إنتفاء الدولة في عالم اليوم (2/1)


فؤاد النمري
2021 / 9 / 8 - 09:42     

إنتفاء الدولة في عالم اليوم

قبل أيام كتب أحد أدعياء الشيوعية يتساءل عن إختلاف الدولة في العالم العربي عنها في الدول الأوروبية، فكان تعليقي على هذا التساؤل الهام جداً هو أن المفهوم العلمي للدولة لم يتحقق في العالم العربي . طبقة البورجوازية الوطنية قامت بثورة التحرر الوطني العالمية (1946 – 1972) ممثلة في العالم العربي بشكري القوتلي في سوريا وجمال عبد الناصر قي مصر وعبد الكريم قاسم في العراق، وكانت ستستكمل ثورتها وتبني دولتها الخاصة بها التي ستحرس مصالحها الطبقية لولا انهيار الثورة الإشتراكية في مركزها موسكو وهو ما استدعى انهيار ثورة التحرر الوطني العالمية وقياداتها من طبقة البورجوازية الوطنية الدينامية بصورة آلية وعدم تشكيل الدولة الخاصة بها بالتالي .
الفراغ الكلي للسلطة الذي نجم عن انهيار طبقة البورجوازية الوطنية الثورية بعد انتصارها في الحرب على الإمبريالية سمح لأفراد مغامرين من وضعاء العسكر باختطاف السلطة وتشكيل عصابة من العسكر المحيطين لتحل محل الدولة وتسوم الشعب بمختلف طبقاته أسوأ ألوان القمع الوحشي ونهب ثرواته وحصاره في دائرة الجوع الموصوف . كذلك قفز حافظ الأسد إلى السلطة في سوريا وصدام حسين في العراق ومعمر القذافي في ليبيا وبن علي في تونس وعلي عبدالله في اليمن وبومدين في الجزائر . كان هؤلاء بالمعنى الدقيق للكلمة رؤساء عصايات وليسوا رؤساء دول . وما كانت دساتيرهم غير خرق لمسح الأوساخ .
عصابة البورجوازية الوضيعة التي انقلبت على النظام الإشتراكي في موسكو بعد إغتيال ستالين في العام 1953 رأت في اختطاف السلطة من قبل وضعاء العسكر في الدول المستقلة حديثاً أمراً مكملاً لانقلابها وخاصة في جناحي العالم العربي الجزائر وسوريا حيث سيتخلص الإنقلابيون أعداء الإشتراكية في موسكو من القوى الوطنية الثورية في العالم العربي ؛ وكان خروشتشوف قد أعرب بكل وقاحة عن عدائه الكيفي لحركة التحرر الوطني في العالم في المؤتمر الإستثنائي للحزب الشيوعي في العام 59 ووصف قادتها بالمغامرين . كان أن رحبت المخابرات الأميركية بتصريحات خروشتشوف غير المتوقعة مما حدا بها لأن تتدبر عشرات الإنقلابات العسكرية في الستينيات في الدول المستقلة حديثاً راح ضحيتها مئات ألوف الشيوعيين .

نعود اليوم لذات الموضوع ذي الأهمية القصوى وهو التعرف على الدولة، طبيعة الدولة وأعمالها . التعريف العلمي للدولة حسب ماركس هو أن الدولة منظمة تشكلها الطبقة الحاكمة لحراسة مصالحها عن طريق استخدام العنف . مثل هذه الدولة لم يعد موجوداً على الإطلاق والسبب بكل بساطة هو أنه لم يعد هناك في العالم طبقات حاكمة . هذا حقيقة لا يعتورها هذيان أولئك الذين لم يتعرفوا على النظام الرأسمالي من خلال ماركس . يهذون مدعين أن النظام الرأسمالي ما زال يعمل بل ازداد توحشاً واستطاع أن يعبر أزماته ويتجدد بفعل العولمة . يقر هؤلاء بأن النظام الإشتراكي انهار مهزوما بمواجهة النظام الرأسمالي وبالمثل انهارت حركة التحرر الوطني ويخلصون بالتالي إلى أن النظام الرأسمالي ما زال يعمل وهو الحي الباقي .
كتبنا آلاف الصفحات تأكيداً على انهيار النظام الرأسمالي بالإستناد لأحكام ماركس وعبثاً كتبنا مما يشي أن ثمة أسباباً أخرى غير الجهل وسوء الفهم يمنع على هؤلاء قراءة التاريخ كما هو، وربما هي الخيانة، خيانة النهج اللينيني فالخيانة وحدها هي التي لا تسمح للخائن بالتطهر .
لن نعود لمناقشة انهيار النظام الرأسمالي في سبعينيات القرن العشرين مع هؤلاء القوم الذين يمتنعون عن قراءة التاريخ كما هو ؛ ولن نشير إلى أول مؤتمر قمة تعقده الدول الرأسمالية الكبرى الخمسة (G5) في رامبوييه/باريس في 16 نوفمبر 1975 لمعالجة انهيار النظام الرأسمالي وتبنيهم لخطة ذئب الرأسمالية المسعور وزير الخزانة في أميركا وليم سيمون (William Simon) وتقول خطته المشحونة بسعار الإفتراس .. "نحن الدول الرأسمالية الخمسة حكمنا العالم من خلال إنتاج البضاعة، أما اليوم فسنحكمه من خلال إنتاج النقد) . مثل هذه الخطة الغبية المناقضة لقانون النقد الدولي لا يأتي بها غير ذئب غلبه سعار الإفتراس إذ كان قد رفضها سلفه جورج شولتس (George Schultz) وهو يحمل درجة دكنوراه في العلوم المالية .
عبثا نناقش مثل هذه المسائل الصعبة على أفهام قوم لا يجيدون القراءة، ولذلك دعنا نكتفي بالتأكيد على حقيقة لا سبيل لإنكارها وهي أن الولايات المتحدة تطبع الدولار بغير حساب . يُقدر أن الولايات المتحدة تطبع سنوياً ما يزيد على 10 ترليون دولاراً بينما لا تنتج من البضائع أكثر من 5 ترليون دولاراً، وتبيع الدولارات الفائضة المكشوفة وهي 5 ترليون إلى العالم بقيمة 80 ألفاً طناً ذهباً .
إزاء هذه الحقيقة التي لا سبيل لإنكارهظا وهي أن أميركا تطبع النقود المكشوفة فذلك يعني دون لبس آوإبهام أن النظام الرأسمالي لم يعد يعمل في العالم فالنظام الرأسمالي قام أساساً كما في التحليل الماركسي لتحقيق هدف واحد وحيد هو مراكمة الأموال ؛ وها نحن نرى الولايات المتحدة تراكم الأموال دون أن تنتج بضاعة ودون تشغيل قوى عمل على الإطلاق في إنتاج النقود وفي تجارتها . تبيع سنوياً إلى العالم 5 نرليون دولاراً مكشوفاً بقيمة 80 ألفاً طناً ذهباً .

نعيد التأكيد على أنهيار العوالم الثلاث التي خلفتها الحرب العالمية الثانية، فما حقيقة هذا الإنهيار المروّع ؟
لما كانت العوالم الثلاث تعرف باسم قوى الإنتاج الرئيسة فيها فالعالم الأول هو العالم الرأسمالي وقد عُرّف بالرأسماليين والعالم الثاني هو العالم الإشتراكي وعرف بدكتاتورية البروليتاريا والعالم الثالث هو عالم قوى التحرر الوطني وعرف بالبورجوازية الوطنية الدينامية .
بدأ الإنهيار في العالم الإشتراكي، إذ كان الإتحاد السوفياتي ومنذ العام 39 قد شرع لضرورات أمنية بالتحول إلى دولة حرب، وعرف في العام 45 كأقوى دولة حرب في التاريخ ؛ ودولة الحرب تنتح من كل مساماتها النفي النوعي للإشتراكية . في العام 51 نهض الحزب الشيوعي بقيادة ستالين لإعادة دولة الحرب السوفياتية إلى دولة الإشتراكية السوفياتية كما كانت في العام 38، فكان أن اِغتيل ستالين وجرى انقلاب عسكري في العام 53 وغدا الإتحاد السوفيتي ليس نافياً للاشتراكية وحسب بل ومعادياً للشيوعية أيضاً ؛ وجرى كل ذلك، الحرب وما بعد الحرب، على حساب الطبقة العاملة التي انهارت بانهيار النظام الإشتراكي .؟