لتحصينِ الإنسان.. من الانغلاقِ والتطرّف الفكري - كتاب «بحوث فكرية في الفلسفة ومناهج التفكير» للكاتب والمترجم «شاهر أحمد نصر»

عبدالحكيم مرزوق
2021 / 9 / 14 - 23:03     

في زمن تلعب فيه كثيرٌ من وسائل الإعلام، ومنابر الثقافة، دوراً هدّاماً في تشتيت الوعي وتحطيمه، ويزداد انتشار الخبلِ الفكريّ بين فئاتٍ واسعة من الناس، ويطغى التشوّش على تفكيرهم، ويضيق الأفق مع طغيان الانغلاق، والتطرّف في صفوفهم، تنتصب أسئلةٌ ومهام ملحّة أمام المفكرين، تتلخّص في إبداعِ ثقافةٍ ووعي يواجه الموت، والخبل، والانغلاق، والتطرّف، والخوف، والتخلف.. وعيٌ يسمو بإنسانيّة الإنسان، كي يبقى «في أحسن تقويم»، ويتحصّن من مختلفِ الشرور.. فما السبيل لتحقيق هذه المهمة؟!!
يأتي إصدار الكاتب والمترجم «شاهر أحمد نصر» لكتاب «بحوث فكرية في الفلسفة ومناهج التفكير»، محاولة للخوضِ في هذه المسألة، فيقول في مقدّمة الكتاب:
«من المسائلِ التي شغلت المفكرين والفلاسفة، فضلاً عن مسائلِ الوجود، وأصل الإنسان وعقله وروحه، والغاية من وجوده، ومصيره بعد الموت؛ مسألة أصل خصال الإنسان، ومنها خصلة الشرّ عنده؛ أهي فطرية، أم نزعة مكتسبة؟!.. إذ تمرّ البشرية بمراحلٍ يطغى فيها الشرّ، فيزداد السؤال عن مصدر الشرّ إلحاحاً، وهل سبب ذلك أن الإنسان مفطور على الشر؟! أم أن هذه الحالة ليست فطريّة، بل تعبّر عن أزمةٍ في تطوّر المجتمعات البشرية؟!.
أصعب الأسئلة التي يطرحها المرء على نفسه: "لماذا أعيش؟".
"من غايات الحياة أن نحيا" - يجيب من عركته الحياة - يمكن العثور على معنى الحياة في الحياة نفسها، في سيرورتها، فمن يحبّ الحياة، وتستغرقه تفاصيلها، ويؤدي «وظائفه» بما فيها البيولوجيّة والحيويّة» يفهم معنى الحياة، ولن يحتاج إلى التنظير في معناها..
تقودنا هذه المسألة، إلى محاولة الإجابة عن سؤال: ما هي ينابيع حياة الإنسان؛ أهي الحبّ، أم العمل، أم المعرفة، أم هي كلّها معاً؟. هل الحبّ مرتبط بوظائف الإنسان «البيولوجيّة والحيويّة والجنسيّة»؟.. هل يعطي الجنس معنى للحياة؟!.. هل المشكلات والأزمات التي يعيشها الإنسان والمجتمعات البشريّة، مرتبطة بالتناقضات الاجتماعيّة الطبقيّة السياسيّة وحدها؟، أمّ أنّ لاضمحلالِ مشاعر الحبّ في المجتمع، ولانتشار الكبت الجنسيّ، دوراً في تكوين شخصية الأفراد؟.
لعلّ أهم سبل تحقيق إنسانيّة وحريّة الإنسان، امتلاك منهج تفكير إنسانيّ متحضّر سليم، أساسه سيادة العقل، استدراكاً وتجاوزاً للالتباس القائل، إن العقل مصدر الخير والشرّ.. نؤكد على الجانب الإيجابيّ المتعارف عليه لمفهوم العقل، الذي يدعمه قول «سفيان بن عينة»: «ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشرّ، ولكن العاقل الذي يعرف الخير فيتبعه، ويعرف الشرّ فيجتنّبه».
منهج التفكير وسيلة.. لتمييزِ الخير من الشرّ.
لقد تعدّدت مناهج التفكير التي عرفتها البشريّة على مرّ العصور؛ وارتبط مستوى تطورها، بطبيعة البنى الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة السائدة والمهيمنة، في كلّ مرحلة من مراحل تطوّر المجتمعات البشريّة. تبين الدراسات التاريخيّة، أن المجتمعات التي يسود فيها منهج التفكير المنفتح على الثقافات الإنسانيّة عامة، يلعب دوراً هاماً في بناء شخصية إنسانيّة واسعة الأفق، جذابة متصالحة مع نفسها، ومع محيطها؛ من هنا تأتي ضرورة الاهتمام بمناهج التفكير، ووضعها ضمن المناهج الدراسيّة في مختلف المستويات التعليميّة، وإقامة الأبحاث والدراسات حولها، وصولاً إلى سبل امتلاكِ منهج التفكير السليم.
منهج التفكير السليم سرّ الحكمة. كلّما كان منهج التفكير ضيّقاً، ومتحزّباً، ومحدوداً، كانت الشخصيّة متحزّبة، محدودة، متعصّبة، منغلقة، سهلة الانقياد والتوجيه، والانحراف. أما منهج التفكير المنفتح على الثقافات الإنسانيّة عامة؛ فيساهم في بناء شخصية واسعة الأفق، جذابة متصالحة مع نفسها، ومع محيطها...
يلعب التحكم بمناهج التفكير في المجتمعات البشرية دوراً في غسل أدمغتها، ويسهّل سوقها إلى الزريبة، وإلى المقصلة... يترك مستوى تطور الجماعة البشريّة أثره على مناهج التفكير فيها..
من هنا يمكن القول: إن مناهج التفكير كثيرة، ومتعددة، ومتنوعة بمقدار تعدّد وتنوع الجماعات البشريّة، وتعدّد المسائل التي تعالجها، فمنها المرتبطة بالمرحلة والذهنيّة المشاعيّة، القبليّة، الدينيّة، المذهبيّة، الطائفيّة، الحزبيّة، القوميّة، الشوفينيّة والأممية...
مع تطور المجتمعات البشريّة وترابطها، أخذت تتلاقى وتتلاقح هذه المناهج، وتجد قواسم مشتركة فيما بينها، من حيث الأسلوب والمقومات؛ لتأخذ تسميات أعمّ، كمنهج التفكير العاطفيّ، السلبيّ، الهمجيّ، والعلميّ... التفكير العاطفيّ، على سبيل المثال، يعتمد على الناحية العاطفيّة والنفسيّة للشخص نفسه، في لحظة التفكير، وتحليل الظواهر والقضايا، ومن المتفق عليه أن هذا المنهج، لا يِؤدّي إلى نتيجةٍ صحيحة. أما منهج التفكير السلبيّ، ويمكن وصفه بالاستبداديّ، فيعتمد بشكلٍ أساسيّ على التشبّث بالرأي، وعدم الالتفات إلى آراءٍ أخرى، ومن المعروف أن هذا المنهج، يؤدى إلى كوارثٍ جمّة، لبعضها امتدادات عالمية، وهو لا يختلف كثيراً عن منهج التفكير الهمجيّ، الذي لا يراعي النتائج المترتبة عليه، ولا على الأفعال الناتجة عنه.
يأمل مؤلف الكتاب «شاهر أحمد نصر» أن يكون للأفكار التي يعالجها في كتابه، دور في عملية الوقوف في وجه المساعي التي تُبذل لتشويه إنسانية الإنسان، ولإبراز وجهه الغريزيّ المتوحش، وتنمية عوامل التطرف والإرهاب عند المجموعات البشريّة؛ وأن يساعد كلّ مهتم في بناء شخصية الإنسان التي تتجاوز الأمراض الغريزيّة والاجتماعيّة، العرقيّة والمذهبيّة والطائفيّة المنحطّة، وبناء المجتمع الإنسانيّ العادل، على أسس علمية موضوعيّة.
يُقسم الكتاب إلى بابين، الباب الأول: في الفلسفة ويبحث في تاريخ الفلسفة، وفي المقولات الفلسفية، والسجال بين الفلسفتين الماديّة والمثالية في كتاب «ف. ا. لينين» وعنوانه «الماديّة والمذهب النقديّ التجريبيّ»، ويختتم هذا الباب بفصلٍ يتضمن، محاولة للإجابة عن سؤال: هل يأفل نجم الفلسفة؟..
الباب الثاني: منهج التفكير سرّ الحكمة، ويبحث في جذور مناهج التفكير في منطقتنا، وفي مذهب الأفلوطينية الحديثة، والهرميونطيقا والتأويل، المذاهب الفقهية ومناهج التفكير عند العرب والمسلمين، وفي مسألة الخلافة وظهور الغلو في الفكر الإسلامي، وفي المنطق والبرهان ومناهج التفكير عند الفلاسفة العرب والمسلمين الأوائل، والبيان والعرفان والبرهان عند «محمد عابد الجابري»، ومناهج التفكير الحديثة، وتحذيرات بعض المفكرين الإسلاميين من مناهج الفكر الحديث، ورأي بعض المفكرين الإسلاميين في التأويل، ومناهج التفكير الأصلية، منهج التفكير الديالكتيكيّ، ويختتم هذا الباب بفصلٍ يقدم، نماذج في استخدامِ مناهج التفكير، فنتعرف إلى دورِ مناهج التفكير في تحليل بنية المجتمع السياسيّة والعقل السياسيّ، ونتعرف إلى مناهج تفكير مفكّرين سوريين وعرب معاصرين: في منهج تفكير الدكتور «طيب تيزيني» ومشروعه التنويريّ، «الفلسفة والعقل اليساري العربي- الياس مرقص أنموذجاً»، وفي منهج وتحولات الدكتور «صادق جلال العظم»، كما نتعرف إلى الدكتور «جورج طرابيشي»، والدكتور «حسين مروة» والفلسفة العربيّة الإسلاميّة...
يقع الكتاب في 442 صفحة من القطع الكبير، وهو من منشورات اتحاد الكتاب العرب بدمشق، ضمن سلسلة الدراسات - 2020.