رمزية اللاشعور على واقع المستقبل[قصة قصيرة]


محمود الرشيدي
2021 / 9 / 22 - 00:12     

كعادته في الإسترخاء عند كل قيلولة يُشبك لقمان أصابع يديه ويُرسلها الى الخلف كوسادة فوق الوسادة ، ويمدد رجليه ، اليمنى فوق اليسرى، ثم ينطرح إلى الوراء ويغمض عينيه .
بسرعة، تَظهر الشاشة السوداء التي تتراقص فيها بُقع ملونة صغيرة ، تُغَيِّر جلدها في كل مرة ،كما تُغَير مكانها هنا وهناك .
أما البُقَع الأكبر الناصعة البياض فهي غالبا ما تتحرك في خط واحد وإلى جهة معينة، وتنطفئ قبل الوصول إلى حافة الشاشة.
الشاشة السوداء تَرَمَّدت ثم بدأت غيومها تنقشع وكأن أشعة مصباح غزتها من الوراء، ذابت الشاشة وساحت من كل جوانبها على أنغام إيقاعية انْخَفَتَت تدريجيا حتى صمتت، ليظهر موكب في مقدمته حصان لامع السواد يرقص بدون إيقاع والناس على شكل هلال حوله في خشوع تام.
دنا لقمان وعَيْنُه على الدابة الهائجة أو الفنانة، تسبقه يده اليمنى ولا يدري مَن ومتى سَيَلْمَس أَحَدَهم.
تَلَمَّس بمهارة الطبيب نتوءً صلباً لم يعهده في ظهر أحد ، حينما انتفض مفزوعاً ذلك القصير صاحب الحدبة وهو يصيح في وجهه :
  - ليس من حقك أن تضع يدك هناك، ألاَ تحترمون عورات الناس؟
-ماذا تقول ياأخي؟ متى كانت الحدبة عورة؟
-ومتى كانت لك حدبة حتى تعرف؟
-أنا طبيب ياسيدي.
-وهل أنت أحدب طبيب؟ هذا علم لا يعلمه إلا طبيب أحدب مختص .
-لم يسبق لي أن سمعت بهذا ، ومعلوماتي لا زالت طرية حديثة ، أُمَارِس فقط منذ سنة وبضعة أشهر.ونعمل بأحدث التقنيات في المجال.
كيف ذلك؟ تقول : حَدِيثُ التخرج، ولا تعرف المستجدات؟
-أية مستجدات؟
-بل قُلْ لي أنت..متى كانت دفعتك؟ اعطني سنة التخرج.
-أنا من خريجي سنة 2020.
-لم أسمع جيداً، أعد ما قلتَه أرجوك. هل قلتَ سنة 2020؟
-نعم.
-وهل نحن الآن في سنة 2021؟
-بكل تأكيد . إلاَّ إذا كنت أنت أتيتَ من كوكب آخر .
-وهل نحن إلاَّ فوق كوكب الأرض؟
-نعم نحن كذلك .
-إذن ، بَقِيَ شيء واحد. ألا تكون من أصحاب الكهف؟
-إذا كنت أنا كما تقول ، فمن أنت؟
-نحن ، حسب استنتاجي ؛ من أزمنة مختلفة ياسَلَفِي العزيز ، فأنتم تعيشون الآن في سنة2021، أمّا نحن فإننا في سنة 2345 .
تعجب لقمان من هذا الأمر وأحس ببرودة تَنْتَابُه وتَصَلَّب كأنه من أحد المعادن أو قطعة من القطع الأثرية يجوز بيعها. تحسس جسمه وراح يقارن بين هيأته كما عَهِدَها في المرآة ، وهؤلاء أمامه ، دون تمييز يُذكَر.
استعاد هدوءه وراح يتأمل الأحدب.
الأحدب لا يُظْهِر انشغالا بلقمان، ولا يَنْظُر حتى الى ناحيته ومع ذلك تنبأ بما يدور من أسئلة في خُلِْده وقال :
سأرفع عنك العجب فيما يخص العورة.
العورة هي كل عضو أو منطقة أو جزء في الجسم لا فائدة به أوفيه أو منه في إظهاره، فهذا يُعْتَبَر عورة يجب إخفاءه أو على الأقل ستره.
العينان ليستا عورة ، لأننا بهما نُحَقِّق الرؤية ، الأدنان كذلك ، وقِس على هذا .
أما الحدبة فهي بالإضافة إلى عدم الفائدة من إظهارها ، فهي مثيرةٌ للإنتباه والفضول، ومُدِلَّةٌ للطبيب المختص في هذا المجال ، لأنه تمكن من حيازة المرض لجسمه في إطار الإختبار والتجريب ، ولم يَتَوَفَّق بَعْدُ في علاجه ، ولهذا تُعتَبَر عورة .
-وماذا عن الطب؟
-هناك الطب العام القاعدي وهو عِلم يُدَرّس، وتقنيات تُمارس ، للمتفوقين في سائر مراحل التعلم، والأجدر من ذلك لمن يَكْشِفُهم حُبهم للناس قبل أن يُصنِّفوا لهذه المهنة.
أما الطب الخاص فهو إبحار أعمق وأدق في أحد فروع أجهزة الجسم الظاهرة أو الباطنة وكذا الأمراض النفسية والعقلية وغيرها.
ونصل أخيرا إلى الطب الخاص مع درجة التميز وهو كما أَسْلَفْتُ الإشارة اليه ؛ التعمق والتبحر والدقة في أحد الفروع من أجهزة الجسم بالإضافة إلى احتضان المرض داخل ذات الطبيب المختص تطوعا وبأية طريقة كانت يَتِمُّ زرعه، ثم التفاعل مع الوضع من الداخل والخارج من باب الدراية الشاملة للأسباب والنتائج والحلول ، وجَرْياً وراء العلاج حتى الشفاء ، أو الموت دون ذلك. ويُسَجَّل في هذه الحالة  المتطوع في ديوان يسمى ديوان أصحاب الإنسانية الراقيين ، ويُكْتَب على قبره =شهيد التضحية الكبرى =.
ِانْقَادَ لقمانُ مجروراً وراء توضيحات الطبيب الأحدب ، ولما سكت الأخير انتبه الآخر إلى اختفاء الموكب والفرس ، وَهَمَّ بسؤال الحاضر عن الغائب ، بعدما غاب الجميع.
أَطْفَأَتْ زوجة لقمان شاشة التلفاز عندما سمعت منبه سيارة  ، تبعه رنين جرس المنزل ودقات على الباب.
للتو سارعت لإيقاظ زوجها ، فوجدته قد استوى جالسا وهو يتعوذ ويحوقل ويسأل الله السلامة و العافية ، ثم أخبرته بأن سيارة المصلحة والسائق ينتظرانه أمام المنزل على غير المألوف ، لأن لقمان يعود لعمله غالبا بوسائله الخاصة .
قبل سماع ما جيء به من أجله ، سمع دقات داخل صدره. لكن ترحيب ومجاملة رئيسه أَنْسَيَانِه توتره .
بدون تعليق أو أَيَّةِ معارضة تَسلَّم مهمته الجديدة مع زملائه هناك وهو يردد في نفسه "قَدَّر الله ، وما شاء فعل".
في قاعة الإستعداد كَلَّم أسرته بأمر من رئيسه عن غيابه المفتوح إلى أجل غير محدد في قسم كوفيد 19، ثم تَسلَّم عُدَّتَه وبِدْلَتَه الحامية ، وراح يرتدي ويتهيأ كما يجب ، وهو يتذكر ما رآه في منامه  :  الدابة، احتضان المرض، المعاناة، التفاعل معه من الداخل والخارج، حب الناس، شهيد التضحية ، إخفاء العورة....
إبَّانَ تِعْدَادِ شدرات الحُلْم بدأ يُسْقِطها كترميزات واحدة تِلْوَ الأخرى على واقع الحال : سَتْرالعورة على البذلة الواقية، الدابة على الفيروس، شهيد التضحية، و.. و...
و ما بدا حقيقياً في تعبير لقمان لِحُلْمِه هو العدد 2345 الذي وافق مساء ذلك اليوم في نشرة الأخبار ، عدد المصابين بالفيروس