شقاء الوعي


حسن مدن
2021 / 9 / 7 - 14:34     

يمكن للوعي في لحظة من لحظاته، بل إنه غالباً ما يتحول الى مشكلة حقيقية، ويعوذ المرء بنفسه أن يمجد الجهل، ولكن الجهل يبدو في لحظة من لحظاته، بل إنه غالباً، ما يتحول الى نعمة بالنسبة لصاحبه.
الجاهل، أوالجاهل بالأمور إن أردنا تعبيراً أكثر تهذيباً، هو شخص قنوع راضٍ دائماً عما حوله، إنه بالأحرى لا يشغل باله بالبحث أو التنقيب أو التساؤل أو التحري، كل ما هو معطى هو حق بالنسبة له غير قابل للجدل أو النقاش، أما الإنسان المصاب بلوثة الوعي فإنه إنسان حائر، قلق، يطحنه التمزق بين وعيه وبين ما يراه أو يعيشه. “إن الوعي الزائد يمكن أن يكون عدواً يتربص في الأعماق، الوعي يمكن أن يكون عذاباً وجحيماً أرضياَ” هكذا تقول إحدى الكاتبات.يحدث ذلك لأن الوعي بالأشياء يخلق حرقة، فهو مبني على رغبة البحث عن الأفضل والأحسن والأجمل والإنسان الواعي له نظرة أبعد وأشمل، تتخطى المعاش وتتطلع نحو البعيد. نظرة تفحص تحلل وتقارن وتنقد وتقترح البديل،
لكن الوعي منبوذ دائماً شأنه شأن كل القيم والقضايا الجميلة، فالواعون هم تركيبة خاصة من البشر، فيهم مساحة للحلم وللشعر وللاستشراف، وإلى هؤلاء يجب أن ينتسب المثقف المسلح بالعلم والمضيء بالمعرفة، على خلاف أشباه المثقفين والمدعين والباحثين عن أدوار وبطولات، وما أكثرهم لسوء الحظ. وللواعين دائماً حاسة نقدية إزاء الظواهر والقضايا. إنهم يمتلكون تلك المقدرة المدهشة في النفاذ الى عمق الأشياء، إلى جوهرها، ولديهم الجرأة والشجاعة على الإمساك بالجمر ضريبة بحثهم عن الحق وعن الحقيقة.
انهم مسكونون بقلق المعرفة ومكتوون بحرقة السؤال ومفتونون بالمستحيل، وهم اذ يلقون بأنفسهم في خضم المجهول، فذاك لأنهم لا يقيمون كبير وزن لما عليهم أن يتحملوه لقاء انسجامهم مع ذواتهم، لقاء انحيازهم للمعدن الأصيل في نفوسهم في مواجهة الزائف والهش والمبتذل والسوقي والتافه والسطحي والاستعراضي، وكل ما يزيد الناس استلاباً على استلابهم واغتراباً عن فطرتهم.
وصف سارتر المثقف بالشخص الذي يقوم بمهام لم يكلفه بها أحد. وإن بدا هذا القول في الظاهر سخرية من المثقفين ودورهم، فإنه في الجوهر أميل إلى الشفقة على هذه الفئة المبتلاة من البشر التي وصفها سارتر نفسه ب "الضمير الشقي".
أما كيف يكون المثقف ضميراً شقياً فذاك ما نجد توضيحاً له في عبارة ديستوفسكي في كتابه "ملاحظات من العالم السفلي"، حيث سعى للتفريق بين نمطين من البشر، نمط يتأمل ونمط يفعل. يقول ديستوفسكي: "أقسم يا سادة أن شدة الوعي مرض، ومن يستطيع أن يفخر بمرضه؟ هل تعرفون، يا سادة، ربما أعتبر نفسي إنسانا ذكياً فقط، لأنني لم أتمكن طيلة حياتي أن أبدأ أو أكمل أي شيء".
لولا هؤلاء لما كان الوعي، لولا هؤلاء لما كانت منعطفات الحياة الكبرى وتحولاتها، لما كانت الأفكار الكبيرة، والكتب الخالدة والروايات والمسرحيات العظيمة، لولاهم لما كان التاريخ من حيث هو بحث دائم عن الأفضل والأجمل، من حيث هو توق دائم لحياة أكثر إشراقاً، ولوعي كجذوة النار التي حتى ولو توارت تحت الرماد لحين، فإنها تظل عصية على الموات مهما كانت الرياح عاتية.