسافات بين أطراف العالم فقط، وإنما في إلغائها تماماً.

لم يقل ماكلوهان إن تضاريس الجغرافيا زالت، لكنه أوشك على قول ذلك، من زاوية أنه لم تعد لها من أهمية تذكر في عالم يفترض فيه أن يتآخى البشر ويتحابّوا، وكم نتمنى لو أن ذلك يتمّ حقيقة، ولكن الواقع الزاهي في العالم الافتراضي ليس زاهياً في العالم الواقعي، فهل من دليل أبلغ على أن مجموعة مستوطنين آتية من ديار بعيدة تريد إزاحة ما تبقى من عرب في حي الشيخ جراح المقدسي، ومصادرة آخر من تبقى من بيوت للعرب في المدينة؟

إنه ليس صراعاً حول أحقية التاريخ وحده، وإنما أحقية الجغرافيا أيضاً، وكما أن التاريخ لم ينته كما أراد فوكاياما، وصحبه، فإن الجغرافيا أيضاً لم، ولن تنته.