بناء الثقة في زمن التقويض


سعيد مضيه
2021 / 9 / 7 - 14:35     

كان يمكن أن تسجل للرئيس عباس تخيلاسياسيا كسَرَ الروتين لو وجد مشروعه لفرض السلام التجاوب المفترض؛ فالسلام عقد ومسيرة مشتركة بين طرفين. أبراهام بورغ فكر بنهج للسلام فانتبذ، وأبعد السرب ، أقصي عن دائرة النفوذ. ومن قبله حورب البروفيسور إيلان بابه واضطر لترك البلاد حين أشار الى خارطة طريق السلام . رابين اعترف بمجرد كيان فلسطيني وقتل . خطب نتنياهو في الجموع لا أستطيع ردعه ، اردعوه انتم. وفي الحال جرى تجهيز القاتل، لتغرق إسرائيل في مستنقع فاشية الكراهية العرقية، والمستنقع تنبت على سطحه الطحالب المسممة للأجواء وللنفوس.
تحدث الرئيس عباس عن إجراءات بناء الثقة، ولا ندري هل سيبنيها على أسس صلبة ام فوق رمال متحركة؛ ينشد الرئيس شق درب للسلام ! وبعد أن التقى عباس مع غانتس، بادر على عجل رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينيت، لتبديد الظنون حول مفاوضات سلام. دعوة السلام تطرح منطقيا البديل لاستخدام القوة؛ فلا تستقيم دعوة السلام مجردة من عناصر القوة. دعوة السلام تستحق الثناء لو استقطبت من لدن الطرف الآخر من يستعد للسير في درب السلام . اقتحام الأقصى كل يوم، منْع المزارعين من الوصول الى أراضيهم ، هدم البيوت، كل ما تذيعه فضائية فلسطين في نشرات أخبارها ، اليست ذات دلالة؟ الا يصغي الرئيس عباس لنشرات اخبار فضائية رام الله؟ هذا الكم الهائل من تعديات المحتلين الصهاينة هل جوبه بنقد علني أو مهموس تصدره أصوات خجولة داخل طيف السلطة الإسرائيلية؟
"السلطة الفلسطينية ملتزمة بالسبل السلمية" ! عبارة تحمل مضمونا إيجابيا لو امتلك الجانب الفلسطيني البديل يضغط به او يلوح به . الطرف الفلسطيني مكشوف لا يستطيع إلحاق الخسارة بصناع الحروب . والهدوء تقطعه استغاثات المجتمع الدولي، طلبا للحماية او وقف التجاوزات، لا يسجل في الأعراف الدولية سلاما . فليس درب سلام ذلك الهدوء تفرضه عربدة القوة وإرهاب المستوطنين على مدار الساعة. ليس سلاما الوقوف العاجز امام نهب الأرض وتوسيع المستوطنات بآلاف الشقق السكنية مع حظر البناء وهدم البيوت بحجة عدم الترخيص. ليس سلاما الحفاظ على امن الاستيطان والمستوطنين وترك جماهير الفلسطينيين بلا امن امام صولات جيش الاحتلال وعربدات المستوطنين. ليس سلاما يكتنفه هدر الحقوق الوطنية طوال عقود متتالية ويرتفع صخب التهديدات بالاقتلاع والتهجير ! إنه الخنوع لمصير كارثي!
المباد ببناء الثقة يشيع الانطباع بأنه المعتدي ، ويقدم التنازلات كي يرضي الخصم! والجانب المعتدي هو جيش الاحتلال طوال اكثر من نصف قرن. جيش الاحتلال صادر الخقوق الوطنية وحريات المواطنين في فلسطين؛ وهو من يزرع الإرهاب، ويحمي لصوص الأرض ، ويقطع الطريق على التحرر. انه الملزم بتقديم التنازل ، وهو الذي يتوجب عليه التحول باتجاه بناء أسس الثقة.
المتطاول هو الذي يقدم تنازلات تجسر العلاقة المقطوعة مع االضحية. ولكن هل يدرك المعربد بقوته انه يتطاول ؟ طالما يحقق المكاسب والأرباح الجزيلة من تطاولاته فإنه يعتبر من حقه الحفاظ على مكاسبه . الاحتلال حوّل إسرائيل الى دولة تكسب المليارات سنويا من تصدير أجهزة "الأمن"( المراقبة والتجسس بقصد السيطرة والإخضاع)الإليكترونية وخبرات الأمن ( أي قمع المقهورين والتحكم في حركاتهم)؛جعلت الصادرات "الأمنية" من إسرائيل دولة ذات مشروع إقليمي تبرم الاتفاقات وتقيم الأحلاف والأحلاف المضادة بالمنطقة . ما لم تتحول المكاسب الى نزيف، ويغدو ميزان مدفوعات الاحتلال سالبا ، ما لم تجبرإسرائيل على دفع ثمن تطاولها لن تدرك انها تمارس العدوان، وامامها شعب صاحب حق في وطنه وفوق أرضه لم ينشد غيرها، وان إسرائيل لذلك كله ملزمة بالتحول الى التعايش السلمي.
والعالم كله يتحرك لإطفاء حريق او لوقف سفك دماء، لا تقلقه الحياة الطبيعية واستتباب الهدوء. "الولايات المتحدة لا تتحرك إلا حيال مشكلة"! عبارة قالها كيسنغر. ولا حاجة لأن يذكّر كيسنغر بما هو دارج و بدهي في الحياة ؛ من الطبيعي ان عالما تشغله الحروب والمجاعات والأوبئة واختلالات المناخ وتتزاحم فيه أنظمة الهدر والقهر، وتنهب الاحتكارات الكبرى ثرواته وتستنزف جهود شغيلته.. من البدهي ان لا يصغي للشكاوى العاجزة ، سيما وهو يسمع ويرى المشتكي يقدم الحماية لقاهريه ممن يستصرخ طلبا للحماية منهم! معادلة مركبة تستعصي على الأفهام!
اكتسبت القضية الفلسطينية التعاطف الدولي حين اجترحت انتفاضتها الشعبية عام 1987. الحراك الشعبي معيار دقيق لحقوق الشعوب، من خلاله تُشْهَر القضايا الوطنية وتحظى بالاحترام وبالتضامن. وحين دخلت القضية دهاليز التفاوض فقدت الاهتمام ، حيث توهم العالم انها في طريق الحل . دهاء وخبث شمعون بيرس ادخل القضية دهليز التفاوض كي ينفّذ تحت وهم الحل مشروعه الاستيطاني. رابين كان جادا في تنفيذ اتفاق أوسلو فتعمدته الرصاصات ، بينما راوغ بيرس وكان بجانب رابين. وقبل هذا نصبت إسرائيل شركا، إذ خدعت دعايتها بانها استبَقَت بعدوان حزيران 1967مخططا لتدميرها ؛ والحرب خدعة . تواصلت الخدع من جاتب إسرائيل تغري الجانب الفلسطيني بسراب التفاوض ردحا من الزمن، استنبتت خلاله مشاعر الملل من قضية عتقت وباتت مملة تقحم على المنظمة الدولية .!! راح أعداء القضية الفلسطينية ، من قوى امبريالية وصهيونية ورجعية عربية يكيدون لحذفها من جدول الأعمال الدولي . وبالفعل طالب الرئيس الأميركي ، باراك أوباما ، بحذف الموضوع الفلسطيني من جدول أعمال المنظمة الدولية. اما ترمب فقد شطب الحقوق الفلسطينية عمليا ودعم المشروع الصهيوني بكامله بتحويل فلسطين دولة لليهود.
الرئيس الفلسطيني ركّز على الترحيب بموقف الإدارة الأمريكية الحالية، "أعطت إشارة مهمّة للفلسطينيين بقرارها إعادة فتح قنصليتها في القدس الشرقية، وحثت الحكومة الإسرائيلية الجديدة على وقف الاستيطان، والاعتراف بقرارات الشرعية الدولية، وتنفيذ اتفاقات أوسلو، وكذلك عدم إجراء انتخابات فلسطينية من دون سكان القدس". الم يحن الوقت لكي ندرك أن امبريالية الغرب تبيعنا عواطف ، وانها غير مستعدة لإتباع أقوالها بأفعال ، وغير جاهزة لممارسة الضغوط لحماية الشرعية الدولة؟ وكيف يحمي الشرعية الدولية من ينتهكها على مدار الساعة؟! ألم نتعلم الدرس من الانتظار العقيم ؟
مبادرة بناء الثقة تتزامن مع مشروع او مخطط استيطاني يمتد على مساحات تقدر ب 12443 دونما حسب التقديرات الرسمية الفلسطينية ، يشمل المنطقة شرقي القدس المحتلة وتربطها بمستعمرة معاليه ادوميم، ليفصل شمالي الضفة عن جنوبها. تبقي حكومة بينيت السيف مصلتا فوق الخان ا لأحمر يشمله مشروع استيطاني، يضم الشقق السكنية ومنطقة صناعية وفنادق سياحية . لم يتبق على تنفيذ المشروع سوى انعقاد جلسة ما يسمى "المجلس الأعلى للتخطيط والبناء في الإدارة المدنية" للموافقة على البدء بالتنفيذ.
علاوة على المشروع المذكور تجيب ه حكومة بينيت على مبادرة بناء الثقة ، وشأن حكومة نتنياهو، يجري تداول ما يطلقون عليه "تسوية الحقوق العقارية" داخل مدينة القدس المحتلة بكلفة رصد لها الملايين . وحسب تقديرات المواطنين في القدس يسلب المشروع 60 بالمائة من أملاك المقدسيين نظرا لتغيب قسم كبير منهم خارج المدينة تحول ممتلكاتهم الى خانة املاك غائبين. هذا الى جانب شرعنة صفقات التزييف لبيوعات وتسريب الأملاك ، وشرعنة وقوننة الاستيطان في المدينة. في مناخ عربدة التهويد تطرح مبادرة بناء الثقة !!
حين تبتلع الأفعى فريستها تحتاج الى هدوء كي تهضم ؛ ولهذا فوض وزير الحرب للاجتماع بالرئيس وتقديم وعود تجاهلت الاحتلال والدولة ذات السيادة الكاملة، وقد لا تتجاوز الكلام.
لم تعد القضية الفلسطينية حكرا على السلطة وقيادتها في رام الله؛ الدعوات تنطلق من أكثر من جهة محلية وخارجية لتصعيد مقاومة شعبية تربك المحتلين وتحرك القوى الخيرة في العالم لممارسة الضغوط على إسرائيل. إذ لا يعقل ان تسبق قوى التضامن الأممية حراك أهل القضية! الطبيعي والمعتاد أن تأتي صدى لتحرك صادم في الداخل. وتنافس السلطة على الاستئثار بالقضية فعاليات تستهويها مغامرة النزال المسلح، يسفر، شأنه دوما ، عن خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، ولا ينتزع شيئا من أشداق الوحش. وهناك من يعتبر فلسطين وقفا إسلاميا من حقه التدخل بأسلوبه وبادواته التي قد يخالطها مسوغ يعطي المبرر لإطلاق نفير التشريد والتهويد.
والقوى المعادية تترقب بحذر وتعد العُدد للتدخل وتوجيه الأحداث نحو إنجاز مشروع الصهاينة لاحتلال كامل فلسطين؟

.