الطقوس الحسينية والهوية الشيعية في العراق (اسباب الطوفان الكبير للطقوس الحسينية في العراق ؟؟)


سلمان رشيد محمد الهلالي
2021 / 9 / 22 - 02:20     

اعتمد العلم الحديث في تفسير الظواهر العلمية والاجتماعية بالبحث عن علة الظاهرة واسبابها وليس نتيجة الظاهرة . وبما اننا في العراق متخلفين عن الدراسات المعرفية في تتبع الظواهر واسبابها والتركيز على الجانب السياسي والايديولوجي , فان تفسير الكثير من تلك الظواهر لايخضع للمنهج العلمي الرصين ,وانما يخضع – كما قلنا – للغرض السياسي والنزعة الايديولوجية , سواء اكانت علمانية مغالية او يسارية ثورية او قومية طائفية او بعثية اقصائية وغيرها . وكان من اهم تلك الظواهر هو تفسير التمركز على الدين والطوفان الكبير للطقوس الحسينية عند الاغلبية الشيعية في العراق , من حيث الزيارات المليونية والمواكب الكثيرة والصرفيات الكبيرة والسلوكيات الغريبة . وعندما يذكر الاخوة المستنيرون والعلمانيون والاصلاحيون والمثقفون (سواء اكانوا بحسن نيه او غيرها) قضية هذا الطوفان الكبير لهذه الطقوس في عاشوراء وضرورة اصلاحها وتقنينها - او حتى انهائها او الغائها – كما يطالب البعض – باعتبارها احدى تجليات العصور القديمة والقرون الوسطى فانهم يذهبون – كما قلنا – الى نتائج هذه الظواهر ونقدها والسخرية منها وليس الى اسبابها الحقيقية , وربما ارجعها البعض الى العدوى الوجدانية والعقل الجمعي والتخلف او الرياء او حب المظاهر او انبعاث المكبوت او التحدي الارهابي والطائفي او تحريض رجال الدين او تشجيع الاحزاب الاسلامية او التاثير الايراني ووووو وغيرها من الاسباب التي ربما كان لها دورا في ذلك , ولكن السبب الحقيقي في رايي هو ليس هذا ابدا . فهو متعلق بالهوية الشيعية في العراق وبحثها عن التطلع الاعلامي والتضامن الاجتماعي والاقتدار والحماية والانصهار وغيرها . واما لماذا يكون ذلك من خلال الطقوس الحسينية فهو يرجع – في نظري – الى ضعف الهوية الشيعية في العراق سياسيا واجتماعيا وثقافيا , بل ان الهوية الشيعية في العراق هى اضعف هوية بالعالم , وهذا يرجع الى اربع اسباب هى :
1 – حداثة العشائر العراقية بالتشيع . فقد اكد علي الوردي وحنا بطاطو واسحق النقاش وغيرهم ان العشائر العربية في جنوب العراق تشيع اغلبها قبل اكثر من (200) عام بعد قدومها من شمال غرب العراق , الامر الذي لايشكل هوية فاعلة ومتراصة .
2 – ان الشيعة في العراق هم اغلبية المجتمع , والاغلبية لايمكنها ان تسلك سلوكا مذهبيا او طائفيا او تبلور هوية واحدة , لان الاخر سيكون على الدوام من داخلها وبما ان (الاخر شرط الهوية) - كما يقول سارتر - فان انعدام الهوية وتلاشيها سيكون حتما مؤكدا . بل ان هيغل اعتبر الاخر ضروري لوعي الذات وبدونه ليست الذات شيئا لانها لاتعي نفسها الا بمقدار ماتعي الاخر .
3 – الاختراق العشائري للهوية الشعية وتحللها وتفككها . فالعراقي الجنوبي هو ربيعي ومياحي وفتلاوي وحسناوي وحجيمي وركابي وعبودي وسعيدي وجبوري وزيدي ولامي اولا قبل ان يكون شيعي .
4 – الاختراق السياسي والعلماني والقومي والشيوعي والليبرالي والوطني والبعثي للهوية الشيعية , بل وربما مهاجمتها والسخرية منها ادى الى فقدان الهوية الشيعية للنخبة المثقفة العصرية التي من المفترض ان تاخذ بها الى افق التنوير والاصلاح والحماية .
ان هذه الاسباب الاربعة – كما قلنا – خلخلت الهوية الشيعية في العراق وجعلتها في حالة من التلاشي والضياع والفراغ , وبما ان (الطبيعة تكره الفراغ) – كما قال ارسطو – فان هذه الهوية يجب ان تخلق لنفسها ممارسات وسلوكيات وطقوسيات من اجل ان تحفظ نفسها من التلاشي والذوبان في المحيط العشائري او السني او العلماني الذي يهددها بالضياع والفقدان , فلم تجد بالتالي افضل من التمركز على الدين والطقوس الحسينية . فاذا كان ميشيل فوكو يقول (الدين عقل لمجتمع بلا عقل) فاني اقول (الدين هوية لمجتمع بلاهوية) . فالمجتمع الشيعي في العراق وعندما افتقر للهويه (الاحساس بالذات والتماهي مع الجماعه) والاشخاص المعبرين عنها او الناطقين باسمها , ولاسيما الطبقه المثقفه (الانتلجنسيا الشيعيه)التي برزت بقوه بعد الحرب العالميه الثانيه ,جعل الهويه تتخذ موقف النكوص والتراجع المستديم نحو الماضي (وكل نكوص نحو الماضي يجد مبرراته الشرعيه في احباطات الحاضر) وهو الموقف الذي جعل (الكهنوت)( رجل الدين) و(الخطيب الحسيني) و(السيد النسبي) هو المستفيد الاول من هذا الفراغ طارحا نفسه (المخلص) او(المنقذ) والحامي الاوحد للجماعة الشيعية في العراق .
فيما نجد ـــــــ وبوضوح ـــــــ ان باقي الهويات الفاعله الاخرى كالموارنه المسيحيين في لبنان والسنه في العراق واليهود في اسرائيل تراجعا ظاهرا لموقع رجل الدين والكهنوت في قيادة الطائفه او التحدث باسمها , بسبب تصدي الفئه المتعلمه والمثقفه لمسؤولياتها في الدفاع التام عنها والتبني المطلق لهذه الجماعه والتكفل بمهاجمة (الاخر) المختلف في الهويه والثقافه, وعدم نقدها او مسها من قريب او بعيد . والعكس من ذلك نجد ان المتعلمين والمثقفين من ذوي الاصول الشيعيه (ولاسيما من تماهى مع الايديولوجيات الرفاقيه الوافده كاليساريه والقوميه) ما ان يحصل على حظ قليل من الثقافه والعلم والادب , حتى يبدا بالترفع على مجتمعه البائس, و والتسامي على هويته الكسيحه , والهجوم على تاريخه المشوه , والنيل من رموزه العرجاء (بحسب الانطباع النفسي في داخله) . ويعود سبب اتخاذ المثقفين والمتعلمين لموقف الترفع والتسامي ــــــ ان لم يكن الهجوم والتحامل ــــــ على الهويه الشيعيه التي ينحدرون منها الى اسباب سبق وان ذكرناها في مقالنا في موقع الحوار المتمدن (المجتمع العراقي بين الشروكية والانكشارية - القسم الثالث) اهمها الاستهداف الطائفي والقومي والبعثي الطويل الامد الذي جعلهم يشعرون بالاستلاب والدونية والنقص امام الاخر المختلف بالثقافة والتوجه .
ان من يريد تنوير الهويه الشيعيه في العراق والرفعه بها الى قيم الحداثه والعصرنه والاصلاح , ومن يطالبها بالتسامي عن الطقوس التقليدية والبكائيه والدينية (والدين عصاب جماعي) – كما يقول فرويد – لايكون بالهجوم عليها والبراءه منها , لان ذلك يفسح المجال كليا لرجل الدين بالسيادة عليها والهيمنة على مقدراتها واعطائهم المبرر الشرعي في القياده والزعامه ,بل يكون من خلال تصدي التنويريين والليبراليون والمدنيون لمسؤولياتهم في التعبير الباطني عن مالآت الجماعه وحمايتها وتنويرها والاخذ بناصيتها الى مصاف التنوير والاصلاح والتحديث .
ان كل هويه تبحث عما يجول في خاطرها من هواجس وامال , وتعبر عن نفسها او ذاتها من رموز وتطلعات واغتراب , فاذا وجدت ذلك عند الانسان العصري والمثقف والفاعل في مسارات الفكر والسياسه والادب , فانها تلازمت مع اطروحاته وتماهت مع مقولاته , واذا حصل العكس , ووجدت بدلا من ذلك الجحود والبراءه والتعالي - ان لم يكن الهجوم والاستهزاء - ارتكست نحو الماضي وارتدت الى الطقوس والاصول والبدائيه .
ان الدليل القاطع عما نذكره عن الهوية والتعبير عنها من خلال الطقوس الحسينية لاشعوريا هو ماحصل في ايران . فالايرانيون تجاوزوا الطقوسيات والسلوكيات البدائية والتمظهرات التقليدية للهوية بسبب اندماجها وتماهيها مع الدولة . فالدولة في ايران هى التعبير الباطني للهوية الشيعية , وقد اكذ هذا الراي الدكتور فالح عبد الجبار بقوله (الوطنية الفارسية كانت مندغمة في جسم المذهب الشيعي الاثنى عشري بنسخته الايرانية) , فيما ان شيعة العراق وبسبب استحكام العشائرية والقيم البدوبة , اضحت الدولة جسم غريب عن الجسم العراقي . وبالتالي لايستطيعون التعبير عن هويتهم وتطلعاتهم من خلال الدولة . وبقوا يراوحون ضمن الطقوسيات الحسينية والسلوكيات البدائية والدينية للتعبير عن الهوية . اذن المطلوب من الانتلجنسيا الشيعية العصرية الاخذ بالهوية الشيعية الى افق التنوير والحداثة والاصلاح , تكون نهايته الاندماج مع الدولة كتمظهر اخير يزول الاغتراب بين الهوية والذات - مثلما حصل في ايران - حتى لاتبقى الهوية عائمة وفكرة تجريدية معلقة في الهواء . بل ان علي شريعتي دعا المثقفين الايرانيين الى اعادة اكتشاف جذورهم الوطنية بالمذهب الشيعي وليس بالاساطير الارية . فيما ان المثقفين العراقيين لايخجلون من هذه الدعوات او طرحها فحسب , وانما يحاربونها ويسخرون منها , خشية من السلطات الطائفية الحاكمة من جانب , والشعور بالاستلاب امام الوطنية والعلمانية والقومية من جانب اخر .
وختاما نقول : قد يعترض الاخوة التنويريين والعلمانيين والمثقفين على هذه الكلام باعتباره دعوة للتمركز على الهويات البدائية والطائفية , فيما المفترض ان ينطلق العراقي الى افق الوطنية والانسانية . والاجابة عن هذا يكون من خلال النقاط الاتية :
1 – انك ايها الاخ العلماني والوطني والانساني : هل فعلا تجاوزت كل الهويات البدائية ام تجاوزت الهوية الشيعية فقط ؟ بالطبع انك تساميت فقط عن الهوية الشيعية ولم تتجاوز الهوية العشائرية مثلا ؟ فعندما تواجهك مشكلة معينة , سرعان ما تذهب الى شيخ العشيرة وتبكي امامه بخضوع وتذلل وتطلب المساعدة والحل والانتقام ؟ اعتقد القضية لاتحتاج الى اجابة .
2 – هل انت افضلا حالا من المثقفين الموارنة والسنة واليهود عندما اتحدوا مع هوياتهم ودافعوا عنها وارتقوا بها نحو افق العصرنة والتحديث ؟ ماهو منجزك المعرفي بهذا الصدد ؟
3 – ان من يطالبك بالتعبير عن الهوية والدفاع عنها , ليس من خلال الاساليب التقليدية والدينية والطقوسية , وانما من خلال جهد موازي من التنوير والتحديث والعصرنة .
4 – ماذا حصلت من الوطنية في العراق خلال العمر الاول من الدولة العراقية (1921 – 2003) غير التهميش والاقصاء والاستهداف والقمع والتخوين والتكفير والمكافحة الثقافية ؟؟ , الامر الذي جعلك تعاني من استلاب الوطنية والمزايدة عليها من خلال الخطابات والمنشورات والادعاءات . فانت ايها الشيعي العراقي : انت لست وطنيا حقيقية عندما تتغنى بالوطنية وتطالب بها , وتزايد عليها في الاعلام والفضائيات والفيس بوك من خلال الشعارات والكتابات والدعوات , وانما – للاسف – انت تعاني من استلاب الوطنية , فتحاول اظهار نفسك (وطنيا) امام الاخر الطائفي والقومي والبعثي الحاكم الذي استهدفك بهذا المجال , واتهمك بالخيانة والعمالة والتبعية - وخاصة لايران –
5 – عندما تطالب الشيعة بالوطنية , هل سالت نفسك : هل ان السنة والاكراد تصرفوا في يوم من الايام كوطنيين ؟؟ ام ان الواقع ان الشيعة في العراق هم فقط من تصرفوا كوطنيين , وعبروا الهوية المذهبية الى افق الايديولوجيات العلمانية والمفاهيم التغريبية . الوطنية يجب ان تكون مثل الاواني المستطرقة حتى تنجح في بلد ما , من اجل تحقيق العدالة والمساواة بين الجميع , واما اذا بقيت بعض المكونات الاجتماعية تراوح ضمن هويتها وتحقيق مصلحتها ومكاسبها اولا على حساب الاخرين , فان هذا يعد ظلما كبيرا على المتسامين عليها , وخاصة الاغلبية الشيعية .
6- ان هذه الدعوة ليست للتمركز على الهوية والذات , وانما دعوة للارتقاء بالهوية التي بعد ان فقدت التعبير عن الذات , ارتكست نحو الماضي الكئيب والطقوس البدائية والسلوكيات العشائرية .
7 – ان الطقوس الحسينية قد تشكل العمل الوحيد الذي يخلق نوعا من التضامن العضوي والاتحاد الاجتماعي في العراق . فالمتتبع الخبير يجد ان هناك انقساما عشائريا وسياسيا وايديولوجيا وطبقيا ومناطقيا واثنيا لامثيل في العالم , قد يصل الى درجة الكراهية والغل والحقد بين ابناء المذهب الواحد , وبالتالي فان هذه الطقوس قد تكون الية لاشعورية من قبل الهوية لخلق نوعا بسيطا من التضامن البدائي والتقليدي .
8 – يطرح بعض الكتاب ان هذه الطقوس الحسينية المليونية هى مجرد استعراض للقوة للجماعة الشيعية في العراق واظهار انفسهم كاغلبية عددية في هذا البلد . واعتقد ان هذا الرأي هو مثال للسذاجة ونظرية المؤامرة . فلاتوجد هوية شيعية واعية في العراق تسير اغلبية المجتمع , بل ان شيعة العراق هم ليسوا شيعة , وانما شيعة في طور التكوين والتكامل لاسباب الاربعة التي ذكرناها في مقدمة هذا المقال . وبالتالي فان شيعة العراق كان سلوكهم على الدوام هو تصرف دفاعي وليس هجومي , بسبب انقسامهم وتشظيهم وفقدانهم للتضامن والهوية .