قيلولة نضالية


محمد علي مقلد
2021 / 9 / 21 - 10:22     

أحد عشر عاماً من القيلولة تقطعت باجتماعات تحضيرية للمؤتمر السادس شاركت فيها بصفتي عضواً في اللجنة المركزية للحزب، استغرقت مئات الساعات من النقاش خلال عامين تقريباً، بحسب تقرير اللجنة التحضيرية، وكانت تعقد بسرية تامة، إذ تنتقل كل مجموعة بسيارة إلى المكان المحدد، مرة في الشوف وأخرى في عاليه ومرة في المتن الأعلى ومرات في البقاع.
في المؤتمر الذي انعقد عام 1992 كنت أميل إلى عدم الترشح لعضوية اللجنة المركزية، غير أن الفريق المناوئ لالياس عطالله أصر على ترشيحي لأكون في عداده لمواجهة الفريق الذي كان سبباً باستبعادي مع آخرين عن المهمات العملية منذ صيف 1983. واستمريت على هذه الحال من البطالة الحزبية حتى انعقاد المؤتمر السابع بعد استقالة جورج حاوي من الأمانة العامة، إذ تقرر تعييني عضواً في قيادة الجنوب المؤلفة من أعضاء اللجنة المركزية ومسؤولي المنطقيات بقيادة عضو من المكتب السياسي. كان ذلك في بدايات عام 1994.
بيد أنها لم تكن قيلولة بالنسبة لأهل الجهاز الحزبي المشغول بقضايا أمنية كبرى تتعلق باغتيالات طالت رموزاً كبرى في الحزب من بينهم عضو المكتب السياسي خليل نعوس والأستاذ الجامعي مهدي عامل وطبيب الأعصاب لبيب عبد الصمد وكبير شهداء الجنوب حكمت الأمين؛ والمشغول أيضاً بقضايا صغرى تخص الصراع على السلطة داخل الحزب.
خلال تلك الفترة أنجزت دراستي الجامعية في السوربون وناقشت رسالتي بتاريخ 31 آذار 1987، وفي غيابي حصلت معظم الاغتيالات، لم يكن نصيبي منها أنني خسرت فحسب أصدقاء لي تجمعني بهم، فضلاً عن العلاقات الرفاقية، روابط من كل نوع، صداقة وسمر وسهر وندوات وثقافة وقيم أخلاقية واجتماعية، بل طالتني النميمة والقال والقيل من منبعها في الرميلة التي احتل الشيوعيون المهجرون من الجنوب وغير المهجرين أيضاً بيوتها، فبدل أن أتلقى تهاني القيادة والرفاق بمناسبة حصولي على شهادة الدكتوراه، قابلوني بالتخوين وحسبوا غيابي لشهر ونصف لنقاش رسالتي الجامعية سفراً مقصوداً وشكلاً من التخفي والهروب خلال فترة الاغتيالات. للعلم، اغتيل مهدي عامل بعد عودتي من باريس بشهرين، وشاركت في تشييعه في جامع الإمام علي في الطريق الجديدة، وكان يسير إلى جانبي لمراقبتي عنصران من حزب الله. في تلك الفترة كان الحزب قد طلب مني، وكذلك طلب من رفاق آخرين، نقل مكان السكن إلى الرميلة. أنا رفضت ذلك، لأن تغيير مكان السكن لا يعني شيئاً طالما ظل دوامي الوظيفي معروفاً بين الثانوية والجامعة في مدينة صيدا.
فترة القيلولة تلك كانت فرصة للمراجعة لأنها وضعتني على مسافة من الحياة التنظيمية الداخلية، ووفرت لي متسعاً من الوقت للقراءة وللنظر إلى مواقف القيادة عن بعد. خلالها تعرفت على النتاج الفلسفي في المغرب وقرأت لمحمد الوقيدي ومحمد عابد الجابري وشاركت في ندوة عن الطيب تيزيني عقت في قصر الأمير أمين دعاني إليها الرفيق محمود أبو شقرا، وكتبت لمجلة الطريق أول بحث عن الأصوليات بطلب من كريم مروة. وخلالها تعرفت على شلة من رفاق يساريين من منظمة العمل الشيوعي اعتزلوا العمل السياسي وظلوا على ارتباط وثيق وصادق بالقضايا الوطنية، من بينهم سمير الزين ومحمد حرب وحسين حرب، فضلاً عن آخرين من أصدقائهم. وخلالها تعززت علاقتي برفاق من الحزب الشيوعي يجمعنا، فضلاً عن أوضاع تنظيمية متشابهة، جيرة في السكن في عبرا والهلالية شرق صيدا، فكانت شلة دائمة التواصل مع أحمد قشور في نهارات صيد الفر في الربيع ودجاج الأرض في الخريف، وفي معظم المساءات مع عباس أبو خليل و حسن مروة وعلي غريب وعبد الأمير عسيلي وحمزة عبود وخليل عسيران، والصديقين علي عطوي ومصطفى حرشي اللذين بدأت علاقتي بهما من سنة 1962 يوم كنا معاً في صف البريفيه، فضلاً عن صداقات قديمة جديدة مع أساتذة الجامعة، شبيب دياب وعلي شعيب واسماعيل غزال الذين استمرت علاقتي وثيقة بهم حتى بعد بلوغنا سن التقاعد.
مدينة صيدا كانت ملاذنا الآمن. كنت سعيداً جداً لأن الصدفة الوظيفية جعلتني أسكن فيها، لا في العاصمة بيروت، من بداية حياتي الزوجية عام 1974 إلى ما بعد تقاعدي الوظيفي، أو بالأحرى استقالتي من الجامعة اللبنانية عام 2009. صيدا مدينة طابعها التجاري حديث العهد وعلاقاتها قروية. الأهالي يعرفون بعضهم حسباً ونسباً، ربما بفضل ذلك لم تشهد اشتباكات مسلحة خلال الحرب الأهلية كما حصل في بيروت أو طرابلس. كان ممثل الجماعة الإسلامية عضواً في المجلس السياسي للحركة الوطنية بقيادة مصطفى سعد، وفي الفترة الصعبة التي مر بها لبنان قبل انعقاد مؤتمر الطائف ظلت مؤسسات الدولة في المدينة توفر الخدمات في قطاعات الاتصالات الهاتفية والمياه والكهرباء من غير انقطاع، بمساعدة سخية من المتمول الصيداوي رفيق الحريري قبل أن يصير رئيساً للحكومة.
جو الإلفة هذا بين من يعيشون قيلولتهم النضالية تعزز في فترة لاحقة بلقاء يومي مع شخصيات صيداوية، محمد علي الجوهري، مصطفى البربير، محمد أبو علفا، جودت الددا، حمل اسم لقاء إلبادرينو وهو إسم المقهى الذي كنا نلتقي فيه عصر كل يوم، ثم تحول اللقاء إلى نوع من المنتدى الذي استقبل شخصيات ثقافية وسياسية وصحافية معروفة مثل أحمد بيضون وأنطوان حداد وحارث سليمان ومالك مروة وجميل مروة وجبور الدويهي وآخرين.
في مدينة صيدا تعرفت قبل القيلولة على قادة المدينة ووجهائها، من موقعي، ممثلاً رديفاً للحزب الشيوعي إلى جانب الرفيق علي العبد، في القيادة المشتركة اللبنانية الفلسطينية التي كانت تعقد اجتماعاتها بقيادة مصطفى سعد عن الحركة الوطنية والحاج اسماعيل عن حركة فتح وحضور ممثلين عن التنظيمات الفلسطينية وعن أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية، من بينهم عدنان الزيباوي ممثلاً منظمة العمل الشيوعي ومحمد سليم ممثلاً الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي قضى اغتيالاً برصاص عناصر من حزبه بعد الاجتياح الاسرائيلي.
اجتمع هؤلاء ذات ليلة على مأدبة عشاء في منزلي في عبرا، وإذا بأحد المسلحين يطرق الباب ليوصل رسالة إلى مسؤوله الحزبي محمد سليم، فتحت زوجتي الباب وتعرفت عليه واحداً من مجموعة حزبية نفذت اعتداء جسدياً عليّ على باب الثانوية قبل عام. قام محمد سليم وتسلم منه الرسالة على الباب، وقررنا في تلك الليلة عقد مصالحة بين حزبينا في جرجوع لإنهاء ذيول خلاف نشأ مع دخول القوات السورية إلى لبنان عام 1976.
وفي صيدا تعرفت إلى زملاء في التعليم، مديرة الثانوية حكمت صباغ وزوجها نزيه الخطيب، مهدي عامل، حسن عبدالله، حمزة عبود، غازي اللقيس، الذين جمعتني بهم فضلاً عن الزمالة والصداقة علاقات رفاقية. غازي اللقيس تزوج من تلميذته مها الحلاق واكتشفا بعد أشهر أن مولودهما أصمّ. ومن باب الصدف أن وزارة التربية اختارت غازي استاذ الرياضيات في بعثة علمية إلى فرنسا، فسافر مع عائلته وتمكن من معالجة ابنه واستقر هناك مع زوجته وثلاثة أطفال.
التقيته في باريس لأكثر من مرة خلال إقامتي في العام الدراسي 1983-1984 الذي كنت أحضّر فيه شهادة الدراسات العليا، وخلال زياراتي المتقطعة لمتابعة الدراسة كان يستقبلني في منزله، وفي الليلة التي سبقت جلسة دفاعي عن رسالة الدكتوراه دعا صديقة فرنسية على العشاء وقرر، من غير أن يخبرني، أن يخضعني ل"بروفة" امتحان، أقدّم خلالها العرض الذي علي أن أكرره صباح اليوم التالي أمام لجنة المناقشة في إحدى قاعات جامعة السوربون. زوجته مها أحاطتني باهتمامها خلال إقاماتي المتكررة في بيتها كأنني واحد من أفراد أسرتها.
خلال القيلولة النضالية تلك استقبلت في منزلي المتواضع في عبرا شرق مدينة صيدا أصدقائي ورفاقي ومهجرين من أهلي وأقاربي خلال عدواني 1993 و1996(عناقيد الغضب)، ومهجرين هاربين من حربي ميشال عون، الإلغاء والتحرير ومن حرب العلمين بين الاشتراكي وأمل في بيروت، إضافة إلى زيارات صيفية لعديليّ وعائلتيهما، شكيب قاطبيه وزوجته رنده وعلي الشامي وزوجته ريما. وفي هذا المنزل ذاته استقبلنا المولودة الأولى لشقيقي مقلد، ثروت التي حملت فيما بعد لقب دكتوره في الكيمياء. لم يكن منزلي ليتسع للعشرات دفعة واحدة لو لم تتوافر عوامل ثلاثة، الأول أن الطقس كان يساعدني على استخدام شرفة المنزل غير المسقوفة في الطابق الأرضي، وهي بمساحة ثلاث غرف، فضلاً عن غرفة يملكها صاحب المبنى ضممتها إلى منزلي، كانت قد احترقت في المعارك بين صيدا وشرق صيدا، فرممتها بعد موافقة مفتي صيدا سليم جلال الدين، بصفته أحد أقرباء أصحاب المبنى المهاجرين في إيطاليا.
أما العامل الثاني فهو أن جيراني في الطابق العلوي، حسين قطيش وزوجته منى الدرويش وعائلتهما كانوا يتحملون ضجيج المهجرين وصخبهم بصدر رحب، وجيراني حسين الصباح وزوجته سهيلة نعمة وأولادهما في الطابق الأرضي جعلوا شقتهم امتداداً لشقتي، فكنا نتقاسم وإياهم أفراح تلك الأيام وأتراحها. بفضل هاتين العائلتين الكبير عليّ تمكنت زوجتي من إنقاذي من المصير ذاته الذي تعرض له محي الدين حشيشو.
العامل الثالث، وهو الأهم، وجود دنيا شريكة حياتي في السراء والضراء والفرح والحزن والعمل والراحة والكرم. كانت على قول مارون عبود "مبيضة الوجوه" تستقبل كل قادم إلينا بأفضل صور البشاشة وحسن الضيافة والتكريم.
خلال تلك القيلولة كنت جامع شمل الأصدقاء الذين فرضت عليهم، ولكل منهم أسبابه، الابتعاد عن النشاط الحزبي، فاستبدلنا أوقات النضال بتنظيم حبنا للحياة، في المرح والفرح والسهر في كل الأعياد الخاصة والعامة والمناسبات والوطنية، ولم تنقطع تلك اللقاءات إلا حين شرعت ببناء منزلي في جرجوع في شباط من العام 1994.
خلال تلك القيلولة دعت الدولة الفرنسية إلى عقد مؤتمر لمؤسسات المجتمع المدني في باريس، مثلت فيه المجلس الثقافي للبنان الجنوبي وتعرفت أثناءه عن قرب على عصام خليفة المناضل النقابي الذي انتخبناه في ما بعد رئيساً لرابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية. على هامش ذلك المؤتمر التقيت بالشاعرين الصديقين حمزة عبود ومحمد العبدالله وبزميل الدراسة في دار المعلمين حسين قبيسي ودعوتهم إلى مائدة رندة شقيقة دنيا في جناح الفندق الذي تزامنت إقامة عديلي شكيب قاطبيه وعائلته فيه مع انعقاد المؤتمر. وقبل مغادرة شكيب الى الغابون جمعته في لقاء تعارف مع غازي اللقيس في منزل الأخير في إحدى ضواحي باريس ثم، بعد عودتهم إلى لبنان، مع حسان اللقيس شقيق غازي وزوجته منى التي حافظت على لهجتها الشامية رغم إقامتها في لبنان لأكثر من خمسين عاماً.
خلال تلك القيلولة ضاقت المساحة التي كنا نغالب فيها الوقت، خراج بلدة الصرفند لصيد طائر الفرّ وبعض قرى إقليم الخروب لصيد السمن ودجاج الأرض. كان يرافقنا في بعض تلك الرحلات الدكتور اسماعيل غزال زميلي في الجامعة الذي صار واحداً من أنسبائي. كنا ذات مرة نصطاد على ضفاف نهر الزهراني وتفاجأنا ونحن في غابة من أشجار الدلب والحور والسنديان بشخصين يحملان أسلحة حربية، طلبا منا مغادرة المكان ورافقانا منكسي السلاح حتى بداية طريق العودة إلى بيتنا في جرجوع. لم نكن نعلم أننا في رحلتنا تلك كنا نهتك أسراراً عن تحضيرات لحرب نشبت صباح اليوم التالي، عرفت بحرب إقليم التفاح، بين أمل وحلفائها من أتباع النظام السوري وبين حزب الله، وهي كانت في الحقيقة حرباً تنافست فيها سوريا وإيران على النفوذ في الجنوب اللبناني وعلى السيطرة على قرار الحرب والسلم والتسويات مع إسرائيل.