مشيخة الفلاحين


محمد علي مقلد
2021 / 9 / 6 - 16:08     



في أول انتخابات بلدية أجريت بعد الحرب الأهلية، عام 1998، سعيت إلى تشكيل لائحة تجسد خروجنا من الحرب الأهلية. طلب مني من أتفاوض معه وهو من حركة أمل أن أحدد الجهة التي أفاوض بإسمها. قلت له، أنا محمد علي مقلد، إبن فلاح وطحان اسمه مرتضى، تخرجت من مدرسة القرية وعدت إليها مدرساً بعد تخرجي من دار المعلمين، وأنا الآن استاذ جامعي، وعضو لجنة مركزية في الحزبي الشيوعي اللبناني، ومن مؤسسي الحركة الشعبية الديمقراطية برئاسة حبيب صادق. أنا خليط من كل هذه الأصول ولا أجيز لنفسي أن أمثل أحداً. كان يريد أن يستقوي علي بقيم الحرب الأهلية وقوى الأمر الواقع. استقويت عليه بصراحة وكلام صادق وبقيم الفلاحين وفروسيتهم.
أجل. أنا ابن فلاح من ذوي البيوت المفتوحة أمام العابرين والزائرين من المكاريين والجلاّبين والمعّازين والحطّابين والجمّالين والحرفيين(المبيض والسكاف والحلاق) والبائعين الجوالين على ظهورهم. بيوت صغيرة تتسع للضيوف كأنها قصور. "فلاح مكفي سلطان مخفي". كنا نتصرف كأولاد الأغنياء، مالكي الأراضي، مع أنه لا مال لدينا نتداوله، بل كنا نبتاع الحلوى من الدكان بالمقايضة، مقابل بيضة طازجة نسرقها من خم أو قن الدجاج، أو حفنة من حبوب الترمس "نُبَعْوِرها" بعد الموسم من بيادر الفلاحين. كان ينسينا كرم الضيافة القلة وندرة النقود، لأننا لم نكن نحتاج منها لا لسفر ولا لأقساط مدرسية ولا لسداد ديون.
كان أهلي من الفلاحين، وتصنيفهم يقع في المرتبة العليا من فقرائهم، أو قل إنهم الأكثر يسراً من بينهم. والدي كان يساعد جدي في أعمال الفلاحة على ثورين، وبقرة حلوب كانت توفر لنا ما يلزم من الحليب والألبان والأجبان والزبدة والمخيض، حتى أن أفضل أطعمة الفطور عندنا كانت سندويشاً (عروساً) من الزبدة والسكر. كما كان والدي يعمل في مطحنة هي ملك آل مقلد، وفي معصرة هي ملك بيت جدي لوالدتي، توفران لنا، المطحنة والمعصرة، الدقيق اللازم لخبزنا اليومي على مدار العام، والزيت مونة للموسم. أما والدتي فكانت تملك آلة(ماكينة) للخياطة، تخيط بها شراويل للقرويين ومراييل لطلاب المدرسة وفساتين لسيدات القرية وقمصاناً وسراويل فضفاضة للأولاد وثياباً داخلية قطنية من أكياس الطحين الفارغة التي تقدمها مؤسسة أميركية تحمل إسم "النقطة الخامسة". لم تصل براعتي في استخدام هذه الماكينة حد التفصيل والخياطة، لكنني كنت أجيد درز قطبة تفتقت في قميص أو بنطلون، وأعجبتني الفكرة فاقتنيت في بيتي الزوجي ماكينة يمكن تشغيلها على الكهرباء وفصّلت ودرزت عليها ثوباً للمرجوحة.
ذات مرة جاءت إحدى الأمهات إلى والدتي، حاملة معها قطعة قماش كبيرة محالة على "التقاعد"، بعد أن خدمت، قبل وصولها بين أيدي تلك السيدة، كستارة على جدارغرفة ذات نوافذ عالية في بيت أحد أغنياء بيروت، وتخلى عنها أصحابها بعد استبدالها بأخرى جديدة. طلبت من والدتي أن تفصّل من هذه الستارة لكل ولد من أولادها الخمسة بنطلوناً وقميصاً، وقالت لها أنت تعرفين مقاسهم، صغيرهم من عمر محمد علي، وقد ولدوا "على رؤوس بعضهم"، عاماً أو عاماً ونصف العام بين الواحد والآخر، وليس في وسعي أن آتي بهم معي، فهم لا يستطيعون أن يبتعدوا عن مدفأة الحطب، ولأن ثيابهم لا تكفي لاتقاء البرد خارج المنزل. نعم، هذه عينة من القلة التي كان يعيش فيها الفلاحون.

بيوت صغيرة ونفوس كبيرة
بيوت الفلاحين علمتني كيف يمكن أن يجمع المرء بين البيوت الصغيرة الضيقة والنفوس الكبيرة. كان جدي لوالدتي قد نذر نفسه للعمل العام، في خدمة الثورة العربية الكبرى مساعداً للأمير فيصل، فأطلق على ابنه البكر تيمناً إسم فيصل، ثم بعد فشل الثورة، مختاراً في القرية يدافع عن مصالح فلاحيها ضد الأقطاعي مالك الأرض. ربما أكون قد ورثت منه، من غير أن أدري، قدر البقاء مع "القضايا الخاسرة حتى الموت"، وولعاً بالانخراط بالشأن العام جعلني، منذ شبابي الأول، أنفق من الوقت في مقر نادي جرجوع ومكتبته وملعبه الرياضي، وبعدها في الحزب الشيوعي، وفي المجلس الثقافي ومؤسسات المجتمع المدني الأخرى، أكثر مما أمضيه في منزلي العائلي، مثابراً على الالتزام بالقضايا العامة، بلا كلل ولا ملل، رغم كل الخيبات التي واجهتني وكنت أخرج من بين أنقاضها رافعا راية النصر. ربما كانت قد دغدغت إحساساً عميقاً لديّ كلمة للفيلسوف الفرنسي فولتير، مفادها ليس بالإمكان أفضل مما كان، فصرت أفسر الوقائع على هديها، وأجري فيها التحليل والتأويل والاجتهاد على ضوء النصف الملآن من الكأس لا النصف الفارغ، رغم أن الكؤوس الفارغة ملأت أعمارنا و الزمان والمكان.
أول نشاط لي في العمل العام كان في نادي جرجوع. بدأ النادي مع نعمة الله الياس ومحمد عارف أبو زيد ومحمد يوسف الشامي ومحمد لمع. هذا الأخير بدأ حياته خطاطاً في الصحافة وصار نائب رئيس غرفة التجارة في بيروت. فضلا عن شلة من المبادرين دشنوا نشاطهم باستقبال السيد موسى الصدر والأب غريغوار حداد في أواخر الستينيات. ذروة عمل النادي كانت في بداية السبعينات من خلال نشاطات اجتماعية ورياضية وثقافية مختلفة (ندوات ولقاءات شعرية)،فضلا عن مشروع شق طرقات في خراج القرية وإقامة أول ملعب للكرة الطائرة على أرضية من الباطون المسلح، واستئجار مركز هو الطابق العلوي من بيت محمد علي الحاج الشامي على الطريق العام، وتأسيس مكتبة فيه صنع رفوفها النجار في القرية أحمد يوسف حمود وتوليت شراء كتبها بأموال النادي من مكتبات المعرض في مبنى العازارية في بيروت مع تبرعات قليلة من أفراد. دوامي في النادي كان كاملاً، صباحاً في المكتبة وبعد الظهر في الملعب الرياضي لاعباً في المرحلة الأولى ثم إدارياً ومدربا في مرحلة لاحقة. استمر نشاطي الصيفي على هذه الحال رغم انتقالي إلى بيتي الزوجي في صيدا وإلى عملي في التعليم الثانوي، إلى أن انفجرت الحرب الأهلية وأحدثت زلزالاً ولم تبق حجراً على حجر في عمارة العلاقات بين اللبنانيين عموماً، وخصوصاً بين أهالي القرية التي تعتبر صورة مصغرة عن لبنان التنوع الطائفي، شيعة وموارنة وكاثوليك، وسنّة في مرحلة لاحقة، ودمرت كل شيء بما في ذلك مقر النادي وخربت مكتبته، ولم أعرف من هو الذي بادر إلى نقل ما تبقى منها ومن مستندات النادي إلى مبنى المدرسة الرسمية.
تأسيس النادي يؤرخ لمرحلة وتخريبه لمرحلة أخرى. نادي جرجوع من الأقدم بين أندية الجنوب. وهو من جيل المؤسسات الشهابية، إلى جانب المجالس الثقافية في المحافظات والجمعيات الأهلية وسائر مؤسسات المجتمع المدني. أذكر أن أول نشاط قام به هو استقبال السيد موسى الصدر والأب غريغوار حداد. بعد ذلك نظم سلسلة من النشاطات الصيفية الرياضية والثقافية ،امتدت حتى انفجار الحرب الأهلية. من بين الذين لبوا دعوة النادي إلى محاضرات أو ندوات الدكتور محمد المجذوب الذي صار في وقت لاحق رئيساً للجامعة اللبنانية، والدكتور جورج ديب وكان استاذاً في الجامعة الأميركية، وقد أقيمت لهما الندوة في باحة الكنيسة وسط القرية، لعدم وجود قاعة. الحاج محمود الشامي، أبو الهمم، كان يتولى بنفسه تشييد المنصة للمحاضرين. محمد علي شمس الدين وموسى شعيب ألقيا شعراً على منصة “عين المرج” في الهواء الطلق، وذلك للسبب ذاته، عدم وجود القاعة. كنا نستأجر الكراسي ومكبر الصوت من النبطية.
ذات يوم صار في القرية قاعة، قاعة النادي الحسيني. بناها الحاج أحمد فرحات على نفقته. استبشر النادي خيراً بتدشينها خلال ذروة نشاطاته، في صيف عام 1974، مع بلوغ الاحتقان السياسي في لبنان ذروته أيضاً، حول قضيتين محوريتين، إصلاح النظام السياسي وموقع لبنان من القضية الفلسطينية. عملنا في ذلك العام على تنظيم سلسلة ندوات عن موضوع واحد اعتقدنا أنه يختصر الأزمة الداخلية، وكانت رغبتنا أن يتحدث فيه، ممثلون عن كل قطاع في ندوة مستقلة، نواب وصحافيون وطلاب ورجال دين ونقابيون. لم ننجح في إقناع النواب الذين اخترناهم للمشاركة، حين زرت كمال جنبلاط اعتذر لمشاغله الكثيرة، أما ريمون إده فلأن كلامه عن البوليس الدولي، على ما قال لي، لن يكون مقبولاً في الجنوب، ونصحني بتوجيه الدعوة إلى نائب المنطقة عبد اللطيف الزين.
الندوة الأولى عن الدين والديمقراطية تحدث فيها رجلا الدين السيد كاظم ابراهيم والأب غريغوار حداد، وكانت ناجحة بكل المقاييس. حين جاء موعد الندوة الثانية عن الصحافة والديمقراطية حال التنافس الحزبي وتخلف رجال الدين المحليين دون استخدام النادي الحسيني لغير المآتم ومجالس العزاء. الحاج محمود الشامي ذاته، ابو الهمم، رفع على سطح منزله منصة اعتلاها محاضران أذكر أن أحدهما كان سهيل طويلة الذي قضى اغتيالا فيما بعد. ومع أن الانقاسامات الحزبية راحت تزداد حدة، فإن النادي تمكن من لعب دور توفيقي في المرحلة الأولى من الحرب الأهلية، إذ تشكلت في إطاره لجنة شعبية تشرف على الشؤون الاجتماعية والتموينية، وكان حرص كبير على أن يكون رئيسها شكرالله الياس من الطائفة المسيحية تعبيراً عن تمسك النادي وأهل القرية بنبذ الطائفية والصراعات الناجمة منها.
صمود النادي أمام الانقسامات الحزبية جعله يستمر حتى الاجتياح الاسرائيلي، فأرغم على تجميد نشاطه إلى أن استتبت الأمور الأمنية والسياسية من خلال اتفاق الطائف. حاولنا تجديد نشاطه وتسليمه لجيل جديد من الشباب، غير أن السلطة تجاوزت حد السلطة وجعلت الصراع المحلي على النادي مادة صراع إداري دولتي وألغت بشحطة كوركتر الترخيص المذيل بتوقيع الوزير محمد كنيعو.
انتقالي إلى المدينة وإلى التعليم الثانوي وفر لي صلة بأجواء اليسار الثقافية. أولى قراءاتي الماركسية كتاب عن الفن (الفن والمجتمع عبر التاريخ للكاتب أرنولد هاوزر)، ربما كان أول كتاب غير أكاديمي في مكتبتي نصحني بشرائه حسن زبيب، واحد من شلة ضمت الشاعر حسن عبدالله والشاعر محمد عبدالله والشاعر حمزة عبود، انتسب أفرادها معا، عام 1974، إلى الحزب الشيوعي، بل إلى "فرقة" حزبية فيه أطلقت على نفسها، أو أٌطلق أصحابها عليها إسم فرقة المثقفين، وكان يدير اجتماعاتها مهدي عامل، حسن حمدان، ومع أنني انتسبت إلى الفرقة الحزبية في القرية ، فقد كنت أحضر معهم اجتماعهم الاسبوعي في بيت مهدي في سن الفيل.
انخراطي في هذا المناخ السياسي ترك ظلاله على النادي الذي صار محسوباً على اليسار الشيوعي، وصار ساحة تنافس بين القوى السياسية اليسارية وغير اليسارية في القرية إلى أن أوقفت الحرب نشاطه. وبعد نهاية الحرب الأهلية حاولت أن أجدد نشاط النادي ، بصفتي آخر رئيس له قبل الحرب، لكن السياسة الميليشوية وحكومات ما بعد الطائف لم تبق من مؤسسات المجتمع المدني أي أثر مدني فربطت الأندية والجمعيات بعجلة السلطة السياسية وجعلتها أداة من أدواتها، فتعاون مدير عام وزارة الداخلية مع مدير عام الشباب والرياضة التابعين لحركة أمل على شطب الترخيص الرسمي والعلم والخبر المعطى للنادي والموقع من وزير الداخلية الدكتور محمد كنيعو، بتاريخ 21 تشرين الأول 1965، تحت رقم 474 . وقد تم الشطب بعملية تزوير مفضوحة، قضت بحذف اسم نادي جرجوع من قائمة الأندية، بواسطة قلم تلوين أبيض (كوريكتر) أبقى على الخانة فارغة مصبوغة بلون أبيض يخفي تحته إسم واحد من أعرق أندية الجنوب وأكثرها نشاطاً، لم يستطع مديران عامان في حكومة الميليشيات أن يتحملا تاريخه اليساري. إنها صورة أخرى مبتكرة من صور الظلم والاستبداد السلطوي الذي بدأت مسيرة البحث عنه في حكايات والدتي عن مطهر الفلاحين، وبعدها في كتب التاريخ وفي النضال السياسي.

الفلاحون هم الطبقة الأسوأ على الصعيد السياسي
تعلمت أيضاً من مدرسة الفلاحين، بالمعاينة، صور الظلم والاستبداد ومعاني الصراع في زمن الحضارة الإقطاعية، الصراع على ملكية الأرض وخيراتها وثرواتها وقيمتها الرمزية. كان الفلاح، بحسب ماركس، يرى بأم العين أين يذهب تعبه وعرق جبينه. من الحقل أو البستان أو البيدر إلى خزائن مالك الأرض، فيما العامل في الحضارة الرأسمالية لا يعرف كيف يتسلل تعبه وعرق جبينه إلى حسابات في البنوك وأسهم في الشركات يملكها سواه. الأرض هي الأنثى، هي الأم والأخت والزوجة، هي العرض. فيما بعد، فاجأني كلام لماركس يقول فيه عن الفلاحين أنهم أسوأ طبقة عرفها التاريخ. كان يقصد أن كل طبقة اجتماعية تدافع عن مصالحها، فيما يدافع الفلاحون عن مصالح مالكيهم.
أما نحن في العائلة، فكنا موزعين بين هذين النوعين من المشاعر. كنا في منزلة بين المنزلتين. جمعنا القلة إلى الكرم وعزة النفس، الفلاحين والوجهاء، ومنحنا هذا الموقع رتبة اجتماعية فجعلنا من المشايخ. كانت الدار التي شيدت العائلة بيوتها حولها هي دار المشايخ، مع ما في ذلك من تحد لمشيخة مالكي الأرض، وهم من آل رزق الله من صيدا، و أنسباء لمشايخ آل الخازن المعروفين في جبل لبنان.
نشأت على حافة المشيخة. فلاحون يعملون في أرضهم، بينما يعمل فلاحو القرية في أراض لا يملكونها بل هي ملك الاقطاعي.أخذنا من المشيخة اللقب، لقبا تكرس بالإسم، مقلّد(بكسر اللام) الذي يحيل جذره اللغوي، بفتح اللام وتشديدها لا بالكسر، إلى رتبة دينية، واستقر مع الزمن بقراءات شتى، بفتح الميم أو كسرها أو ضمها وبفتح اللام وكسرها مع التشديد أو من دونه، واستقر حاملوه في قرى شتى من اقليم التفاح، في مليخ واللويزة والريحان وأرنون وجرجوع، وعندما استفاقت المشاعر والانتماءات ما دون الوطنية تنادى الأقرباء من كل الأماكن والأوطان لتجديد شجرة النسب، بدأ الدكتور علي مقلد أبو حسين بإنجاز هذه المهمة وأكملها من بعده الأستاذ سليم مقلد، فإذا بالعائلة ممتدة في العراق وسوريا ومصر، وربما في غيرها، ولسنا ندري إن كانوا جميعاً متحدرين من تلك المشيخة ذاتها.
وضعتنا المشيخة في خط التماس الأول على خصومة مع فلاحين ينحازون كرهاً إلى الاقطاعي، وفي خط التماس الثاني على خصومة مع من يملك الأرض ولا يعمل فيها، مع الاقطاعي. عندما انتسبت إلى الحزب الشيوعي اللبناني رحت أقرأ عن حضارة العصر الاقطاعي، حضارة الخراج كما يسميها سمير أمين، وعرفت كيف كانت تنتقل ملكيات الأرض أيام السلطنة العثمانية، تحت شعار الملك لله، من متنفذ إلى آخر، بقوانين المحاصصة، المرابعة والمخامسة والمزارعة والمساقاة وغيرها، بحيث تؤول الحيازة إلى الوالي الذي ينفذ أوامر السلطان وفرماناته، ومنه إلى من يقبل بشروط الوالي. السلطان هو المالك، لأنه يحكم باسم الخالق، وهو الذي يهب الأرض لمن يتعهد له بجمع الضرائب و التجنيد في الجيش الانكشاري. ورحت أقارن بين ما أقرأه وبين ما كان يرويه أهالي قريتي عن الأرض والملكية والقيم التي تنبت مع الزرع والشجر من بذرة الانتماء إلى الأرض. فيما بعد، زعمت أنني كنت من أوائل من استحضروا كلمة المحاصصة لتشخيص مرض ثابت ومتجدد في النظام السياسي اللبناني منذ الاستقلال، لأستبدل بها نعتاً آخر تغلغل في الأدبيات اليسارية وثبت فشله أو عدم جدواه، فاقترحت نعته بنظام المحاصصة لا بالنظام الطائفي، مع أن المحاصصة تتقن توظيف المشاعر الطائفية المتغلغلة في النفوس، لكنها ليست محاصصات بين الطوائف بل بين المتنفذين من أهل النظام.
غير أن للمشيخة غنمها كما لها غرمها. ألزمتنا بأن نحميها فأقمنا حول العائلة سوراً، لنصونها من المشيخات الاقطاعية ومناصريها من الفلاحين، فكان للعائلة حلفاء في القرية والقرى المجاورة ممن ورثوا، وهم ندرة، أو ممن عادوا من أول الهجرات واشتروا بأموالهم وصاروا من مالكي الأراضي، وكان لها في القرية حيّها، دار المشايخ، وحقولها الصغيرة المشتركة ومطحنة وينبوع ماء وجبانة خاصة، وكانت لها معاييرها المتشددة في اختيار زوجات أو أصهار من خارجها. مع ذلك، إنْ عددنا الذين يتحدرون من أجداد، هم إخوة أو أخوات لأجدادي، لوجدت أن قرابة النسب تجمعني إلى نصف سكان القرية وبعض سكان عربصاليم ومزرعة سجد والنبطية الفوقا ودبين، فضلا عن أقارب لفروع العائلة في اللويزة ومليخ وأرنون والريحان وعرمتى.
بدأ نظام المشيخة القروسطي أو العثماني على الأكثر ينهار، بعد أن صار المشايخ مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات مع سائر العائلات في كل القرى والمدن، في المدارس والوظائف والهجرة والفقر والغنى. غير أن الحرب الأهلية صنعت مشيخات جديدة من الأحزاب فصار الرفيق هو اللقب البديل، وبعد انهيار الأحزاب طغى في البيئات الإسلامية الشيعية على وجه الخصوص لقب الحج. شقيقي مقلد اعترض على هذا الطغيان الميليشيوي بروح الفكاهة معبراً بطرافته عن هذه الانهيارات والاستبدالات في البنى العائلية والاجتماعية، مستخدماً بسخرية لطيفة محببة لقب الرفيقة في مخاطبة أي أنثى حتى لو كانت عاملة منزل أجنبية أو شجرة أو وردة في حديقة. ولقب الرفيق في مخاطبة أي رجل حتى لو كان عامل تنظيفات أو مديراً عاماً في إدارات الدولة. أما لقب الشيخ فخصصه لأفراد عائلتنا الصغرى. وحدها والدتنا حظيت منه بلقب الشيخة حتى بعد أن حجت إلى مكة المكرمة.
مقاطع من سيرة ذاتية