عن العلاقة بين التنمية والديمقراطية


فهد المضحكي
2021 / 9 / 25 - 10:45     

من المفارقات الأساسية في الفكر العربي المعاصر، إن المفاهيم الكبرى التي تتكرر في الغرب تجد صدى لها على امتداد الوطن العربي. لكن السياسيين الباحثين العرب، وهم أكثر من يستخدمها يوميا لم يتفقوا على مضمونها او على نوع العلاقة في ما بينها. لذلك، كما كتب الاكاديمي اللبناني مسعود ضاهر، تتكرر مقولات الحكم الديمقراطي، ومجتمع المعرفة، والتنمية المستدامة وغيرها، في كثير من الخطب السياسية بالدراسات والتقارير العلمية العربية، دون تحديد ركائزها او كيفية تطبيقها في مجتمعات متباينة من حيث النمو وكثافة التوظيف المالي في الطاقات البشرية والمشاريع الاقتصادية، وغيرها. كثيرًا ما يتخذ بعض المظاهر العادية طابع التبجيل بممارسة الديقراطية واحترام حقوق الإنسان، وتوظف جميعها إعلاميًا للدلالة على نيل المواطن العربي حقوقه كاملة. لكن المسألة من وجهة نظر الباحث أبعد من ذلك بكثير، فمجتمع المعرفة نتاج عقود طويلة متواصلة من التوظيف الدائم لبناء الإنسان الحر، والمثقف الممتلك للعلوم العصرية والتكنولوجيا المتطورة. التنمية المستدامة هي نتاج مناخ الحرية ومجتمع المعرفة، والاستفادة القصوى من القوى البشرية والطاقات المادية، والتخطيط الدائم لمواجهة المشكلات في الداخل، والأزمات الوافدة من الخارج. في هذا السياق يتشكل النظام الديمقراطي، الذي يطبق القوانين، ويضمن الحريات، ويراقب عمل المؤسسات لتنفيذ حكم القانون، ويحترم مبدأ فصل السلطات، ومبدأ تداول السلطة.

النظام الديمقراطي وحده يتيح للشعب أن ينتخب ممثليه بحرية تامة، استنادًا إلى قانون انتخاب عصري وعادل، ويفرض رقابة صارمة تمنع سلطة المال والزعامة الطائفية أو القبيلة، من استغلال النفوذ والرشوة للتأثير على الإنتخابات. أوصت مؤتمرات الأمم المتحدة في مجال التنمية المستدامة مرارًا، بضرورة وضع إستراتيجية عالمية جديدة للتنمية المستدامة، وبمشاركة فاعلة من المؤسسات الحكومية والبيئية، واحترام الخيارات المستقلة لشعوبها في مجال التنمية الملائمة لها، وبناء شراكة كونية عادلة، وإيلاء اهتمام خاص بتنشيط اقتصاد الدول النامية. تدرس التنمية المستدامة في المرحلة الراهنة ضمن محورين، هما: الاقتصاد الأخضر، والإطار الديمقراطي له.

يركز الاقتصاد الأخضر على حماية البيئة، ومعالجة قضايا الفقر، والجوع، والبطالة، والسكن، والتعليم، وغيرها من الآفات التي تمنع التنمية المستدامة وتدمر البيئة الطبيعية في آنٍ واحد. وتبرز تقارير البنك الدولي هاجس العمل على إعادة هيكلة النمو وجعله أكثر شمولاً، لأن التنمية العالمية المستدامة تحتل المكانة الأولى في مرحلة ما بعد الأزمة المالية العالمية، وذلك يتطلب هيكلة النمو على اسس جديدة تضمن قيام أنظمة ديمقراطية حقيقية، تحقق المزيد من النمو المستدام والأخضر، وتبني اقتصاد جديد أكثر فعالية وأقل استهلاكًا للطاقة.

على الجانب العربي، طوال القرن العشرين لم تكن الدول العربية تنفق على قطاع التعليم في مختلف مراحله أكثر من 3% من الموازنة، في بعض الدول النفطية فقط، وتتدنى هذه النسبة إلى اقل من نصف في المئة في الدول العربية الفقيرة. في بداية مرحلة الاستقلال أفرطت بعض الدول العربية في التركيز على مشروعات البنى التحتية، كالجسور والطرق والري وغيرها ثم تراجعت عنها، فبرز خلل حاد في التنمية البشرية في مجالات العمل والتعليم والصحة ومكافحة الفساد.

وأضيفت إليها تحديات جديدة في مرحلة إنفجار الازمة المالية العالمية، بعد أن اجبرت الدول العربية النفطية على تحمل نسبة كبيرة من سلبياتها. وبات العمل والغذاء ومحاربة الفقر والأمية والبطالة والمخدرات، هاجسًا كبيرًا لدى غالبية دول العالم، ومنها الدول العربية الفقيرة بشكل خاص، وباتت قضية الامن الغذائي مع الكرامة الشخصية، على رأس أجندات التنمية المستدامة عربيًا وعالميًا.

ونتفق معه فيما ذهب إليه من أن غياب الديمقراطية والمساءلة والشفافية ومصادرة حقوق الإنسان، أدت إلى فشل مسيرة التنمية المستدامة عربيًا، بينما شكلت دول صاعدة مجموعة البريكس لاعبًا فاعلاً على المستوى الكوني. فهي الأكثر تطورًا، من حيث النمو الاقتصادي العالمي والمحرك الأساسي الداعم له، وتركز على تعزيز التعاون في مجال التنمية المستدامة المشتركة بين الدول الأعضاء. وهنا يشير إلى أن المخرج السليم يكمن في ربط التنمية المستدامة بالحكم الديمقراطي من منظور استراتيجي، فالنظم الديمقراطية السليمة هي الأكثر استفادة من التنمية المستدامة التي تقوم بها. وفي حين تستخدم النظم العسكرية التنمية الجزئية لديمومة حكمها وتسلطها في المجتمع، تعتمد القوى الطائفية الدينية التنمية لرشوة القوى الشعبية، بهدف ديمومة حكمها أطول فترة ممكنة، بعد تشكيل قاعدة شعبية شبه ثابتة على أسس زبائنيه او باعتبارهم رعايا وليسوا مواطنين أحرارًا.

وتعتمد الأنظمة الغربية الليبرالية الغربية التنمية لتوسيع الطبقة الوسطى، بشرط ألا يتعرض أى منهما لسيطرة الاحتكارات الكبرى المهيمنة على السلطة والإقتصاد، على غرار أنظمة الولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا، وبريطانيا، وألمانيا وغيرهم. وإذا كان كما يقول الكاتب والباحث السوري عبدالله تركماني إن وضع حاجات المواطنين الأساسية في مقدمة أولوية التنمية، وتوسيع المشاركة الشعبية في عملية صنع القرار وإخضاع السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لمزيد من الدرس والتمحيص من خلال الحوار المفتوح، فإن ذلك يؤدي إلى إدارة عقلية للموارد الاقتصادية والبشرية.

ومن ناحية أخرى، فإن ضمان سهولة الحصول على المعلومات، وتوفير الشفافية في الصفقات الاقتصادية، وإفساح المجال لتسليط الضوء على جوانب القصور وعدم الكفاءة في الأجهزة الحكومية والمؤسسات ذات الطابع الاقتصادي، والكشف عن الممارسات المنحرفة، تساعد على تحسين أداء الأجهزة والمؤسسات الحكومية وتمكن محاربة الفساد.

إن الرقابة الشعبية هي وحدها التي تستطيع القيام بمهمة الكشف عن جوانب القصور ومواطن الفساد، فاجهزة الرقابة الحكومية في كثير من البلدان النامية تفتقر إلى الحيادية والنزاهة، وتخضع في كثير من الحالات لضغوط المسؤلين عن التقصير والمنتفعين من الفساد، مما يجعلها غير قادرة على إظهار الحقائق وإدانة المقصرين الفاسدين. الخلاصة، إن تحقيق التنمية وضمان استدامتها هو أمر متعذر بمعزل عن الديمقراطية، على أن عملية التنمية لا تتأثر بالديمقراطية فحسب، بل تؤثر فيها أيضا، إذ إن العلاقة بينهما: فكما أن الديمقراطية توفر الإطار المحفز للتنمية، كذلك فإن التنمية تخلق القاعدة المادية والمناخ الملائم لتطور الديمقراطية. إن التنمية، باعتبارها توسيعًا للفرص، تتيح للمواطن الارتقاء بمعارفه ومهاراته وتطوير، قدراته، واختيار العمل الذي يجد فيه ذاته ويحقق له دخلا يكفل حياة كريمة. وكلما خطت التنمية، ذات البعد الإنساني، شوطا في مسارها توطد الاستقرار فى المجتمع وترسخت الديمقراطية.