ملامح الوضع الراهن في تونس: السير حثيثا نحو نظام رئاسي بمعارضة محدودة الصلاحيات تشرع ولكن الرئيس هو الذي يقرر أولا وأخيرا


بشير الحامدي
2021 / 9 / 12 - 19:06     

الشارع ... الشارع الذي شهد معارك مقاومة في 17 ديسمبر 2010 وما يليه حتى أواخر فيفري 2011 ضد نظام بن علي أولا وبعد تهريبه ضد محاولات ترميمه الأولى ... هو الشارع نفسه اليوم يوظف لمعركة أخرى من نوع آخر هي معركة يمكن تسميتها بمعركة تثبت المواقع إن صح التعبير واللاعب الوحيد فيها هو قيس سعيد.
قيس سعيد الذي أغلق كل أبواب التواصل مع الجماهير عبر وسائل الإعلام وخير الظهور فقط على صفحة رئاسة الجمهورية في تلك الخطابات القصيرة التي يلعب فيها دور المدرس لكل من يجتمع به ويستغلها لأمرين الأول أن يرسخ صورة القائد لدى الجمهور والثاني أن يوصل ما يريد ايصاله من مواقف حول القضايا المطروحة لمناصريه ومريديه وهي عموما مواقف غائمة غير واضحة بلا قاعدة وبلا سقف ولكن بنبرة ظلت دائما ثابتة نبرة القائد الشعبي المدافع عن المحرومين وضعاف الحال القائد الذي لا إغراءات يمكن أن تبدله عن احتضان شعبه المسكين المفقر المجوع البائس.
يوم 11 سبتمبر خرج قيس سعيد للشارع مجددا للالتقاء بـ"شعبه" ولكن هذه المرة كانت مختلفة عن المرات السابقة ... لم نسمع شعارات "الشعب يريد حل البرلمان" بل سمعنا شعار "نحنا معاك " "الاستفتاء ... الاستفتاء" ويردّ هو "ان شاء الله لكلنا مع بعضنا"...
"شعب" قيس سعيد الذي ردد "الاستفتاء الاستفتاء" بعيد جدا على أن يمثل "الشعب" إنه صورة ملونة مزوقة "مخدومة" على الشعب الذي يشقى "يكلت"(*) في المعامل والشركات والمزارع وفي الإدارات الشعب الذي يدفع من عرقه ودمه وحليب أبنائه ثمن هذه المعركة الفوقية التي ظلت تتجدد ويصعد على ركحها كل مرة ممثلون جدد.
في العشر سنوات الأخيرة أحاطت حركة النهضة بها شرائح من البرجوازية الطفيلية وكونت بهم دعامة لنفوذها وحكمها ظنت أنها دعامات قوية لن تنهار وزحفت هذه البرجوازية على مساحات كثيرة تعود في الأصل لنفوذ البرجوازية الريعية التقليدية وللمرتبطين بها وتحديدا من الفرنسيين فانهارت مداخيل الدولة مقابل توسع مهول ولافت لقطاع التهريب المقترن ضرورة بالفساد بكل أوجهه المالية والإدارية ومع انتشار الكوفيد تأزمت الأوضاع أكثر فأكثر واحتدت الأزمة السياسية المحسوبة على حركة النهضة وبدأت تتنامى وتتطور حركة مقاومة تقول بفساد المنظومة ككل وتنادي برحيلها. كما شهدت العشر سنوات الأخيرة تعبئات مواطنية طرحت مسألة السيادة على الثروة، هذا إضافة إلى الاعتصامات والاحتجاجات التي نفذت وكانت تطالب بالتشغيل. وأمام "الخطر" الداهم الذي يمكن أن يقلب كل شيء كان لابد من إنقاذ الوضع ولكن بأقل أضرار ممكنة.
لم يكن بمقدور فرنسا ولا شركائها المحليين وتحديدا من البرجوازية التقليدية انتظار الانتخابات التشريعية لسنة 2024 لجنى محصول زرع عبير موسى التي وحدها من القوى البرلمانية كانت جذرية في تعرية حركة النهضة ونسف إمكانيات التوافق مجددا معها وكانت صريحة في طرح ضرورة إقصائها من الهيمنة على مجريات القرار السياسي والاقتصادي.
لقد كان أمامهم فاعل آخر ومن داخل مؤسسات الدولة يمكن تحريكه لتحقيق كل ذلك وكان يوم 25 جويلية وإعلان قيس سعيد عن إجراءاته الاستثنائية فبها يمكن أن يحققوا ما كان سيحقق بعد سنوات وربما يذهبون إلى أبعد من ذلك.
بعد 25 جويلية تحول المشهد برمته ومن صراع ولو غير متكافئ بين الحركة الاجتماعية التي بقيت معارضتها جزرا متنافرة على امتداد العشر سنوات الماضية وعجز الفاعلون فيها عن التوحد في مشروع للمقاومة جذري وتأسيسي وبين المنطومة الاقتصادية والسياسية المهيمنة بشقيها إلى صراع فوقي بين شقي هذه المنظومة حول النظام السياسي والقوانين الانتخابية أي حول تحجيم نفوذ النهضة ومن هناك تحجيم نفوذ الدائرة الاقتصادية المحيطة بها.
ولئن نحج إلى حد الآن قيس سعيد في ابعاد النهضة عن النفوذ بتحوله عبر الإجراءات التي أعلنها إلى حاكم مطلق بيده كل الصلاحيات فإنه يلاقي صعوبة كبيرة في استهداف الدائرة الاقتصادية الداعمة للنهضة أو لنقل يُدْفَعُ إلى عدم خوض هذه المعركة فهذه الدائرة يمكن التعامل معها وإيجاد حلول توافقية معها وسحبها لمربع الهيمنة الجديد بشروطه التي لن ترفض ويكفي أن يشمل التغيير المجال السياسي فبه يمكن فرض هذه الشروط. لذلك كانت حركة قيس سعيد في محاربة الفساد والفاسدين حركة ارتجالية مرتبكة بعيدة عن تصورات ومطامح مناصريه وهو الآن بصدد تجاوزها لصالح معركة النظام السياسي ومن هنا كان ظهوره في شارع بورقيبة للشروع في المعركة الدستورية أو معركة "المشروعية" ولذلك سمعنا بعض الأصوات التي تدعوه للقيام بالاستفتاء بعد أن صرح يوم 9 سبتمبر 2021 مستشار رئيس الجمهورية السيد وليد الحجام لوكالة رويترز "أن هناك توجه لإعادة النظر في النظام السياسي وتوزيع صلاحيات السلط".
تصريح مستشار رئيس الجمهورية أثار عديد المواقف المعارضة داخل الساحة السياسية التونسية وتأتي خرجة رئيس الجمهورية للشارع الرئيسي في العاصمة تونس والتقائه ببعض المواطنين هناك ورده على الدعوة لتنظيم استفتاء بالموافقة كرد على هذه المعارضات وفي نفس الوقت تمهيدا للإعلان عن ذلك بصفة رسمية في الأيام القادمة. وعموما يمكن القول أن هوجة مكافحة الفساد وأن 25 جويلية كان تصحيا للمسار الثوري ومواصلة لثورة 17 ديسمبر ستخلي المكان الآن للمعركة الأساسية التي دشنها قيس سعيد يوم 25 جويلية والتي لا صلة لها بمكافحة الفساد وبحكم الشعب وبالديمقراطية وبمواصلة مسار الثورة معركة تغيير نظام الحكم ومنح مؤسسة الرئاسة والرئيس تحديدا كل الصلاحيات لتنفيذ ذلك في اطار المحافظة على نفس النظام أي إعادة تقسيم النفوذ بين الفرقاء الرسميين للنظام ليبدا طور جديد من الانتقال الديمقراطي لاشك ستدعمه فرنسا بشكل مباشر وتفرضه البرجوازية التقليدية التونسية وينفذه قيس سعيد باسم رئاسة الجمهورية التونسية والصلاحيات المطلقة التي منحتها له اجراءاته الاستثنائية وسيشرعها له "الاستفتاء" حين يمرر وتقبل به الأغلبية.
لذلك يمكن القول أن معركة قيس سعيد الرامية لتغيير النظام السياسي عبر الاستفتاء أصبحت واقعا مفروضا وبالتالي فقد بدأت وعلى ضوء ذلك تتشكل بوادر معارضة لهذا التمشي معارضة لبرالية هي ذاتها منقسمة إلى موقفين موقف معارض ومتمسك بدستور 2014 يمثلها الخوانجية وظلالهم والتيار الديمقراطي وحزب نجيب الشابي وحزب منصف المرزوقي وحزب العمال وجمعيات المجتمع المدني هؤلاء لم يتشكلوا بعد كمعارضة موحدة ولكن مؤشرات عديدة تدفع في اتجاه تشكلهم ولن يتأخر ذلك كثيرا.
أما المعارضة الثانية إن صحّ أن نطلق عليها معارضة فهي لم تتشكل أيضا ولكن كثير من القواسم المشتركة تجمع بينها وهي مكونة من الاتحاد العام التونسي للشغل وحزب عبير موسى وحركة الشعب وبعض مجموعات برلمان 2019. هي معارضة في نفس الوقت تعلن مساندتها لإجراءات قيس سعيد في تغيير النظام السياسي وفي الغاء دستور 2014 ولكن في المقابل تشترط تنظيم انتخابات سابقة لأوانها وهي كما نرى مساندة أكثر مما هي معارضة بما أن موقفها واضح من لغاء دستور 2014 ولا تعارض تغيير النظام لنظام رئاسي ولكن تشترط أن يكون لها رأي في كل ما يحصل ولا يجب إبعادها وعدم الاعتراف بها شريكا في النظام المزمع إرساؤه وتصريحات نور الدين الطبوبي الأخيرة في المنستير أو تصريحات عبير موسى بعد لقاء وفد حزبها بنور الدين الطبوبي دليل واضح على ذلك.
أخيرا يمكن القول أن المشهد عموما لازال غامضا ولكن المؤكد أنه مشهد لا يختلف كثيرا عن المشاهد السابقة لمعارك قوى منظومة الانتقال الديمقراطي المنقلبة على 17 ديسمبر بدءا بهيئة بن عاشور وصولا لاعتصام باردو والحوار الوطني وبقية المعارك حول التحالفات الحكومية ولكنه يختلف فقط عن سابقيه في أنه مشهد هذه المرة يستهدف تغيير النظام السياسي والقطع مع ديمقراطية الفساد ليس من أجل ديمقراطية أخرى أكثر عدالة ديمقراطية اجتماعية أولا كما يتوهم مناصرو قيس سعيد من المسيسين وبعض اليساريين أو من عموم الجماهير ولكن من أجل فرض رئيس بكل الصلاحيات ومعارضة محدودة الصلاحيات تشرع ولكن الرئيس هو الذي يقرر أولا و أخيرا.
12 سبتمبر 2021