أليس بالإمكان أبدع مما كان ؟-!


سعيد مضيه
2021 / 9 / 25 - 12:39     

التفكير الإبداعي والتصرف الاستثنائي

استقبل الملايين في أرجاء المعمورة بالابتهاج وبترحيب التقدير الرفيع نجاح الأسرى الفلسطينيين، إذ مارسوا بإقدام وشجاعة حقهم في تأكيد حريتهم، والإفلات من سجن جلبوع الرهيب. والشعوب بطبيعتها تمجد قيم الغيرة الوطنية مقرونة بالشجاعة والإقدام والتضحية ، كما تقيم في الشخصية سجايا المروءة والصبر وقوة الاحتمال والارتقاء الى الاهتمام بالصالح العام، وتعدها مجازا قيم الرجولة ، مع أن النساء قد يتحلين بهذه السجايا . وقد تغنى الشاعر الفلسطيني الراحل، مريد البرغوثي بالأم التي تكرس كل يوم خميس لزيارة أحد خمسة أبناء مأسورين كل داخل سجن إسرائيلي؛ ومنذ أكثر من قرن تمجدت الأم في رواية مكسيم غوركي ، شاركت ابنها في النضال الطبقي ضد الاضطهاد والاستغلال الرأسماليين. ومع كل جيل بعد الحرب العالمية الثانية يستقر على قوائم الشرف ثورات أطاحت بأنظمة كولنيالية او أنظمة استبدادية فاسدة؛ ويثري الأدباء والفنانون القيم الإنسانية بإبداعاتهم التي ترصد أشواق الحرية وتطلعات العدالة الاجتماعية.
إسرائيل تحجز حرية المواطنين الفلسطينيين بدون وجه حق، تمارس بذلك إرهاب دولة بهدف الترويع وفرض الإذعان لإجراءات وممارسات كولنيالية قرصنية وإحلالية. وحيث مارس المقاومون الستة الحق في انتزاع الحرية، فقد شحنوا بجرأة عمليتهم الوجدان الجمعي بطاقة دفع قوية للتضامن مع قضية الأسرى والقضية الفلسطينية .
خلال الأيام الخمسة التالية للعملية ساد الحبور والأمل في تحرر الأسرى البواسل. ثم ساد الأسى وخيبات الأمل لما أفلحت إسرائيل في القبض عليهم. يا فرحة ما تمت ! العملية الجسورة لم تكتمل مأثرتها ؛ عوضت الدعايات الفشل بترويج بدوات رومنسية تغنت بالملعقة وبالنفق وبقطف الصبر والاستمتاع بضوء الشمس ورحابة الطبيعة. لا يقبل العقل السليم ان عملية نضالية جريئة متحدية تكون نهايتها الطبيعية أسر أبطالها وتعريضهم للتعذيب والإهانة. ولا يتطور النضال بدون نقد ذاتي ومراجعة نقدية تلتقط الأخطاء وثغرات التنظيم والإعداد والتنفيذ.
ممارسة الفعل مقرونا بالإقدام والتضحية وتوفير عوامل إنجاز الغاية المستهدفة تنطوي مجتمعة على دعاية نافذة واسعة الانتشار للقضايا؛ باتت الدعاية جزءً عضويا من الفعل، والفعل المظفر دعاية من تلقاء ذاته؛ والقضايا العادلة تروج لها الابداعات الاستثنائية والإٌقدام وشجاعة التنفيذة وصداميته واستيفاء شروط الانتصار. أسلوب تفكير إبداعي يفضي إلى تصرف بطريقة مغايرة، او تصرف استثنائي يسفران عن مأثرة نجاح تستقطب التعاطف والتضامن، بما يعجز دونه الاستجداء والتظلم للهيئات الدولية. وما اكثر تجارب العصر الحديث الدالة في سياق التفكير الإبداعي والعمل بطريقة مغايرة للمألوف !
بعد شهور قليلة ووجه الجيش المغرور ب"نصر" حزيران 1967بمقاومة باسلة بجانب قوات من الجيش الأردني جلبت للمقاومة الفلسطينية تأييد شعوب المنطقة وباتت الأنظمة تتزلف لها للتغطية على تخاذلها. كشف التصدي الباسل في معركة الكرامة عن خواء الجيش الإسرائيلي تخفّي خلف الضربة المباغتة؛ كما تصاعد التأييد والحشد الشعبيين مع المقاومة الفلسطينية المسلحة .
على قوائم الشرف بعد الحرب العالمية الثانية، وبفضل التفكير الإبداعي والفعل الاستثنائي، استقرت ديان بيان فو والجنرال جياب بين يديه ركع جنرال الكولنيالية الامبريالية الفرنسية صاغرا مستسلما ؛ واستقرت كوبا وكاسترو، وجيفارا والثورة الجزائرية وجميلة بوحيردبجانب منا ضلين بواسل آخرين، كم حفرت لنفسها مكانا على قائمة الشرف ثورة فيتنام التي أجبرت الامبريالية الأميركية على تجرع مرارة الهزيمة المذلة والهرب السريع بالهيليوكبتر من سطح السفارة . في وقفات العز تجلت قدرات وإمكانات النضال من أجل الحرية والعدالة المنتصرة للحقيقة حين تستكمل العدة: التفكير الإبداعي والعمل بأسلوب استثنائي.
المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي ثم ضد العدوان الهمجي عام 2006 مزق الأقنعة عن خواء "الجيش الذي لايقهر" وأشهر إسرائيل امام العالم قوة عدوان . مقاومة من طراز جديد!
قد تنجح قوى العدوان في تضليل الشعوب ، إذ تسوق مبررات مستغلة واقعا مواتيا . إسرائيل واظبت على ادعاء دور الضحية ، حتى وهي تمارس العدوان والبطش الدمويين. بالكيد واستغلال اخطاء الخصم أفلحت إسرائيل في التمظهر بالدفاع عن النفس في حرب التطهير العرقي 1947-49، ثم حين شنت عدوانها في حزيران 1967، جولتين حسمت بهما إسرائيل نهجها الاقتلاعي. فحسب تقديرات جيف هالبر ، الشخصية الأكاديمية المناهضة للكولنيالية الإسرائيلية، لولا الاحتلال لبقيت إسرائيل دولة مثل نيوزيلندا تعتمد على السياحة. فالى جانب التوسع الاستيطاني والتهويد حولت الاحتلال الى بيزنيس- خبرات قمع الحراك الشعبي عبر التصدي بقوة السلاح وبالأجهزة الأمنية للمراقبة والتجسس والتصنت . باتت إسرائيل تصدر بمليارات الدولارات خبرات وتقاني قمع الحركات الشعبية لدول الاستبداد والسياسات اليمينية، وتعزز معها علاقات تعاون وتبادل منافع.
بعد ان تحقق لإسرائيل السيطرة المتوخاة من عدوان حزيران اعترف ميناحيم بيغن ، ألوزير في حكومة العدوان ، والجنرالات رابين قائد الأركان ، وعيزرا فايتسمان نائبه ومتتياهو بيلد عضو هيئة الأركان بعدم تعرض إسرائيل لمخاطر عدوان. بصراحة قال بيلد ان الخطر الداهم بدعة اخترعناها . ذلك انه تاكد لديهم من رصد حجم وترتيب الجيش المصري في سيناء عدم نية مصر الإقدام على حرب، رغم التهديدات الفجة بالحرب وإبادة إسرائيل. إلا أن النية بالعدوان وسيلة لإنجاز المشروع الصهيوني بالاستحواذ على فلسطين كاملة، كانت مبيتة لدى إسرائيل والولايات المتحدة لفرض واقع جديد على المنطقة ضمن استراتيجية الهيمنة ومنع تحرر الشعوب العربية؛ باتت الدعاية جزءًا من العمليات الحربية، وبات الإعلام يؤدي دور الفرق العسكرية . وتحتفظ إسرائيل في الوقت الراهن ببرامج دعاية إليكترونية تبثها متزامنة مع عملياتها العدوانية.
بعدوانها أظهرت إسرائيل كفاءتها في أداء دورها الوظيفي، وارتفعت قيمتها لدى الدوائر الامبريالية . بالفعل غدت إسرائيل دولة امبريالية، اندمجت عضويا مع الامبراطورية العالمية للرأسمال الاحتكاري. مجلات وصحف ومنابر إعلامية لم تكن حتى ذلك الحين تعير الصهيونية الاهتمام، منها على سبيل المثال نيويورك تايمز، بدلت مواقفها بعد حزيران وباتت تحرض على التحالف الاستراتيجي معها وإمدادها بالمساعدات العسكرية والمالية. أسفر عدوان حزيران المظفر عن اتساع نفوذ تيار المسيحية الأصولية داخل الولايات المتحدة، وبرزت منظمات " مسيحيون من أجل إسرائيل"، وأشيع الإيمان بمقولات لاهوت ما قبل الألفية، وأبرزها وجوب دعم دولة إسرائيل وتوسيع سيطرتها على كامل فلسطين التاريخية، وبناء الهيكل الثالث كمقدمة لعودة المسيح .
وفي المنطقة أظهرت إسرائيل التصميم على ضم الضفة والقطاع وراحت تشجع بناء المستوطنات ، بعضها بذرائع دينية واخرى بذرائع أمنية . ونجحت مكائد الامبريالية في المنطقة بإحداث تحولات جذرية وتداعيات ضد الديمقراطية والتنمية والتضامن القومي، عززت السيطرة الامبريالية على المنطقة. اطلقت أيدي إسرائيل في كامل فلسطين .
بدينامية لا تكل طورت إسرائيل باستمرار قدراتها وكفاءتها وخبراتها وعبأت بالكراهية العرقية وبالفاشية قواعدها الاجتماعية، وعززت علاقاتها الدولية؛ بينما فصائل المقاومة الفلسطينية قصرت التطوير على القدرات العسكرية فقط، وغفلت عن بقية المهام.
تنظر الفصائل الفلسطينية كافة الى النكسات والضربات وفشل المهمات والانقسامات قدرا لا راد له؛ وبهذا تطَمْئن الذات وتخدر اليقظة وتترك الأمور على علاتها. هنا نعود الى مثال القبض على المناضلين الستة؛ خلال الأيام الخمسة الأولى ساد الاعتقاد أنهم في حرز حريز ، أو على الأقل هذا ما فهم من تصريحات قادة الجهاد الإسلامي. ركزت الدعاية خلال الأيام الخمسة الأولى بعد الإفلات على ان أبطال العملية خرجوا ليبقوا احرارا. ولدى اعتقالهم تقبلت الدعاية الأمر وصمتت عن نواقص العملية. اعتبر الموضوع منتهيا وحققت عمليتهم ألغرض؛ كأنّ السجناء خرجوا لكي يعودوا!
تهاونت المنظمات السياسية كافة لحد كبير في الحشد الشعبي والتوعية والتنظيم، ما أضعف نفوذها في الأوساط الشعبية. والتجارب أثبتت أن الصدام المسلح ينجح بقدر رفده بالتأييد الشعبي. والأصح القول ان الكفاح المسلح ينجح في تحقيق التحرر والتقدم حين يكون تتويجا لحراك شعبي يتصاعد بحيث يتغذى به الكفاح المسلح ويغذي النهوض الشعبي . لا تمارس الفصائل الفلسطينية الحشد والتعبئة والتوعية للجماهير ، وتحجم عن ممارسة النقد والنقد الذاتي ، ورغم الانكسارات والأزمات لم يمارس فصيل مسلح او حزب سياسي فلسطيني المراجعة النقدية تترصد عوامل الوهن والتشرذم وثغرات التنظيم المخلة بالضبط ووحدة الإرادة واليقظة، والتي عبرها يسرب العدو عملاءه .
التقليد البائس بتجنب النقد الذاتي لا يعترف بأخطاء أو مجرد نواقص حالت دون إنجاح العملية بالكامل. اما من ثغرات واكبت الإعداد للعملية وأثناء التنفيذ؟ في كل عملية حتى الناجحة يجري مراجعة نقدية وتقييم دقيق للأدوار وتنفيذ المهام. نجد إسرائيل تشكل لجنة تبحث عملية النفق، رغم انها نجحت في اعتقال أبطالها. كل تجربة نضالية تفتح الأعين على سلبيات يتم تلافيها. العمل اختبار للنظرية وللفكر وللتنظيم، عبره وبالنقد يجري تطوير الخبرة وإغناء الفكر .
ماذا لو كان ثمة اتصال بين القيادة والسجناء بواسطةِ شخصية مدربة ومؤتمنة؟ خلال تسعة شهور من الجهد الشاق والمصصم كيف لم يتم إبلاغ القيادة بالمشروع من اجل التفكير المشترك والتنسيق لضمان الخروج الآمن واعداد الملاذات الآمنة؟ ماذا لو جرى تفعيل الخلايا النائمة –إن وجدت- كي تجهز الوسائل وترعى وتؤمن الضروريات؟
هذا مجرد رؤية اولية لم تطلع على تفاصيل العملية ومعطياتها. ربما يتوصل التقصي والتحري والتدقيق الى ما هو اهم ؛ غير ان النقد والنقد الذاتي والمراجعة النقدية نواقص جوهرية في العمل الفلسطيني يتوجب تلافيها في أي تجربة نضالية.