راعي الجرابيع


حسين علوان حسين
2021 / 9 / 10 - 21:05     

كان يا ما كان في سالف الأزمان ، و طارق الأيام ، ببادية الشام : الراعي الحايف "فوني" ، المنتسب لحوّاف آل سعود الطغام ، من آكلي السحت الحرام و الممجدين للغدر بالجار . ورغم أن فوني كان يعتبر نفسه فلتة من فلتات الدهر في الذكاء و الدهاء ، فقد تم القبض عليه متلبساَ بسرقة كراع عنز من جيرانه آل اليسار الأكارم الميامين ، فحُكِم عليه بالسجن سبع سنين . في السجن ، أصيب بالجرب الحرشفي ، فأطلق سراحه لتفادي عدواه لبقية المساجين . عاد فوني - وهو يحك إبطه - لديار الحائفين ، فاستقبله أعمامه آل سعود أولاً استقبال الفاتحين ، و رقصوا له ملوّحين بالمناشير ، ثم طببوا جَرَبه ببول البعير و بصابون الحمير . مع ذلك ، فقد تفاقم داؤه ، و راح يصيب الناس أجمعين ، غير عابه بحرمة للدين ، و لا آبه بالبون الشاسع بين الكفار الجاحدين ، و بين المؤمنين المتبتلين ، و لا مَنْ هُم بَيْنَ بَيْن ، على اعتبار أن بني آدم قد جُبِل كلهم من الطين مثلما تؤكد أساطير قدامى العراقيين .
و كعادتهم ، سرعان ما قلب آل سعود لفوني ظهر المجن ، فخدَّروه ، و أفردوه في حضيرة من حضائر "حومن" إتقاءً لشر وبائه المستطير .
بعد أن استفاق فوني من التخدير ، بدأ كعادته بالحك ، و هو يحس بالجوع الشديد . نظر حوله ، فتهللت أساريره لمرأى جربوع صغير يتقافز مبتسماً أمامه و هو يرفع ذؤابة ذيله كالهزبر الصنديد . كان فوني من آل سعود ممن يقدسون الجرابيع ، و لكنهم لا يتورعون عن أكل لحومها و بيع فرائها كلما استبد بهم الجوع ، و لسان حالهم يقول : و ما نفع الرب إن لم يُشبع السغب ؟ كما كان بعضهم يتفنن في اعداد و تنويع أطباق الجرابيع . سال لعاب فوني لمشهد تقافز الجربوع بخيلاء أمامه ، و لإيمانه بعبقريته الفتّاقة الخنّاقة ، فقد كشح بناظريه عن الجربوع الصغير ليوهمه بأنه لا شأن له به . كان فوني يعلم علم اليقين بأنه لا قدرة له على مسك الجرابيع السريعة الحركة إلا بعد مطاردتها طويلاً و اجبارها على الدخول في جحورها لاصطيادها داخلها . و لكونه قد ورث الكسل من آل سعود ، فقد أمّل نفسه بأن الجربوع سيقترب منه كثيراً ، فيصبح داني القطوف . وفيما هو يشاغل نفسه بالنظر جانباً ، هاله رؤية عشر جرابيع تزحف متقافزة نحوه . التفت نحو مكان الجربوع الصغير ، فشاهد بدل الواحد عشرين . دار برأسه حول مكانه ، فارتاع لرؤية كتائب من الجرابيع تتراكض نحوه من كل حدب و صوب . نظر إلى قدميه العاريتين ـ فشاهد الجرابيع تلعق حراشفه ضاحكة بتلذذ حيواني وهي تزرزر بمحاجر أعينها . كانت نتانة حراشفه تجذب الجرابيع إليه زرافات ووحداناً . و مثل قومه الذين جُبلوا على الجبن ، فقد قفز فوني من جلسته بغتة ، و أطلق ساقيه يسابق الريح لكون الهزيمة عندهم ثلثي المرجلة ، و هو يقول لنفسه : خير للجربان أن يقال لهم جبناء ألف الف مرة ، و لا يقال عنهم : يرحمهم الجربوع مرة واحدة ! ركض و ركض و ركض ، متلفتاً حواليه ، فرآي كتائب الجرابيع الكارّة عليه و قد غدت فيالقاً .
لمح فوني صومعة قريبة محفورة في بطن جبل ، نط و دخل فيها ، و أسرع بغلق بابها بحجر ثقيل سميك ليس فيه سوى ثقب صغير لا تستطيع الجرابيع اختراقه ، فهدأ روعه قليلاً . ولكن الجربوع الصغير إياه استطاع النفاذ إليه من ذلك الثقب الصغير ، فامسك به فوني وشنقه بكفيه ، ثم سلخه و أكل لحمه نيئا و شرب دمه ، ثم أغلق بعظامه الثقب الصغير ، و نام .
في قلب الليل ـ استيقظ فوني من نومه فوجد نفسه وقد بال على نفسه . جفف بلل حراشفة بالرمل ، و قعد يتفكر في حاله و مصيره . سأل نفسه : لماذا تجمعت الجرابيع حوله ثم تقافزت وراءه ، بدلاً من الهروب منه إلى جحورها كعادتها عند رؤيتها لبني الآدميين ؟ لا بد أنها تحبه ، بل و حتى تعشقه ! حتماً ، بالتأكيد ! ولكن ـ لماذا خصَّته هو بالذات دون بقية البشر بمثل هذا العشق الرهيب ؟ لا بد أن هذا التخصيص إنما هو لإدراكها – و هي القوارض الذكية – أنه انسان عبقري أرسله الله رحمة للجرابيع ، فأضحت تعبده و تخطب وده . نعم صحيح ! يا ما أنت كريم يا رب ! لقد بعثتني أخيراً نبياً على الجرابيع و إلها لهم تأميناً منك بعبقريتي الفتّاقة الخنّاقة ! نعم ، أنا الإله الذكي القوي الأمين ! و لكن ما نفعه بمثل تلك القوارض العابدة و هي أعجز من تقديم الأضاحي و النذور و الهدايا الثمينة له ؟ أين ذهب عقلك أيها العبقري ؟ إن الجرابيع هي أم الغنى و اليسار ! نعم ، إشتغل راعياً لها ، و بع لحومها وفرائها لأعمامك آل سعود و حلفائهم آل طقعان و طرمان و صرمان و شرمان وهرمان بباهض الأثمان !
و هكذا كان !
باشر فوني رعيه للجرابيع و ذبحها يومياً و بيع لحومها وفرائها و هو يمتطي أتاناً ، ثم بغلةَ ، ثم ناقةً ، ثم رولز رايز ! كما استخدم عشرات العمال العاملين في ستة معامل تعليب ، من غير السواقين و المروّجين . و في كل حاضرة من حواضر آل سعود و طقعان و طرمان و صرمان و شرمان و هرمان ، افتتحت مطاعم "مندي الجرابيع" الزاهرة . ثم راحت جرابيع فوني تنتشر في البلدان حتى وصلت لموائد بكنغهام و الإليزيه و للبيت الأبيض ، ناهيك عن قصر القبة و قباء الكابينيت .
ثم راح فوني يقرأ عن أصل وفصل الجرابيع ـ فوجد ما يفيد بأنها من نفس عائلة الكناغر . و لعبقريته الفذة ، فقد ترسخت في ذهنه امكانية تسمين الجرابيع لتصبح مثل الكناغر الملتزة باللحوم و الشحوم . و سيستطيع بيع - بدلاً من الأوقية الواحدة من اللحم - العشرات بل مئات الاوقيات من كل جربوع . نعم ، بالتأكيد !
أصدر فوني أوامره لبناء معامل لتسمين الجرابيع لتتحول إلى كناغر . مضت الأيام و الشهور على التسمين ، لكن الجرابيع كانت مصرة كل الإصرار على رفض التحول إلى كناغر . عندها ، أمر فوني بإطلاق سراح كل جرابيعه من مقصورات معالفها ، لتتجمع حوله . لقد آن له الأوان لممارسة صلاحياته الربانية كربٍ راع لعباده يسوسهم بالقسطاط . زحفت الجرابيع نحو فوني ، و أحاطت به من كل جانب . صعد فوني فوق قمرة رولز رايزه ، و خطب في الجرابيع خطبة عصماء عن وجوب الطاعة العمياء لله و لرسله و هو آخرهم ؛ و خيَّرهم بين قبول التسمين و التحول إلى كناغر طوعاً و عبادةً ، أو الذبح حالاً و دخول جهنم و بئس المصير . إزاء سماعها هذا الهول الصريح ، و باعتبارها مخلوقات مؤمنة تريد دخول الجنة ، فقد هجمت الجرابيع على فوني كتلة واحدة ، كي تسمن نفسها به فتتحول إلى كناغر حسب أوامره ، فأسقطته أرضاً ، وراحت تلتهم حراشفه التهاماً ، و أتت على كل جسده ، حتى عظامه النتنة ، و لكنها بقيت جرابيعاً رغم سرطها كل عظم و لحم ربِّها .