كيف نشأ الشرف الأنثوي ؟


عبدالله محمد ابو شحاتة
2021 / 9 / 22 - 18:24     

الشرف الأنثوي من المواضيع التي تثير العديد من الجدالات والتساؤلات في ميادين وجهات متعددة، ولقد راودتني فكرة تقديم تحليل للأصل التطوري للشرف الأنثوي مستنداً على ما بين يدي من تحليلات وقراءات انثربيولوجية واجتماعية وفلسفية. وبالرغم من أني لا يغيب عني أبداً أن ما سأطرحه من بعض جوانبه لا يتجاوز تحليلاً شبه نظرياً، إلا أن هذه هي معضلتنا في العلوم الاجتماعية وبخاصة الانثروبولوجيا. ولذلك وجب علي أن أنوه على أن ما ستحمله الأسطر القادمة بالرغم من أن بعض خطوطه العريضة على درجة كبيرة من العلمية، إلا أن الطرح في المجمل لن يتعدى كونه فرضيات يوجد ما يساندها ويوجد ما يعارضها.

عليّ أيضاً وبشكل استباقي أن أجيب على سؤال قد يُطرح حول الهدف الذي يمكن أن يرجى من طرح كهذا، فيمكنني قبلاً أن أوجز هدفين بجانب طبعاً رغبتي المجردة في إثارة الطرح، ألا وهما، تدريب نوعين من المثالية ذو منطلقين مختلفين ولكنهما يصبان في ذات البوتقة. النوع الأول هو مثالية الأخلاق الميتافيزيقية والتي تفترض أن الأخلاق هي معطى ثابت معلق في الفراغ وهو النموذج الذي يشكل المجتمع، أي تلك الافلاطونية التي تنطلق من الفكرة لتشكل الواقع؛ فهذا الاسطراد التاريخي الانثروبولوجي عليه أن يُظهر الأخلاق على واقعها كمعطى تطوري تشكلها الوقائع المادية عبر ديالكتيك صاعد من المادة للفكرة وليس العكس، فالاخلاق تشكلت في علاقة جدلية مع المجتمع، وليس المجتمع هو الذي يتشكل وفق نموذج أخلاقي مسبق.
السقوط المثالي الآخر هو سقوط بعض النسويات، ممن تغلبت عليهن مشاعر نقم وعداء أتفهمها، ولكن وجب عليّ أن أنوه على ما تسببت فيه تلك المشاعر من سقوط في العبث الميتافيزيقي. فليس الأمر هو صراع جندري يقف في طرفيه جيشان يبحث كلاهما عن الكيفية التي يمكنه من خلالها أن يُجهز على الآخر ويسطو على حقوقه، فتلك النظرة لا يمكنها أن تثير شيئاً إلا مجرد جدال فارغ. فإن كانت الأبوية قد تطورت كنظام مجتمعي وأخلاقي فليس لشيء إلا لكون سير التطور التاريخي قد أحدث ذلك، وليس بالطبع لأن جنساً ما تآمر على آخر حول طاولة مستديرة.

الأصل التاريخي لجذور الشرف الأنثوي.

دائماً ما يرتبط مفهوم الشرف بالعصور الوسطى الأوروبية، سواء أكان الشرف الأنثوي أو الشرف الفروسي. ولقد تناول شوبينهاور بالتحليل مفاهيم الشرف طارحاً إياها كإشكالية على الدولة الحديثة تجاوزها.[1] ولكننا سنتجاوز العصور الوسطى نحو الجذور الأولى، ثم سنعود للعصور الوسطى لاحقاً. أما الآن فإننا نستهدف تلك الفترة من حياة الصيادين الجامعين حيث لم يكن للغيرة قوة كالتي نراها الآن، وحيث لم يكن للشرف الأنثوي أي معنى يذكر. أي تلك المرحلة التي تميزت بالجنس المتعدد والرعاية المشتركة للأطفال.

بالرغم من أن عديد الانثروبولوجيين حاولو إنكار تلك المرحلة التاريخية كنوع من الحفاظ على سمعة الجنس البشري من التدنيس، إلا أن قبائل السكان الأصليين في استراليا والأميركتين وغيرها من المناطق والتي مثلت حفريات اجتماعية حية دأب على دراستها عديد الانثروبولوجيين كجيمس فريزر ولويس مورجن وغيرهم. وقد اعطتنا تلك الجماعات تصورا واضحاً عن ماضينا، وبعض تلك الجماعات ظلت موجودة حتى عهد قريب، كجماعة الآتشي التي عاشت في براغواي حتى ستينات القرن العشرين وعُرف عنها التحرر والتسامح الكبير في العلاقات[2]، كما لازالت توجد حتى وقتنا هذا جماعات تمارس الجنس المتعدد مثل جماعات بانو وكيولينا وباري في أمريكا الجنوبية[3]. كما أن هذا الافتراض تدعمه أيضاً سلوكيات أقرب الكائنات إلينا كشامبانزي والبنوبو. وقد يفسر تاريخنا الطويل مع الجنس المتعدد الكثير من المصاعب والضغوط النفسية التي يعانيها العديد من البشر مع طول أمد العلاقة الأحادية، حيث أننا لم نتكيف مع هذا النمط الأحادي بشكل كامل[4].
وبالرغم من الأهمية القصوى لتطور الحياة الجنسية عند الإنسان كمبحث أنثربيولوجي وإثنولوجي، إلا أننا لم ندرسه في الجامعة سوى بشكل سطحي لم يراعي الحيادية العلمية، لقد شكل الموضوع عندهم على ما يبدو نوعاً من التحسس الزائد، جعلهم يشيرون حتى للزواج الجماعي في شكله القديم بعبارات سلبية كالفوضى والبربرية أو حتى الخطيئة، وتلك الإدانة التاريخية من المفترض أن تكون آخر شيء يمكن أن تسمعه في قسم لتدريس علم الاجتماع. لقد كان ثقيلاً عليهم على كل حال أن يتقبلوا كون علاقاتنا الأحادية وتحريم التعدد للمرأة لم يكن إلا تطور تاريخي، عليهم ان يفترضوا أنها عفة أبدية دنستها أفعال القبائل البدائية التي عالجها علماء الانثروبولوجيا وأوردها لويس مورجن في عمله "المجتمع القديم"[5]

لم يكن من المحتمل أن الانسان البدائي قد عرف نمط الزواج الأحادي بكثرة، أو حتى نمط الأحادية لحين الإنجاب. فكما حلل فريدريك إنجاز هذا الموضوع فإن نمط الزواج الأحادي للإناث و ما يصاحبه بالضرورة من الغيرة والصراع بين الذكور كما نرى في مملكة الحيوان، لم يكن ليسمح أبداً بنشوء جماعات بلغت أحيانا المئة فرد من ذكور وإناث، مما يجعل التسامح الجنسي والرعاية المشتركة للصغار ضرورية لتماسك الجماعة وبقائها[6]
ولكن كيف تم الانتقال من شكل العلاقات المتحررة لشكل الزواج الأحادي وتحريم التعدد على الإناث، هو بمثابة السؤال المحوري في نشوء الشرف الأنثوي.
لقد انتقلت الجماعات تدريجياً من تسامح تام مع الجنس إلى تحريم جنس الآباء مع الابناء ثم الإخوة..وهكذا دواليك، ولا نعلم الكثير من الأساس الاجتماعي لهذا التحريم، ولكن على كل حال ظلت العلاقات تعددية خارج المحارم.
ويبدو أن الانقلاب الأكبر حدث في مرحلة ما أثناء بداية العصر الزراعي والرعوي، لقد حدثت ثورة جذرية في عملية الإنتاج، فلأول مرة ينتج الإنسان غذاءه ولا يتلقفه جاهزاً من الطبيعي، لقد بلورت الثورة الزراعية والرعوية لأول مرة مفهوم العمل المنظم والملكية الخاصة ، ولقد نتج عنها لأول مرة نظام عبودي ومجتمع أبوي حقيقي.
لقد تسببت الثورة الزراعية بتعاظم الشعور الفردي من جهة، ونشوء مفاهيم الملكية والحيازة، كما أنها أضفت أهمية كبرى على عمل الرجل في مقابل عمل المرأة.
كل تلك التطورات جعلت من شبه المستحيل الاحتفاظ بنظم العلاقات الجنسية القديمة قائمة.

من بلور الشرف الأنثوي، الرجل أم المرآة ؟

الإجابة الصحيحة أن الذي بلورته هي العلاقة الجدلية بين البناء المادي للمجتمع من أنماط و علاقات إنتاج جديدة فرضتها الثورة الزراعية وبين الثقافة والتقاليد العرفية والدينية. ولكن يجوز لنا أيضاً أن نسأل عن درجة انعكاس هذا على الجنسين ومن منهم أخذ المبادرة نحو هذا المفهوم.
مع نمو النزعة الفردية في العمل التي حتمتها طبيعة الزراعة والرعي، ومع تراجع قيمة عمل المرأة أمام عمل الرجل، تراجعت قيم الرعاية الجماعية للأبناء، وكان على المرأة أن تحدد موقفها، وقد حددته بالارتباط الأحادي مما يكفل رعاية الأب للأبناء. والطبيعة البيولوجية الجنسية للرجل تجعل من الصعب علينا أن نتخيل أنه هو منشأ فكرة الزواج الأحادي كما يقول البعض، لقد كان الرجل هو أكبر المستفيدين من نمط العلاقات القديم الذي ضمن له إشباع غريزي أفضل مع مسؤولية للتربية أقل. ولكن علينا أيضاً أن نكون واضحين كفاية ونقول أن الرجل لتطوير العمل و فكرة الملكية احتاج إلى أن يعرف أبناءه البيولوجيين الذين هم عماله وورثته المفترضين، لقد شكل الزواج الأحادي منفعة متبادلة لاشك في ذلك، وقد حتمته طبيعة الثورة الزراعية.
ولقد ارتبطت في تلك الفترة أحادية الزواج بالمرأة، وأصبحت خيانة المرأة خطيئة لا تغتفر، على العكس طبعاً من الرجل. وهو شيء مفهوم منطقه، فالمرأة لو خانت رابطة الزواج الأحادي فإنها تخدع الرجل بأن تنسب له من ليسوا بأبناءه، وبالتالي يرث ملكيته أبناء رجل آخر. أما الرجل لم يُتصور أن خيانته يمكن أن ينتج عنها سوى أضراراً معنوية بسيطة.
ولقد شكل الخوف المستمر من تلك الخديعة الأنثوية ما يشبه هوس ذكوري أسقط على المرأة عدة صفات كالخيانة والمكيدة...إلخ.
ولكن وحتى تلك الفترة لم يكن لممارسة المرأة الغير متزوجة الجنس أي إشكال يذكر لدى معظم الشعوب، ولقد كانت بعض الشعوب ترسل بناتها قبل الزواج لممارسة الجنس في طقوس دينية معينة. ولم يكن لمفهوم الشرف الأنثوي حتى ذلك الوقت معنى واضح[7]. فالراجح أن المرأة حتى تلك المرحلة امتلكت السلطة على جسدها ما لم تكن قد وهبت نفسها لرجل بعينه من خلال علاقة زواج أحادي.
ولكن في ظل مجتمع تراجعت فيه قيمة عمل المرأة، واختفت فيه الرعاية الجماعية للأطفال باختفاء الجماعة الجنسية القديمة ونشوء الأسرة الأحادية كنمط بديل للتربية. أصبح إنجاب المرأة قبل الزواج عبئاً عليها أن تتحمله منفرده، وكان على المرأة حتماً أن تستقبح العلاقات الجنسية قبل الزواج معتبره إياها نوعاً من الدناءة وانعدام الشرف كسلوك دفاعي ضد الرجل دافعه إياه بذلك نحو الخيار الذي يحقق أكبر منفعة ممكنة لها وهو الزواج.

الشرف الأنثوي في العصور الوسطى.

لقد أصبح الشرف الأنثوي بمثابة عقد اجتماعي غير مكتوب، الرجل يكفل المرأة مالياً بعد أن احتكر هو الملكية لصالحه، بينما تحفظ هي عفتها قبل الزواج لصالح أبيها، وبعد الزواج لصالح زوجها. فبعد تطور الملكية ونشوء النظام الاقطاعي الذي انقسم فيه المجتمع إلي طبقتين رئيسيتين، وظهرت مفاهيم النُبل والشرف الوراثي والتي عززت بدورها الشرف الأنثوي وجعلت علاقات المرأة مقيدة أكثر قبل الزواج حتى من بعده. لقد أصبحت علاقات المرأة محكومة بنطاق طبقي من ناحية، وأصبح زواجها مشروع تقارب اقتصادي سياسي مُحتمل يجب أن يدار من قِبل العائلة. خاصة وأن تلك الأخيرة كانت تدفع مبالغ طائلة كمهراً للزوج، ولذلك لم يكن من المقبول أن تكون مبالغاً مهدرة. لقد أصبح أي خرق جنسي تقوم به الفتاة قبل زواجها هو بمثابة إفساد لمشروع أرستقراطي واعد. مما جعل الخيانة الزوجية ربما أقل طأة حتى من الجنس قبل الزواج، فهي إنما تخص الزوج وحدة.
يحدثنا شوبينهاور عن مفهوم الشرف الأنثوي في العصور الوسطى، ويرده لكون المرأة تعشق للتبطل وبالتالي فهي تعقد صفقة غير مكتوبة مع الرجل، فيتكفل هو بها وفي المقابل تعطيه هي أحقية توجيه حياتها الجنسية.
والحق أن هذا العقد قد تم قبل ذلك بزمناً مديداً كما بينا من قبل، كنتيجة حتمية لعوامل التطور المادي التي هدمت نظام الحرية الجنسية القديم لصالح نظام الأسرة الأحادية الجديد. حيث خسرت المرأة كل شيء، الحرية ونسب الأبناء والملكية. وفي مجتمع العصور الوسطى الاقطاعي لم يبقى للنساء أي عقد غير مكتوب، بل أصبحت هي ذاتها جزءاً من الملكية.

نهاية الشرف الأنثوي.

لقد هدمت الثورة البرجوازية مفاهيم النبل والشرف الوراثي، و دفعت الثورة الصناعية المرأة لسوق العمل مضيفة على عملها بفعل الآلة قيمة لم توجد منذ عهد الثورة الزراعية.
ولقد استمرت المرأة مع تطور النظام الرأسمالي في إحراز مكاسب عديدة بفضل القيمة الجديدة والمؤثرة لقوة عملها، فانهار الشرف الأنثوي بشكل جزئي واستعادة المرأة سلطتها على جسدها خاصة في الدول التي بلغ فيها التطور الرأسمالي مداه.
لقد ذكرنا كيف أن ضعف قيمة عمل المرأة كان له أثراً فعالاً في إرساء الزواج الأحادي. ولكن العامل المؤثر الآخر ذو الأهمية كان الرعاية الجماعية للأطفال.
ولقد قوضت الرأسمالية نوعاً ما العامل الأول بأن دفعت المرأة وبقوة لسوق العمل كنداً للرجل وهو ما أحدث تحرر جنسي نسبي. بينما قد تقوض دولة اشتراكية العامل الثاني بأن تدعم أكثر وأكثر الرعاية الجماعية للأطفال ممثلة في رعاية الدولة. وهو بالطبع ما قد يدفع نحو مجتمعاً أكثر تحررية جنسية مما نراه الآن.
وليس في هذا التحليل ما يدعو للشيوعية الجنسية أو يستهجنها، ولستُ هنا في موضع التحسين والتقبيح، بل إني أحاول أن أستشف ما قد يقود له التطور المجتمعي من أنظمة جديدة للعلاقات الجنسية.
فوصم الشيوعية الجنسية كانت هي التهمة الذهبية التي توجه لكل مخالف ديني ومذهبي أو ايدولوجي، خاصة إذا كان من ذوي النزعة المتحفظة على الملكية الخاصة، وهو ما يعني أنهم يعاملون النساء كملكية كما قال ماركس.


هوامش

[1] The wisdom of life, shopenhauer
[2] sapiens, noah harari
[3] evolutionary history of partible paternity lowland South America,, Robert.walker, mark.flinn. and kim r. Hill
[4] Christopher ryan and cacilda jetha.sex at dawn, the prehistoric origins of modern sexualty.
[5] Ancient society, lewis morgan
[6][7] the origin of family private property and the state,, Engels