ما أشبه اليوم بالبارحة (4)


فلاح أمين الرهيمي
2021 / 9 / 16 - 12:22     

مقارنة بين نتائج وثبة كانون عام/ 1948 وبين ثورة الجوع والغضب التشرينية عام/ 2019 عندما توهم الاستعمار وعملاؤه أن الأمر قد استتب لهم وإن الجو أصبح متهيئاً لإجراء الخطوة الكبرى لتكبيل الشعب العراقي بمعاهدة جديدة تكرس الهيمنة الاستعمارية على العراق لعشرات السنين. وتسربت إلى جماهير الشعب والقوى الوطنية الخطوط العريضة للمعاهدة الجديدة فإذا هي أشد وطأة من سالفتها (معاهدة/ 1930) فعملت سائر الأحزاب الوطنية على تحشيد الرأي العام لرفض جميع المشاريع والمعاهدات المخلة بالسيادة وللاستقلال الوطني وتشكلت لجنة طلاب الكليات والمعاهد وكانت هذه اللجنة تمثل الأحزاب الوطنية العراقية السرية والعلنية وكما تشكلت أيضاً (لجنة التعاون الوطني) التي ضمت الحزب الشيوعي العراقي وحزب الشعب والجناح اليساري من الحزب الوطني الديمقراطي والحزب الديمقراطي الكردي التي تمكنت من تحشيد أوسع جماهير الشعب لإحباط معاهدة (بورتسموث) وفي منتصف كانون الثاني/ 1948 وقع رئيس الوزراء العراقي صالح جبر وبيغن وزير خارجية بريطانيا القيد الجديد على ظهر البارجة البريطانية فيكتوري في ميناء بورتسموث وسمو المعاهدة بهذا الاسم تيمناً بموقع توقيعها. رفض الشعب هذا القيد الجديد مصمماً على مواصلة النضال لتحطيم قيود الذل والعبودية وعقدت لجنة التعاون الوطني اجتماعاً وأصدرت البيان والبنود التالية :
1) رفض معاهدة بورتسموث وإلغاء معاهدة / 1930.
2) توفير الخبز والكساء للشعب بأسعار معتدلة.
3) تحقيق الحريات الديمقراطية.
4) إسقاط وزارة صالح جبر وحل المجلس النيابي وإجراء انتخابات حرة لمجلس جديد.
وقررت لجنة طلاب الكليات والمعاهد إعلان الإضراب عن الدراسة والقيام بمظاهرات اعتباراً من اليوم التاسع عشر من كانون الثاني/ 1948 حتى تحقيق جميع الأهداف التي كان في مقدمتها رفض وإسقاط معاهدة بورتسموث واستمرت التظاهرات الجماهيرية الواسعة وسقط اثنان وعشرون شهيداً وعشرات الجرحى وأسقطت حكومة صالح جبر وهرب خارج بغداد وبعد أن عجزت الحكومة والبلاط الملكي من صد الجماهير المتظاهرة لجأ إلى استخدام سلاح التخدير والترقيد والوعود واستفادوا من تفكك العلاقات الجبهوية بين الأحزاب الوطنية وأعلنت الأحكام العرفية وتشكلت حكومة برئاسة أحد رجال الدين المعروفين وفشلت الوثبة وذهبت دماء الشهداء.
وكما في الأمس اليوم عندما دفع الفقر والجوع والحرمان والبطالة والفساد الإداري والمحاصصة الطائفية والمحسوبية والمنسوبية الجماهير الواسعة عندما دعوا نارها تورى وشمروا لها الزندا في ثورة الجوع والغضب التشرينية التي استمرت أكثر من سنة ونصف وقدمت سبعمائة شهيد وخمسة وعشرون ألف جريح وأسقطت حكومة عادل عبد المهدي وأقامت انتخابات مبكرة وكما في الأمس اليوم تدخلت الحكومة الجديدة بكلام منمق وأسلوب تخديري وترقيدي وتدخلت أحزاب وكتل وتسربت إلى صفوف الجماهير الثائرة وخلقت بينهم الضغينة والحساسية والفرقة والتشرذم وأدت إلى انسحاب جماهير ثورة تشرين من الانتخابات وقاطعتها وذابت الثورة وضعف وانتهى صوتها وذهبت دماء الشهداء بعد أن خفت الصوت وانتهى المطالبون بدماء الشهداء وأنا أتصفحها وأدرك أن الأيام ستأكلها وستأكلنا وستأكل آخر ما يتردد من صوت ويطويه النسيان غداً .. وسيخلو المسرح بعد الآن للمحظوظين .. من يدري من سيكون المحظوظ أنا أم أنت ؟ أم الإنسانيون المتباكون على إنسانيتنا الحيرى ؟
وأنا أتأمل أيامي وأوراقي وأحس أن الخوف يساورني ويقلقني .. وأنا أقرأ هوامش أوراقي تنهال كوابيس الرؤيا لأرى ما يخبئه الغد من وراء الأكمه فأتحسس عمق المأساة وعشوائية أدوار المحتفلين على مسرحها ومجازر مقترفيها فتلوح دروب موحشة إلا من بصمات خطانا تتوغل في جوف الوطن المستباح وتغوص بنا لترينا آثار دمائنا .. وتطاردنا هذي الفوضى وهذي الرؤيا والموت في الفتنة العمياء وانفلات السلاح.