سعدي يوسف بين الشعر والثقافة والسياسة. فلنغسل الجرح


أحمد الناصري
2021 / 9 / 21 - 17:44     

لنفتح ونداوي الجرح العراقي العميق النازف، كي نغسل كل هذا القيح والخراب بالعشب والماء والطين العراقي. نتحاور ونتصارح، نتفق ونختلف، لكن على أسس واضحة، بشروط معرفية دقيقة صارمة.
أولاً لا شيء في الحياة (مقدس)، أي خارج النقد والجدل والخلاف والمراجعة، سواء بالأدب والفن والشعر والشعراء والثقافة، أو السياسة والفكر والدين والتاريخ، وبكل شيء يتعاطى مع قضايا الإنسان ويتعلق به. ثانياً يبقى الخطأ خطأ بذاته، بعض النظر عن مصدره وأسبابه وحجمه ونتائجه، حيث يمكن مراجعة وتصحيح بعض الأخطاء، أو تشخيصها والاعتراف بها ومعالجتها.
ليس هناك خلاف كبير على مكانة سعدي يوسف الشعرية، وأنه كان الأول بين الشعراء العرب قبل رحيله، أو في الصف الأول بين الشعراء العرب لمن يريد أن يتحفظ أو يجادل ويعاند، مهما كانت أسبابه، نقدية أو مزاجية! وهو الشاعر الذي كتب أطول قصيدة عربية، ب ثلاثة وأربعين ديوان شعر، جمعها بثمانية مجلدات كبيرة، إلى جانب القصة القصيرة والرواية ومسرحية واحدة إلى جانب الترجمات المهمة، وآراء بفن الشعر واللغة والسياسة.
أما قضية التذوق الشعري والفني بالعموم، هي ذائقة شخصية، تختلف معاييرها وميولها من شخص إلى آخر. مع ذلك كله فقد ادعى البعض منذ التسعينيات (من أن سعدي نشف ونضب وبدأ يكرر نفسه)، رغم أنه كان يواصل التجريب والإنتاج الغزير والعميق والجديد، وكتب النص المستقبلي المدهش، حتى في آخر نص له، وقد تجاوز الثمانين، فكيف بمن يعش ثمانين حولاً، ويستمر بكتابة الشعر الصافي حسب زهير بن أبي سلمى...؟ وآخر ما جربه (السونيت)، عندها لا بأس بنص ركيك أو قصيدة ضعيفة ومكررة، بالنسبة لأي شاعر. فهذا طبيعي ووارد في سيرة شاعر أنتج آلاف القصائد والنصوص، ونشر عشرات الدواوين المهمة، لكن ذلك لا يوصل ولا يؤدي الى الهجوم العدمي الجاهز أو المتجزأ والمجزأ والمقطّع، في حملات ونقاش بلا ضوابط وشروط وأصول معرفية بسيطة!
سعدي يوسف شاعر ومثقف، وليس سياسياً متخصصاً (كما هو السياب، وربما يكون الشاعر سياسي فاشل)، لكن سعدي يوسف له تجربة وعلاقة بالسياسة والعمل الحزبي والنضال والمنفى والتشرد والاضطهاد والسجن والتهديد بالاغتيال، كما كانت لديه آرائه النقدية وخلافاته. عمل في صفوف الثورة الفلسطينية، وكان محاصراً في بيروت أثناء عدوان واجتياح حزيران 82 الصهيوني. وهو صاحب مبادرات ثقافية سياسية ونشاطات ومجلات كثيرة، كان أهمها وآخرها دعوته لتشكيل جبهة ثقافية ضد الاحتلال! حيث كان لسعدي يوسف موقف سياسي وطني متميز ومتقدم، من الاحتلال والمثقف التابع والعملاء والجريمة والكارثة التي أطاحت بالوطن، بينما كان هناك من أيد الاحتلال وتعاون معه كعميل رخيص، بدرجة مترجم أو مستشار، أو مبرر، في مواقع عديدة وواسعة. وهناك من صمت على الجريمة. وسعدي يوسف لم يصمت، وكان صوته عالياً واستخدم أسلوب الصدمة والقساوة في المواجهة، وكشف حقائق ومعلومات خطيرة جداً. هذا هو موضوع الخلاف الرئيسي (حول الاحتلال والموقف منه). من هنا بدأت القطيعة وحملات العزل المنظم والتشويه الحقيقية الأولى المبكرة. هنا القضية الرئيسية. لكن سعدي يوسف وقع بأخطاء وانفعالات (لاحقة ومتأخرة) غير مبررة ولا دقيقة (بعضها لم أجد لها تفسيرا منطقياً، في ضوء ثقافته العالمية العميقة!). وهناك خلافات أكيدة معه حول هذه المواقف. كما كان أسلوبه أحياناً عنيفاً وصاخباً، بالنسبة لخصومه وأصدقائه، شمل وهاجم بعض الأصدقاء.
الآن، ما هو حجم وطبيعة هذه الأخطاء والخلافات حولها، وتأثيرها على موقفه الوطني الرئيسي؟ هل أسلوب الصدمات وقرع الخزان بقوة مطلوب في الكوارث والحرائق للتنبيه عن حقيقة الوضع؟ هل كان سبب انفعال وغضب سعدي رداً على الحملات القذرة الجائرة التي استهدفته؟ (لا اقصد هناك كل من يكتب ملاحظة أو شتيمة على الفيس بوك مثلاً)!
ففي الجانب السياسي الوطني، كان سعدي يوسف يواصل ممارسة واجبه وحقه الوطنيين، كما يقول، إزاء مذبحة وحريق الوطن، حيث لا يجوز فيها لإنسان أو شاعر أو مثقف أن يتفرج على الحريق وينشغل بالشعر الصافي وتجاربه اللغوية الصرفة، دع عنك المشاركة في الجريمة ونشاطاتها. والوضع لا يحتمل التردد أو المواقف المشوشة، إنما يتطلب تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية، وليست المستعارة أو غير المباشرة! وهذا ما يمارسه سعدي يوسف بحرية مطلقة تتناسب مع محنة الوطن والعقل والخراب، التي يمر بها مجتمعنا.
سعدي يوسف يكتب من موقع وموقف وطني معروف، يعطيه الحرية والحق أن ينتقد ويهاجم كل موقف أو جهة أو شخصية يختلف معها ويتهمها بالمشاركة أو الصمت على جريمة الاحتلال والطائفية والدم والخراب، ولا يوجد احد من هؤلاء مقدس أو محصن من النقد، ولا شيء مقدس عدا الإنسان والدم العراقي المسفوك في الشوارع، مثلما الإنسان الذي يتفوق على ما عداه في الحياة وفي التاريخ، فله الحق أن يهاجم من تبادل الرسائل مع بريمر، بواسطة خائن ساذج ودمية صغيرة، ساهم في تخريب الأمن. ومن حقه أن يدافع عن مدينة وطنية منكوبة دمرها الأمريكان هي الفلوجة، ما زالت أجنتها وولاداتها المشوهة تملآ مستشفياتها البدائية ومستشفيات بغداد، كذلك كشف اللقاء بمنظمة الأيباك الصهيونية، وهي لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية، دون توضيح أو تفسير أو اعتذار من الطرف الآخر. كذلك نشر صورة هيرو زوجة جلال الطالباني مع ليفني، وهي مواقف تتطلب الجرأة والوضوح وعدم الصمت لحساسيتها وخطورتها البالغة.
سعدي يوسف متابع دقيق للوضع السياسي العراقي وللكارثة الوطنية، وله مصادره الكثيرة. والخلاف الحقيقي معه من قبل البعض قائم على أساس الموقف الأصلي من الاحتلال وتفاصيله، لمن مارس خيانة وسقوط ثقافي وسياسي وشخصي وأخلاقي، قبض ثمنه المحدد والمعلوم، بأساليب رخيصة وبائسة. وهو موقف مسبق جرى على أساسه محاولة عزل سعدي والهجوم عليه لإقصائه وإسكاته، والتخلص من ثقله الثقافي وتأثيره المعنوي في كشف ذلهم وعارهم وخيانتهم التاريخية المدوية، والخلاف العميق على تفاصيل الجريمة والكارثة الحالية، ومن يتحمل مسؤوليتها.
يبقى اعتراض بعض الأصدقاء على التوقيت والأسلوب الذي يكتب فيه الشاعر سعدي يوسف، واستخدامه لكلمات جارحة وغاضبة، حسب تقديرهم. هو أمر يحتمل الاتفاق والقبول أو الخلاف والرفض. لكنه شأن متروك للكاتب نفسه وحريته وأسلوبه. حيث له تقديره في ممارسة تلك الحرية الكاملة، ومحاولة نقلها للآخرين، في وضع كارثي، يسير حثيثاً في دهاليز الدم والجحيم، ولا يحتمل الصمت أو التردد والانتظار والمجاملات الفارغة...
شخصياً أتفق تماماً مع الموقف السياسي الوطني المتقدم والواضح والجريء لسعدي يوسف، من الاحتلال والطائفية والمخاطر الرهيبة التي تهدد شعبنا، ومن الكارثة الوطنية الشاملة التي يمر بها مجتمعنا ووطننا. وكنت في حوار دائم ومعمق معه، ولي اعتراض على بعض المواد والكلمات والنعوت، التي يطلقها الشاعر على بعض الأشخاص، لكن ذلك يعد أمراً ثانوياً (يمكن نقده ومعالجته وتصويبه والتراجع عنه) وليس أساسياً، كي يقارن به موقفه الصائب العام!
يبقى هناك مجال أو هامش خاص للشاعر والفنان في مواقفه وسلوكه وحتى أخطائه.
أخيراً، طبيعة (أخطاء) سعدي يوسف لا تقارن (لا أريد أن أقارن) ومختلفة عن أخطاء السياب (كتبت عن السياب الشاعر الكبير وليس السياسي)، كذلك مواقف عزرا باوند من الفاشية والتدمير، ومواقف وتجارب كثيرة لشعراء آخرين، لكن الزمن تجاوز تلك الأخطاء وعالجها، وعادوا إلى الشعر وبقائه وتأثيره، بعد إن انتهت تلك التجارب والمواقف السياسية المحددة، وتوقف تأثيرها نتائجها.