الانتهاكات المضاعفة للحريات


نهاد ابو غوش
2021 / 9 / 3 - 23:42     

الحرية والكرامة مبدآن متلازمان ومقترنان، نصت عليهما الأديان والشرائع المختلفة، واكدت عليهما الدساتير والقوانين والمواثيق والمعاهدات الدولية، وورد ذكرهما بوصفهما قيمتين أصيلتين، غير ممنوحنين من أحد، بل يكتبسهما الإنسان لمجرد ولادته، وقد نص عليهما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في غير مكان، متلازمين أو منفصلين، وأفرد بنودا لشرحهما وتفاصيل انطباقهما مثل منع استرقاق الإنسان أو استعباده، والنص على حرية الرأي والتعبير، وحرية مغادرة الوطن والعودة إليه، ونصت المادة الأولى للإعلان على أن جميع الناس يولدون أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضا بروح الإخاء ، كما ربط الإعلان الحق بالحرية بالحق في الحياة حيث " لكل فرد الحق في الحرية وفي الحياة وفي الأمان على شخصه".
في بلادنا التي نكبت بالاستعمار والاحتلال لقرون متتالية، غابت قيمة الحرية طويلا شعوبنا ومجتمعاتنا وحتى عن ثقافة الأفراد والجماعات التي ظلت متاثرة ليس بالاستعمار الأجنبي فحسب، بل بثقافة عصور الإقطاع والعبودية التي أبقت "الحرية" في الممارسة حكرا على السادة وكبار الملاك، لكن قيمة الحرية بوصفها قيمة إنسانية خالدة ظلت تراود البشر والفئات الطليعية المتنورة منها بشكل خاص تاثرا بما رسخته الأديان والثقافات وتجارب البشر من مثل إنسانية خالدة.
تحقيق الاستقلال الوطني عن الاستعمار لم يوفر الحرية للطامحين بها، فالنظم والطغم العائلية والعسكرية التي حكمت واستبدت بالشعوب مارست كل الوان القهر والاستبداد والقمع والاضطهاد دفاعا عن مصالح الفئات الحاكمة، وللحيلولة دون أن تقود الحرية إلى وعي الظلم وتحرك المظلومين، فكان أن استبدل الاضطهاد الأجنبي المستعمر باضطهاد من ابناء الشعب والدين والجلدة، حتى الحريات التي تيسرت بشكل متقطع في هذا البلد أو ذاك، ظلت حرية مجزوءة، تكاد تقتصر على المكانة القانونية للفرد باعتباره "حرا" وليس عبدا أو مملوكان لكن واقع المعيشة القاسية اضطر ملايين البشر لبيع حريتهم الحقيقية، سواء من خلال بيع قوة عملهم في سوق العمل، أو بملاحقة لقمة العيش العزيزة والصعبة التي تجعل من ممارسة الحريات والتمتع بها ترفا لا يتاح إلا للموسرين والقادرين.
في الحالة الفلسطينية توجد انتهاكات مركبة للحرية من الاحتلال والسلطة وحتى من المجتمع والثقافة السائدة الموروثة من عهود الإقطاع، صادر الاحتلال كل أنواع الحريات، لكن النضال الوطني بحد ذاته خلق مناخات واسعة لممارسة الحرية بالفعل، من خلال امتلاك إرادة الثورة والقتال وغرادة التغيير، المشكلة أن هذه الحريات انتكست بعد قيام السلطة الفلسطينية، وكذلك سلطة الأمر الواقع التي فرضتها حماس في قطاع غزة، حيث كان نموذج النظام العربي التقليدي القائم على الفئوية والمحسوبية والواسطة وغياب قيم الديمقراطية والنزاهة والشفافية والمساءلة، وهكذا أعادت السلطة استنساخ ذات النظام العربي الاستبدادي الذي كان وجوده هو سبب الهزائم والنكبات وخاصة نكبة فلسطين الكبرى، فهيمنة السلطة التنفيذية وغياب السلطة التشريعية والتعدي على السلطة القضائية، وعدم إجراء الانتخابات العامة في مواعيدها، كل ذلك ادى إلى تراجع حاد في مستوى الحريات، يضاف إلى ذلك سطوة الأجهزة الأمنية، وتفشي الفساد في مؤسسات الإدارة ومحاولة تعميم ثقافة الطاعة والولاء والخنوع بديلا عن ثقافة الراي الحر.
من البديهي القول أن الحرية لا يمكن انتزاعها من الاحتلال من دون نضال الأحرار، فالشخصية الطيعة الخانعة الذليلة التي تسهم ممارسات السلطة ووسائل الإعلام والثقافة السائدة في إنتاجها، هي الشخصية الأكثر ملاءمة لسلطة فردية غير ديمقراطية لكنها في الوقت نفسه شخصية لا يمكنها أن تسهم في التحرر من الاحتلال.