رأس المال: الفصل الرابع والعشرون (98) 6) منشأ الرأسمالي الصناعي


كارل ماركس
2021 / 9 / 4 - 00:31     


ما يسمى بالتراكم الأولي
6) منشأ الرأسمالي الصناعي

لم يمض منشأ الرأسمالي الصناعي(1) في مسار تدريجي كالذي تميز به منشأ المزارع. ولا ريب في أن بعض صغار معلمي الطوائف الحرفية المغلقة، إضافة إلى عدد أكبر من صغار الحرفيين المستقلين، بل حتى العمال المأجورين، قد تحولوا إلى رأسماليين صغار، ثم تحولوا، بتوسيع نطاق استغلال العمل المأجور تدریجاً، وتوسيع تراكم رأس المال بالمقابل، إلى رأسماليين بلا مراء (sans phrase). وفي عهد طفولة الإنتاج الرأسمالي، كانت الأمور تجري في الغالب كما في عهد طفولة مدن القرون الوسطى، حيث كانت مسألة أي من الأقنان الهاربين ينبغي أن يكون رب عمل وأيّهم يكون خادماً، ثبت، عادة، حسب تاريخ فرار القن من سيده، أيّهم أقدم وأيّهم أحدث عهداً بالفرار. بيد أن هذه الطريقة البطيئة بطء السلحفاة لم تكن تتناسب، بأية صورة، مع المتطلبات التجارية للسوق العالمية الجديدة التي خلفتها الاكتشافات العظمى في نهاية القرن الخامس عشر. إن العصور الوسطى خلفت شكلين متميزين من رأس المال، نضجا في أكثر التشكيلات الاجتماعية – الاقتصادية تبايناً، وكانا يعتبران، قبل حلول حقبة نمط الإنتاج الرأسمالي، بمثابة رأسمال عموما (quand meme) – وهما رأس المال الربوي، ورأس المال التجاري.

«في الوقت الحاضر، تذهب ثروة المجتمع كلها إلى يد الرأسمالي أولا… فيدفع إلى مالك الأرض ربعه، وإلى العامل الأجور، وإلى جباة الضرائب والعشور ما يطلبون، ويقتطع من المنتوج السنوي الذي يخلقه العمل قسماً كبيراً، بل القسم الأكبر الذي يتنامى باستمرار. ويمكن القول الآن إن الرأسمالي هو أول من يملك كل الثروة الاجتماعية، رغم أنه لا يوجد قانون يضمن له الحق في هذه الملكية … وهذا التحول في ميدان الملكية قد تحقق بفعل أخذ الفائدة المئوية عن رأس المال… وليس من الغريب في شيء أن جميع المشرعين في أوروبا سعوا لمنع ذلك بالقوانين المضادة للربا … إن هيمنة الرأسماليين على مجمل ثروة البلاد تؤلف ثورة كاملة في حق الملكية، فبأي قانون، أو بأي سلسلة قوانين تحققت هذه الثورة؟»(2).
كان حريا بالمؤلف أن يعرف أن الثورات لا تصنعها القوانين أبدا.

لقد كان النظام الاقطاعي في الريف، ونظام الطوائف الحرفية المغلقة في المدن، يمنعان رأس المال النقدي، الذي نشأ عن طريق الربا والتجارة، من التحول إلى رأسمال صناعي (3). وتلاشت هذه الأغلال بانحلال زمر الخدم الأتباع للإقطاعي، وبانتزاع ملكية سكان الريف وطرد قسم منهم. لقد انبثقت المانيفاکتورات الجديدة في مرافئ التصدير البحرية أو في نقاط على البر الداخلي، بعيدة عن سيطرة المدن القديمة وأنظمة طوائفها الحرفية. من هنا منشأ الصراع الضاري الذي خاضته مدن التعاونيات الحرفية (corporate towns) في إنكلترا ضد هذه المنابت الجديدة للصناعة.

إن اكتشاف مناجم الذهب والفضة في أميركا، واقتلاع سكانها الأصليين من مواطنهم واستعبادهم ودفنهم أحياء في المناجم، وبدايات غزو الهند الشرقية ونهبها، وتحويل أفريقيا إلى ساحة محمية لصيد ذوي البشرة السوداء، إن ذلك كله يميز فجر عهد الإنتاج الرأسمالي. وتؤلف هذه العمليات الرغيدة العناصر الرئيسية للتراكم الأولي. ثم جاءت في أعقابها، الحرب التجارية التي خاضتها الأمم الأوروبية متخذة من الكرة الأرضية ساحة لها. فقد اندلعت بانفصال هولندا عن إسبانيا، واتخذت أبعادا هائلة في حرب إنكلترا ضد اليعاقبة، ولا تزال مستعرة في حروب «الأفيون» ضد الصين، وهلمجرا.

وتتوزع مختلف لحظات التراكم الأولي، في تسلسل زمني متعاقب إلى هذا الحد أو ذاك، بين مختلف البلدان، وبخاصة إسبانيا والبرتغال وهولندا وفرنسا وإنكلترا. وقد اندمجت هذه اللحظات في إنكلترا، نحو أواخر القرن السابع عشر، في مجموع منتظم يشمل معاً نظام المستعمرات، ونظام الاقتراض الحكومي، ونظام الضرائب الحديث، ونظام الحماية الجمركية. واعتمدت هذه الطرائق، في جانب منها، على العنف الوحشي، کالنظام الاستعماري مثلا. ولكنها جميعا تستخدم سلطة الدولة، أي العنف المنظم والمركز في المجتمع، بغية إنماء عملية تحويل نمط الإنتاج الاقطاعي إلى نمط رأسمالي، وتقليص مراحله الانتقالية. إن العنف هو قابلة كل مجتمع قديم يحمل في أحشائه مجتمعاً جديداً. فالعنف، ذاته، قوة اقتصادية.

وبصدد النظام الاستعماري المسيحي، يقول و. هوویت، وهو الذي اتخذ من المسيحية اختصاصا له:

«إن الأعمال البربرية والفظائع البشعة التي ارتكبتها ما يسمى بالأجناس المسيحية، في مختلف أرجاء المعمورة، وضد جميع الشعوب التي استطاعت أن تخضعها لسلطانها، لا مثيل لها عند أي عرق آخر، مهما بلغ به العنف والجهل، ومهما تجرد من الرأفة والضمير، في أي عصر من عصور التاريخ»(4).
إن تاريخ الاقتصاد الاستعماري الهولندي – وهولندا هي نموذج البلد الرأسمالي في القرن السابع عشر – «يعرض للأنظار صورة لا مثيل لها من الخيانة والرشاوى، والمذابح والوضاعة» (5). ولا أدل على ذلك من أسلوبهم في سرقة البشر من جزيرة سيليب للحصول على عبيد لأجل جزيرة جاوه. وكان يجري تدريب لصوص البشر خصيصا لهذا الغرض. وكان هذا اللص، والمترجم والبائع، هم المشاركون الرئيسيون في هذه التجارة، وكان الأمراء المحليون هم الباعة الرئيسيون. وكان الفتيان المسروقون يرزحون في زنزانات سرية في سیلیب، حتى يبلغوا السن المناسبة لشحنهم في سفن نقل العبيد. وقد ورد في أحد التقارير الرسمية:

«إن مدينة ماكاسار وحدها، على سبيل المثال، ملأى بسجون سرية، واحدها أفظع من الآخر، تغص بالمنكودين، ضحايا الجشع والاستبداد، وهم مثقلون بالقيود، بعد أن انتزعوا من أهلهم عنوة».
ومن أجل الاستيلاء على ملقا، عمد الهولنديون إلى رشوة حاكمها البرتغالي. وقد فتح لهم هذا أبواب المدينة عام 1641. فهرعوا إلى منزله في الحال وقتلوه غيلة، لكي «یزهدوا» في دفع ثمن الخيانة البالغ 21,875 جنيها. وما إن تطأ أقدامهم أرضا، حتى يحل بها الخراب ويقل سكانها. لقد كان سكان بانیوفانغي، إحدى مقاطعات جاوه، يناهز 80 ألف نسمة عام 1750، أما عام 1811 فلم يبق منهم سوى 8 آلاف. تلك هي (doux commerce) التجارة اللطيفة!.

لقد حصلت شركة الهند الشرقية الإنكليزية (*)، كما هو معروف، إلى جانب السلطة السياسية لحكم الهند الشرقية، على الاحتكار المطلق لتجارة الشاي، إضافة إلى احتکار التجارة مع الصين عموما، واحتکار نقل السلع من أوروبا وإليها. ولكن الملاحة قرب سواحل الهند وبين الجزر، وكذلك التجارة داخل الهند، كانتا احتكاراً مقصوراً على كبار موظفي الشركة. وكان احتكار الملح والأفيون ونبات التامول وغير ذلك من السلع مصدر ثراء لا ينضب. وكان الموظفون ذاتهم يقررون الأسعار، وينهبون الهنود التعساء على هواهم. وكان الحاكم العام يشارك في هذه التجارة الخاصة. وكان المقربون إليه يحظون بالعقود وفق شروط تتيح لهم، خيراً من السيميائيين، أن يصنعوا الذهب من العدم. وكانت ثروات طائلة تنبت کالفطر في نهار واحد، بينما يمضي التراكم الأولي قدماً من دون تسليف شلن واحد. وتزخر محاكمة وارن هیستنغز (Warren Hastings) بحالات من هذا النوع. إليكم مثالا واحدة منها. كان عقد الأفيون قد رسا على شخص يدعى سوليفان لحظة سفره في مهمة رسمية إلى منطقة نائية في الهند تبعد كثيرا عن مناطق زراعة الأفيون. فباع سوليفان عقده إلى آخر يدعى بين (Binn) بمبلغ 40 ألف جنيه استرليني، فباعه بين بدوره لقاء 60 ألف جنيه في اليوم ذاته. أما آخر من اشترى العقد ونفذه، فقد أعلن أنه حقق، بعد كل هذا، مکسباً ضخماً. واستنادا إلى إحدى الوثائق التي رفعت إلى البرلمان، أرغمت الشركة وموظفوها، بين أعوام 1757 – 1766، الهنود على تقديم هدایا تبلغ قيمتها 6 ملايين جنيه. وقد دبر الإنكليز، في عامي 1769 و1770، مجاعة مفتعلة عن طريق شراء محصول الرز كله، رافضين بيعه ثانية إلا بأسعار خيالية (6).

وكانت معاملة السكان الأصليين، بالطبع، أفظع ما يكون في المستوطنات الزراعية المكرسة لتجارة التصدير فقط، مثل الهند الغربية، وكذلك في البلدان الغنية، المكتظة بالسكان، مثل المكسيك والهند الشرقية، التي وقعت في براثن النهب. غير أن الطابع المسيحي للتراكم الأولي تجلّى حتى في المستعمرات بالمعنى الدقيق للكلمة. إن طهرانيي إنكلترا الجديدة (نیوإنكلاند)، اتقياء البروتستانتية الحصيفين المبدعين هؤلاء، قرروا في جمعيتهم التشريعية (Assembly) عام 1703، تقدیم مكافأة مقدارها 40 جنيها عن سلخ فروة رأس كل هندي أحمر، وعن كل أسير من الهنود الحمر، وفي عام 1720 ارتفعت مكافأة فروة الرأس المسلوخة إلى 100 جنيه؛ أما في عام 1744، وبعد أن اعتبرت إحدى القبائل في منطقة خليج ماساشوستس متمردة، وضعت الأسعار التالية : فروة رأس ذكر عمره 12 عاما فما فوق تساوي 100 جنيه بالعملة الجديدة، أسير من الرجال – 105 جنيهات، أسيرة من النساء أو طفل – 55 جنيها، فروة رأس امرأة أو فروة رأس طفل 50 جنيها! وبعد عدة عقود من السنين أخذ النظام الاستعماري ثأره من أحفاد أولئك الحجاج الأسلاف (pilgrim fathers) الورعين، الذين باتوا بدورهم متمردین. فبرشوة من الإنكليز وبتأليب منهم فتك بهم الهنود الحمر بالفؤوس. وأعلن البرلمان البريطاني أن الكلاب الدموية وسلخ فروة الرأس «وسائل وضعها الرب والطبيعة بين يديه».

لقد أنضج النظام الاستعماري نمو التجارة والملاحة. وغدت «الشركات الاحتكارية» (على حد تعبير لوثر)، رافعات جبارة لتركز رأس المال. وضمنت المستعمرات سوقاً للتصريف بالنسبة إلى المانيفاکتورات الناشئة بسرعة، أما احتكار السوق هذا فقد ضمن مضاعفة التراكم. إن الكنوز المنتزعة من خارج أوروبا، بالسطو السافر واستعباد السكان المحليين والفتك بهم، سرعان ما تدفقت على البلد الأم وتحولت فيه إلى رأسمال. وقد بلغت هولندا التي كانت السباقة إلى تطوير النظام الاستعماري تطويرا كاملا، ذروة عظمتها التجارية عام 1648

«كانت هولندا تحتكر، لوحدها تقريبا، تجارة الهند الشرقية، والتبادل التجاري بين جنوب غربي أوروبا وشمالها الشرقي. وكانت مصائد أسماكها، وسفنها، ومانيفاکتوراتها تفوق ما يملكه أي بلد آخر منها. ولربما كان إجمالي رأسمال هذه الجمهورية أكبر من رؤوس أموال بقية بلدان أوروبا مجتمعة»(**).
وينسى غوليش، وهو كاتب هذه الأسطر، أن يضيف بأن جمهرة الشعب في هولندا کانت، في عام 1648، تعاني من العمل المفرط، والفقر، والقمع الوحشي، أكثر مما كانت تعانيه جمهرة شعوب بقية بلدان أوروبا مجتمعة.

إن الهيمنة الصناعية في يومنا هذا تجر معها الهيمنة التجارية. أما في عهد المانيفاکتورة، بالمعنى الدقيق للكلمة، فقد كانت الهيمنة التجارية، بعكس ذلك، هي التي تمنح التفوق الصناعي. ومن هنا جاء ذلك الدور الحاسم الذي لعبه النظام الاستعماري آنذاك. فقد كان هو «الإله الغريب» الذي صعد المحراب ووقف إلى جانب آلهة أوروبا القدامی، ورماهم جميعا ذات نهار جميل برفسة واحدة إلى قارعة الطريق. وأعلن النظام الاستعماري أن كسب المغانم هو الهدف النهائي والوحيد للبشرية.

إن نظام الائتمان العمومي، أي ديون الدولة، الذي نجد براعمه في جنوه والبندقية منذ القرون الوسطى، قد استحوذ على أوروبا بأسرها، في المرحلة المانيفاکتورية. وكان النظام الاستعماري، بتجارته البحرية وحروبه التجارية، بمثابة دفيئة لنظام الائتمان ذاك.
وهكذا ضرب جذوره في هولندا بادئ الأمر. إن دين الدولة، أي استلاب الملكية في مصلحة الدولة – سواء كانت استبدادية، أم دستورية، أم جمهورية – هو ما يسِم الحقبة الرأسمالية بميسمه. والجزء الوحيد مما يسمى بالثروة الوطنية الذي يعتبر فعلا ملكاً جماعياً للشعوب المعاصرة هو ديون دولها(7). لذلك فإن المذهب الحديث القائل بأن شعباً من الشعوب يزداد ثراء بقدر ما يكون دينه أكبر – هو مذهب منطقي تماما. ويغدو الائتمان العمومي العقيدة التي يعتنقها رأس المال. وبنشوء مديونية الدولة، يغدو الإخلال بالثقة في دين الدولة لا التجديف على الروح القدس، خطيئة لا تغتفر.

ويصبح الدين العمومي واحدة من أقوى الروافع الجبارة للتراكم الأولي. فهو يمنح النقود العاقر، كما لو بلسمة عصا سحرية، القدرة على الإنجاب، ويحولها بذلك إلى رأسمال، قاضياً على أي حاجة تعرضها إلى المتاعب والأخطار الملازمة لتوظيفها في الصناعة، أو حتى في أعمال الربا. إن دائني الدولة، لا يعطون شيئا، في الواقع، فالمبالغ التي يقرضونها تتحول إلى سندات دین حكومية، يسيرة التداول، تظل تعمل بین أيديهم مثلما تعمل النقود الفعلية تماما. ولكن، عدا عن خلق طبقة من الريعيين المتبطّرين، وعدا عن الثروة المرتجلة التي يجنيها الماليون الذين يلعبون دور الوسيط بين الحكومة والأمة، وكذلك عدا عن متعهدي جباية الضرائب، والتجار، والصناعيين الخاصين، الذين يذهب إليهم جزء كبير من كل فرض حكومي کرأسمال يهبط من السماء، عدا عن ذلك كله فإن دين الدولة أدى إلى نشوء الشركات المساهمة، والمتاجرة بالأوراق المالية من كل نوع، والمضاربة بها، وباختصار نشوء المقامرة في البورصة والطغمة المصرفية المعاصرة.

لم تكن البنوك الكبرى، التي توشحت بألقاب وطنية منذ ولادتها سوى شركات من المضاربين الخاصين الذين قدموا المساعدة للحكومات؛ وكان بمقدورهم أن يسلفوها نقوداً بفضل الامتيازات التي حظوا بها. لذا لم يكن ثمة معيار لقياس تراکم ديون الدولة أدق من الارتفاع المتعاقب لأسهم هذه البنوك، التي يرجع تاريخ ازدهارها إلى تأسيس بنك إنكلترا (عام 1694). لقد ابتدأ بنك إنكلترا عمله بإقراض الحكومة بفائدة مقدارها 8%، وكان مخولا من البرلمان، في الوقت نفسه، بسك العملة من رأس المال هذا عينه الذي كان يقرضه ثانية إلى الجمهور بصيغة أوراق نقدية مصرفية (البنكنوت). وأجيز للبنك أن يستخدم هذه الأوراق المصرفية لخصم الكمبيالات، وتقديم السلف على السلع، وشراء المعادن الثمينة. ولم يمض طویل وقت حتى غدت هذه النقود الائتمانية، التي أصدرها البنك بنفسه، العملة التي يقدم بها بنك إنكلترا القروض إلى الدولة، ويدفع بها، بالنيابة عن الدولة، الفائدة المئوية عن ديون الدولة. ولم يكن البنك يعطي بهذه اليد ليأخذ أكثر بكثير باليد الأخرى فحسب، بل ظل، حتى وهو يقبض، الدائن الأبدي للأمة حتى استيفاء آخر شلن مُسلّف. وبالتدريج أصبح، بالضرورة، خازن الكنوز المعدنية في البلاد، ومركز الجاذبية لكل عمليات الائتمان التجاري. وعندما توقف سكان إنكلترا عن احراق الساحرات، بدأوا يشنقون مزوري الأوراق النقدية المصرفية. أما أي انطباع تولد لدى أهل ذلك العهد عن الظهور المباغت لهذا النسل من طغمة المصرفيين، والماليين، والريعيين، والسماسرة، ومضاربي الأسهم، وذئاب البورصة، إلخ، فذلك ما تبينه مؤلفات ذلك العهد، مثل كتابات بولينغبروك(8).

بموازاة ديون الدولة، ظهر نظام الائتمان العالمي، الذي غالبا ما يعتبر مصدراً من مصادر التراكم الأولي الخفية عند هذا الشعب أو ذاك. هكذا نجد أن دناءات نظام النهب لمدينة البندقية شكلت ركيزة خفية من هذا النوع لنمو ثروة رأس المال في هولندا، التي اقترضت من البندقية، الآخذة في الانهيار، مبالغ كبيرة من النقد. وكذلك كان أمر العلاقة بين هولندا وإنكلترا. ففي مطلع القرن الثامن عشر، تخلفت المانيفاکتورات الهولندية عن مانیفاكتورات إنكلترا كثيراً، وكفت هولندا عن أن تتبوأ مركز الأمة السائدة في التجارة والصناعة. وهكذا أصبح إقراض رؤوس أموال ضخمة، وبخاصة لمنافستها الجبارة إنكلترا، أحد اتجاهات الأعمال الرئيسية بالنسبة إليها بين أعوام 1701 و1776. وقد نشأت مثل هذه العلاقات اليوم بين إنكلترا والولايات المتحدة. فالكثير من رؤوس الأموال العاملة اليوم في الولايات المتحدة، من دون أن تحمل شهادة ميلاد، ليست إلا دماء الأطفال التي تحولت، بالأمس فقط، إلى رأسمال في إنكلترا.

وبما أن ديون الدولة ترتكز على إيراداتها، التي ينبغي أن تغطي مدفوعات الفوائد المئوية السنوية وسواها من المدفوعات، فقد أصبح نظام الضرائب الحديث التكملة الضرورية لنظام قروض الدولة. إن القروض تتيح للحكومة أن تغطي النفقات الاستثنائية من دون أن تجعل دافع الضرائب يشعر بكل عبئها فورا، ولكنها تقضي في آخر المطاف بزيادة الضرائب. ومن جهة أخرى فإن زيادة الضرائب بسبب تنامي الديون المستمر، ترغم الحكومة، دوما، على اللجوء المتكرر إلى أخذ المزيد من القروض لتغطية النفقات الاستثنائية الجديدة. وبالتالي فإن نظام المالية المعاصر، الذي يرتكز محوره على الضرائب المفروضة على أكثر وسائل العيش ضرورة (مما يرفع أسعارها) يضم في أحشائه جنین تنامي الضرائب التلقائي. إن فرض الضرائب الفاحشة، ليست استثناء عابراً، بل هو بالأحرى القاعدة المبدئية. ففي هولندا، حيث ترسخ هذا النظام أولا، قام الوطني الكبير دي ويت بتمجيده في مؤلفه «المبادئ»(***) بوصفه أفضل طريقة تجعل العامل المأجور مذعناً، مقتصداً، مثابراً، … صبوراً على العمل المفرط. إلا أن الأثر المدمر الذي يخلفه نظام المالية المعاصر على وضع العمال المأجورين لا يهمنا، هنا، قدر اهتمامنا بالنزع القسري، الناجم عنه، لملكية الفلاحين، والحرفيين، وباختصار جميع الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى. ولا يختلف اثنان بهذا الخصوص، حتى بين الاقتصاديين البورجوازيين. إن فعل نظام المالية في نزع الملكية يشتد أكثر بفضل نظام الحماية الجمركية، الذي يؤلف بدوره جزء من أجزائه المتكاملة.

إن الدور الكبير الذي يلعبه الدين العمومي ونظام المالية المطابق له، في تحويل الثروة إلى رأسمال، ونزع ملكية الجماهير، قاد كثيراً من الكتّاب، مثل کوبیت ودبلداي وآخرين، إلى أن يروا فيهما، بصورة خاطئة، السبب الأول لبؤس الشعوب المعاصرة.

لقد كان نظام الحماية الجمركية وسيلة مصطنعة لخلق الصناعيين، وانتزاع ملكية الشغيلة المستقلين، وتحويل وسائل الإنتاج والعيش الوطنية إلى رأسمال، واختزال فترة الانتقال من نمط الإنتاج القديم إلى النمط الحديث بصورة قسرية. لقد مزقت الدول الأوروبية بعضها بعضا إرباً بسبب براءة هذا الاختراع، وما إن دخلت في خدمة فرسان الكسب، حتى لم تعد تكتفي، تحقيقا لهذه الغاية، بسرقة شعوبها هي، بصورة غير مباشرة عن طريق رسوم الحماية الجمركية، وبصورة مباشرة عن طريق مكافآت التصدير، إلخ، بل اقتلعت بالقوة، جميع الصناعات في البلدان المجاورة التابعة لها، كما فعلت إنكلترا، مثلا، بصناعة الصوف الإيرلندية. ولقد جرت هذه العملية في القارة الأوروبية ببساطة أكبر، اقتداء بمثال کولبير، فقد تدفق جزء كبير من رأس المال الأولي، هنا، إلى الصناعيين من خزينة الدولة مباشرة.

فهتف میرابو قائلا: «لماذا تذهبون بعبدا بحثا عن سبب ازدهار مانیفاكتورات ساكسونيا قبل حرب السبع سنوات؟ يكفيكم أن تنظروا إلى المائة وثمانين مليونا من دَين الدولة»(9).
النظام الاستعماري، ديون الدولة، نير الضرائب، الحماية الجمركية، الحروب التجارية، وما شاكل ذلك. هذه هي النبتات التي أنتجتها مرحلة المانيفاکتورة الحقيقية، والتي نمت نمواً عملاقاً خلال عهد طفولة الصناعة الكبرى. ويقترن میلاد هذه الأخيرة بخطف الأطفال واسع النطاق على طريقة [الملك] هيرودس(*4). وعلى غرار الأسطول الملكي، تجند المصانع عمالها بالإكراه. ومهما كانت لامبالاة السير ف. م. إيدن إزاء أهوال انتزاع أراضي السكان الزراعيين ابتداء من الثلث الأخير للقرن الخامس عشر حتى أيامه في أواخر القرن الثامن عشر، ومهما كان رضاه وابتهاجه بهذه العملية «الضرورية» لإقامة الزراعة الرأسمالية وإقامة «التناسب الصحيح بين الأراضي المحروثة والمراعي» – لكن حتى السير إيدن لا يسمو إلى مثل هذا الفهم للضرورة الاقتصادية القائلة بسرقة الأطفال واستعبادهم بغية تحويل الإنتاج المانيفاکتوري إلى إنتاج مصنعي، وإقامة التناسب الصحيح بين رأس المال وقوة العمل. يقول إيدن:

«لعل ما يستحق استرعاء انتباه الجمهور هو مسألة هل أن الصناعة التي تعمد، لكي تعمل بنجاح، إلى خطف الأطفال المساكين من الأكواخ ومآوي العمل، وإلى تشغيلهم على دفعات متناوبة خلال القسم الأعظم من الليل فتسلبهم الراحة التي يحتاجونها أكثر من غيرهم، رغم أنها لازمة للجميع، وإلى خلط أعداد كبيرة من الجنسين، ومن أعمار وميول مختلفة، في كومة واحدة مما يؤدي بالضرورة، إلى استشراء التهتك والفسوق اقتداء بالنماذج السيئة، هل إن مثل هذه الصناعة تستطيع أن تزيد مبلغ السعادة الوطنية والفردية؟»(10). ويقول فيلدن «في دیربیشاير ونوتنغهام شایر، وبخاصة في لانکشایر، استخدمت الآلات المخترعة حديثاً في مصانع كبيرة شيدت على ضفاف الجداول القادرة على تدوير العجلة المائية. واقتضت الحاجة، بغتة، آلاف من الأيدي العاملة في هذه الأماكن القصية عن المدن. كانت لانکشایر، بوجه خاص، الضئيلة السكان والمجدبة نسبية آنذاك، في حاجة ماسة إلى السكان أكثر من أي شيء آخر. ولما كانت الحاجة إلى أنامل الأطفال الصغيرة، البارعة، هي الأشد، فسرعان ما أصبحت عادة أخذ متمرنين (!) من مختلف مآوي العمل في أبرشيات لندن وبرمنغهام، وغيرهما. وسیقت إلى الشمال آلاف وآلاف من هذه المخلوقات اليانعة، سيئة الطالع، التي تتراوح أعمارها بين 7 و13 أو 14 عاماً. وجرت العادة أن يتكفل رب العمل (أي سارق الأطفال) بإكساء المتمرنين واطعامهم وإيوائهم في “بيت المتمرنين”، قرب المصنع، وجرى تعيين مراقبين للإشراف على العمل، وكانت مصلحة هؤلاء تكمن في أن يرغموا الأطفال على العمل إلى أقصى حد، لأن أجرهم كان يتوقف على كمية العمل التي يعتصرونها منهم. كانت قسوة المعاملة عاقبة طبيعية. وفي الكثير من المناطق الصناعية، وبوجه خاص، في لانکشایر، ثمة قساوات تقطّع أنياط القلب، تُمارس إزاء هذه المخلوقات الوديعة، التي لا نصير لها، بعد أن وضعت في عهدة رب العمل الصناعي. لقد كانت تُنهك بالعمل المفرط إلى شفا الموت … وكانت تجلد، وتُقيد بالأغلال، وتُسام أشد ألوان العذاب تفنناً… وكانت تُساق إلى العمل بالسباط بينما هي تتضور جوعا … وفي بعض الأحيان كانت تُدفع حتى إلى الانتحار!.. إن الوديان الرومانسية الجميلة في دیربیشاير ونوتنغهام شایر ولانکشایر، المحجوبة عن أي مراقبة من جانب المجتمع، قد تحولت إلى قفر موحش تمارس فيه جرائم التعذيب، وكثير من جرائم القتل!.. كان الصناعيون يجنون أرباحا طائلة، ولكنها شحذت شهيتهم بدل أن تطفئها، فلجأوا إلى وسيلة تبدو أنها تحقق لهم أرباحاً لا حدود لها، فبدأوا يمارسون العمل الليلي، أي أنهم يدفعون وجبة من العمال للعمل طوال الليل محل وجبة العمال التي أنهكت من العمل طوال النهار. وكانت الوجبة النهارية تأوي إلى الأسرة التي تركتها الوجبة الليلية توا، والعكس بالعكس. وثمة تقليد شائع في لانكشاير يقضي بالا تدع الأسرة نبرد»(11).

وبتطور الإنتاج الرأسمالي خلال المرحلة المانيفاکتورية، فقد الرأي العام في أوروبا آخر نقطة من الحياء والضمير. وصارت الأمم تتفاخر، في صلف، بكل عمل شائن يخدمها كوسيلة للتراكم الرأسمالي. لنقرأ مثلا، تاريخ التجارة الساذج، للرجل المستقيم أ. أندرسون. إنه يصدح بالمديح لما يسميه انتصار البراعة السياسية الإنكليزية، لأن إنكلترا، عند عقد صلح أوتريخت، انتزعت من إسبانيا، بموجب معاهدة أسینتو(*5)، امتیاز المتاجرة بالزنوج بين أفريقيا وأميركا الإسبانية، بعد أن كانت هذه المتاجرة محصورة حتى ذلك الحين بين أفريقيا والهند الغربية الإنكليزية. ونالت إنكلترا بذلك الحق في تزويد أميركا الإسبانية بـ 4800 زنجي سنوية حتى عام 1743. وقد أضفى ذلك ستاراً رسمياً، في الوقت نفسه، لإخفاء تجارة التهريب البريطانية. وسمنت ليفربول من تجارة العبيد. وكانت تلك وسيلتها لتحقيق التراكم الأولي. ولا يزال «أعيان» ليفربول، حتى يومنا هذا، بمثابة بندار(*6) تجارة العبيد التي – راجع مؤلف أيكن الصادر في 1795 الذي استشهدنا به من قبل – «تُحول روح المبادرة التجارية إلى ولع وتنشئ البحارة الجسورین وتحمل أرباحا عظيمة». وقد استخدمت ليفربول في تجارة العبيد 15 سفينة عام 1730 و53 عام 1751، و74 عام 1760، و96 عام 1770، و132 عام 1792.

وبينما أدخلت صناعة القطن عبودية الأطفال في إنكلترا، فإنها أعطت الولايات المتحدة دافعاً يحفز تحويل الاقتصاد العبودي الذي كان يتسم من قبل بطابع أبوي، بهذا القدر أو ذاك، إلى نظام استغلال تجاري. وعموما، فإن العبودية المموهة للعمال المأجورين في أوروبا كانت بحاجة إلى العبودية الصريحة (sans phrase) في العالم الجديد، كقاعدة ارتكاز(12).

كبير هو الجهد (Tantae molis erat)(*7) الذي اقتضته ولادة «القوانين الطبيعية الأزلية» لنمط الإنتاج الرأسمالي، وتنفيذ عملية فصل العمال عن شروط عملهم، وتحويل وسائل الإنتاج ووسائل العيش الاجتماعية إلى رأسمال في هذا القطب، وتحويل جماهير الشعب في القطب المعاكس إلى عمال مأجورين، إلى «فقراء عاملين» أحرار – هذا النتاج العجيب الذي اصطنعه التاريخ الحدیث (13). وإذا كانت النقود، حسب قول أوجيه (14)، «تجيء إلى الدنيا وعلى خدها لطخة دم بالولادة»، فإن رأس المال، ولد وهو ينزف دما وقذارة، من جميع مسامه، من الرأس حتى أخمص القدمين (15).

_______________

(1) نستخدم تعبير «الصناعي» بالتضاد مع «الزراعي». أما بمعناه كمقولة اقتصادية، فإن المزارع هو رأسمالي صناعي شأنه شأن مالك المصنع.
(2) مقارنة بين الحقوق الطبيعية والمصطنعة للملكية. إن مؤلف هذا الكتاب الغفل هو: ت. هودجسکین.
(3) حتى في عام 1794، أرسل صغار المعلمين من صانعي الأقمشة الصوفية في ليدز، وفداً إلى البرلمان يحمل التماسا بتشريع قانون يحظر على أي تاجر أن يصبح صناعياً. (د. أيكن، .Dr Aikin، المرجع المذكور).
(4) وليم هوویت، الاستعمار والمسيحية. تاريخ شعبي لمعاملة الأوروبيين للسكان الأصليين في مستعمراتهم، 1837، ص 9.
وبشأن معاملة العبيد، ثمة معطيات وفيرة في مؤلف شارل کونت، أطروحة حول التشريع 1837. وينبغي أن يدرس المرء هذا البحث دراسة تفصيلية ليرى إلام يحول البورجوازي نفسه وإلام يحول عماله، حيثما يستطيع بلا حرج، أن يحول العالم على صورته.
(5) الراحل توماس ستامفورد رافلز، الضابط، حاكم الجزيرة، تاریخ جاوه، لندن، لندن، 1817.
(*) شركة الهند الشرقية – شركة تجارية إنكليزية استمرت من عام 1600 حتى عام 1858، وأسست هذه الشركة قوات عسكرية وجيشا واسطولاً، وكانت تحتكر تجارة الهند وإدارتها، وبعد انتفاضة 1857 – 1859 الهندية، اضطرت إنكلترا إلى تصفية الشركة، وإدارة الهند كجزء من أملاك التاج البريطاني. [ن. برلین].
(6) في عام 1866 قضى أكثر من مليون هندي نخبهم جوعا في مقاطعة أوريسا وحدها. ومع ذلك، كانت كل الجهود تبذل لإغناء خزينة الحكومة في الهند برفع أسعار بيع وسائل العيش إلى الشعب المتضور جوعا.
(**) غ. نون غولیش، عرض تاريخي للتجارة، إلخ، پینا، 1830. ص 371. [ن. برلین].
(7) يشير وليم كوبيت إلى أن جميع المؤسسات العمومية في إنكلترا تسمى بالمؤسسات الملكية)، أما دين الحكومة فيسمى على سبيل التعويض «الدين الوطني» (national debt).
(8) «لو اجتاح التتر أوروبا اليوم، فسيتطلب الأمر كبير عناء، كي تفهمهم ما هو دور الرجل المالي عندنا». (مونتیسیکیو، روح الشرائع، لندن، 1769، المجلد الرابع، ص 33).
(Montesquieu, Esprit des lois, Éd. Londres, 1769, T. IV, p. 33).
(***) يشير مارکس هنا، على الأرجح، إلى الطبعة الإنكليزية لكتاب: شرح أهم المبادئ والأحكام السياسية الأساسية لجمهورية هولندا وفريسلاندا الغربية، الذي يعزي تأليفه إلى بان دي ويت، وقد صدر عام 1669 في لايدن، هولندا. واتضح أن بان دي ويت کتب فصلين فقط من هذا الكتاب، أما المؤلف الأصلي فهو الاقتصادي ورجل الأعمال الهولندي بيتر فان دير هوري. [ن. برلين].
(9) (Pourquoi aller chercher si loin la cause de l’éclat manufacturier de la Saxe avant la (244) guerre? cent quatre-vingt millions de dettes faites par les souvrains).
(میرابو، Mirabeau، المرجع المذكور، المجلد 6، ص 101)

(*4) هيرودس Herodes: ملك فلسطين (37-4 قبل الميلاد) أمر بقتل كل طفل يولد في بيت لحم، حسب رواية الحواري متّى. [ن. برلین].
(10) إيدن، Eden، المرجع المذكور، الكتاب الثاني، الفصل الأول، ص 421.
(11) جون فيلدن John Fielden، المرجع المذكور، ص 5. 6. وبصدد البشاعات المقترفة في بداية عهد المصانع، راجع: Dr. Aikin الدكتور ایکن، المرجع المذكور، ص 219، وكذلك غيسبورن، بحث في واجب الرجال.
(II – عندما نقلت الآلة البخارية المصانع من مساقط المياه الريفية النائية إلى المدن، وجد الراسمالي المولع «بالزهد»، أن اليد العاملة الطفولية جاهزة في متناول يده، وأن لا حاجة به إلى جلب عبيد من مأوى العمل عنوة. وحين عرض السير روبرت بيل (والد وزير المعقولات) على البرلمان مسودة قانون لحماية الأطفال، عام 1815، أعلن فرانسيس هورنر (النجم المنير lumen في «لجنة السبائك»، وصديق ریکاردو الحميم) في مجلس العموم قائلا: «يعرف الجميع أنه جرى مؤخراً عرض زمرة، إن جاز استخدام هذه الكلمة، من هؤلاء الأطفال للبيع سوية مع الممتلكات المنقولة لأحد المفلسين، وبيعت بالمزاد العلني كجزء من ممتلكاته. وقبل عامين، (في 1813) أحیلت قضية بالغة الشناعة أمام محكمة الجزاء الملكية، تدور عن عدد من هؤلاء الفتيان، الذين اعطتهم إحدى الأبرشيات للعمل كمتمرنين عند صناعي من لندن، تنازل عن الفتيان لصناعي آخر، ثم وجدهم بعض الأخيار على شفا المجاعة التامة (absolute famine). واطلع على قضية أفظع من هذه عندما كان يعمل في لجنة تحقيق برلمانية … فقبل سنوات قلائل، ابرمت ابرشية من أبرشيات لندن اتفاقا مع صناعي من لانکشایر تعهد فيها بأخذ طفل معتوه مع كل عشرين طفلا سليما».
(*5) معاهدة اسینتو: اتفاقات أبرمت في القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، محضت إسبانيا بموجبها حقوقاً للدول والأشخاص الأجانب لبيع الزنوج العبيد في مستعمراتها الأميركية. [ن. برلین].
(*6) شاعر مداح. [ن. ع].
(12) في عام 1790، كان هناك عشرة عبيد أرقاء، مقابل رجل حر واحد في الهند الغربية الإنكليزية، و14 عبداً رقيقاً مقابل حر واحد في الهند الغربية الفرنسية، و23 مقابل واحد في الهند الغربية الهولندية. (هنري بروهام، بحث في السياسة الاستعمارية للقوى الأوروبية، إدنبره، 1803.Henry Brougham, An Inquiry into the Colonial Policy of the European Powers, Edinburgh, 1803, V. II, p. 74).

(*7) (Tantae molis erat) عبارة من شعر فیرجل، تنص: «کبير هو الجهد الذي اقتضاه تأسیس عرق الرومان». الأنيادة Aeneis، الكتاب الأول، البيت 33. [ن. برلین].
(13) نجد أن عبارة «الفقراء العاملون» (labouring poor) ترد في القوانين الإنكليزية منذ أن اكتسبت طبقة العمال المأجورين أعداداً تلفت الانتباه. ويستخدم هذا التعبير تمييزاً له عن «الفقراء المتعطلين» ((idle poor والشحاذين ومن إليهم، من جهة، وتمييزاً له عن الطير الذي لم ينتف ریشه بعد، أي الشغيلة، الذين لا يزالون مالکین بعد، لوسائل العمل الخاصة بهم، من جهة أخرى. وانتقل تعبير (labouring poor) من دفاتر القانون إلى الاقتصاد السياسي، وقد أورثه کولبيبر، وج. تشايلد، إلخ، إلى آدم سميث وإيدن. بعد هذا يمكن للمرء أن يحكم على حسن نية (bonne foi) إدموند بورك هذا المنافق السياسي البغيض، (execrable political cantmonger)، الذي وصف تعبير «الفقراء العاملون» (labouring poor) بانه «نفاق سياسي بغيض. إن هذا المتملق الذليل، الذي قام بدور الرومانسي المناهض للثورة الفرنسية، لحساب الطغمة المالية الإنكليزية التي كانت تدفع له، مثلما قام بدور الليبرالي المناهض للطغمة الإنكليزية، لحساب المستعمرات الأميركية الشمالية التي كانت تدفع له، أيام بدء الاضطرابات في أميركا. أما في الواقع فقد كان بورجوازياً مبتذلا تماما. إن قوانين التجارة هي قوانين الطبيعة وبالتالي فهي «قوانين الرب». إدموند بورك، [أفكار وتفاصيل عن الشحّة]. لا عجب إذن، وهو الوفي لقوانين الرب والطبيعة، أن يبيع نفسه دوماً في أفضل الأسواق! ومن الممكن أن نجد صورة جيدة عن الإدموند بورك هذا، أيام عهده الليبرالي، في كتابات تاکر. لقد كان تاکر کاهناً وعضوا في حزب المحافظين (التوري)، وفيما عدا ذلك كان رجلا جديراً بالاحترام، واقتصادياً بارعاً. وإزاء اللامبدئية الشائنة التي تسود في زمننا هذا، وتؤمن إيمانا مبجلاً بـ “قوانین التجارة”، فإن واجبنا الملزم يقضي بأن نسم بميسم العار، من دون كلل، جميع الذين من طراز بورك، الذين يشبهون أخلاقهم بكل شيء عدا الموهبة!
(14) ماري أوجييه، الائتمان العمومي، [باريس، 1842، ص 265].
(15) تقول مجلة كوارترلي ريفيووار Quarterly Reviewer)) «إن رأس المال يتحاشى الضجة والمنازعات، فهو يتسم بالوجل، وهذا القول صحيح لكنه لا يعرض الحقيقة كلها. إن رأس المال يرتعب من انعدام الربح، أو الربح الضئيل جداً، مثلما قالوا فيما مضى إن الطبيعة تمقت الفراغ. وإن ربحاً مناسباً يجعل رأس المال جريئاً، و10 في المئة تدفعه لأن يعمل في أي مجال، و20 في المئة تزيد اندفاعه وتوقه، و50 في المئة تجعله طائشاً متهوراً، و100 في المئة تجعله يدوس بالأقدام كل القوانين البشرية، وعند 300 في المئة لن يتورع عن ارتكاب أية جريمة، أو خوض أية مخاطرة، حتى لو عرضت مالكه إلى حبل المشنقة، وإذا كانت الضجة والمنازعات تأتيه بالربح، راح يشجعها جميعا عن طيب خاطر. وقد قدم التهريب وتجارة العبيد البرهان على كل ما نقول هنا». (ت. ج. داننغ، المرجع المذكور، ص 35- 36).