الإمبريالية الكينزية الجديدة في زمن الوباء: فهم ومحاربة حكومة بايدن

تامر خرمه
2021 / 9 / 7 - 10:16     


بقلم أورلاندو توريس
ترجمة تامر خرمه
مراجعة فيكتوريوس شمس

مع استمرار جماح الأزمة الاقتصادية وأزمة الرعاية الصحية في كافة أنحاء الولايات المتحدة، يواجه العمال رئيسا جديدا في البيت الأبيض. بعد أربع سنوات من عهد حكومة متعصبة علانيّة، وسلطويّة بابتهاج، بدأ الحزب الديمقراطي وحلفاؤه في بيروقراطيات العمل وقيادات الطبقة الوسطى في المنظمات غير الربحية الليبرالية مرة أخرى بذر الأوهام حول حكومة “تقدمية” جديدة. وكما هو الحال مع كل إدارة للحزب الديمقراطي، أخبرنا الليبراليون و”التقدميون” أن للطبقة العاملة فرصة لكسب إصلاحات كبرى، من خلال التعاون مع رئاسة بايدن_ هاريس و “الضغط عليها”. لكننا مررنا بهذه الاستراتيجية المجربة الفاشلة مرات كثيرة من قبل_ كان آخرها في ظل حكومة أوباما التي ترأست إنقاذًا هائلا لمجرمي “وول ستريت” بينما تفاقمت اللامساواة، واللا استقرار، والترحيل إلى مستويات غير مسبوقة، واستمر التدخل الإمبريالي بلا هوادة. للفوز فعلا بالإصلاحات التي تحتاجها طبقتنا بشدة، علينا أن نحرر أنفسنا من الأوهام الإصلاحية وأن نعتمد على قوتنا التنظيمية.

هذا يتطلب منا فهم الطابع السياسي للحكومة الجديدة، والطرق التي تستمر بها وتبتعد عن سياسات الحكومات السابقة، ولماذا يعتبر مشروع التجديد الرأسمالي الإمبريالي لعنة على احتياجات وتطلعات العمال في الولايات المتحدة الأمريكية وحول العالم.

تحقيقا لهذه الغاية، نفتتح هذا المقال من خلال وضع البيت الأبيض بعهد بايدن في سياق الديمقراطية البرجوازية للولايات المتحدة والأزمات المعقدة للرأسمالية المعاصرة. بعد ذلك، نقوم بتحليل المحتوى السياسي لمشروع بايدن، مع التركيز على التحفيز الاقتصادي الرائد وسياسات البنية التحتية. أخيرا، وضعنا أمامنا إستراتيجية التنظيم الذاتي والعمل الجماهيري لمحاربة الممثل الجديد للطبقة الحاكمة، والفوز فعلا بإصلاحات رئيسية، من خلال الدفع قدما بالنضال من أجل مجتمع اشتراكي.

تحديد سياق حكومة بايدن: الديمقراطية البرجوازية في زمن الأزمات المتفاقمة
الرأسمالية متجذرة في استغلال واضطهاد غالبية السكان من قبل نخبة صغيرة. لذلك، فهي تتطلب نظاما للرقابة الاجتماعية، يمكنه أن يبقي العمال يدرون أرباحها لرؤسائهم، ويمنع أو يحيد التمردات الكبرى من الأسفل. في الأنظمة الشمولية أو الديكتاتورية، تكون الآلية الرئيسية للرقابة الاجتماعية هي الدولة القسرية والعنف الاقتصادي، كما يتضح من القمع الوحشي للتظاهرات الجماهيرية المناهضة للعنصرية في الصيف الماضي، وفي تزايد التعداد الهائل للسكان المشردين. هناك الكثير من العنف القسري في الديمقراطيات البرجوازية من أمثال الولايات المتحدة. لكن الأداة السائدة للسيطرة الاجتماعية في هذا النوع من الأنظمة هي موافقة أو قبول الطبقات التابعة بالنظام الاقتصادي الذي يستغلها. يحقق الرأسماليون ذلك من خلال ملكيتهم وسيطرتهم على المؤسسات الثقافية (كالتعليم، والأخبار، والإعلان، والأفلام.. الخ.)، والتي تنتج أفكارا برجوازية يتم استيعابها بمرور الوقت على أنها “منطقية”. ومن الأهم في هذا الصدد هو تلك الأسطورة القائلة بأن الولايات المتحدة هي ذروة الحرية والديمقراطية. هذه الأسطورة تتكرر إلى حد الغثيان، رغم وجود 25 مليون مقيم من غير المواطنين الذين لا يمكنهم التصويت في الولايات المتحدة (بما في ذلك 11 مليون غير مسجلين)؛ وملايين آخرين محرومين من حق التصويت عبر قوانين الجنايات المدانة وقمع الناخبين. الرأسماليون وممثليهم السياسيين يتحكمون تماما في تمويل الحملات الانتخابية، والوصول إلى النقاشات، والتغطية الإعلامية للانتخابات[i]. كما أن ملكية الرأسماليين لوسائل الإنتاج تمنحهم القدرة على حجب الاستثمار (لتنظيم إضراب رأس المال) وإبقاء سياسة الدولة ضمن الحدود التي لا تهدد الحكم الرأسمالي (لهذا السبب نسمي الدولة في الديمقراطيات البرجوازية كالولايات المتحدة بـ “الدولة الرأسمالية”). علاوة على ذلك، فإن الطبيعة الإمبريالية لدولة الولايات المتحدة، التي تستخدم قوتها العسكرية والاقتصادية لانتزاع الثروة من معظم أنحاء العالم، تجعلها نقيضا للديمقراطية في علاقاتها الدولية.

الاستقرار والسلطة الأيديولوجية للديمقراطية الرأسمالية يعتمدان على قدرتها على التناوب على السلطة بين الأحزاب البرجوازية التي، على الأقل إلى حد ما، تمثل قطاعات مختلفة من الطبقة الحاكمة. وبما أن المنافسة الرأسمالية متأصلة في النظام، فإن الصراعات بين الأحزاب البرجوازية والمصالح الاقتصادية التي تمثلها غالبا ما تكون حادة، وتعبيراتها في المنافسات الانتخابية تضفي عليها مظهر العملية الديمقراطية النشطة. لكن وراء المنافسة الانتخابية البورجوازية الداخلية تكمن النقطة الأساسية للوحدة بين كافة الأحزاب الرأسمالية_ التزامها بنظام اقتصادي متجذر في الاستغلال والقمع، نظام يتطلب النهب الإمبراطوري، والفقر الفاحش، واللامساواة، وتدمير البيئة، وعنف الدولة الهائل حتى يكون فاعلا ويعيد إنتاج نفسه.

إضافة إلى تمثيل قطاعات مختلفة من الطبقة الحاكمة، تقوم الأحزاب الرأسمالية بتعبئة شرائح مختلفة من الناخبين في تنافسها على السيطرة على الدولة. على مدى العقود العديدة الماضية، كان الحزب الجمهوري يتودد إلى أصوات الطبقة الوسطى في الضواحي، والمسيحيين المحافظين، والمناطق الريفية للبيض، وشريحة من العمال البيض المتنقلين إلى طبقة أدنى. من ناحية أخرى، فإن القاعدة الانتخابية للحزب الديمقراطي تتكون بشكل أساسي من الناخبين الشباب، وشرائح الطبقة العاملة والطبقة الوسطى في المناطق الحضرية، ومجتمعات الملونين. لتحشيد الأصوات – وللحيلولة دون انتفاضات واسعة النطاق، ولدعم إيمان الناس بالمؤسسات الديمقراطية البرجوازية – يجب على كلا الحزبين تقديم بعض التنازلات على الأقل لقواعدهما عندما يكونان في السلطة. بالنسبة للجمهوريين، يبدو هذا وكأنه تخفيضات ضريبية للأثرياء يصب في صالح الطبقات المتوسطة العليا في الضواحي، وتعيين المحافظين الدينيين في القضاء، وإذكاء الدوافع العنصرية للناخبين البيض من خلال سياسات الهجرة الصارمة والقمع البوليسي. بالنسبة للديمقراطيين، فإن الاعتماد على بيروقراطيات العمل، وقيادات الطبقة الوسطى للمنظمات “التقدمية” لتحشيد الناخبين، وعلى تقديم تنازلات لشرائح من الطبقة العاملة، كالإجراء المؤجل للوافدين ممن هم في مرحلة، الطفولة، وقانون الرعاية بأسعار معقولة (الذي كانت أيضا صدقة ضخمة لشركات التأمين الخاصة)، يعد ضروريا. وبالطبع، بالنسبة لكلا الحزبين، يجب تحفيز الشوفينية الوطنية، والحرب ضد أعداء مزعومين لـ “أسلوب حياتنا”، والقومية المعادية للأجانب ضد القوى المتنافسة بشكل دوري، لحشد الأصوات وتحييد التهديدات من الأسفل.

بصرف النظر عن استدامة أسطورة الديمقراطية البرجوازية، يمكن لبعض التنازلات الاقتصادية أن تخدم هدفا للطبقة الحاكمة، خاصة خلال الفترات التي يكون فيها العمال ببساطة معدمين للغاية، بحيث لا يمكنهم الحفاظ على الطلب على السلع التي تغذي الأرباح والنمو الاقتصادي. وفي نظام الثروة والسلطة الهائلين، حتى التنازلات الصغيرة يمكن أن يكون لها تأثير كبير على المستفيدين من الطبقة العاملة. ومع ذلك، كقاعدة عامة، فإنه – في غياب التعبئة الجماهيرية النضالية التي تهدد أرباح الرأسماليين وحكمهم السياسي – فإن الامتيازات من الأعلى (خاصة الاقتصادية منها) لا تكاد تذكر، وتترك جذور معاناة طبقتنا كما هي، ويمكن عكسها بسهولة على يد الحكومات المستقبلية.

رغم أن المنافسة البرجوازية الداخلية من خلال الحزبين الديمقراطي والجمهوري حقيقية، إلا أن القطاعات الأقوى لرأس المال تستثمر في كلا الحزبين، لأنه عندما يتعلق الأمر بالاحتياجات الأساسية للنظام – ربحية رأس المال، أو قمع أو اختطاف تهديد الطبقة العاملة، والعسكرة الإمبريالية حول العالم، وما إلى ذلك_ فإن الليبرالية والمحافظين سيلتقون حتما. علاوة على ذلك، فإن تياريّ السياسة البرجوازية قاما بتطوير أدوار متكاملة لإعادة إنتاج النظام. عندما تتباطأ الأرباح والنمو في ظل الإدارات الديمقراطية، يأتي الجمهوريون إلى السلطة لفرض هجمات واسعة النطاق على العمال، وسياسة خارجية متشددة بشكل علني، في ظل خطاب كبش فداء عنصري، وأصولية السوق، والقانون والنظام، والعسكرة الشوفينية. عندما يفقد هذا “الوجه القبيح” للرأسمالية الأمريكية شرعيته ويؤدي إلى نهوض مقاومة جماهيرية، يعود الحزب الديمقراطي إلى السلطة ويقدم حفنة من التنازلات الطفيفة لكبح تجاوزات رأس المال الأكثر زعزعة للاستقرار، واستمالة الحراكات المعارضة لها، ويستمر في مهاجمة العمال، وإعطاء الأولوية للأرباح، والإمبراطورية، في ظل خطاب ليبرالي قائم على التسوية، والتنوع الثقافي، والإمبريالية الخيرية. وبالتالي، من خلال دائرة الشرطي الجيد والشرطي السيء هذه، تحافظ الطبقة الرأسمالية على هيمنتها.

أين تقع إدارة بايدن في هذا النمط التاريخي؟
بعد أربع سنوات من عهد دونالد ترمب_ قطب إعلامي متعصب فجّ بميول بونابارتية شديدة، والذي ينظر إليه على أنه انحراف بتأسيس كلا الحزبين_ من المفترض أن يعيد بايدين الوجه “اللطيف” مجددا، ويستعيد شرعية النظام الديمقراطي البرجوازي، ويدفع قدما بأجندة الطبقة الحاكمة. لفعل هذا يفترض به استعادة “الأعراف” البرجوازية، والوصول إلى تسويات بين المصالح الرأسمالية الكبرى، وإثارة الأوهام حول إصلاحات حقيقية عبر نظام من المفترض أنه مستجيب وديمقراطي، واستمالة أية حركات تعدّ مصدر تهديد عبر تنازلات طفيفة وصفقات مع القوى الاجتماعية الإصلاحية (السياسيون الديمقراطيون الاجتماعيون، والبيروقراطيون العماليون، وقيادات الطبقة الوسطى للمنظمات غير الحكومية التقدمية). ولكن بالنظر إلى العمق الاستثنائي للأزمات الاقتصادية والسياسية والصحية ، فليس من الواضح على الإطلاق أن رئاسة بايدن التي تفتقر إلى الشعبية والأغلبية الكبيرة في الكونجرس لحكومة أوباما الأولى ستكون قادرة على لعب دور “الشرطي الجيد” المعتاد و استعادة العمل كالمعتاد للرأسمالية الأمريكية.

جائحة كوفيد_ 19 تواصل إصاباتها المدمرة، بأكثر من 560.000 حالة وفاة (إلى حد بعيد أعلى عدد وفيات في العالم)، و22% فقط من السكان حصلوا على التطعيم الكامل (أقل بكثير من إسرائيل والمملكة المتحدة). في غضون ذلك، خسرت البلاد 227,000 وظيفة في كانون الأول وأضافت 49,000 فقط في كانون الثاني (مجرد 6000 منها جاءت من القطاع الخاص). معدل البطالة الرسمي لا يزال عند 6٪ (9.2٪ للعمال السود و 8.6٪ للعمال اللاتينيين)، رغم أن رئيس الاحتياطي الفيدرالي قد أقر بأنه في الواقع 10٪، حتى قبل حساب الـ 2٪ من القوى العاملة التي يئست من العثور على وظائف. وبما أن معظم الخسائر في الوظائف تتركز في الصناعات منخفضة الأجور، فإن الانكماش الاقتصادي يترجم إلى معاناة شديدة لطبقتنا. وفقا لمركز أولويات الميزانية والسياسة، في شهر آذار، أفاد ما يقرب من 16٪ من الأسر من السود واللاتينيين بنقص الغذاء، وقال واحد من كل سبعة مستأجرين (و 22٪ من المستأجرين السود) إنهم متأخرون في تسديد الإيجار.

هذه الأزمة أثرت أيضا على أرباح البرجوازية. الانخفاض الحاد في العمالة خلال عام 2020 يعكس انكماشا حادا في الإنتاج والاستثمار مدفوعا بعمليات الإغلاق والعزل الاجتماعي وانهيار التجارة الدولية. بعد انخفاض بنسبة 40٪ في أعقاب صدمة الوباء الأولية، حقق سوق الأسهم انتعاشًا كبيرًا تجاوز مستويات ما قبل الوباء. لكن هذا يعكس التدفق الهائل للائتمان والنقد الذي ضخه الاحتياطي الفيدرالي في النظام المصرفي، والذي استخدمته الشركات بشكل أساسي للمضاربة في الأصول المالية (ما أسماه ماركس “رأس المال الوهمي”)، وليس للاحتفاظ بالموظفين أو الحفاظ على الإنتاج. وبالتالي، فإن سوق الأوراق المالية لا يتماشى بشكل متزايد مع معدل الربح على الاستثمار الإنتاجي، الذي ظل يتراجع على مدار الخمسين عاما الماضية ولا يزال راكدا (باستثناء شركات التكنولوجيا الكبرى والتمويل والأدوية). إذا لم تتعافى الربحية إلى مستويات ما قبل الوباء على الأقل، فلن يستثمر الرأسماليون بما يكفي لاستعادة فرص العمل. بدون انتعاش كامل في العمالة والأجور لتصل على الأقل إلى مستويات ما قبل الجائحة، ستستمر أزمة الطلب والنمو الاقتصادي المنخفض. وهذا يمكن أن يؤدي إلى انهيار ما يسمى بـ “شركات الزومبي” التي نمت من حيث العدد وزادت بشكل حاد مستويات ديونها من خلال برامج إغاثة كوفيد المضمونة منخفضة الفائدة؛ ما يتسبب في حالات تخلف جماعي عن سداد الرهون العقارية، أو انفجار فقاعة ديون الطلبة البالغة 1.71 تريليون.

إضافة إلى الأزمتين الصحية والاقتصادية، تواجه البرجوازية الامريكية الانحدار النسبي للهيمنة الأمريكية العالمية، وسط صعود الصين كقوة اقتصادية جديدة، وأزمة شرعية متفاقمة لنظام الحزبين، والتي تم التعبير عنها في ظهور جناح ديمقراطي اجتماعي في الحزب الديمقراطي، والتيار الترامبي الذي يهدد الآن بانقسام الحزب الجمهوري. كل هذا علاوة على تغير المناخ، والدمار البيئي، والأزمات الهيكلية للهجرة، والإسكان، وعنف الشرطة. ماذا ستفعل إدارة بايدن لمعالجة الأزمات المتفاقمة للرأسمالية الأمريكية؟

المشروع السياسي لبيت بايدين الأبيض
على مدار أكثر من أربعة عقود كعضو في مجلس الشيوخ وثماني سنوات كنائب للرئيس، أظهر جوزيف بايدن التزامه برأس المال والإمبراطورية من خلال معارضته للحافلات المدرسية في السبعينيات، ودوره الرائد في توسيع نطاق الاعتقال الجماعي، فضلاً عن دعمه لتفكيك برامج الرفاهية، وغزو العراق وأفغانستان، واتفاقيات التجارة الحرة، وإنقاذ “وول ستريت”، وسياسات أوباما للترحيل الجماعي، والتكسير الهيدروليكي.. إلخ.[ii] لذلك ليس مستغرباً أن تسعى سياساته وخيارات حكومته إلى استعادة مؤسسة واشنطن من “الانحراف” الملحوظ لرئاسة ترامب.

الطابع الرأسمالي والإمبريالي العدواني للحكومة الجديدة يتضح بسهولة من قبل فريق بايدن. دعونا نعطي بعض الأمثلة فقط. المرشح لمنصب وزير الخارجية، أنتوني بلينكين، دعم غزو العراق وليبيا، ودعا إلى تدخل عسكري أكثر عدوانية في سورية، قبل أن يصبح مستشارا للمالية والتكنولوجيا وشركات تصنيع الأسلحة[iii]. رون كلاين، رئيس الموظفين المختار من قبل بايدن (ورئيس أركانه السابق خلال فترة توليه منصب نائب الرئيس) لديه مسيرة طويلة كرأسمالي مغامر[iv]. وزيرة الخزانة جانيت يلين، التي تقود جهود التعافي الاقتصادي، هي الرئيسة السابقة للاحتياطي الفيدرالي التي ضغطت مرارا وتكرارا من أجل سياسات “التجارة الحرة” المناهضة للعمال، وحصلت على ما لا يقل عن 7 ملايين دولار من أتعاب المتحدثين من المؤسسات المالية بين عامي 2018 و2020. وبالمثل، كان بريان ديسي، الذي اختاره بايدن لمنصب المستشار الاقتصادي للبيت الأبيض، مديرا تنفيذيا في “بلاكروك”، أكبر شركة لإدارة الاستثمار في العالم. وخلال الوقت الذي طعنت فيه حركة “حياة السود مهمة” وحركات أخرى في نظام العدالة الجنائية بشكل لم يسبق له مثيل، اختار بايدن ترشيح ميريك جارلاند لمنصب المدعي العام، وهو قاض وسطي حكم ضد المعتقلين في خليج غوانتانامو لصالح المحكمة العليا المتحدة. الحكم الذي أعطى الشركات نفوذا غير محدود على الانتخابات. ماذا عن الأزمة البيئية؟ المبعوث الرئاسي الخاص للمناخ ليس سوى وزير الخارجية السابق، جون كيري، الذي دعم الكارثة البيئية (والبشرية) للحرب في العراق، ولا يدعم حتى الصفقة الخضراء الجديدة، وقد لعب دورا رئيسيا في عرقلة إجراءات ملزمة قانونيا لخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في اتفاقيات باريس.

في رفض صارخ للجناح الديمقراطي الاجتماعي في الحزب الديمقراطي، ملأ بايدن فريقه بشخصيات مؤسسية من عهد أوباما، ورفض ترشيح بيرني ساندرز أو إليزابيث وارين أو أشخاص مقربين منهم في أية مناصب. عوضا عن ذلك، حاول الرئيس التعتيم على السجلات المحافظة لمجلس وزرائه من خلال ترشيح النساء والأقليات العرقية الذين ليس لديهم سجل في تمثيل مصالح المظلومين. ومن بين هؤلاء أفريل هينز، أول امرأة مديرة للاستخبارات الوطنية، والجنرال لويد أوستن، أول وزير دفاع أسود. ماذا فعل هؤلاء المعينون من أجل العدالة بين الجنسين والعدالة العرقية؟ كان هينز مهندس التبرير القانوني لبرنامج أوباما للاغتيالات، بينما عمل أوستن في مجلس إدارة شركة “ريثيون” لتصنيع الأسلحة.

ماذا عن إصلاحات بايدن “التقدمية”؟
إذا كانت التفويضات البرجوازية الأساسية لإدارتَي أوباما وترامب هي، على التوالي، إنقاذ “وول ستريت”، وفرض إصلاح ضريبي شديد الرجعية، فإن مهمتها لنظام بايدن هي تثبيت الرأسمالية بعد الركود الوبائي من خلال استعادة كل من الربحية والهيمنة الإمبريالية، في مشهد جيوسياسي سريع التغير. ولهذه الغاية، قامت هذه الإدارة بزيادة الموارد المخصصة للتطعيم ولتحفيز النمو الاقتصادي، من خلال حزمة التحفيز البالغة 1.9 تريليون دولار. ومع ذلك، كما هو الحال مع تشريعات التحفيز السابقة، فإن الجهود من أعلى إلى أسفل من قبل الدولة الرأسمالية لاستعادة الربحية، بعد أزمة اقتصادية، من المرجح أن تفضّل الشركات والأعمال الكبرى على الأشخاص العاملين على المدى الطويل (وغالبا ما تفشل في استعادة النمو الاقتصادي إلى مستويات ما قبل الأزمة).

نحتاج إلى توضيح أن حزم التحفيز مثل قانون خطة الإنقاذ الأمريكية الذي تم توقيعه مؤخرا من قبل الرئيس بايدن (بالإضافة إلى 3.1 تريليون دولار من مشروعي ترمب للإغاثة لعام 2020) هي في نهاية المطاف جهود رأسمالية للحفاظ على حكمها الطبقي- تدابير استثنائية لمنع النظام من الانهيار نتيجة تناقضاته الخاصة. وهذا النوع من السخاء في خضم أزمة اقتصادية ممكن فقط بسبب الطابع الإمبريالي للدولة الأمريكية، والذي يسمح لها بجني الكثير من الثروة التي ينتجها العمال في كافة أنحاء العالم (في الواقع، بينما تعتمد الولايات المتحدة على الإنفاق التحفيزي، فإن العديد من بلدان الجنوب العالمي تقترب من أزمة ديون جديدة أو الإفلاس).

نظرا لفشل سياسات أوباما النيوليبرالية في استعادة الربحية والاستثمار والإنتاجية إلى مستويات ما قبل الركود، فإن حكومة بايدن تتخذ نهجا أكثر كينزية تجاه الركود الحالي، والذي يعد أكثر حدة بكثير من الركود العظيم في 2008-2009. وهذا يعني أنه بدلا من الاعتماد بشكل أساسي على الائتمان الرخيص كما فعلت إدارة أوباما، فإن بايدن يجمع بين ضخ كبير من الائتمان والإنفاق الحكومي الممول بالعجز على كل من الاستثمارات والمعونات المباشرة للشركات أو الأسر. إضافة إلى خفض الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة إلى الصفر تقريبا، يشمل التحفيز البالغ 1.9 تريليون لبايدن الإنفاق على تمديد إعانات البطالة، وتمديد فترات وقف الإخلاء، واختبار اللقاح وتوزيعه، وزيادة الائتمان الضريبي للأطفال، وإعانات الرعاية الصحية، وشيكات بقيمة 1400 دولار لمرة واحدة للأفراد، و50 مليار دولار من المنح والقروض للشركات الصغيرة (بالإضافة إلى 284 مليار دولار في شكل قروض لبرنامج ترامب لحماية الرواتب)، و350 مليار دولار لدعم حكومات الولايات والحكومات المحلية، من بين أمور أخرى. في حين أن بعض هذه الإجراءات ستفيد بالتأكيد العاملين وتخفّف من بعض أسوأ جوانب الركود على المدى القصير، إلا أنها تظل بعيدة كل البعد عما هو مطلوب لتلبية احتياجات طبقتنا على المدى الطويل. علاوة على ذلك، فإن حقيقة أن التحفيز يتم تمويله من خلال زيادة الدين العام، بدلا من إعادة توزيع ثروة المليارديرات والشركات، يعني أن الكثير من الأموال يجب أن تخرج من جيوب الطبقة العاملة في مرحلة ما بعد ذلك.

أول ما يمكن قوله بشأن التشريع الفعلي هو أن بايدن قد كسر بالفعل وعود حملته الانتخابية من خلال تخفيف بعض الأحكام التي كان من شأنها أن تعود بالفائدة على العاملين. بعد الوعد بتقديم 2000 دولار لعمليات الإغاثة من الوباء للأفراد، خفضت إدارته المبلغ إلى 1400 دولار عن طريق احتساب الـ 600 دولار التي تم الحصول عليها في ظل إدارة ترامب بشكل ساخر، ليصل الرقم إلى 2000. بعد بضعة أسابيع، وافقت على خفض سقف الدخل بمقدار 20 ألف دولار، تاركة ملايين الأمريكيين الذين تأهلوا بموجب قانون التحفيز الأولي لترامب دون مدفوعات الإغاثة. على الرغم من قبول بايدن شرطا لرفع الحد الأدنى للأجور إلى 15 دولارا في الساعة – وهو الحد الأدنى من المطالب نظرا لأن التضخم أدى إلى تآكل كبير في القوة الشرائية للأجر البالغ 15 دولارا منذ طرحه لأول مرة من قبل الحركة العمالية قبل عقد من الزمن – فقد حدد بسرعة إن المطلب سيمنى بالهزيمة من خلال التنبؤ (دون خوض أي قتال) بأنه لن يصل إلى الكونجرس. ومن المؤكد أن سبعة من أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين قد انضموا إلى الجمهوريين في معارضة زيادة الحد الأدنى للأجور. كما أشادت الإدارة بإلغاء ديون الطلبة (التي، كما ذكرنا سابقا، كانت مصدرا كبيرا لعدم الاستقرار المالي) لكنها، مجددا، تراجعت دون رفع إصبع حينما أسقط الديمقراطيون ذلك في الكونجرس من مشروع القانون. ولكن قد يكون الدليل الأكثر وضوحا على أن أولوية البيت الأبيض لم تكن صحة العاملين ولكن دعم مطلب استعادة أرباح البرجوازية هو ضغطه العدائي لإعادة فتح المدارس (من أجل تحرير عمالة أولياء أمور الطلبة من أجل رأس المال) قبل أن يكون المعلمون والموظفون قد تم تطعيمهم بالكامل. حملة الضغط التي شنها بايدن، والتي تخاطر بلا داع بالأرواح بعد بضعة أشهر فقط من حصانة القطيع، ذهبت إلى حد الاستفادة من علاقاته الحميمة مع البيروقراطية العمالية لكسر مقاومة المناضلين المحليين في كافة أنحاء البلاد.

علاوة على ذلك، فإن الجزء الأكبر من الإنفاق، بما في ذلك معظم الإمدادات التي ستوفر الإغاثة الاقتصادية للعمال – توسيع الائتمان الضريبي للأطفال، وتوسيع خدمات الرعاية الصحية، ووقف الإخلاء، ووقف قروض الطلاب الفيدرالية، وإعانات البطالة – ستنتهي صلاحيتها في غضون ستة أشهر إلى سنة. إذا فشل التحفيز في استعادة النمو والتوظيف هيكليا (وكما أوضح أدناه، فهناك سبب وجيه لتوقع مثل هذا الفشل)، فإن تراكم الفواتير والإيجارات والرهون العقارية وديون الطلبة والديون الحكومية والديون الخاصة المذهلة لشركات الزومبي ستبقى موجودة.

بصرف النظر عن الخيانات والاستثناءات المتوقعة، من غير المرجح أن تحل حزمة التحفيز الأزمة الاقتصادية لسبب بسيط: هو أنها تفشل في معالجة سببها الجذري. في الوقت الذي يمكن فيه لبرنامج بايدن التحفيزي (الذي سيستغرق سنوات وليس شهورا للتنفيذ) أن يرفع استثمارات الدولة إلى ما يصل إلى 4٪ من الناتج المحلي الإجمالي، فإن الاستثمار الرأسمالي الخاص يتراوح بين 15 و 20٪ من الناتج المحلي الإجمالي. هذا يعني أن الاستثمار الرأسمالي في القطاع الإنتاجي سيبقى العامل الحاسم لاستعادة النمو وبالتالي العمالة. لكن الرأسماليين سيكونون مضطرين للاستثمار فقط عندما يتوقعون معدل ربح مناسب، وكما هو موضح أعلاه، فإن الربحية تبقى منخفضة تاريخيا – حفنة من شركات التكنولوجيا والأدوية والتمويل الكبرى تحقق بالتأكيد أرباحا فاحشة، لكن الغالبية العظمى من الشركات لديها ربحية منخفضة للغاية. بصرف النظر عما إذا كانت الدولة البرجوازية تقترح سياسات تقشف، أو سياسات “ثنائية حزبية” تسووية، أو سياسات كينزية ديمقراطية اجتماعية، فإن صنع القرار بشأن الاستثمار والوظائف سيبقى تحت سيطرة الطبقة الرأسمالية، وليس الدولة. على حد تعبير مايكل بيتيس، الاقتصادي الكينزي العتيد:

“إذا تمكنت الحكومة من إنفاق أموال إضافية بطرق تجعل الناتج المحلي الإجمالي ينمو بشكل أسرع من الدين، فليس على السياسيين للقلق بشأن التضخم الجامح أو تراكم الديون. ولكن إذا لم يتم استخدام هذه الأموال بشكل منتج، فإن العكس هو الصحيح [لأن] خلق الأموال أو اقتراضها لا يؤديان إلى زيادة ثروة بلد ما إلا إذا أدى ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر إلى زيادة الاستثمار المنتج […] إذا كانت الشركات الأمريكية مترددة في الاستثمار، ليس لأن كلفة رأس المال مرتفعة ولكن لأن الربحية المتوقعة منخفضة، فمن غير المرجح أن تستجيب […] من خلال زيادة الاستثمار.

مرة أخرى، إذا فشل التحفيز في استعادة الربحية، وبالتالي الاستثمار الرأسمالي، فإن الكلفة المنخفضة لرأس المال ستؤدي في النهاية إلى ارتفاع التضخم، وتجبر الاحتياطي الفيدرالي على رفع أسعار الفائدة. قد يؤدي هذا إلى انهيار سوق الأسهم، والإفلاس، والبطالة الجماعية، وانفجار فقاعات المضاربة الثلاث: ديون الطلبة، والرهون العقارية، وديون الشركات “لشركات الزومبي”.

بينما يتوقع الاحتياطي الفيدرالي معدل نمو تاريخي يبلغ 6.5٪ للعام 2021، فإن توقعاته للنمو طويل الأجل تبلغ 1.8٪ سنويا فقط، وهو نفس معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي منذ نهاية الركود العظيم. هذا يعني أنه حتى الاحتياطي الفيدرالي يتوقع أن يكون ما يسمى بـ “التأثير المضاعف” للتحفيز والطلب المكبوت ليس أكثر من اندفاعة سكّر ستتلاشى في غضون عام أو عامين – وهي وجهة نظر يشاركها اقتصادي المؤسسة الرائد بول كروغمان، من نيويورك تايمز. بصرف النظر عن التحدي المتمثل في انخفاض الربحية، فإن التنبؤ الراكد يعكس الندوب الدائمة التي أحدثها الوباء في معظم الاقتصادات الرأسمالية: الشركات المفلسة التي ستختفي (إلى جانب وظائفها)، ما يترك العمال الذين خرجوا عن العمل دون وظائف للعودة إليها، وسط تخفيضات عدد الموظفين وتجميد التوظيف.

هذا يفسر جزء من الزخم وراء مشروع حكومة بايدن الجديد، وهو اقتراح بقيمة 2 تريليون دولار لتحديث البنية التحتية الأمريكية وتعزيز التوظيف والنمو الاقتصادي. بعكس مشروع قانون التحفيز الممول بالعجز، يقترح بايدن الدفع لثماني سنوات من الإنفاق على البنية التحتية عن طريق رفع معدل الضريبة على الشركات من 21 إلى 28٪. هذا بالكاد “تصاعدي”، لأنه لا يستعيد حتى معدل ضريبة الشركات البالغ 35٪ الذي كان ساريا قبل الإصلاح الضريبي لترامب للعام 2017. ومن الواضح أن كلا من اقتراح البنية التحتية وضغط الإدارة لفرض حد أدنى عالمي من الضرائب على الشركات متعددة الجنسية مدفوعان إلى حد كبير بما يلي: 1) الحاجة إلى استقرار ظروف الرأسمالية لإعادة إنتاج نفسها (حتى لو تطلب هذا مستوى أعلى قليلا من ضرائب الشركات). و2) القلق الإمبريالي من تزايد المنافسة الاقتصادية والجيوسياسية للصين، كما أوضح بايدن نفسه بوضوح خلال حملته، وهو ما أكده كبير مستشاريه الاقتصاديين، بريان ديس، في مقابلة أجريت معه مؤخرا[v]. وبالتالي، فإن البيت الأبيض لن يستغل المورد الأكثر وضوحا لدفع ثمن تجربته الكينزية البالغة 4 تريليونات، وهو تخفيض الميزانية العسكرية الفاحشة للولايات المتحدة، لأن التفوق العسكري جزء أساسي من استراتيجية الإمبريالية الأمريكية.

رغم أننا نتفق جميعا على أن البنية التحتية المادية والبشرية للبلاد في حاجة ماسة إلى استثمارات ضخمة، إلا أن مشاكل الربحية المنخفضة والفقاعات المالية المتزايدة لا تزال دون حل. استثمار الدولة في البنية التحتية يمكن بالتأكيد أن يرفع أرباح الشركات التي تحصل على العقود الحكومية. ولكن إذا تم تمويلها عن طريق زيادة الضرائب على الأرباح، فإن معدل الربح لن يرتفع ككل. إذا تم دفع الثمن عن طريق إضافة العجز، فإن هذا يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع التضخم، ما يؤدي إلى خفض كل من الأجور والأرباح، ما يؤدي أيضا إلى ارتفاع أسعار الفائدة الذي من المحتمل أن يؤدي بدوره إلى أزمة مالية جديدة. كما كتب روبرت برينر في كثير من الأحيان، طالما أن الرأسماليين يتحكمون في وظيفة الاستثمار – طالما استمرت علاقات الملكية الرأسمالية – فإن القول القديم القائل بأن “ما هو جيد لشركة جنرال موتورز هو جيد للجميع” سوف يحتوي، بشكل مأساوي، على جزء مهم من الحقيقة.

لذا، إذا لم تكن التدابير النقدية ولا الإنفاق الحكومي الكينزي قادرين على حل الركود الاقتصادي على المدى الطويل، فكيف يمكن للاقتصادات الرأسمالية أن تتعافى من الأزمات المتكررة؟ عبر جعل العمالة تدفع. كما يوضح الاقتصادي الماركسي، مايكل روبرتس، الرأسمالية تستعيد الربحية من خلال 1) طرد العمال “غير المنتجين” لتوسيع جيش احتياطي العمل (أي العاطلين عن العمل) وبالتالي خفض الأجور، 2) إدخال تكنولوجيا توفير العمالة لتحسين إنتاجية العمل، 3) السماح بالاستيلاء على شركات فروع الزومبي الميتة أو تصفيتها من أجل تطهير السوق وزيادة أرباح الشركات المتبقية. إذا كان هذا هو المطلوب، فلماذا لا تضغط إدارة بايدن باتجاهه؟ الإجابة تشير إلى حاجة الدولة الرأسمالية للموازنة بين أولويتين متناقضتين: شرعية النظام السياسي والاقتصادي (الهيمنة الأيديولوجية للديمقراطية البرجوازية) وربحية رأس المال. بعد عام الجائحة المدمر، وبالنظر إلى انتفاضة 2020 المناهضة للعنصرية ونمو حركة اليمين المتطرف التي تمكنت من اقتحام مبنى الكابيتول في 6 كانون الثاني، فإن أي إجراء يزيد بشكل كبير من الألم الاقتصادي للجماهير سيكون انتحارا انتخابيا للحزب الديمقراطي وسيثير اضطرابات سياسية جماهيرية لا يمكن التنبؤ بها. نظرا لأن مشروع بايدن جاء أولا وقبل كل شيء لتحقيق الاستقرار للرأسمالية، والذي يستلزم استقرار الدولة الرأسمالية واستعادة شرعيتها، فإن الحكومة تعمل على التخلص من جذور الأزمة في طريقها، وتبني لإعادة انتخابها عبر “اندفاعة السكر” للإنفاق على العجز (الديون المتراكمة على الديون)، مراهنة بكل شيء على التأثير المضاعف للسياسات الكينزية الجديدة.

خلال ذلك، تستمر متاريس الإمبراطورية الأمريكية في الانهيار. إدارة الهجرة والجمارك تواصل انتهاك حقوق الناس مفلتة من العقاب، في حين تواصل حكومة بايدن الاعتقال الجماعي وترحيل المهاجرين، وتضغط على حكومتي المكسيك وغواتيمالا لاستخدام القوة الغاشمة ضد قوافل أمريكا الوسطى. حكومة الولايات المتحدة تواصل دعم النظامين السعودي والإسرائيلي القاتلين، ورأس المال الأمريكية للشركات الغذائية العملاقة يستمر في تهجير صغار المزارعين في جنوب الكرة الأرضية عبر إغراق البلدان الفقيرة بالمحاصيل المدعومة. 800 قاعدة عسكرية أمريكية تواصل فرض شُرطيتها على العالم وحماية مصالح رأس المال الأمريكي.. إلخ.

الكفاح ضد حكومة بايدين كفاح من أجل الاشتراكية
يتضح من التحليل أعلاه أن الرأسمالية – سيطرة طبقة صغيرة من الملاك على الاستثمار من خلال ملكيتها لوسائل الإنتاج – هي التي تخلق هذه الانتكاسات الاقتصادية المتكررة. الطريق الوحيد للوصول إلى جذور الأزمات المتفاقمة التي تواجه العمال والكوكب هو استبدال نظام الإنتاج الربحي هذا بنظام يتم فيه تحديد الاستثمار بشكل ديمقراطي وفقا لحاجة البشرية. ولتحقيق هذا المجتمع الاشتراكي، يجب أن نكافح من أجل برنامج يجمع بين أكثر الاحتياجات إلحاحا للطبقة العاملة الأممية – الطب المجتمعي، والتعليم المجاني، والإسكان العام للجميع، والحدود المفتوحة، وتفكيك كافة القواعد العسكرية الأمريكية، وفرض فوري للحد الأقصى لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري، والانتقال من استخراج الوقود الأحفوري، وما إلى ذلك – مع الحاجة المطلقة إلى مصادرة ملكية الطبقة الرأسمالية ووضع الاستثمار تحت السيطرة الديمقراطية للشعب العامل الذي ينتج كل الثروة المجتمعية. ما هي الاستراتيجية التي يمكننا اتباعها للنضال من أجل هذا البرنامج الانتقالي؟

بما أننا نعلم أن السياسيين البرجوازيين والمصالح الاقتصادية التي يمثلونها لن تدعم أبدا برنامجا يهدد مصدر قوتهم وثروتهم، فإن أول متطلبات القتال من أجل ما نحتاجه هو العمل الجماهيري والاستقلال السياسي عن الطبقة الرأسمالية. ولكن، نظرا للسرعة التي تم بها تسريح ما يسمى بالقوى “التقدمية” والديمقراطية الاجتماعية الرائدة والقفز لمدح حكومة بايدن، فمن الواضح أن مثل هذا الاستقلال لن يأتي من هذا القطاع اليساري. كل أربع سنوات، تمر الولايات المتحدة بالطقوس التي تبيع فيها ما تسمى بقيادة الحركات العمالية والاجتماعية آمال ناخبيها للحزب الديمقراطي مقابل “مقعد على الطاولة”. الحديث عن “خيانة” قادة تلك الحراكات هو شيء من الكليشيهات اليسارية، ولكن سيكون من السذاجة توقع خلاف ذلك. البيروقراطية النقابية، والمنظمات غير الربحية (بما في ذلك حركة الشروق، وثورتنا)، ونشطاء إلغاء ديون الطلبة، إلى جانب بيرني ساندرز وما يسمى بفرقة المشرعين من الحزب الديمقراطي، تصالحوا كلهم مع بايدن. في الواقع، هناك إجماع متزايد بين هذه المنظمات والسياسيين على أن إدارة بايدن قد تبنت موقفا منفتحا للنظر في مقترحات السياسة التقدمية، وهو تناقض صارخ مع ازدراء أوباما الصريح للتقدميين. حتى قبل إقرار مشروع قانون التحفيز، أفادت بوليتيكو أن “بايدن تعاون مع اليسار، واختاره، وفاز به في الوقت الحالي”. لاري كوهين، رئيس “ثورتنا” التابعة لساندرز، قال لصحيفة نيويورك تايمز إن “لا أحد من الأشخاص الذين كنا نخشاهم انضم إلى هذه الحكومة” ساندرز نفسه صوت لصالح ترشيح نيرا تاندين مديرة ميزانية بايدن، رغم تاريخها كموالية قوية لكلينتون وعدو عنيد لليسار.

بصرف النظر عن افتقارهما إلى الاستقلال السياسي، فإن التيار الديمقراطي الاجتماعي الذي تمثله قيادة الاشتراكيين الديمقراطيين في أمريكا، والجناح اليساري للحزب الديمقراطي تتمثل استراتيجيتهما الجوهرية في انتخاب سياسيين بمنصات “تقدمية” أو اشتراكية ديمقراطية من أجل إجراء الإصلاحات. هناك عيبان قاتلان في هذه الاستراتيجية. أولا، على حد تعبير روبرت برينر، الافتراض بأن انتخاب سياسيين تقدميين يمكن أن يكسب إصلاحات كبرى للطبقة العاملة “يفشل في التمييز بين المشرعين المباشرين للإصلاحات وخالقي الهجمات السياسية الجماهيرية التي جعلت التشريع الإصلاحي ممكنا بالفعل. لقد أهملوا، بشكل خاص، وكارثي، الحراكات الجماهيرية الصاخبة التي حولت، طوعا أو كرها، من كانوا حتى الآن سياسيون إصلاحيون لا يفعلون شيئ إلى أدوات للتغيير الاجتماعي والسياسي”[vi].

كما يصف مقال برينر الكلاسيكي، مفارقة الديمقراطية الاجتماعية: الحالة الأمريكية، بالتفصيل أنه كانت هناك موجتان رئيسيتان من الإصلاحات في الولايات المتحدة – واحدة في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي والثانية في الستينيات. هذه الإصلاحات باتت ممكنة فقط بسبب انفجار الطبقة العاملة المستقلة والحركات الشعبية التي كانت موجهة نحو العمل المباشر، وبعيدا عن الانتخابات والقوى الاجتماعية الإصلاحية: بيروقراطيات العمل، وقيادات الطبقة الوسطى للمنظمات التقدمية، وسياسيي الحزب الديمقراطي. في الثلاثينيات كانت هناك موجات غير مسبوقة من التعبئة والإضرابات العمالية النضالية (صوت العمال كتب عنها في مقالات سابقة)، والتي تطورت خارج وضد القيادة البيروقراطية الإصلاحية للاتحاد الأمريكي للعمل. في الستينيات، اعتمدت حركات الحقوق المدنية وقوة السود في المقام الأول على العمل المباشر لتحدي البنى العنصرية والاقتصادية، مطلقة موجة تنظيم نضالي تضمنت تعبئة كبرى من قبل الطلبة والنساء والمناهضين للإمبريالية. على أساس هذا التحدي الحقيقي لمصالح الطبقة الحاكمة، كان هناك ارتفاع مماثل في الوعي (الليبرالي والراديكالي على حد سواء)، والذي، إلى جانب الازدهار غير المسبوق والربحية الرأسمالية التي ميزت الفترة من 1945 إلى 1970، أتاح سلسلة من الإصلاحات خلال إدارتي جونسون ونيكسون (كقوانين الحقوق المدنية، وبرامج الفقر، ووكالة حماية البيئة، وما إلى ذلك).

المشكلة الثانية للاستراتيجية الانتخابية أو الإصلاحية هي أنه في ظل الرأسمالية، يتم تمويل كافة الإصلاحات الخادمة للعمال من خلال عائدات الضرائب، وقدرة الدولة على تحصيل الضرائب يعتمد على النمو الاقتصادي – أي على الربحية الرأسمالية. هذا يعني أن الانكماش الدوري الذي لا مفر منه للاقتصاد الرأسمالي، أو الامتناع المتعمد سياسيا عن الاستثمارات من قبل الرأسماليين (أي إضراب رأس المال) يمكن أن يثيران إلى فوضى اقتصادية، ويقوضان الشرعية السياسية لأي حكومة تقدمية، ويجبرانها على التخلي عن الإصلاحات و تبني إجراءات مناهضة للعمال لاستعادة الأرباح والنمو. هناك الكثير من الأمثلة التاريخية. خلال السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، نفذت الحكومات الديمقراطية الاجتماعية في دول مثل إنجلترا وفرنسا وإسبانيا وحتى السويد سياسات التخفيضات والتقشف. وبالمثل، اضطرت حكومة سيريزا في اليونان، التي صعدت إلى السلطة على منصة راديكالية مناهضة للتقشف في العام 2015، إلى تنفيذ حزمة مذلة من سياسات التقشف التي فرضها الاتحاد الأوروبي. ومؤخرا، تراجعت حكومات “المد الوردي” الإصلاحية لديلما روسيف في البرازيل، ودانييل أورتيجا في نيكاراغوا، ونيكولاس مادورو في فنزويلا عن الإصلاحات التي تم تحقيقها سابقا، واتخذت نمطا من الإجراءات المناهضة للعمال (كتخفيضات المعاشات التقاعدية والخدمات الاجتماعية، والهجمات على التفاوض الجماعي، وقمع الحشود الشعبية)، والتي تم انتخابهم لتغييرها.

التغلب على هذه العقبات سيتطلب حراكات جماهيرية، ونضالية، وعمالية مستقلة موجهة تكتيكيا نحو العمل المباشر ومستعدة، إذا لزم الأمر، لخرق القانون والنضال ضد الحزب الديمقراطي، والمسؤولين العماليين الرسميين، وقيادة الطبقة الوسطى للمنظمات غير الحكومية التقدمية.. المدافعون الأكثر تطورا عن الاستراتيجية الإصلاحية يعترفون بكل من الحواجز الهيكلية التي تواجه الحكومة التقدمية المستقبلية، ومركزية النضالات الجماهيرية للتغلب عليها. لذا، فهم يلجأون إلى ما يسمى بإستراتيجية “الداخل – الخارج” التي تحاول أن تجمع بشكل مثمر بين بناء النضالات الجماهيرية المتشددة والفوز بالمناصب عبر الانتخابات وإدارة الدولة الرأسمالية. لقد أشاروا مرارا وتكرارا إلى دعم بيرني ساندرز الخطابي للنضالات العمالية والاجتماعية ودعوا إلى “حركة جماهيرية من الناس العاديين لممارسة ضغطها الخاص على السياسيين، لمنافسة الضغط الذي يمارسه الرأسماليون [من خلال] الإضرابات السياسية التي تحبط الأرباح أو توقف الوظائف الطبيعية للمجتمع”[vii]. هذا بالطبع ليس جديدا – معظم المشاريع الإصلاحية لجأت إلى التعبئة الشعبية، غالبا بخطاب أكثر راديكالية (على سبيل المثال: سيريزا في اليونان أو شافيز في فنزويلا)، كمكمل ضروري للنشاط البرلماني. لكنها فشلت في التعامل مع وحل التوترات والتناقضات المتأصلة بين النزعة الانتخابية والنضال الجماهيري.

الصراع الأكثر وضوحا بين هذين الهدفين هو أحد الأولويات. إذا كانت، كما يبين السجل التاريخي، القوة المدمرة للمناضلين والحراكات الجماهيرية، وليست تلك للسياسيين الإصلاحيين المنتخبين، هي ما تخلق ظروف إمكانية اكتساب الإصلاحات، فإن هذا يعني أن بناء مثل هذه الحراكات هي المهمة الأساسية للاشتراكيين (سواء الإصلاحيين أو الثوريين) اليوم.

ولكن، عندما ينشغل الاشتراكيون بلعبة الديمقراطية الرأسمالية، الأمر الذي يتطلب استثمار وقت وطاقة غير عاديين في الحملات التي تبدأ قبل أشهر أو سنوات من إجراء التصويت، فمن الصعب تخيل كيف ستكون هناك موارد كافية لبناء قاعدة نضالية في أماكن العمل والأحياء. كل ساعة يقضيها الاشتراكي في جمع الأصوات لمرشحي الحزب الديمقراطي، هي ساعة لا يقضيها في بناء حراكات مستقلة موجهة نحو العمل المباشر في أماكن العمل والشوارع.

والأهم من ذلك، أن الفوز في الانتخابات في ظل الرأسمالية ينطوي على استراتيجية مختلفة اختلافا جوهريا عن بناء الحراكات الجماهيرية. كما أوضح روبرت برينر، فإن الفوز في الانتخابات يتطلب شيئين أساسيين: جذب 50٪ بالإضافة إلى واحد من الناخبين، والحصول على مؤيدين لأداء الفعل السلبي المتمثل في الذهاب إلى صناديق الاقتراع والإدلاء بأصواتهم. من ناحية أخرى، فإن الإضرابات وغيرها من الأعمال النضالية والجماهيرية لا تتطلب نسبة مئوية من المشاركين فحسب، بل التزاما أعمق نوعيا من قبلهم. للفوز بمعركة ضد أصحاب العمل يجب على العمال، على حد تعبير برينر:

“تطوير أصلب تضامن، عليهم المخاطرة، يجب عليهم تقديم التضحيات، يجب أن يكونوا مستعدين للقيام بأعمال غير قانونية ولاستخدام القوة، وفي النهاية يحتاجون إلى تطوير الأفكار التي تشرح وتبرر هذه الأفعال لأنفسهم وللآخرين. كل هذا ضروري للفوز، لأن ما يعنيه الأمر هو اختبار مباشر للسلطة وأرباب العمل و / أو الدولة”.

بطبيعة الحال، العمل الجماهيري النضالي غالبا ما يكون منفرا لناخبي الطبقة الوسطى والمعتدلين، الممثلين تمثيلا زائدا في الانتخابات. كلما أصبح حراك أكثر نضالية واستقلالية، كلما كان التوتر أكبر بين بناء سلطة طبقة عاملة بنيوية والفوز بالانتخابات لإدارة الدولة الرأسمالية. والأكثر من ذلك، كما هو موضح أعلاه، يجب على الحركات المسلحة في كثير من الأحيان مواجهة القوى الاجتماعية للإصلاحية: البيروقراطية العمالية وقيادة الطبقة الوسطى للمنظمات التقدمية. هذا يشكل تناقضا أساسيا لاستراتيجية تتمحور حول انتخاب التقدميين للمناصب، حيث إن دعم التمرد العمالي بشكل لا لبس فيه يهدد بتنفير البيروقراطية النقابية القوية، التي تنفق موارد هائلة في انتخاب الديمقراطيين خلال كل دورة انتخابية.

لقد طرحنا استراتيجية اشتراكية بديلة – استراتيجية يكون فيها مركز الثقل الذي لا جدال فيه هو تطوير النضالات ذاتية التنظيم ديمقراطيا للعمال، وتوحيدهم التدريجي، والتقدم نحو تكتيكات العمل المباشر. هذا لا يعني بالطبع أن الاشتراكيين لا ينبغي أن يشاركوا في الانتخابات. هذا يعني أننا ننخرط في حملات انتخابية معارضة مستقلة، ليس بهدف أساسي للفوز بالمنصب وإدارة الدولة الرأسمالية (رغم أن هذا بالتأكيد ممكن في سياقات معينة)، بل لبناء وتعزيز وربط الحركات حول برنامج انتقالي يوضح الحاجة للانفصال عن الدولة وتجاوز حدود ما هو ممكن في ظل الرأسمالية. هذه الإستراتيجية ليس من المرجح أن تكسب فقط الإصلاحات التي تشتد الحاجة إليها، ولكن أيضا اكتسابها بطريقة تبني الاستقلال والقوة التنظيمية لطبقتنا، بدلا من تمهيد الطريق لإلغاء التعبئة والإصلاح المضاد.

إنه تحديداً نمط التضامن العميق، والإبداع، والحكم الذاتي الجماعي الضروري لكسب الإضرابات، والإجراءات المماثلة هي التي يمكن أن تغير الارتباط بين القوى الطبقية وتنتزع الإصلاحات الرئيسية من حكومة بايدن. تحدي أرباب العمل والدولة يمنح العمال خبرة ملموسة لسلطتهم وقوتهم. إنه يعطي معنى لفكرة أننا، كعمال، لدينا مفتاح تحررنا ويجب أن نعتمد على أنفسنا وقوتنا التنظيمية لتغيير العالم.





[i] وفقا لدراسة حديثة أجراها علماء “برينستون”، فإنه لا توجد أية علاقة ارتباط بين الرأي العام واحتمال تمرير السياسة إلى قانون

[ii] https://jacobinmag.com/2020/02/joe-biden-history-republicans-tax-cuts-barack-obama-yesterdays-man

[iii] https://www.commondreams.org/news/2020/11/23/biden-taps-blinken-secretary-state-critics-denounce-support-invasions-iraq-and-libya

[iv] https://www.nytimes.com/2020/11/12/business/joe-bidens-chief-of-staff-pick-has-had-a-long-career-in-venture-capital.html

[v] رداً على سؤال حول سبب تغيير تفكيره الاقتصادي منذ عام 2009 ، أخبر ديس صحيفة نيويورك تايمز أن “الكثير من هذا يأتي مباشرة من الطريقة التي يفكر بها الرئيس في اللحظة الحالية والاتجاه الذي يقدمه لنا. عندما يفكر في استثمارات البنية التحتية الضرورية ، فإن الكثير منها يتعارض مع ما يرى أن الصين تفعله فيما يتعلق بالاستثمارات الاستراتيجية”

[vi] https://www.versobooks.com/blogs/2508-the-paradox-of-social-democracy-the-american-case-part-one

[vii] https://jacobinmag.com/2019/03/bernie-sanders-movements-not-me-us?fbclid=IwAR0Xk2wKUeEVw_ZAYw66V-v8sr6vqI3p7MLURIObEhVsJqmLXGnI5psBN_4