نحو تجديد ألق الراية الحمراء ( 1 )


رضي السماك
2021 / 9 / 9 - 16:50     

في التاسع عشر من شهر آب / أغسطس الماضي مرت الذكرى الثلاثون على محاولة الأنقلاب العسكري على آخر رئيس للأتحاد السوفييتي،ميخائيل جورباتشوف، في 1991، ومع أن تفكيك الدولة السوفييتية جرى التصديق عليه رسمياً في أواخر ديسمبر من ذلك العام ، إلا أن هذا الحدث الجلل اُعتبر التاريخ الفعلي لانهيار الدولة السوفييتية في ضوء التداعيات التي رافقتها وأعقبتها وحيث بات أنهيارها الوشيك أمراً محتوماً في عين أي مراقب للشأن السوفييتي، وأضحى الأمر ليس سوى مسألة وقت وهذا ما كان.
على أن المؤشرات الأولى لشيخوخة الدولة السوفييتية برزت أسبق من تلك التطورات التسعينية، وتحديداً في مطلع الثمانينيات، وإن لم يعرها الشيوعيون في العالم أهتماما حينذاك أو لم يلمسوها أصلاً ، وقد تجلت بوجه خاص في ضوء مشهد الغياب الكلي لنشاط الأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي ورئيس الدولة ( رئيس مجلس السوفييت الأعلى) ليونيد بريجنيف، الذي وُصف عهده بعدئذ بفترة الجمود أثناء إصلاحات جورباتشوف، ففي أقل من ثلاثة أعوام من النصف الأول من الثمانينيات شهد الأتحاد السوفييتي ثلاثة تغييرات في قيادة الحزب والدولة: الأول بعد وفاة بريجنيف 1982وانتخاب يوري أندروبوف محله، والثانية بعد وفاة هذا الأخير في 1984 وانتخاب قسطنين تشيرنينكو مكانه، والثالثة بعد وفاة هذا الأخير في في 1985 ميخائيل جورباتشوف مكانه، وكان جورباتشوف آخر زعيم لهذه الدولة الجبارة العظمى والتي شيدها الزعيم العظيم فلاديمير لينين و عمّرت زهاء ثلاثة أرباع القرن. وكان لوجودها- كما نعلم - تأثير كبير وحاسم في مجرىات أحداث القرن العشرين، كما كان لوجودها أيضا دور محوري كبير في دعم وأنتصار حركات التحرر الوطني العالمية من ربقة الأستعمار الكونيالي ونيل حقها في تقرير المصير والأستقلال الوطني، ناهيك عن دورها الكبير في دعم ونصرة وتقوية نضالات الطبقة العمالية العالمية، إن بصورة مباشرة من خلال دعم حركاتها النقابية أو من خلال دعم أحزابها الشيوعية في العالم. ولعل هذه الذكرى التاريخية الأليمة التي مرت الشهر الماضي لم يجر الألتفات إليها اللهم أستثناءات محدودة .
وبطبيعة الحال فإن غياب الدولة السوفييتي ترك فراغاً خطيراً على الساحة الدولية لصالح الغرب والرأسمالية العالمية حيث أختل ميزان القوى الدولي لصالحهما بعد أن أصبح النظام الدولي يقوم على القطبية الواحدة تقريبا ( الولايات المتحدة) بعد ما ظل يقوم منذ أنتهاء الحرب العالمية الثانية 1945 على نظام القطبية الثنائية ( الولايات المتحدة والأتحاد السوفييتي)، وتأثرت لهذا الغياب مصالح شعوب ودول عديدة في العالم وبخاصة في العالم الثالث، ومن نافلة القول أن في مقدمة التي تضررت مصالحهم كثيراً لغياب الأتحاد السوفييتي دولنا وشعوبنا العربية وقضاياها الوطنية والقومية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ناهيك عن الأحزاب الشيوعية في أقطارنا العربية، ومازال تأثير ذلك الغياب مستمراً حتى يومنا هذا، بل وبصورة متفاقمة. وإن كان الأنهيار في واقع الحال تزامن مع وهن أعترى جميع الأحزاب الشيوعية واليسارية لجملة من الأسباب الذاتية والموضوعية المتعددة ليس هنا موضع سردها تفصيلا لكتها تتمحور حول ما اُرتكب من أخطاء متراكمة لعقود طويلة ، فضلا عن الضربات الوحشية المتلاحقة من قِبل الأنظمة العربية الدكتاتورية منذ نشأة تلك الأحزاب ، ولم تقتصر محاربة مناضلي الأحزاب الشيوعية بلا هوادة بحملات الاعتقالات والتعذيب والقتل خارج القانون والأخفاء القسري فقط ؛ بل أمتد إلى مصادرة الجنسية وتجريدهم من حق العمل وغير ذلك من ضروب الحقوق المدنية .
وللأسف فإن الأحزاب الشيوعية العربية تأخرت طويلاً في أجراء مراجعات لمسيرتها الفكرية والنضالية، إذ لم تنخرط فيها بصورة جدية شاملة إلا بعد أنهيار الأتحاد السوفييتي مباشرة. ومع أن تلك المراجعات متفاوتة في مدى عمقها و صراحتها وشفافيتها، إلا أنه يمكن القول بأن أغلبها تميز بحد أدنى مقبول من المصارحة والمكاشفة، بل بلغ بعضها فوق الحد الأدنى إلى درجة وصفها كثيرون بأنها كانت أقرب إلى جلد الذات، والحق فإن مراجعات وتصحيحات الأحزاب الشيوعية مازالت هي الأشجع والأصدق بل تكاد تتفرد بين الأحزاب والتنظيمات السياسية التاريخية العربية الاخرى كافة والتي ما زالت منكفئة عن الإقدام مثل تلك المراجعات لمسيراتها، ومازالت تنزع في الغالب إلى تبرير مجمل أخطائها اللهم إلا أعترافات شكلية خجولة عابرة .
ومع ذلك فإن مراجعات الأحزاب الشيوعية التي جرت في أعقاب أنهيار الأتحاد السوفييتي لا يمكن أعتبارها في تقديرنا ناجزة مكتملة لا تشوبها شائية، إذ ثمة نقاط كانت غائية عنها لم يتم التطرق إليها في تلك المراجعات إن صح تقديرنا أو أجتهادنا . وعلى أي حال فإن السؤال الذي يطرح نفسه بعد مرور ثلاثة عقود تقريبا على تلك المراجعات : لماذا رغم ما تم من أشد نقد ذاتي في تاريخ الأحزاب الشيوعية ورغم ما أجرتها من مراجعات فكرية ما زالت الأحزاب الشيوعية لا تكاد تتقدم إلىخطوة إلى الأمام خطوة من تراجعها التاريخي ؟ فهل اُجريت تلك المراجعات الشجاعة للإستفادة من عِبرها ودروسها أم لتسجيل كوثيقة تاريخية لتسجيل مواقفها على الورق تودع بعدئذ في أرشيفاتها وتلف طي النسيان وكفى الله المؤمنين شر القتال؟ وأخيرا وترتيباً على ما تقدم من أسئلة نصل إلى السؤال الأهم : إلى أي مدى أستطاعت أحزابنا الشيوعية العربية أن تتماهى مع مراجعاتها وتترجمها إلى الواقع في الحياة الحزبية اليومية على مختلف المستويات الحزبية مسترشدة في ذلك بخريطة طريق لسياساتها الفكرية والنضالية الجديدة المستمدة من تلك المراجعات ؟ ذلك ما سنحاول الإجابة عليه في الحلقة القادمة.