الشخصية العراقية في نظرية الوردي النقدية ج 3


عباس علي العلي
2021 / 9 / 10 - 00:12     

نقطة مهمة أخرى هو غياب المؤسسة الأكاديمية المستقلة التي تروج وتمهد الطريق للفلسفة وكل العلوم الإنسانية المنبثقة عنها كعلم الأجتماع وعلم النفس ونظرية المعرفة عن الساحة التعليمة والتركيز المشدد على علوم الدين والكم الهائل الذي تفرع وتفرخ في ظل جو انعزالي متحسس للأثر الفكري التحريري، وعدم صياغة منهج فاعل يقود للتحولات الكبرى التي افترضت كما في المجتمعات الحداثية شروط التحول ليس حبا في الحداثة والتقدم ولكن كان استجابة ضرورية لشروط التحول ذاته وأعني به التقنية والمال والأقتصاد.
بقاء المجتمع العراقي والعربي والإسلامي تحت واقع التخلف التقني وعدم قدرته على التزحزح خارج نظام الدولة المدينة، وأعتماده على القطبية الثنائية المكون من مؤسسة دينية تعاضد مؤسسة سياسية مع تحالف أقطاعي رجعي ربط بين وجوده المهزوز والذي يسير نحو الزوال الحتمي وبين المؤسستين السابقتين، ليمارس هذا الحلف سطوته بكل قسوة ضد أي أتجاه تجديدي أو حداثي، وهو يعلم أن الزمن ليس بصالحه ولا يمكن أن يترك الأمور راكدة على النحو الذي يؤمن له دوام هذه السطوة وأستمراريتها، وهذا ما عزز أيضا من تقوقع الشخصية تحت شروط هذه القوى القاهرة، ولم تجد مثلا لفكرة التحرر الأقتصادي والتحول الصناعي أجواء مثالية كتلك التي شهدتها أوربا والمجتمعات المتحولة، وبقيت حركة المجتمع عموما تحت رحمة القوى المحافظة والأصولية.
إذا كانت الشخصية العراقية تحت تأثير ما يسمى أجتماعيا ونظريا بمستحقات نظرية التناشز الأجتماعي التي درسها الدكتور الوردي في أمريكا على يد روادها المبشرين، وملخص هذه النظرية التي تدور في فلك التكوين الأجتماعي للفرد كفرد وللفرد كمجتمع هو الفرق بين سيرورة التطور من جهة زمنيا ومستوى الأستجابة المتباينة لمفردات التطور ، فمن طبيعة التغيير السريع والتحديث الطبيعي لعناصر المحرك الأجتماعي انه لا يؤثر في جميع أجزاء الكيان الاجتماعي بدرجة واحدة وبمستوى واحد، فكثيراً ما يكون هناك عنصران مترابطان يتعرضان للتحديث أو أثار هذا التحديث وتكون النتائج مختلفة بالرغم من كونهما مترابطان ومتصلان ويتعرضان لمؤثر واحد، نجد هناك أستجابة بدرجة ما هنا وضعف أستجابة في العنصر الأخر ثم يحدث التغيير في احدهما دون ان يحدث في الأخر فيؤدي ذلك بالنتيجة الى حدوث صراع طبيعي أو توتر أو تناقض بينهما).
من محركات التغيير المهمة في قانون الوجود هي قدرة اطرافه على خوض الصراع بين الثابت والمتحول وأقصد به طبعا التوصيفات النسبية، أي أن كل مجتمع ما لم يكن له قوة أساسية ذاتية لأن يقبل افتراضات قوانين الصراع التي يستحكمها الزمن ويبسطها في مفاصل الحركة ويتقبل باستعداد على الرضا والعمل بنتائجها، سيجد نفسه في لحظة تأريخية حاسمة وحرجة خارج دائرة الفعل الحضاري وربما نتيجة القدرة على الأستجابة الطبيعية للحدث حسب قدرة وتفاعل هذه العناصر المحركة، وقد يتخلف عن مهايأة بقية المجتمعات الأخرى المستجيبة لتلك الصراعات بنفس الدرجة، عندها سيكون عبء للحاق ثقيلا ومحبطا وغير قادر على التواصل مما يشكله من فجوة تاريخية تتعمق بغياب الحرية الاجتماعية لفرد والمجتمع مع تحرك لزمن بسرعة.
يقول الدكتور الوردي (إن التناشز الاجتماعي يرادف كل تغير يقع في المجتمع وكلما كان التغيير اكبر وأسرع كان التناشز الاجتماعي اشد وأكثر تنوعاً، وسبب التناشز إن عناصر التراث الاجتماعي لا تتغير كلها على وتيرة واحدة أو بسرعة واحدة، فمنها ما يتغير بسرعة وعلى درجات متفاوتة وهذا يؤدي إلى ظهور بعض المشاكل الاجتماعية)، هذه النتيجة التي وصل لها الوردي هي ليست أفتراض نظري فقط بل واقع حال شهدته من قبل أوربا الحديثة كما شهدته مجتمعات أخرى فهمت القانون وسعت لتكريسه كواقع حال (نجد هذا الصدى في التحول وأثاره الفكرية بادية في مبدأ الحرية بجميع أنواعها وخاصة الحرية الاقتصادية التي تجد جذورها وأسسها في الحرية العامة للمجتمع ككل واعتقاد دعاة الحرية من الفلاسفة والمفكرين الذين أمنوا بالحرية المطلقة للشعوب الأوربية. ).
إذا الشخصية العراقية المحكومة أولا بالتراث التاريخي الأجتماعي والديني والفكري، وغياب الحرية الفردية والمجتمعية نتيجة القسوة والظلم السلطوي والظلم الأجتماعي المكرس بتأثير عناصر التراث تلك، وغياب علاقة طبيعية بين الحاكم والمحكوم من جهة وعدم القدرة على التخلص من سطوة الإرث التاريخي المغلف بالحرام والقداسة وظاهرة التدين العميقة داخل مكنونات الشخصية العراقية التي تعتبر التدين عنصر أساسي فيها لا يمكن حتى التفكير في دراسته أو نقده، إضافة إلى الأمية التعليمية والفكرية المترسخة بالفقر والجهل بما يدور في خارج ذات الشخصية العراقية، جعل منها تتهيب بشكل طبيعي وكأن عناصر تكوينها تمارس دور المضادات الطبيعية أو المناعة الذاتية لتقبل الجديد الذي يغزو عالمها ويحيط بها من كل جانب، جعلها تقبل ببعض التغيير السطحي الملائم لميلوها فيما ترفض الجزء الأهم منه والجوهري بدواعي الحفاظ على الإصالة المعنونة مرة بالشرف والأصول والحرام والحلال، فأولدت لها قناعات متناقضة وقد تكون متنافرة مع العلم أن المؤثر واحد والمتأثر واحد.
هنا نستظهر من النتيجة أن الشخصية العراقية التي عراها الدكتور الوردي وعزا كل ذلك للتناشز الأجتماعي وأثره عليها، ليست شخصية سلبية تماما بطبيعتها الأصلية وأستحالة تغيرها على ضوء عوامل التحديث والتجديد والتطور الأجتماعي، ولا ما نسب لها بالتعميم هو الوصف المثالي بقدر ما يؤشر تخلف القوى الفكرية النخبوية القادرة على بسط الصراع في شقيه المادي والعملي، وهي المتخلفة للأسباب التي ذكرناها من قيادة هذه الشخصية لتتصالح مع واقعها وتتخلص من ضغط شروط الإنصياع لقوة المؤسسة الثلاثية القديمة الدين والأرض والسلطة، والتي تحرص بقوة على بقاء الواقع في شكليته المحافظة الانتهازية التي تستثمرها لقمع الحرية والتخلص منها كظاهرة داعمة ومؤسسة لإدارة الصراع الوجودي.
السلبي في الشخصية العراقية ينحصر كم نتبين من كتاباته تكمن في عدم القدرة على توظيف اللا وعي العقلي أو اللا شعور الباطني في الوقت المناسب أو في الحالات التي تستوجب ذلك، هذا الخلل أساسه معرفي وجذوره تمتد لطبيعة العلاقة بين البيئة والفرد وما يتحصل من هذا الأرتباط، فالبدوي علي سبيل المثال تقاس شجاعته بمدي رجولته وفروسيته وشهامته وكرمه وهذه من أهم صفات الشخصية العراقية وجانب يتعلق بالجذور التاريخية والتنشئة، ولهذا نري أن هذه القياسات تتقلص أن لم نقل تندثر في مواجهة سلطة الدولة في المدينة، حينما يستوجب أن تكون هذه العوامل مسخرة بالشكل الطبيعي للتعامل مع حالات المواجهة والسيطرة والتغلب علي سلطة الدولة المدنية حينما تتصرف بالضد من مصلحة المجتمع، يعني أنها لا تتمكن من إخضاع سلطة الإدارة لها وتحويلها لسلطة أخلاقية تعكس هذه الشخصية، ولا يمكن أن ينسحب هذا أيضا الى سيطرتها علي التطور والتقدم الحضاري المطلوب.
بالعكس نجد أن الظواهر الشكلية من البدوية والعلاقات البينية في تعامله مع الواقع هي التي أنتقلت من مجتمعه إلى مجتمع المدينة وهي التي أعلنت عن نفسها بوضوح، فالبدوي والقروي أيضا حينما يتحول من بيئته ويسكن المدينة ويشرع ببناء واقعه الجديد لم ينقل الصفات الحميدة المكنونة في شخصيته الأصلية، وإنما يسارع وبكل قوة للبحث عن القشور والمظاهر المدنية التي ترتبط بالإبهار والانبهار تعويضا عن الحرمان السابق منها، فهو يبحث عن السيارة الجيدة والثوب الجيد وعن كل ما يجعل الأخر منبهرا به أو مبهورا بما لديه من ظواهر مادية، قد لا يكون هذا تعميما كاملا ولكنه هو الغالب المشاهد حينما يريد أن يوفق بين عالمه الجديد وواقعه القديم، الكرم عنده يتحول إلى تبذير وتطرف غير منضبط في عرف المدينة لأن قياسات الكرم هنا تختلف بمفرداتها وفي جوهرها العام.
هذه السلبية التي قدمها الوردي من خلال التشريح والتنظير والنقد لم تكن في نظره هي أساس المشكلة الوصفية للشخصية العراقية، وكان يعتبرها نتيجة طبيعية للواقع العراقي جغرافيا وتأريخيا ودينيا، فهولا يحمل الشخصية العراقية إثم السلبية بقدر ما كان يرى فيها أيضا مصدر قوة وتفاعل حقيقي لو أحسن التعامل معها، مع ذلك كان يؤمن أيضا أنّ التناقض الداخلي في المجتمع ليس سلبياً بالمطلق، بل هو الدافع الدائم للتطور والتقدم إلى الأمام، فاتخذ طريقاً وسطاً في نظريته الاجتماعية تتجنب الصرامة المنهجية المثالية للجدل الهيجلي والمنهجية البدئية للمنطق الخلدوني، بدءاً من مؤلفه الأول "شخصية الفرد العراقي"، فحاول أن يركز على تصحيح المسارات والعمل على ما يساهم في بلورة شخصية عراقية جديدة تتخلص من الجانب المضر من هذه السلبية ومساعدتها للتحول والتطور وخاصة بعد تحولات عام 1958 وتغير نظام الحكم في العراق