رأس المال: الفصل الخامس والعشرون نظرية الاستعمار الحديثة(1)


كارل ماركس
2021 / 9 / 13 - 09:25     



نظرية الاستعمار الحديثة(1)
يخلط الاقتصاد السياسي، من حيث المبدأ، بين نوعين مختلفين جداً من الملكية الخاصة، يرتكز الأول منهما على عمل المنتج نفسه، ويرتكز الثاني على استغلال عمل الغير. وينسي الاقتصاد السياسي أن هذا الأخير ليس فقط النفيض المباشر للأول، بل إنه لا ينمو إلا على قبره.

لقد أنجزت عملية التراكم الأولي، إلى هذا الحد أو ذاك، في أوروبا الغربية، موطن الاقتصاد السياسي. فالنظام الرأسمالي، هنا، إما أنه أخضع كامل الإنتاج الوطني إخضاعاً مباشرة، أو أنه، حيثما تكون العلاقات أقل تطوراً، يسيطر، بصورة غير مباشرة في الأقل، على تلك الفئات من المجتمع التي لا تزال قائمة معه جنبا إلى جنب، رغم أنها تنتمي إلى نمط الإنتاج الشائخ، وتسير إلى الزوال. ويطبق رجل الاقتصاد السياسي، على هذا العالم الجاهز لرأس المال، تصورات عن القانون والملكية موروثة من العالم ما قبل الرأسمالي؛ وكلما تعالى صراخ الوقائع بوجه أيديولوجيته، فعل ذلك بمزيد من الحمية الوجلة والحنان الرقيق.

أما الوضع في المستعمرات فعلى خلاف ذلك. فهناك، يصطدم النظام الرأسمالي، في كل مكان، بمقاومة المنتج، الذي يستخدم، بوصفه مالكا لشروط عمله بالذات، هذا العمل لإغناء نفسه عوضا عن إغناء الرأسمالي. والتناقض بين هذين النظامين الاقتصاديين المتضادین تضاداً كلياً، يتجلى هنا، عملياً، في الصراع المحتدم بينهما. فحيثما يحظى الرأسمالي بدعم سلطة بلده الأم فإنه يسعى إلى أن يزيح من طريقه، عنوة، نمط الإنتاج والتملك القائم على العمل المستقل للمنتج. إن المصلحة التي تحمل الاقتصادي، الخادم الذليل لرأس المال، على أن يبرهن نظرياً في بلده على التساوي بين نمط الإنتاج الرأسمالي ونقيضه بالذات، إن هذه المصلحة نفسها ترغمه، في المستعمرات، على «أن يبوح بما في صدره» (to make a clean breast of it) والاعلان جهاراً عن التضاد بین نمطي الإنتاج هذين. ولهذه الغاية، فإنه يبين أن تطور القدرة الإنتاجية الاجتماعية للعمل – التعاون، وتقسيم العمل، واستخدام الآلات على نطاق واسع، وما إلى ذلك – أمر مستحيل من دون انتزاع ملكية الشغيلة ومن دون تحویل وسائل إنتاجهم، بالتالي، إلى رأسمال. ودفاعا عن مصلحة ما يسمى بالثروة الوطنية، يبحث عن وسائل اصطناعية التحقيق فقر الشعب. وهنا يتصدع درعه التبريري، ويتمزق إرباً، مثل خشب نخر.

إن مأثرة إي. جي. وایکفیلد الكبرى تكمن، لا في قوله شيئا جديداً عن المستعمرات(2)، بل في أنه اكتشف، في المستعمرات، حقيقة العلاقات الرأسمالية في البلد الأم. ومثلما أن نظام الحماية الجمركية سعى عند نشوئه(3)، إلى اصطناع الرأسماليين في البلد الأم، كذلك فإن نظرية الاستعمار عند وایکفیلد، التي حاولت إنكلترا أن تفرضها بقوة التشريع بعض الوقت، سعت إلى اصطناع عمال مأجورين في المستعمرات. وهذا ما يسميه بـ «الاستعمار المنهجي» (systematic colonization).

بادئ ذي بدء، اكتشف وایکفیلد، في المستعمرات، أن امتلاك النقود، ووسائل العيش، والآلات، وسواها من وسائل الإنتاج، لا يجعل من الإنسان رأسمالياً إذا غاب عنه العنصر المكمل – العامل المأجور، الإنسان الآخر المرغم على بيع نفسه بإرادته الحرة. واكتشف أن رأس المال ليس شيئاً، بل علاقة اجتماعية بين الأشخاص تنعقد بتوسط الأشياء (4). وهو ينوح على السيد بيل Peel الذي أخذ معه من إنكلترا إلى نهر سوان، في أستراليا الغربية، وسائل عيش ووسائل إنتاج قيمتها 50 ألف جنيه، وكان السيد بيل متبصراً للبعيد، فجلب معه، علاوة على ذلك، ثلاثة آلاف شخص من الطبقة العاملة، رجالا ونساء وأطفالاً. وما إن وصل إلى المكان المقصود حتى «لم يبق لدى السيد بيل خادم واحد لترتيب فراشه أو لجلب الماء من النهر»(5). يا لتعاسة السيد بیل، فقد هيّأ كل شيء، إلا أنه لم يصدّر علاقات الإنتاج الإنكليزية إلى نهر سوان!

وابتغاء فهم اکتشافات وایکفیلد التالية، ينبغي إبداء ملاحظتين تمهیدیتین: نحن نعرف أن وسائل الإنتاج ووسائل العيش لیست رأسمالا إن بقيت ملكا للمنتج المباشر. فهي لا تغدو رأسمالا إلا في ظروف تخدم فيها، في الوقت نفسه، كوسيلة لاستغلال العامل واخضاعه. إلا أن روحها الرأسمالية هذه تمتزج في ذهن رجل الاقتصاد السياسي امتزاجا وثيقة بجوهرها المادي، بحيث أنه يطلق عليها تسمية رأس المال مهما كانت الظروف، حتى عندما تكون النقيض المباشر لرأس المال. وهكذا الحال مع وایکفیلد أيضا. ثم إن تجزؤ وسائل الإنتاج التي تشكل ملكية فردية لعدد كبير من الشغيلة المستقلين عن بعضهم بعضا، والذين يعملون لحساب أنفسهم، إنما يسميه التوزيع المتساوي لرأس المال. فحال رجل الاقتصاد السياسي هو مثل حال الحقوقي الاقطاعي. فلقد كان هذا الأخير يلصق على العلاقات النقدية الصرف يافطات مأخوذة عن الحق الاقطاعي.

يقول وایکفیلد: «لو افترضنا أن جميع أفراد المجتمع يمتلكون حصصاً متساوية من رأس المال، فلن يكون لأحد حافز لأن يراكم رأسمالا يفوق ما يستطيع أن يستخدمه بيديه هو. هذا هو الحال، بحدود معينة، في المستوطنات الأميركية الجديدة، حيث تحول الرغبة في امتلاك الأرض من دون وجود طبقة من العمال المأجورين» (6).

إذن، ما دام بوسع الشغيل أن يراكم لأجل نفسه – وبوسعه أن يفعل ذلك طالما ظل مالكاً لوسائل إنتاجه – فإن التراكم الرأسمالي ونمط الإنتاج الرأسمالي يكونان مستحیلین. فطبقة العمال المأجورين، الضرورية لوجودهما، غائبة. كيف حدث إذن، في أوروبا القديمة، أن انتزعت من الشغيل ملكية شروط عمله، وبالتالي كيف أمكن إيجاد رأس المال والعمل المأجور معا؟ بواسطة عقد اجتماعي (contrat social) من طراز أصيل تماما.

لقد تبنت البشرية … طريقة بسيطة تساعد على تراكم رأس المال، الذي كان، طبعا، منذ زمان آدم، يطوف في مخيلتها بوصفه غاية الوجود ومنتهاه: «وقد انقسمت البشرية إلى مالكي رأس المال ومالكي العمل … وكان هذا الانقسام نتيجة إتفاق طوعي وتفاهم»(7). وبتعبير وجيز: إن جمهرة البشرية انتزعت ملكيتها بنفسها على شرف «تراكم رأس المال». ينبغي الظن، في هذه الحال، أن غريزة الزهد المتعصب هذه يجب أن تنجلي بكامل قوتها في المستعمرات على وجه الضبط، حيث يوجد فيها وحدها أناس وظروف تتيح تحويل هذا العقد الاجتماعي (contrat social) من ملكوت الحلم إلى ملكوت الواقع. ولكن ما الذي يدعو، إذن، إلى إحلال «الاستعمار المنهجي» محل نقيضه، الاستعمار الطبيعي؟ ولكن، ومرة أخرى ولكن:

«في الولايات الشمالية من الاتحاد الأميركي، من المشكوك فيه أن عشر السكان يندرجون في صنف العمال الأجراء… أما في إنكلترا… فإن طبقة العمال المأجورين تؤلف القسم الأعظم من الشعب» (8).
أجل، إن سعي البشر العاملين إلى نزع ملكيتهم بأنفسهم، من أجل مجد رأس المال، ضئيل إلى حد أن ثروة المستعمرات، حسب رأي وایکفیلد نفسه، ليس لها أساس طبيعي واحد غير العبودية. والاستعمار المنهجي الذي يدعو إليه هو مجرد بدیل مؤقت (pis aller)، لأنه يواجه أناساً أحراراً لا عبيداً.

«إن أوائل المستوطنين الإسبان في سانت دومينغو، لم يكن لديهم عامل واحد من إسبانيا. ولكن بدون عمال (أي بدون العبودية) كان رأسمالهم سيضيع هباء، أو، على الأقل، يتضاءل إلى مقدار قليل بحيث يستطيع أي فرد أن يستخدمه بيديه بالذات. هذا ما حدث فعلا في آخر مستعمرة أقامها الإنكليز حيث هلك رأسمال ضخم بهيئة بذور، وأدوات، ومواش، بسبب الافتقار إلى العمال المأجورين وحيث لا يوجد مستوطن واحد يحتفظ برأسمال أكبر مما يستطيع هو أن يستخدمه بيديه» (9).
لقد رأينا أن انتزاع الأرض من جمهرة الشعب يؤلف قاعدة نمط الإنتاج الرأسمالي. أما جوهر المستعمرة الاستيطانية الحرة، فيكمن، على العكس، في التالي: إن معظم الأراضي تظل ملكية عامة، وبوسع أي مستوطن، لذلك، أن يحول جزءا منها إلى ملكية خاصة له ووسيلة إنتاج فردية، من دون أن يمنع بذلك المستوطنين الآخرين بعده من أن يفعلوا الشيء نفسه (10). هذا هو على السواء، سر ازدهار المستعمرات وسر الآفة السرطانية التي تأكلها – مقاومتها لتوطن رأس المال.

«حيثما تكون الأرض زهيدة الثمن وجميع الناس أحراراً، وحيث يستطيع كل امرئ أن يحصل بسهولة على قطعة أرض لنفسه كما يشاء، لا يكون العمل غالياً جدا وحسب، من زاوية نظر الحصة التي يحصل عليها العامل من منتوجه، بل يكون من العسير، عموماً، الحصول على عمل جماعي بأي ثمن كان»(11).
وبما أنه لم يحدث في المستعمرات بعد فصل الشغيل عن شروط عمله وعن الأرض، التي هي أساس هذه الشروط، أو أن هذا الفصل عشوائي فحسب، أو أنه لا يوجد إلا على نطاق ضيق جداً، فلا وجود إذن في المستعمرات لانفصال الزراعة عن الصناعة بعد، ولم يتم القضاء بعد على الصناعة المنزلية الريفية. فمن أين تنبثق هناك إذن السوق الداخلية لرأس المال؟

«باستثناء العبيد وأسيادهم، الذين يجمعون بين رأس المال والعمل في مؤسسات كبيرة، ليس ثمة شطر من سكان أميركا يزاول الزراعة وحدها على وجه الحصر. إن الأميركيين الأحرار، الذين يزرعون الأرض، يزاولون في الوقت نفسه أعمالا كثيرة أخرى. فبعض الأثاث والأدوات التي يستخدمونها هي عادة، من صنع أيديهم. وكثيرا ما يبنون منازل سكناهم بأنفسهم، ويحملون إلى الأسواق، مهما نأت، منتوج صناعتهم الخاصة. فهم يغزلون وينسجون ويصنعون الصابون والشموع إضافة إلى الأحذية والملابس لأجل استعمالهم الشخصي. إن زراعة الأرض في أميركا هي، في كثير من الأحيان، حرفة ثانوية للحداد، والطحان، وصاحب الحانوت» (12). ترى أين يتاح للرأسماليين «مجال للزهد» وسط هؤلاء القوم غرباء الأطوار؟

إن الجمال الباهر للإنتاج الرأسمالي يكمن في أنه لا يكتفي بتجديد مستمر لإنتاج العامل المأجور بوصفه عاملاً مأجوراً فحسب، بل يولد، دوما، بمقدار تراكم رأس المال، فیض سكان نسبياً من العمال المأجورين. وبهذا يبقي قانون العرض والطلب على العمل في مجراه الصحيح، ويحصر تقلبات الأجور في نطاق حدود تُرضي الاستغلال الرأسمالي، وأخيرا يضمن علاقة التبعية الاجتماعية للعامل إلى الرأسمالي، بوصفها ضرورة لا غنى عنها، وهي علاقة تبعية مطلقة يستطيع رجل الاقتصاد السياسي في بلده ، البلد الأم، أن يصورها بالتفصيل بصورة علاقة تعاقد حرة بين شار وبائع، بين مالكين للسلع مستقلين على قدم المساواة، هما مالك سلعة رأس المال ومالك سلعة العمل. ولكن هذا الوهم الجميل يتبدد هباء في المستعمرات. فالتعداد المطلق للسكان ينمو هناك بوتيرة أسرع مما في البلد الأم، لأن الكثير من العمال يأتون إلى هذا العالم وهم في سن الرشد، ومع ذلك فإن سوق العمل لا تمتلئ هنا أبدا. فيتهشم قانون العرض والطلب على العمل. فمن جهة، يمضي العالم القديم بقذف رأس المال الظامئ إلى الاستغلال والمتحرق رغبة في «الزهد»، ومن جهة أخرى فإن تجديد إنتاج العمال المأجورين كعمال مأجورين، بانتظام، يصطدم بعقبات كأداء، يتعذر قهرها أحيانا. فهل يمكن الحديث هنا عن إنتاج عمال مأجورين يفيضون عن الحاجة تبعا لتراكم رأس المال! إن العامل المأجور اليوم يصبح في الغد فلاحاً أو حرفياً مستقلا، يعمل لأجل نفسه. فهو يختفي من سوق العمل، لكن لا ليذهب إلى مأوى العمل. وهذا التحول المستمر للعمال المأجورين إلى منتجين مستقلين، يعملون لأجل أنفسهم لا لأجل رأس المال، ويغنون أنفسهم، عوضا عن إغناء السيد الرأسمالي، يترك، بدوره، أثراً شديد الضرر على أوضاع سوق العمل. ولا يقتصر الأمر على إبقاء درجة استغلال العامل المأجور منخفضة بصورة غير لائقة. فالعامل المأجور يفقد في هذه الحالة علاقة التبعية للرأسمالي الزاهد، ويفقد معها أيضا الشعور بالتبعية لهذا الرأسمالي. من هنا منشأ جميع المنغصات التي يصورها صاحبنا إي. جي. وایکفیلد بمثل هذه الصراحة، والبلاغة، والعطف.

ويشتكي وایکفیلد من أن عرض العمل المأجور، غير دائم، وغير منتظم، وغير كافي. «إن عرض العمل ليس دائماً أقل مما ينبغي، بل إنه غير مضمون أيضاً» (13).

«صحيح أن المنتوج الذي يقسم بين الرأسمالي والعامل كبير، لكن العامل يأخذ لنفسه حصة كبيرة إلى حد أنه سرعان ما يصبح رأسمالياً … وبالعكس، لا يمكن أن يراكم مقادير كبيرة من الثروة إلا قلة قليلة، حتى وإن عمروا حياة مديدة بصورة استثنائية» (14). إن العمال لا يسمحون للرأسمالي، أبدا، بأن يمتنع عن دفع ثمن القسم الأكبر من عملهم. ولا ينفعه في شيء أن يكون على قدر من الدهاء بحيث يستورد من أوروبا، مع رأسماله الخاص، عماله المأجورين بالذات.

«فهم سرعان ما يكفون عن أن يكونوا عمالا مأجورين، وسرعان ما يصبحون فلاحين مستقلين، إن لم يصبحوا منافسين لأرباب عملهم السابقين في سوق العمل المأجور»(15).
تصوروا مدى فظاعة هذا الوضع! فهذا الرأسمالي المقدام قد استورد من أوروبا، بنقوده الحلال بالذات، منافسيه بلحمهم ودمهم! لقد حلت نهاية العالم! لا عجب إذن أن يندب وایکفیلد نقص علاقة التبعية والشعور بالتبعية عند العمال المأجورين في المستعمرات. ويقول تلميذه مريفال إنه توجد في المستعمرات بسبب ارتفاع الأجور، رغبة حارقة في الحصول على عمل أرخص ثمنا وأكثر طاعة وخضوعاً، حاجة إلى طبقة يستطيع الرأسمالي أن يملي عليها شروطه، بدلا من أن تملي عليه شروطها … ومع أن العامل حر في بلدان الحضارات القديمة، إلا أنه تابع للرأسمالي بحكم قوانين الطبيعة، أما في المستعمرات فينبغي خلق هذه التبعية بوسائل اصطناعية (16). ما هي إذن عواقب هذا الوضع التعيس في المستعمرات، برأي وایکفیلد؟ «نظام بربري لبعثرة» المنتجين والثروة الوطنية(17). إن بعثرة وسائل الإنتاج على عدد لا يحصى من المالكين، الذين يعملون لحسابهم الخاص، تقضي على جميع أسس العمل الموحد، بقضائها على تمرکز رأس المال. وبذا يتعرقل تنفيذ أي مشروع طويل الأجل، يمتد إلى عدة سنوات ويقتضي توظيف رأسمال أساسي. إن رأس المال في أوروبا لا يتردد في الاستثمار لحظة واحدة، لأن الطبقة العاملة تؤلف هنا تابعه الحي، ولأنها على الدوام في فيض وفير، ولأنها طوع البنان دائماً. ولكن، في البلدان المستعمرة! ها هنا يروي وایکفیلد حكاية محزنة للغاية. لقد تحدث مع بعض الرأسماليين من كندا وولاية نيويورك، حيث -وتجدر الإشارة إلى ذلك- كثيرا ما تتوقف أمواج الهجرة، وتترك راسباً من العمال «الفائضين».

وينوح أحد أبطال هذه الميلودراما: «لقد كان رأسمالنا على أهبة الاستعداد لأداء عمليات كثيرة يتطلب إنجازها ردحا طويلا من الزمن، ولكن هل كان بميسورنا الشروع في عمليات كهذه مع عمال كنا نعرف أنهم سيتركوننا في القريب العاجل؟ ولو كنا على يقين من الاحتفاظ بعمل هؤلاء المهاجرين، لكان من دواعي سرورنا أن نستأجرهم في الحال، وبسعر عال: بل كنا سنستأجرهم، رغم يقيننا بأنهم سيتركوننا، لو كنا على ثقة من أن دفقاً جديداً من العمال سيأتي كلما احتجنا إليه» (18).
وبعد أن يرسم وایکفیلد بصورة ممتازة الفروق بين الزراعة الرأسمالية الإنكليزية وعملها «الموحد»، والاستثمارة الفلاحية الأميركية المبعثرة، يكشف لنا، دون دراية منه، عن الوجه الآخر للميدالية. فهو يصور جمهرة الشعب الأميركي بأنها ميسورة الحال، مستقلة، مبادرة، ومتعلمة نسبياً، بينما
«العامل الزراعي الإنكليزي بائس مسكين (a miserable wretch) فقير مدقع … ثري في أي بلد، عدا أميركا الشمالية وبعض المستعمرات الجديدة، تزيد أجور العامل الزراعي الحر زيادة كبيرة نوعا عن وسائل العيش الضرورية للعامل؟…. ولا ريب في أن خيل الفلاحة في إنكلترا، تحظى بغذاء أفضل بكثير من الفلاحين الإنكليز، لأنها ملك ثمين»(19).
ولكن لا بأس (never mind)، فها هي الثروة الوطنية متطابقة الآن، بحكم طبيعتها ، مع بؤس الشعب.

ولكن كيف يمكن شفاء المستعمرات من الآفة السرطانية المناهضة للرأسمالية؟ لو أراد الناس تحويل الأرض كلها، دفعة واحدة، من ملكية عامة إلى ملكية خاصة، لقضي على الشر من جذوره، ولكن ذلك يؤدي إلى القضاء على المستعمرات أيضا. والبراعة هي أن تصطاد عصفورين بحجر واحد. ينبغي أن تفرض الحكومة سعراً اصطناعياً على الأرض العذراء، بمعزل عن قانون العرض والطلب، سعراً يرغم المهاجر المستوطن على العمل فترة زمنية طويلة نسبياً لقاء أجور، قبل أن يكون بوسعه جمع ما يكفي من النقود لشراء قطعة من الأرض (20)، والتحول إلى فلاح مستقل. والرصيد المالي الناجم عن بيع هذه الأرض بسعر عصي المنال نسبياً على العمال المأجورين، هذا الرصيد النقدي المنتزع من أجور العمل بخرق القانون المقدس للعرض والطلب، إنما ينبغي أن تستخدمه الحكومة، بدورها، بمقدار ما يتنامى، لاستيراد الفقراء المعدمين من أوروبا إلى المستعمرات، بغية الإبقاء على سوق العمل المأجور ممتلئة من أجل السادة الرأسماليين. وفي هذه الظروف فإن كل شيء سيكون «على أفضل ما يرام في أحسن العوالم الممكنة»(*). هذا هو السر العظيم «للاستعمار المنهجي».

ويزعق وایکفیلد في نشوة الظفر، «إن هذه الخطة لا بد من أن تجعل عرض العمل دائماً ومنتظماً، وذلك أولاً لأنه ما من عامل سيستطيع شراء أرض ما لم يكن قد عمل لقاء أجور خلال وقت ما، وبالتالي فإن جميع العمال المهاجرين، إذ يعملون مجتمعين لقاء نقود، سوف ينتجون لرب عملهم رأس المال اللازم لاستخدام المزيد من العمل، وثانياً، لأن كل عامل يترك العمل المأجور، ويصبح مالك أرض، سوف يقدم بشرائه الأرض بالضبط، رصيداً مالياً معيناً لجلب عمال جدد إلى المستعمرات»(21).
وينبغي لسعر الأرض الذي تفرضه الدولة أن يكون، بالطبع، سعراً كافياً (sufficient price)، أي عالياً إلى حد «يمنع العمال من التحول إلى فلاحين مستقلين قبل مجيء عمال آخرين يحلون محلهم في سوق العمل المأجور» (22). وهذا السعر الكافي للأرض، ليس سوى تعبير ملطف عن الفدية التي يدفعها العامل إلى الرأسمالي لكي يأذن له بمغادرة سوق العمل المأجور إلى قطعته من الأرض. فعليه، أولا، أن يخلق للسيد الرأسمالي «رأسمالا» يستطيع به هذا استغلال مزيد من العمال، وعليه من بعد ذلك، أن يقدم، على نفقته الخاصة «بديلا» في سوق العمل، تجلبه الحكومة من وراء البحار لمصلحة رب عمله السابق، الرأسمالي.

ومما له دلالة بالغة حقا، أن الحكومة الإنكليزية، طبقت، لسنوات، هذه الطريقة في «التراكم الأولي» التي أوصى بها السيد وایکفیلد لاستخدامها خصيصا في المستعمرات.

وكان الاخفاق بالطبع، مخزياً شأنه شأن اخفاق قانون المصارف الذي ابتدعه بيل(**). فكل ما تحقق هو أن تيار الهجرة تحول من المستعمرات الإنكليزية إلى الولايات المتحدة. والحال فإن تقدم الإنتاج الرأسمالي في أوروبا، الذي اقترن بتزايد الضغط الحكومي، جعل وصفة وایکفیلد عبثا لا لزوم له. فمن جهة، ظل السيل العارم المتدفق عاما بعد عام، دون انقطاع، من الهجرة إلى أميركا، يترك وراءه رواسب راكدة في شرقي الولايات المتحدة، لأن موجة الهجرة من أوروبا تلقي بالرجال في سوق العمل هناك بوتيرة أسرع مما تستطيع موجة الهجرة الثانية أن تجرفهم إلى غرب الولايات المتحدة. ومن جهة ثانية فقد جرّت الحرب الأهلية الأميركية في أعقابها دينا وطنياً هائلا، اقترن بتفاقم ضغط الضرائب، ونشوء أرستقراطية مالية في أدنى درجات الخسة، وإهداء قسم كبير جدا من الأراضي العامة إلى شركات المضاربين لاستثمارها في انشاء سكك الحديد والمناجم وما إلى ذلك. خلاصة القول، جرت الحرب الأهلية في أعقابها أسرع تمرکز في رأس المال. وبهذا كفت الجمهورية الكبيرة عن كونها أرض الميعاد بالنسبة إلى العمال المهاجرين. ويمضي الإنتاج الرأسمالي، هناك، قدماً بخطى عملاقة، رغم أن انخفاض الأجور وتبعية العامل المأجور لم ينحدرا نزولا إلى المستوى العادي القائم في أوروبا. إن التبديد الصلف للأراضي البور في المستعمرات التي وزعتها الحكومة الإنكليزية على الأرستقراطيين والرأسماليين – وهو ما شجبه حتى وایکفیلد بأعلى صوته – اقترانا بسيل الناس الذين اجتذبهم البحث عن الذهب وبما سببته المنافسة الناجمة عن استيراد السلع الإنكليزية حتى لأصغر حرفي، إن ذلك كله قد أدى إلى توليد «فيض نسبي من السكان العمال» كبير، وبالتحديد في أستراليا (23)، بحيث أن كل برید، على وجه التقريب، مما تأتي به السفن البخارية، يحمل أنباء مؤسفة تقول «باكتظاظ سوق العمل الأسترالية»، وإن البغاء يزدهر في بعض الأماكن ازدهاره الوافر في هایمارکت بلندن.
بيد أن وضع المستعمرات ليس هو ما يعنينا، هنا. فكل ما يهمنا هو السر الذي اكتشفه في العالم الجديد الاقتصاد السياسي من العالم القديم، وأعلنه على رؤوس الأشهاد وهو: إن نمط الإنتاج الرأسمالي والتراكم، وبالتالي الملكية الرأسمالية الخاصة، يقتضيان إزالة الملكية الخاصة المرتكزة على العمل الشخصي، أو بتعبير آخر يقتضيان انتزاع ملكية الشغيل.

__________________

(1) يدور الحديث هنا عن المستعمرات الفعلية، الأراضي العذراء، التي يستعمرها المهاجرون الأحرار. إن الولايات المتحدة، لا تزال من الناحية الاقتصادية، مستعمرة لأوروبا. ويندرج في هذا الإطار، إلى جانب ذلك أيضا، المستوطنات الزراعية القديمة التي أدى إلغاء العبودية فيها إلى تغيير جميع العلاقات السابقة تغييراً تاماً.
(2) إن الأضواء القليلة التي ألقاها وایکفیلد على جوهر المستعمرات ذاتها، قد سبقه إليها تماما میرابو – الأب، الفيزيوقراطي، بل سبقه إليها قبل ذلك بوقت أبعد الاقتصاديون السياسيون الإنكليز.
(3) غدا هذا النظام، فيما بعد، ضرورة مؤقتة في صراع المنافسة العالمي. ولكن، مهما كانت دوافعه، فالعواقب تظل هي ذاتها من دون تبدل.
(4) «إن الزنجي هو زنجي. ولا يصبح عبداً إلا في ظل علاقات معينة، والمغزل الآلي هو آلة لغزل القطن. ولا تصبح رأسمالا إلا ضمن علاقات معينة. وخارج هذه العلاقات، لا تكون رأسمالا، مثلما أن الذهب ليس نقدا في ذاته ولذاته، والسكر ليس هو سعر السكر… إن رأس المال علاقة إنتاج اجتماعية. إنها علاقة إنتاج تاريخية»، (کارل مارکس، العمل المأجور والرأسمال في صحيفة نويه راينشه تسايتونغ، العدد 266، 7 نيسان/إبريل 1849).
(5) إي. جي. وایکفیلد، إنكلترا وأميركا، لندن، 1833، المجلد الثاني، ص 33.
(E. G. Wakefield, England and America, London, 1833, V. II, p. 33).
(6) المرجع نفسه، المجلد الأول، ص 17.
(7) المرجع نفسه، ص 18.
(8) المرجع نفسه، ص 42-43-44.
(9) المرجع نفسه، المجلد الثاني، ص 5.
(10) «لكي تكون الأرض عنصرا من عناصر الاستعمار، لا ينبغي أن تكون أرضية عذراء فحسب، بل وأن تكون ملكية عامة قابلة للتحويل إلى ملكية خاصة»، (المرجع نفسه، المجلد الثاني، ص 125).
(11) المرجع نفسه، المجلد الأول، ص 247.
(12) المرجع نفسه، ص 21-22.
(13) المرجع نفسه، المجلد الثاني، ص 116.

(14) المرجع نفسه، المجلد الأول، ص 131.

(15) المرجع نفسه، المجلد الثاني، ص 5.

(16) مريفال، محاضرات في الاستعمار والمستعمرات، لندن 1841-1842.
حتى الاقتصادي المبتذل، اللطيف، نصير التجارة الحرة، موليناري يقول: «وفي المستعمرات حيث جرى الغاء العبودية من دون إحلال کمية معادلة من العمل الحر عوضا عن العمل القسري، رأينا حدوث شيء معاكس لم نلحظه في أي يوم، رأينا كيف أن العمال البسطاء يستغلون، هم من جهتهم، أرباب العمل الصناعيين، فيطالبونهم بأجور تفوق الحصة المشروعة التي يستحقونها من المنتوج. وبما أن أصحاب المزارع لا يحصلون لقاء ما ينتجونه من سكر على سعر يغطي ارتفاع الأجور، فقد اضطروا إلى سد العجز من أرباحهم بادئ الأمر، ثم من رؤوس أموالهم نفسها. لهذا حل الخراب بطائفة كبيرة من أصحاب المزارع، وأقفل آخرون مشاريعهم هرباً من خراب محتوم… ولا ريب في أن عدم تراكم رؤوس الأموال خير من فناء أجيال كاملة من البشر، (ما أكرم السيد موليناري!)؛ ولكن أليس الأجدى ألا يفنى هذا ولا ذاك؟» (Molinary مولیناري، المرجع المذكور، ص 51-52). یا مسیو مولیناری، یا مسيو مولیناری! ما عساه يكون مصير الوصايا العشر، وموسى والأنبياء، وقانون العرض والطلب، إذا كان بوسع «رب العمل» في أوروبا أن يخفض الحصة المشروعة للعامل، وكان بوسع العامل في الهند الغربية، أن يخفض الحصة المشروعة، لرب العمل! ولكن قل لنا من فضلك، ما هي هذه الحصة المشروعة التي لا يدفعها الرأسمالي في أوروبا يوميا، حسبما تعترف! إن السيد مولیناري يتحرق رغبة في أن يسير، هناك في المستعمرات، حيث يبلغ العمال من البساطة، حداً كبيراً بحيث إنهم يستغلون الرأسماليين، يسير قانون العرض والطلب على الدرب الصحيح بواسطة إجراءات بوليسية، وهو الذي يسري مفعوله تلقائياً في أماكن أخرى.
(17) وایکفیلد، المرجع نفسه، [المجلد الثاني،] ص 52.
(18) المرجع نفسه، المجلد الثاني، ص 191-192.
(19) المرجع نفسه، المجلد الأول، ص 47-246.
(20) «وأنتم تضيفون قائلين إن الإنسان الذي لا يمتلك سوى يديه إنما يجد عملا بفضل امتلاك الأرض ورؤوس الأموال، ويحقق لنفسه دخلا … على العكس، فبفضل التملك الفردي للأرض فقط يوجد أناس لا يملكون غير أيديهم… وإذا وضعتم إنسانا في فراغ، فإنكم تحرمونه من الهواء. وهذا ما تفعلونه باستيلائكم على الأرض… فأنتم تضعونه خارج الثروة، لكي تخضعوا حياته وفقا لمشيئتكم» (کولنز Colins، المرجع المذكور، المجلد الثالث، ص 267 – 271 ومواضع أخرى).
(*) قول مأثور من کتاب کاندید او المتفائل للفيلسوف الفرنسي فولتير. [ن. برلین].
(21) وایکفیلد، المرجع نفسه، المجلد الثاني، ص 192.
(22) المرجع نفسه، ص 45.
(**) قامت الحكومة الإنكليزية، وفق مبادرة من السير روبرت بیل، بإصلاح بنك إنكلترا عام 1844، وفرضت معدلاً صارماً لتغطية الأوراق النقدية المصرفية (البنكنوت) بالذهب. وكانت الحكومة تعطل تنفيذ القانون أثناء الأزمات الاقتصادية. [ن. برلین].
(23) ما إن اكتسبت استراليا حق سن قوانينها بنفسها، حتى اشترعت، بالطبع، قوانین ملائمة للمستوطنين، إلا أن تبديد الأرض، الذي سبق أن قام به الإنكليز، اعترض الطريق. «إن الهدف الأول والرئيسي لقانون الأرض الجديد لعام 1862، يتوخى تقديم تسهیلات أكبر للشعب في مجال الاستيطان». (قانون الأراضي لفيكتوريا، بقلم المحترم ج. دوني، وزير الأراضي، لندن،

(The Land Law of Victoria, by the Hon. G. Duffy, Minister of Public .([3.jp] 51862 Lands, London, 1862, (p.3]).