نظام دوليٌّ مهترِئ، و عالمٌ ممزّق


محمد عبد الشفيع عيسى
2021 / 9 / 19 - 23:40     

تشير الفترة الانتقالية الراهنة من تطور العلاقات الدولية إلى حقيقة تبدو صادمة أو ملغزة"، تتمثل في حقيقة مزدوجة : فمن جهة اولى، تركز القوة بين ايدي قوة وحيدة او شبه وحيدة، كما يبدو من السلوك الدولي للولايات المتحدة الأمريكية. ومن جهة ثانية، العجز والاهتراء المميّزان للنظام الدولي في حالته الراهنة.
يشير الأمر الأول إلى أن نمط توزيع القوة في النظام الدولي يميل إلى تكريس نوع من الجمود النسبي وليس الى المزيد من المرونة . و يميل إلى المزيد من التركيز والمركزة وليس إلى توسيع هامش "انتشار القوة . ونقصد هنا اتساع رقعة نفوذ الولايات المتحدة الامريكية، وتعمّق قدرتها على التغلغل الجغرافي والموضوعي فى الأقاليم المختلفة من العالم ، وزيادة طابع "التعقيد" للسياسة الخارجية الأمريكية، اعتمادا على التنوع المضطرد في شبكة صنع وإدارة السياسة الخارجية للولايات المتحدة : ابتداء من التدخل العسكري المباشر وغير المباشر ، وممارسة الحرب والغزو، وانتهاج أسلوب "إشعال الحرائق المحدودة" ، وليس انتهاءً باستخدام وسائط الاتصال والتواصل الحديثة ، ضمن الممارسة الإعلامية – الدعائية ، ذات الطابع الأقرب الى "الحرب النفسية" كنموذج اتصالي فى أوقات الأزمات الكبرى المفصلية ، كالحروب والثورات والاضطرابات الواسعة دوليا محليا .
وقد تأكدت هذه الحقيقة اتساع رقعة النفوذ الأمريكي وتعمقه- عبر العقد الماضي من خلال عدة مؤشرات ، من بينها: قدرة الولايات المتحدة على تجاوز الآثار المباشرة "للأزمة المالية" لعام 2008 ، من خلال الاستخدام الممنهج لآلية "التشابك" ، وتحديث وسائل وأدوات "السياسة الاقتصادية، وخاصة أدوات السياسة المالية والنقدية ، عن طريق زيادة دور الدولة في تحقيق "التعافي ودفع معدل النمو الاقتصادي. ونقصد بالتشابك المشار إليه، ترابط شبكة المصالح بين الولايات المتحدة وعدد من القوى الدولية المؤثرة في المجال المعنى ، ضمن ما أصبح يسمى "مجموعة العشرين" ، وخاصة الصين واليابان ، والبلدان العربية في منطقة الخليج. ولعل الحقيقة اللافتة في هذا المقام ، بصفة خاصة ، هي تعمق حالة التشابك المالي والتجاري النسبي بين أمريكا والصين و خاصة حتى عام 2012، حين بدأت الصين في توسيع نفوذها بطريقة مهدِّدة للهيمنة المالية والنقدية الأمريكية، و مدّ هذا النفوذ أفقيا على الرقعتين الإفريقية والآسيوية بالذات، وكذلك رأسيا عبر تسنّم قمم تكنولوجية حاكمة في سلاسل الإمداد والعرض العالمية للقيمة المضافة العلمية-التكنولوجية. و وصل الأمر إلى حد شنّ الولايات المتحدة- في ظل إدارة ترامب – حربا تجارية واسعة في مواجهة الصين.
وفى المقابل ، وعلى سبيل المقارنة ، فإن دول الاتحاد الأوروبي كانت انتهجت سياسة اقتصادية ومالية مغايرة ، أدت إلى تعميق الأزمة في "منطقة اليورو" بعد 2010 بالذات، وليس إلى علاجها . نشير هنا إلى سياسة "التقشف المالي" Austerity و التي وقع عبؤها الرئيسي- من جراء خفض الانفاق الحكومي-على محدودي الدخل والطبقة المتوسطة. وقد بلغت الأزمة حدّا مقلقا في حالات محددة هي اليونان و أسبانيا والبرتغال وإيرلندا ، بينما لم تنج بريطانيا وفرنسا وألمانيا من ذيول الأزمة.

وأما الأمر الثاني الذي يشير إليه تطور العلاقات الدولية في الفترة الراهنة، ضمن الحقيقة المزدوجة المشار إليها آنفا، فهو ما يتبدّى من العجز والاهتراء الذي يميز النظام الدولي على العموم. ومن الأمثلة الدالة هنا، العجز عن معالجة جراح مفتوحة أمام الناظر إليها من كل باب ، كما هو الحال في العراق وسوريا واليمن وليبيا وكذلك لبنان، إلى غير ذلك، كما في "حوض النيل". ولا نذكر "أم الأزمات المستعصية"، أي القضية الفلسطينية التي أعْيت من يحاول الاقتراب من أي مدخل (معقول) بل و (واقعى)، و لا نقول "حقاني" لمأساة الشعب الفلسطيني ، في مقاومته البطولية منذ سبعين عاماً ويزيد. وبدلاً من العمل من أجل الحل، تجرى محاولات قد تؤدي إلى تعميق المشكلة الفلسطينية، هنا وهناك ، حتى بين ظهراني الوطن العربي الكبير ، تحت "لافتات" مختلفة دون وجل ..! هذه "جريمة العصر" كما قال البعض منا، و إن لم توجد لها أشباه ونظائر في عالمنا وعصرنا، فإن أوجه شبه قائمة بين ""المأساة الأم" ومآسٍ غيرها أصبحت عابرة للزمن، عبر عقود على الأقل، كما في حالة "الصومال" الجريح .
ولننظر أيضا إلى بعض ما جرى مؤخراً بمناسبة الأحداث المصاحبة للانسحاب الأمريكي في أغسطس 2021 من أفغانستان. و قل مثل ذلك عن الذى جرى، في وقت سابق قريب، بمناسبة الغزو الأمريكي للعراق واحتلاله عام 2003، وما جرى من تدخلات القوى الغربية الكبرى ، وبعض القوى العربية (الصغرى والمتوسطة) في كل من سوريا وليبيا بعد أحداث 2011.
و لعل ذلك يكشف إلى حدّ بعيد الزيف (النسبي) لادعاءات الامتثال للمبادئ (الليبرالية) منذ أوائل و أوساط التسعينات المنصرمة ، حين تم تدخل "حلف الأطلنطي" في حروب البلقان وخاصة في "يوغوسلافيا السابقة" – البوسنه وصربيا وكوسوفو – تحت مسمّى "التدخل الإنساني" .. و ما هي في حقيقتها إلا تصرفات "انتقائية الطابع" يحكمها المنطق العاري للمصلحة بمعناها الضيق ، للتحالف الغربي وأعضائه على اختلافهم.
هو نظام دولي مهترئ إذن، إن صح التعبير. هذا النظام يسبح في بيئة سياسية خانقة، ربما تعبر عن انعكاسات القلق الناجم عن تحولات عصيبة المحتوى، عصبية المظهر، حينما تشرف شمس قوة عظمى مهيمنة على الأفول، فتأبى إلا أن تغادر عالمها الذي حكمته زمنا، فإذا به ممزق شرّ ممزق وربما غير قادر على الحركة الذاتية. هذا إذن عالم يتركه الأمريكيون منقسما على نفسه، "سياسوي"، إن صحت العبارة، تتغلب النوازع السياسية الضيقة لأطراف منظومته المهلهلة على سلوكها العام وسياساتها الخارجية.
تبدو في ضوء ذلك، سمة ثالثة تسم العالم ونظامه، سمة التمزق على وقع "السياسة" بمعناها الضيق، معرّفة بوصفها المصلحة الضيقة التي تعرّفها بدورها أنظمة سياسية قليلة الكفاءة: الولايات المتحدة الأمريكية نموذجا خلال عقدين بالذات 2000-2021 : عشرون عاما بدأت بأفغانستان ( والعراق) وانتهت أيضا بأفغانستان (و العراق) على وقع الانسحاب من "الشرق الأوسط" و غرب آسيا.
فإلى أين من هنا..؟ هل إلى "أوراسيا" (حيث روسيا) و إلى الشرق الأقصى (حيث الصين) ؟
و هل هي الحرب ..؟ حرب أمريكا القادمة لمحاولة التخلص، ربما، من المأزق الوجودي المقيم؟
و مع من ضد من ؟ هل مع تايوان ضد الصين الأم، ومع كوريا الجنوبية ضد كوريا الشمالية .؟ وهل مع ألمانيا ( غير الراغبة أصلا) ضد روسيا؟
فيالها من خيارات بائسة تربك المسار وتضيّع الرؤية الثاقبة للأولويات. بدلا من أولوية إنقاذ الكوكب من الدمار البيئي، و إنقاذ غالبية سكانه من ربقة الحرمان وخاصة في القارات الثلاثة المعروفة، آسيا و إفريقيا و أمريكا اللاتينية- بدلا من ذلك، يتم التركيز على سياسة إبداء الاستعداد الردعي لحرب شاملة أو حروب جزئية، كلها عبثية. سياسة تشجع البعض ضد البعض، و تتبع سياسة (الأسد البريطاني) العجوز القديم: (فرّق تَسُد).
و بدلا من مدّ الأيدي معا لإنجاز تسويات تصالحية محقّة (حوض التيل نموذجا) أو لتضمّد جراح بلدان عريقة تهاوت غصبا ( سوريا وليبيا والعراق نموذجا) أو ترد "بعض الحق" لأصحابه (فلسطين)- بدلا من ذلك كله، يعاد إنتاج و انتهاج السياسات نفسها التي أثبتت فشلها المقيم عبر الزمان. وإن بعض الامبراطوريات الراهنة، التي ورثت نهج التتار ومن إليهم، لتأبى إلا أن تذهب إلى (حافة الهاوية) مرة أخرى، وقد تطيح هذه المرة بالكون، كليا أو جزئيا، في محاولات يائسة لإنقاذ نفسها و من أجل أن تُبقِي على هيمنتها العالمية لأطول مدى زمني ممكن.
إنها حرب الجميع ضد الجميع يريدونها لنا، فماذا نريد نحن..؟