الحياة لا الغرف المغلقة


حسن مدن
2021 / 9 / 20 - 11:25     

في البدء كانت المعرفة نخبويّة، لا بمعنى أنها مقتصرة على صفوة الناس من الأذكياء والنابهين فقط، وإنما تحديداً على أبناء الذوات منهم، حيث كان يجري النظر إلى المعرفة كثروة مثل المال يجب ألا يشاركهم فيها أحد من الرعيّة، الذين كان محظوراً عليهم تلقي العلم، أو أقلها لم يكن بوسعهم تلقيه، لأن دونهم وذلك فراسخ.
في الأصل كانت المعرفة شفويّة، قبل اكتشاف الكتابة، فضلاً عن الطباعة التي أتت بعد ذلك بكثير، ونفاجأ حين نقرأ للفيلسوف الإغريقي الشهير سقراط، الذي كان يُعد تقدمياً في حينه، قوله إن الكتابة لا يمكن أن تعتبر ابتكاراً، لأنها، في رأيه، لا تقدم أي جديد، فنحن لا نفعل سوى تدوين ما نقول أو ما فكرنا فيه، فالأحرف التي تصطف صفوفاً على الورق غير قادرة على الكلام، فهي لا تجيب عن سؤال من تلقاء نفسها، وليس بوسعها الاعتراض على ما نقول.
طبعاً لا يصح الاستخفاف كلية بهذا الرأي، فلعل الكتابة تُقيد تدفق الكلام الشفوي بالفعل وتؤطّره، ولكن ما أغفله سقراط هو أن الكتابة حفظت المعرفة ونقلتها عبر الأجيال، وهي، إلى ذلك، عمّمت المعرفة، فأخرجتها من دائرة النخبة المحتكرة لها لتغدو مشاعة لمن بوسعه فك الحروف. أكان سقراط يعبّر عن رأي النخبة الأرستقراطية في أثينا القديمة التي احتكرت حتى قيمة كبرى مثل الديمقراطية عليها، وحرمت منها من تعدّهم رعاعاً؟ ومع أن الإغريق هم من صاغ مفهوم الديمقراطية، ومن لغتهم دخلت هذه المفردة كل لغات العالم، لكنها لم تكن الديمقراطية التي نعرفها اليوم ومن أجلها تقدم التضحيات، لتكون أسلوب حياة في المجتمعات.
لم يقف هذا السعي الذي يمكن أن نسميه سلطوياً للاستحواذ على المعرفة عند حدود اليونان القديمة، وإنما استمر طويلاً عبر التاريخ. من ذلك أنه كان يُعرف عن الأديب البريطاني تشارلز ديكنز محبته لأن يقرأ مؤلفاته أمام الآخرين، وعندما علمت بذلك ملكة بريطانيا، في زمنه، أرسلت له دعوة للمجيء إلى القصر رغبة في سماعه يقرأ.
لكن ديكنز أجابها بأنْ وجّه لها بطاقة دعوة لحضور القراءة. أتراه أراد أن يقول إن مكان المعرفة هو فضاء الحياة، لا قصور الملوك؟
فيكتور شكلوفسكي، أحد الشكلانيين الروس البارزين، يرى أن التلفزيون بالذات شكلّ انبعاثاً للكلمة التي كان سقراط يفضلها على الكتابة. مع التلفزيون قررت الكلمة أن تبحث لنفسها عن جلساء في غرفنا.