التنوير وتطور العلم وأثرهما على الدين


غازي الصوراني
2021 / 9 / 20 - 14:21     


لقد لعب الوعي الديني، حسب كارل ماركس، أدواراً متناقضة، سلباً أو إيجاباً، فهو من جهة "زفرة المضطهدين" في التعبير عن احتجاج الجماهير على الواقع، ومن جهة أخرى يساهم في "صياغة الوهم"، بتوظيفه من جانب القوى الاستغلالية لإدامة استغلالها، ولعلّ هذا الجانب الثاني هو المفهوم الذي شاع عن رؤية ماركس للدين، لا سيّما أنّ الوعي الديني كان هو السائد على أشكال الوعي الأخرى من فلسفة وعلوم وأخلاق، وشكّل الدين آنذاك الشكل الخارجي للصراعات الاجتماعية.
وكان اكتشاف إسحاق نيوتن قوانينَ الفيزياء الحركية والميكانيك، صدمة مؤثرة لعالم الغيب الذي ظلّ الدين متمسّكاً به، الأمر الذي وضع هذه القوانين في إطار الدراسة والفهم والتطوير، ومع أنّ مثل هذه القوانين لا تلغي الحاجة إلى الدين وإلى الروحانيات لدى الجماهير العفوية، فقد أخذ نجم العلم يرتفع عالياً، وقد ترافق هذا الأمر مع نظرية داروين واكتشافاته، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، التي دعا فيها إلى اعتبار أنّ الكائنات البشرية قد تطوّرت من أصل واحد بسبب طفرات جينية ووراثية، الأمر الذي يتعارض مع الأطروحات الدينية التي تقول "كلّنا من آدم، وآدم من تراب"، وهكذا ارتفع رصيد العلم على حساب الدين في سياق تطور وتقدم المجتمعات الأوروبية ، حيث نظر أوغست كونت، مؤسس الفلسفة الوضعية، إلى الدين باعتباره استلاباً فكرياً أما فيورباخ، الذي تأثر به ماركس في موقفه من الدين، فاعتبره استلاباً أنثروبولوجياً (إنسانياً)، وذهب عالم النفس سيغموند فرويد إلى اعتباره استلاباً نفسياً، بل وهماً يُصنع في العقل الباطن مثل بقية الأوهام.
وبعد عصر التنوير والنهضة، حولت أوروبا الدين إلى مجرد تقليد ومحاكاة، وتم إضعاف دوره لحساب دور الدولة التي حاولت التأثير على المؤسسات الدينية لتتساوق مع مؤسسة الدولة العليا وانحسر الدين في إطار الخاص أو العلاقة الفردية للمواطن مع الدين أو الكنيسة .
لكن على الرغم من كل ذلك، فالدين لم ينقرض في الغرب، مثلما بشّرت بعض الأطروحات، وعاد بقوة –للدفاع وتبرير المصالح الطبقية الرأسمالية الجديدة- بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وبلدان أوروبا الشرقية، مثلما لعبت الكنيسة في بعض بلدان أمريكا اللاتينية دوراً ايجابياً وديمقراطياً منحازاً للفقراء في إطار ما عرف بـ"لاهوت التحرير"، لكنه لعب دوراً سلبياً في الشرق ، خصوصاً في بلادنا العربية، نظراً لقوة انتشار وهيمنة التراث القديم والعادات والعرف والتقاليد المحكومة لمفاهيم القضاء والقدر وغير ذلك من المفاهيم القديمة في ظل تكريس التخلف الاجتماعي والاقتصادي، حيث المجتمعات ما زالت بعيدة، في الكثير من الأحيان، عن شروط التطور الاقتصادي الاجتماعي الديمقراطي النهضوي، لاسيّما حين تعجز الجماهير الفقيرة المضطهدة، عن إيجاد حلول لمشكلات الفقر والمرض والبطالة والعيش الإنساني والحرية، فلا بدّ ان تبحث عن معالجات لها في السماء، وبالوعد باليوم الآخر.
التفسير المغلوط لعبارة ماركس " الدين أفيون الشعوب" :
منذ "كتابة ماركس كتاب "أصول فلسفة الحق لهيغل"، فإنه يعترف بالمحتوى الآيديولوجي للدين وبدوره في الصراع الطبقي، وفي الوقت نفسه يعترف بمحتواه التحرري حين وصفه "روحاً لعالم بلا روح". كما قرأ ماركس وإنجلز المنجز الثوري للتقليد المسيحي، حيث تمثل المسيحية نتاجاً وهمياً لعالم معذّب وإسقاطاً ذهنياً لوعيٍّ مُستلب، ما يتطلّب إخضاعها للنقد لا التهجم عليها" ، وهذا هو المنهج الذي يجب أن نستخدمه في تعاطينا مع الدين الإسلامي في صراعنا السياسي الديمقراطي مع حركات الإسلام السياسي الرجعية ، لفضح إهدافها ومصالحها التي تخدم بصورة مباشرة أو غير مباشرة النظام الرأسمالي والمصالح الطبقية لأنظمة الاستبداد والاستغلال في بلادنا .
وفي هذا السياق ، فإن من المفيد الإشارة إلى المفكر الماركسي الإيطالي "جرامشي" الذي أكد في كتابه "دفاتر السجن" أن الدين هو أحد أركان البنيان الفوقي الآيديولوجي للتشكيلة الاجتماعية الملموسة، وهو متداخل مع بنيتها السوسيو-اقتصادية، وهنا يمكن التفريق في وظيفته من خلال مستويين أساسيين: الأول يتعلق بالمجتمع المدني، والثاني له علاقة بالمجتمع السياسي- الدولة التي تعتمد على وظيفة الهيمنة.
وقد حاول غرامشي، بعد ماركس وإنجلز، إعادة النظر في المسألة الدينية، لكنّ نهجه ظلّ بعيداً عن توجهات الماركسيين العرب، وقد استمدّ غرامشي نهجه من الممارسة الكفاحية العملية، ولم يستمدّه من الكتب والتعليمات.
وإذا كان ماركس قد قال في كتابه نقد فلسفة الحق لدى هيغل أنّ "الدين أفيون الشعوب" ، فإن هذه العبارة لم تُفهم في سياقها ، إذ أنه كان يقصد العلاقة بين الدولة البروسية والكنيسة البروتستانينه وموقفها من الدين باعتباره ضرورة لامتصاص ظلم ومعاناة العمال والفلاحين الفقراء، وضمان رضوخهم واستسلامهم تطبيقاً لمقولة "شيشرون" أن الدين شيء لابد منه للفقراء والعبيد لكي يقوموا بتنفيذ الاعمال الشاقة الموكولة إليهم وتَحمُّل عذابات الدنيا في مقابل أجرهم في السماء، وهنا بالتحديد يتجلى رفض ماركس للظلم الواقع على الفقراء باسم الدين، وتشبيهه بالأفيون الذي كان يستخدم علاجاً لتهدئة آلام المرض في زمانه .
فالأفيون في القرن التاسع عشر كان علاجاً طبياً وقانونياً يستعمل في الطب، وتتعامل به المستشفيات والمراكز الصحية، لا باعتباره مخدّراً ساماً أو مدمّراً لجسم الإنسان، وإنما هو مسكّن مؤقت من الآلام والأوجاع، ولم يكن النظر إليه كعمل إجرامي أو فعل مخالف للقانون، كما هو الحال في الوقت الحاضر، بل كان أمراً مرخصاً له ومسموحاً به ومفيداً .
وفي هذا الجانب، نشير إلى أنّ ماركس قد اقتبس عبارة "الدين أفيون الشعوب" من الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط، حيث وردت هذه العبارة في كتابه "الدين في حدود الفعل البسيط"، لكن ماركس أضاف قائلاً : "الدين هو روح عالم بلا روح" ويقصد بذلك تحديداً الطبقات الارستقراطية والبورجوازية الحاكمة التي تعيش عالماً بلا روح، وبلا أخلاق وبلا ضمير، انه عالم الاستغلال البشع للعمال والفقراء ، "لكنّ إسهام ماركس بالذات كان في البحث في وظيفة الدين وأسباب حاجة البشر إليه باعتباره "الزهرة الوهمية على قيد العبد" أو "زفرة المقهور". وقد استفاد ماركس من رؤية فيورباخ إزاء الدين، ولم يكن له موقف عدائي مسبق" .
إن عبارة "الدين هو روح عالم بلا روح" هي ردٌّ على الفكرة المادية المبتذلة، من أنصارها أو من خصومها، التي تعتبر الماركسية تهتم بالماديات فقط، وهي نقيض الروح التي تجسّد القيم الأخلاقية والإنسانية والمثل العليا، ففي استخدام ماركس يرى أنّ الحضارة الرأسمالية هي التي سلبت البشر روحهم، أي قضت على دينهم الحقيقي، ولأنه يريد القضاء على الاستغلال فإنّه يريد تحرير الروح من الهيمنة الرأسمالية من جهة، ومن جهة أخرى منع استغلال تلك الروح من قِبل المؤسسات الدينية التي توظفها بالضدّ منها. وكم هي صحيحة هذه اللفتة للتأمل في الردّة الحالية نحو التديّن تحديداً بسبب خواء رأسمالية عصر العولمة القيمي وفسادها الأخلاقي وفقرها الروحي" .
وبالتالي فإن ماركس بهذه العبارة، "الدين هو روح عالم بلا روح" أراد أن يبين فيها ان الإنسان البسيط الفقير المظلوم المضطهد ، يلجأ إلى السماء ويتمسك بالدين لكي يُهَوِّن على نفسه معاناته ومآسيه الحياتية، فالدين هنا ليس عزاء وسلوى لما هو فيه من فقر وبؤس وحرمان ، بل أيضاً ، يرى فيه المظلوم عزاءه وتعويضه عن انتفاء آدميته الناجمة عن الظلم الطبقي ، وهنا تتجلى عبقرية ماركس المعرفية الثورية في استخدامه لهذه العبارة، لكي يوضح أنّ الحضارة الرأسمالية هي التي سلبت البشر روحهم، أي قضت على دينهم الحقيقي، ولأنه يريد القضاء على الاستغلال، فإنّه يريد تحرير الروح من الهيمنة الرأسمالية وكل أشكال الظلم والقهر من جهة، ومنع استغلال تلك الروح من قِبل الطبقات الرجعية والبورجوازية الحاكمة، ومن المؤسسات الدينية التي توظفها بالضدّ منها من جهة أخرى. وكم هي صحيحة هذه اللفتة للتأمل في الردّة الحالية التي تتعرض لها مجتمعاتنا وشعوبنا العربية من خلال حركات الإسلام السياسي صوب مزيد من التبعية والتخلف والاستغلال، لخدمة مصالح الطبقات والشرائح الكومبرادورية والبيروقراطية والعشائرية ، تحت ستار ديني، يهدف إلى تكريس العلاقات الرأسمالية الرثة في سياق الخضوع للنظام الامبريالي المعولم وفساده الأخلاقي والسياسي وفقره الروحي والمعنوي.
وكان المؤرخ الفرنسي مكسيم رودنسون قد أحسن التعبير عن هذه الظاهرة قبل أكثر من ربع قرن. بقوله "لا أعرف إلى متى ستستمر الحركة الأصولية، فقد يصل ذلك إلى ثلاثة أو حتى خمسة عقود من الآن. لكنها في جوهرها حركة عابرة. وهي ستبقى، طالما كانت خارج الحكم، نموذجاً مثالياً تغذيه الإحباطات والمظالم الاجتماعية الدافعة إلى التطرف" . أما نبذ الحكم الديني، فلن يحصل الا بعد تجربة طويلة من المعاناة في ظله. باختصار: الأصولية الإسلامية الرجعية المعروفة بعمالتها وعدم تناقضها مع النظام الإمبريالي ورفضها لكل أشكال المقاومة والنضال الوطني التحرري ستسعى إلى تعزيز سيطرتها في مرحلة الانحطاط العربي الراهن لفترة زمنية مرهونة بنهايتها لتوفر البديل الشعبي الديمقراطي التقدمي القادر على استقطاب وتنظيم وتوعية الجماهير الشعبية من ناحية، والحامل لرؤية وبرامج سياسية مجتمعية ثورية تراكم عوامل الثورة لإسقاط انظمة العمالة والتبعية والاستبداد وإزالتها وتحقيق أهداف الثورة الوطنية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية.