لا يمسه إلا المطهرون


عذري مازغ
2021 / 9 / 5 - 01:54     

عندما كنت نادلا في المغرب بمقهى، كان يأتي شخص بلحيته المعهودة وبشطارته المعهودة ايضا ، كان عوض أن يطلب قهوة بالحليب يطلب القهوة بالمعيار الفرنسي : "كافي سيباري" (café separai) وتعني في لغتنا، لغة النوادل، كأس حليب وكأس بن ليمزجهما هو على مذاقه، والحقيقة كانت نسمة ساحرة باللغة الفرنسية، إخواني مودرن يتكلم الفرنسية لعامة على أنه متمدن، حيلة خفيفة على النفس أوقعتني انا النادل وصاحب المقهى بشكل كنا صدقنا انها كأس واحدة بمزاج "الكليان" (الزبون)، وطبعا انا النادل لا يهمني الأمر، فالخاسر في آخر المطاف هو صاحب المقهى الذي يشتكي يوميا من تسعيرة الماء والكهرباء لدرجة حفر بئرا خاصة لتصريف مياه حمام المقهى (تواليت)، حيلة لأنه يمزج نصف البن بنصف الحليب ويتناوله مع خبز مذهون، عندما يفطر يتناول الانصاف الباقية في كأس كانه اخذ منا كأسا ممزوجا: بن حليب، يتناوله مع سيجارة الصباح.. حتى هنا ليست هناك مشكلة، فصاحب المقهى مغفل وانا النادل الذي يدفع سعر طلبات الزبائن اكثر غفلا منه، لفهم هذا سأوضح لماذا كنت مغفل: عندما أبدا العمل يمنحني صاحب المقهى 150 درهم أدفع منها على أي مشروب في منصة المقهى يطلبه الزبون لآخذ ثمنه من الزبون حين يمضي، وعلي أن أرد هذا المبلغ كاملا عندما ينتهي عملي، وإذا سرقني الزبون سأدفع من جيبي (من اجرتي في الأخير) يعني: "خاصني انكون حاضي راسي أوقافز مع الزبائن" (من وجهة نظر صاحب المقهي، علي أن اكون منتبها أكثر مع الزبائن وغذا غفلت عن أي أداء سأأديه من جيبي)، كنت أبيع السجائر في المقهى للزبائن كطريقة مني لكسب ثانوي على أجرة البؤس التي تمنح للنوادل بالمغرب ،، بالحساب الدقيق علي أن أستخلص من كل علبة سجائر ثلثي "فائض فيمة" من سعرها أو علبة أخرى: إذا بعت علبة بالتقسيط علي أن أربح علبة زائدة أو ثلثيها على الأقل، ولأني أدخن عادة وأقرض لبعض رفاقي من زبناء القهوة بعضا من السجائر، كنت الوم نفسي عن عدم تحقيق هذا الفائض من القيمة، ثم بشكل لم يكن محسوبا، كنت أرد من فائض السجائر بعضا مما ينقصني من تلك 150 درهم التي يمنحها لي صاحب المقهى مع بداية عملي، بمعنى كنت اعي ان هناك زبائن سرقوني لكن لم أشك مرة في إخواني، كنت اشك في رفاقي البؤساء واتغاضى الطرف ..

كان صاحب المقهى يشكو دائما من سعر الكهرباء والماء برغم بئره التي حفرها تحت منزله، على كثرة شكاياه كنت انا اشك في أدائي كنادل حتى اكتشفت ذات يوم أنه يسرقني صاحب المقهى بشكل غير مباشر كما يسرقني بعض الزبائن أيضا.. ذات يوم جاء ليفطر عندي نادل من مقهى مجاور، كان ما أثار انتباهه هو نداء الإخواني صاحب "كافي سيباري" يأمرني ان انزع ديسك المطرب الشعبي بخنيفرة رويشة ووضع ديسك لقاريء قرآن وكنت في الحقيقة أحتفظ بديسك المقرئ المصري ذي الصوت الجميل عبد الباسط عبد الصمد، ولما أشرت لزميلي في العمل أن يضع عبد الباسط عبد الصمد، قال لي النادل من المقهى المجاور: "هل هذا يفطر عندك دائما كل فجر
ــ نعم لماذا؟ سألته
ــ لأنه أصلا لا يدفع، اجابني ثم اردف : هل يؤدي لك ثمن ما يتناوله؟
حرت في الأمر ، ثم قلت للنادل في المقهى المجاور سأحترس اليوم منه، لا أعرف صراحة هل يؤدي لي ثمن ما يتناوله ام لا، ولكن لن أسأله الآن، إنس الأمر فأنا دائما أدف.. ولا اعرف كيف سينتهي بي الأمر .
حرست على مراقبته إلى ان وقفت شاحنة مسافرين، مع الهرج والمرج، يجب على النادل أن يكون أكثر انتباها مع المسافرين لأنه إذا احد منهم لم يؤدي لك وانطلقت شاجنة المسافرين فإنك لن تلتقيه مرة أخرى، (حتى المسافرون يسرقون)، صدقوا او لا تصدقوا، كنا نوليهم اهتمام أكبر ونرغمهم على الدفع بمجرد أخذ ما سيتناولونه، في هذا الهرج والمرج وعند ركوب المسافرين في شاحنة نقل لم أجد الإخواني في مكانه، ورغم صوته الجميل، لعنت عبد الباسط عبد الصمد في ذلك الصباح وسأحدثكم لماذا؟
بعد يومين حضر مع الفجر نفس الشخص، نفس الإخواني ذي اللحية السوداء، صاحب السحنة ذات الوقار العجيب والذي يحتج على المناكر ، تعمدت ان أترك ديسك المطرب رويشة إلى أن ناداني بصوت صاخب: "يا أخي هذا وقت الفجر، إطفئ هذا العصي ونورنا بآيات الذكر الحكيم، فنحن في وقت الفجر..
اقتربت منه فسألته: هل استحمت في هذا الصباح؟ ثم اقتربت منه أكثر فسألته: هل نام مع زوجته هذا الصباح؟ فأجاب بنعم.. ابتعدت عنه وتركت ارويشة يطرب فصاح من جديد: هذا منكر ! كيف نصبح على هذا المنكر؟
نظرت إليه مليا فقلت له بصوت صاخب: "القرآن لا يمسه إلا المطهرون، انت تعرف هذا لا؟ توجهت إليه بالخطاب، ثم أضفت ينفس النبرة:أفضلكم لم يفرك عينيه بالماء البارد في هذا الصقيع، نظرت إليه فقلت له: " وأنت منذ بدأت تدخل هذا المقهى لم تؤدي لي ثمن ما تتناوله، هل تعتقد أني مغفل؟
لم ينكر الأمر في وجهي فانا اتكلم بشكل مسموع من طرف كل الزبائن، قال بأنه كان لا يؤدي على سبيل الإقتراض وانه سيؤدي آخر الشهر، قلت له "أنت تاجر أسواق وليس موظف بأجر شهري لكي تكلمني عن الشهر واكثر من هذا يكون الإقتراض بالتفاهم وليس بترك الامور دون تفاهم وبطريقة استغفالي !
وضعته في موقف محرج امام الزبائن الآخرين فقدم لي أداء كل ما تناوله منذ كان يدخل عندي وخرج دون أن يفطر وهو يردد في دواخله: فعلا لا يمسه إلا المطهرون !