مدخل: حكايتي مع الفلسفة


نبيل عودة
2021 / 9 / 24 - 11:40     

درست الفلسفة في الاتحاد السوفييتي آنذاك في الجامعة الحزبية، المعروفة باسم (معهد العلوم الاجتماعية). حظي السعيد ان أستاذ الفلسفة عرف كيف يدخلني لعالم الفلسفة الواسع، بتفكير متجرد من التعصب الغبي لأي موقف كان، طبعا للحيطان آذان، كما همس مرة لي أستاذ الاقتصاد السياسي، لذلك لم يتوسع بالشرح بل ألقى جملا لم يكن لها رابط بالموضوع، سجلتها في دفتري كما سجلت مختلف المحاضرات. اليوم عندما أراجع تسجيلاتي اكتشف كم كنا كطلاب مدرسة حزبية منغلقين على فكر فلسفي محدد وبقية الفلسفة هي فلسفة برجوازية، لها مهمة تبرير استغلال الإنسان في المجتمع الرأسمالي.. ولا أذكر ان أي من المحاضرين ذكروا شيئا ايجابيا يستحق الاهتمام عن الفلسفة البرجوازية.
كان أستاذ الفلسفة يتبع أسلوبا مميزا لشرح اعقد المشاكل الفلسفية عبر القصص والنوادر المضحكة.. قبل سنوات قليلة وجدت كتابا فلسفيا أعادني لذكريات دراستي، يحمل عنوانا لاذعا: “أفلاطون والحمار يدخلون إلى البار” لفيلسوفان امريكيان.
تصفحته وأدخلني بنوسطالجيا ، أعادني لدروس الفلسفة مع أستاذي الروسي الذي أجزم اليوم انه كان متحررا من الدوغماتية السوفيتية بطريقته الحذرة.
كدت أنسى نفسي مسمرا داخل المكتبة أقرأ بنهم مقاطع هنا وهناك عن أفلاطون الذي دخل البار مع الحمار، اشتريته وجلست بسيارتي لأكثر من ساعة وأنا غارق “بقراءة قفز” للمواضيع وبعض المقدمات، ثم عدت للبيت متفرغا للكنز الذي وجدته.
اعترف انه ليس من السهل التحرر من الماركسية بعد نصف قرن من الإيمان المغلق شبه الديني، لي نظرة نقدية تطورت مع مراجعاتي الذاتية وتجربتي الحياتية و”إجبار” عقلي ان يكون منفتحا على التعددية الفلسفية والثقافية وليس نفيا لأي منها.. خاصة بعد ان “تجرأت” وبدأت اقرأ لفلاسفة غير ماركسيين وعلى رأسهم كارل بوبر في كتابه ” المجتمع المفتوح وأعدائه” والذي تميز بنقده للفكر الشمولي (نظام سياسي يسيطر فيه حزب واحد على السلطة، ولا يقبل النقد أو المعارضة). لم أجد نسخة عربية، قرأته بالعبرية وغلبتني الاصطلاحات، ثم حولتها لمصدرها اللاتيني وفككت طلاسمها، للأسف لغة العرب تفتقد لاصطلاحات فلسفية واضحة.. أكثر ما اثر على تفكيري الماركسي نقد كارل بوبر للتاريخانية كفلسفة تؤمن بأن تاريخ البشرية له مسار محدّد مسبقا كما تطرح ذلك فلسفة المادية التاريخية لماركس، وهي فلسفة تعتمد فيها الماركسية على “التنبؤات” التي تفسر التاريخ بنظرية الصراع ألتناحري بين الطبقات، حيث تنتصر البروليتاريا وتسقط الرأسمالية ويجيء النظام الشيوعي الحتمي حيث تسود ديكتاتورية البروليتاريا.
نعود إلى أفلاطون والحمار في البار.
يبدو ان الدمج بين أفلاطون، عبقري كل العصور والحمار، لم يكن بالصدفة، فهو التعبير عن الحالات المستعصية في الغباء والانغلاق والوهم لدى البعض انهم وصلوا قمة الفكر أو قمة الإبداع أو قمة الدين والتدين!!.
كيف نفهم نفسية شخص يستعلي على الآخرين وإذا كتب قصة تافهة للأطفال، يوزع عنها خبرا يقول صدرت للكاتب الكبير..وقدم لها الكاتب الكبير فلان.. وكتب عنها الناقد الكبير فلان.. ما تسمى هذه الظاهرة؟ أي كلمة أضيفها ستكون لغما.. ولا أحب الألغام!!
هذه الحالة صنفها الفيلسوفان ضمن الفلسفة الاجتماعية والسياسية، لكن فاتهما أنها أقرب للنرجسية المرضية.
بالطبع سيفطن القارئ هنا ان هذا المبدأ العبثي واسع الانتشار بين بعض “مثقفينا” على امتداد العالم العربي، ان غياب الرؤية الفلسفية يقود إلى التفاهة الثقافية التي تؤهلهم للدخول مع أفلاطون إلى البار.
بالطبع هناك أفلاطون واحد.. ولكن البشرية ليست بعاقر.. هناك فلاسفة آخرون.. تجلت عبقريتهم في مجالات مختلفة لم تكن قائمة في عصر أفلاطون. طبعا أفلاطون أيضا ليس فوق النقد، فهو سبق الشيوعية (الستالينية السوفييتية) والنازية الألمانية والعسكرية اليابانية والموسولينية في ايطاليا بفكرهم التوتاليتاري (الشمولي)– التوتاليتارية هي سلطة شمولية، تتميز بإلغاء الحدود الفاصلة بين الدولة والمجتمع، تعتمد القمع والإرهاب ونفي مشروعية الصراعات الداخلية وتقديس مبدأ الذوبان التام في النظام الشمولي وهذا يتضح في جمهورية أفلاطون وتقسيمها الطبقي. بذلك نرى ان الشيوعية وأنظمتها الاشتراكية لم تقع بعيدا عن أنظمة توتاليتارية أخرى، رغم ان ماركس كانت فكرته للنظام الاشتراكي تختلف بشكل مطلق عما طبق في المعسكر الاشتراكي. من هنا رؤيتي وقناعتي ان ماركس يتبرأ من الماركسيين… لأنهم شوهوا ماركسيته!!
أما الصنف الآخر.. صنف الحمار.. فهو صنف لم يتغير منذ عصر أفلاطون، حتى لو اتخذ أشكالا جديدة. أحيانا أشكالا بشرية، لكن العقل هو المقياس والتصرف هو الإثبات الفلسفي على التباين بين عالمين. عالم أفلاطون وعالم الحمار بأشكاله المتعددة.
إذن لماذا رافق أفلاطون الحمار إلى البار؟ لماذا لم يرافق هيغل مثلا؟ أو الفارابي القريب في رؤيته للمدينة الفاضلة من جمهورية أفلاطون؟
يبدو ان الحياة.. بعد تفاحة حواء.. تلخبطت أكثر مما توقع آدم. فصرنا الشيء وضده، الكلمة ونقيضها، الحب والكراهية، الأخلاق والانحطاط والى آخر هذه المتناقضات التي لا تحتاج إلى أفلاطون لنفهمها.
من السهل اتهام إنسان ومن الصعب التراجع والاعتذار. أفلاطون (كنموذج للمثقف الراقي عبر كل العصور) ما كان ليسقط في خطأ الاتهام بدون معرفة ويقين.. لماذا..؟ لأنه يستعمل عقله الواعي غير المنفعل وليس مشاعره. يمكن ان تُعجب بموقفه، أو ترفضه.. فهو أيضا سبق عصره بفكره الشمولي وهذا لا يقلل من كونه أحد أعظم الفلاسفة في تاريخ الفكر الإنساني!
راجعوا الحوارات الفلسفية في تاريخ البشرية.. راجعوا مناهج النقد الفكري والثقافي والأدبي.. لن تجدوا النظرة الدونية للآخرين.. تجدون النقاش الجاد والحاد. تجدون الجهد الكبير لتطوير النظريات الثقافية والفلسفية وانعكاساتها الايجابية على الفكر والإنسان والمجتمع والعلوم والتاريخ والقانون والدين والنظام والوعي والمعرفة والتربية. فهل لحواركم أيها الأساتذة نفس النتيجة أو ذرة منها؟
تخيلوا قائدا عسكريا او سياسيا يخطط لمعركة فاصلة من وجهة نظر دونية لعدوه؟ يقول لنفسه : “عدوي غبي.. عدوي لا يعرف استعمال السلاح، عدوي جبان، عدوي يهرب من أول طلقة، عدوي لا يفهم تكتيكات الحرب، عدوي فقير باللوجيستيكا، عدوي متخلف ثقافيا عني ولا يملك ما يصد اندفاع جنودي.. “
سلفا أقول لكم انه سيهزم شر هزيمة في الحرب… حتى لو كان حزبا عمره (100) سنة، وورائه تاريخ نضالي مجيد!!
النظرة الدونية هي السقوط الأول والأكبر لأي مثقف.. تعالوا أحدثكم عن قصة مناسبة لعلها تشرح أفكاري بشكل أفضل.. وانهي فيها مداخلتي:
في رحلة طيران جلست شقراء جميلة جدا بجانب محامي كبير ومعروف.. الشقراء شدت أنظاره. قال لنفسه : ” لو كان لها عقلا بقدر نصف جمالها لكنت أجيرا عندها. سبحان الذي يهب الجمال لمن لا عقل له “. وبعد تفكير أضاف لنفسه: ” الرحلة طويلة، ومع شقراء جميلة وغبية بالتأكيد ستكون رحلة ممتعة جدا.. وقد أدعوها بعد هبوط الطائرة إلى قضاء ليلة معي“.
بدأ يعاكسها.. من أين سيدتي؟ هل تعرفين ان جمالك مميز؟ انا محامي أسافر لأمثل شركة عملاقة في قضية كبيرة ستدر علي مليون دولار بالتأكيد. يعمل لدي في المكتب عشرة محامين ويبدو أني سأحتاج إلى ثلاثة آخرين على الأقل.. هل تبحثين بالمناسبة عن عمل؟ مكتبي يحتاج إلى موظفات جميلات لاستقبال الزبائن.. زبائني من طبقة راقية جدا.. تصوري أغنياء من مستوى بيل غيت يرفضون ان يمثلهم أحد غيري؟ الرحلة ستكون طويلة يا سيدتي، هل تعرفيني على نفسك؟ ما رأيك ان نتسلى بلعبة جميلة حتى لا نشعر بالوقت.. وعشرات الأسئلة.. وهي تنظر إليه شذرا وتحاول التملص من مضايقته لها وهو يزداد اقتناعا انها صيد رائع لمحامي صار أسمه عنوانا لأصحاب الملايين.
– اسمعي يا سيدتي الجميلة، أقترح عليك لعبة، ونسبة الفوز من واحد لي إلى عشرة لك.. انا أسألك.. إذا لم تعرفي الإجابة تدفعين لي خمسة دولارات. ثم تسألينني أنت، إذا لم أعرف الجواب أدفع لك خمسون دولارا.. ما رأيك؟
وضحك ضحكة كبيرة معتزا بمعلوماته وقدرته على الانتصار على هذه الشقراء الجميلة والغبية والمغرية بنفس الوقت.
نظرت اليه بطرف عينها، وهزت رأسها موافقة.
–وقعت بالفخ.. قال معتدا بنفسه، شاعرا ان الطريق لقضاء ليلة معها باتت مضمونة وسألها :
– ما المسافة بين الكرة الأرضية وأقرب كوكب في المجموعة الشمسية؟
لم تجب، أخرجت من حقيبتها خمسة دولارات وأعطته اياها… ضحك سعيدا لأنه أثبت تفوقه بالذكاء عليها من السؤال الأول.
- الآن دورك.. قال لها، سألته :
– ما الذي يصعد التل بثلاثة سيقان وينزل منه بأربعة سيقان..؟
فكر طويلا. وشعر بالإحراج لأنه لم يعرف الجواب. ثم اضطر إلى إخراج محفظته ودفع لها خمسين دولارا. الشقراء أدخلت النقود لحقيبتها دون ان تقول شيئا. المحامي قال لنفسه :
- يبدو أنها أذكى مما توقعت ... وسألها :
– حسنا.. ما هو الجواب لسؤالك؟
ودون ان تقول الشقراء أي كلمة، أخرجت من محفظتها خمسة دولارات وأعطتها للمحامي!!
نبيـــل عـــودة