عن الموقف المطلوب من الأحزاب والفصائل الشيوعية والماركسية تجاه الجماهير الشعبية المتدينة


غازي الصوراني
2021 / 9 / 21 - 22:13     



في هذا السياق علينا ان ندرك جيداً ، حرص أحزابنا والتزامها – في كل الظروف- باحترام المشاعر الدينية لدى الجماهير الفقيرة، وأن العلاقة بينها وبين العمال وجموع الفقراء المتدينين في مجتمعاتنا، باعتبارهم مادة وهدف النضال الثوري ببعديه التحرري الوطني، والاجتماعي الديمقراطي، هي علاقة تستند بالأساس على تحريضهم وتوعيتهم ضد كل أشكال الاستغلال والاضطهاد والظلم التي يعيشونها، دون أي تدخل في معتقداتهم الإيمانية، فإذا كان لهذه الجماهير أن تتخلص من أوهامها الدينية، فإن ذلك لن يكون من خلال البراهين والكتب والكراسات فحسب، ولكن أيضاً ، بالدرجة الأساسية من خلال المشاركة في النضال الثوري التحرري والديمقراطي الاجتماعي في إطار الصراع الطبقي، وفي مثل هذه الحالة، يجب على رفاقنا في جميع هذه الاحزاب ، ضمان ألا تكون الاختلافات الدينية، أو الاختلافات بين المتدينين وغير المتدينين، عقبة في طريق وحدة نضال جماهير العمال والفلاحين الفقراء وكل الكادحين والمضطهدين ، فبقدر ما يصبح كل حزب أو فصيل من أحزاب اليسار العربي حزباً جماهيريا حقيقياً ، يقود العمال وجماهير الفقراء في أماكن العمل وفي المجتمع، بقدر ما سيكون في صفوفه فئة من العمال والفقراء الذين لا يزالون متدينيين، أو شبه متدينين. وسيكون رفض هؤلاء العمال بسبب أوهامهم الدينية موقفاً مرفوضاً ومضادا للماركسية.
لكننا في نفس الوقت، نحذر من سقوط بعض أحزابنا في مستنقع الغيبيات أو تبنى المنطلقات الدينية أو أن يقوم توجه الحزب السياسي واستراتيجيته وتكتيكاته على اعتبارات دينية، ذلك ان مستقبل أحزابنا الماركسية العربية وانتصارها يعني أن يسترشد كل رفاقنا بالنظرية الماركسية ومنهجها المادي الجدلي، بما يضمن التجسيد الثوري في التعبير عن المصالح الجماعية، وعن نضال الطبقة العاملة وجماهير الفقراء.
ولذلك يجب على كل كادر من هذه الأحزاب والفصائل في هذا المجال أن يكون واثقا من أنه هو من يثقف أعضاءه المتدينيين ويؤثر عليهم، وليس العكس، انطلاقاً من موقف واضح وصريح، يتجلى في أن تعاملنا مع المسألة الدينية بصورة موضوعية وعلمية ، يجب أن لا يقتصر على مجرد إبداء رأي أو تعامل مرحلي معها، أو حتى مسألة انتهازية انتخابية مثلاً، بل يتجاوز ذلك عبر الوعي العميق لبعض جوانب التراث الديني الثوري المنحاز للفقراء من ناحية، وعبر فهم الأفكار الأساسية والأهداف الاجتماعية والسياسية للماركسية في تطبيقها على واقعنا من ناحية ثانية .
وبالتالي، فإن أحزابنا وفصائلنا اليسارية العربية، إذ تعتمد الماركسية، كنظرية علمية لدراسة التطورات الاجتماعية من منظور ثوري نقيض للمنظور الرأسمالي الطبقي، فلا بد لنا من استخدام طريقة الماركسية ومنهجها الجدلي الذي يجسد شكل ومضمون المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية والاقتصاد السياسي والاشتراكية من أجل تحليل وتغيير الواقع الاجتماعي والسياسي المتخلف والتابع السائد اليوم في مجتمعاتنا العربية، وان هذا المنهج بما هو اداة لكشف وتحليل الظواهر الاجتماعية والطبيعية، يفرض على كل رفاقنا عموماً ، والكوادر الحزبية خصوصاً، أن يتابعوا بروح نقدية استكشافية عقلانية كافة التطورات والصراعات الاجتماعية، لتقديم الرؤى والبرامج واليات العمل الهادفة الى تغيير وتجاوز الواقع المحكوم من قبل الطبقات المستغلّة في مجتمعنا لحساب تحقيق أهداف المضطهدين وكل الكادحين والفقراء في الانعتاق والتحرر والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية.
وفي هذا السياق ، فإننا نشير إلى أن أياً من فصائل وأحزاب وحركات اليسار العربي، لم تنجح تاريخياً –وبدرجات متفاوتة- بتعميم وتكريس منهاجها الأيديولوجي ومنطلقاتها التربوية الأخلاقية، وثقافتها العقلانية على قواعدها التنظيمية من الناحية الجوهرية، وبالتالي ظلت الايديولوجيا بوجه عام، غير ممأسسة تنظيمياً ومتناثرة ومحصورة أو محاصرة او هامشية مهملة ، ولم ترتق بأفضل أحوالها لتشكل منهجاً رئيسياً ناظماً للحياة التنظيمية او حالة فكرية جماعية أو قاعدة واسعة لوعي نظري منظم، الامر الذي يستدعي من هذه القوى والأحزاب الماركسية العربية، أن تبدأ جدياً بتفعيل البعد الأيديولوجي باعتباره أحد أهم مرتكزات حزبها وصيرورته الراهنة والمستقبلية، عبر الالتزام بمأسسة النشاط الفكري في اذهان رفاقها بما يضمن إحياء وتجديد إطار التفاعل الجاري بشأن إعادة الاعتبار للنشاط التثقيفي لمنظمات حزبها القيادية والكادرية والقاعدية، كبوصلة ومرجعية اولى لمسيرة نضالنا وتحقيق اهداف شعوبنا وجماهيرنا الفقيرة في التحرر الوطني والديمقراطي على طريق الثورة الوطنية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية .
ووفق هذه الرؤية ، فإننا نرى في طروحات ومفاهيم وبرامج حركات الإسلام السياسي الرجعية طروحات نقيضه للحداثة والتطور والديمقراطية والتحرر والنهوض، وهي أيضاً تكريس للتخلف والتبعية والاستغلال الطبقي ولكل مظاهر الاستبداد والقهر ، وبالتالي فإن نضال فصائلنا وأحزابنا الثورية، ضد القوى الرجعية والظلامية هو نضال سياسي ديمقراطي مجتمعي في إطار التناقضات الداخلية، جنباً إلى جنب مع نضالها وتناقضها الرئيسي التناحري ضد التحالف الإمبريالي الصهيوني في بلادنا ...
وفي هذا الجانب، نؤكد على أن قناعتنا بأهداف التحرر الوطني والديمقراطي، يعني في أحد جوانبه، النضال من أجل تطبيق الديمقراطية ببعديها السياسي والاجتماعي في بلادنا ، لكن هذه العملية لا يمكن تحققها بدون الرؤية الموضوعية لمفهوم العلمانية، الذي نفهمه ونتعاطى معه كشرط من شروط الديمقراطية، وباعتباره مفهوماً لا يتناقض مع الدين، وليس منافساً له ، فالعلمانية، ليست مذهباً أو تياراً فلسفياً وليست نظرية معرفية، ولا هي نظرية في علم من العلوم، كما ان العلمانية بالنسبة لنا ، لا تعني عقيدة لا دينية ، ولا استبعاد الدين من الحياة العامة، ولا تقييد الحريات الدينية ، انها تعني حياد الدولة ومؤسساتها تجاه الاديان والعقائد حتى تضمن المساواة الكاملة بين مواطنيها بصرف النظر عن اعتقاداتهم.
ومن ذلك المنطلق الثوري بإمتياز ، تتبنى الماركسية مصالح وتطلعات كافة المضطهَدين عموماً والطبقة العاملة خصوصاً، بوصفها الطبقة المنتِجة غير المالكة، وكذلك النساء باعتبارهنّ الجنس المضطهد، إلى جانب دفاعها عن قضايا ومستقبل تحرر الأمم والشعوب المقهورة، وهذه نقطة أساسية في التثقيف الثوري لسبب بديهي هو التالي: قبل أن يتعلّم المناضلون الماركسية كعلم، ولكي يستوعبونها حقاً، لا بد لهم باديء ذي بدء أن يتلقنوا منطلقاتها الأخلاقية ويجعلونها منطلقاتهم، وإلا فما قيمة "المناضل" الذي حفظ "قرآن" الماركسية عن ظهر قلب ولا تزال عادات التعالي الاجتماعي إزاء الأتعس منه حظاً، والذكورية والعنصرية والقومجية العنصرية والشوفينيه تخيّم على أطباعه. فما نفع "المادية الديالكتيكية والتاريخية" إذا درسها ذاك "المناضل" وهو لم يتخلص من رواسب سلبيات تربيته الاجتماعية التي تتناقض مع مبادئ ومفاهيم الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية .
إن المنطلقات والمفاهيم التربوية والأخلاقية الماركسية لا يمكن دراستها كأي"علم" بل فقط كمبادىء أخلاقية يجب التحقق من فهمها ليس عن طريق التثقيف فحسب، بل في الممارسة داخل الحزب، وعلى مستوى الحياة اليومية .
وفي هذا السياق ، فإننا نجدد تأكيد التزامنا باحترام المشاعر الدينية السائدة في أوساط الجماهير، بمختلف مذاهبها وطوائفها ، وذلك انطلاقاً من اعتبارنا للدين أحد أهم مكونات الثقافة العربية الإسلامية، علاوة على أنه مسألة خاصة ، شخصية وضميرية بين الإنسان والسماء، وبالتالي لا بد من فصله –بالمعنى الموضوعي- عن الدولة، وفق ما أكد عليه العديد من علماء وشيوخ المسلمين أمثال عبد الرحمن الكواكبي وعلي عبد الرازق ومحمد عبده وطه حسين وأحمد لطفي السيد وغيرهم ممن رفعوا شعارات التنوير والديمقراطية وحرية الرأي والمعتقد في إطار رؤيتهم العلمانية الهادفة إلى اثراء الجدل للعلاقة بين الدين والدولة، بما يتجاوز الفهم السطحي لمقولات ماركس حول الدين من جهة ولمفهوم العلمانية من جهة ثانية.