اقتصاد قطاع غزة ومجابهة الانقسام والحصار صوب الوحدة الوطنية والديمقراطية والتنمية....


غازي الصوراني
2021 / 9 / 2 - 22:32     



ليس من المبالغة القول إن "الاقتصاد " الفلسطيني – خاصة في ظروف الانقسام والحصار- بات أكثر ضعفا وانكماشا مما كان عليه من قبل وخاصة في قطاع غزة، الأمر الذي أدى إلى تغييب الوضوح أو التأكيد بالنسبة للمستقبل على الصعيد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي معا، نتيجة للدور الإسرائيلي – الأمريكي على وجه التحديد، ولكننا على ثقة من أن إعادة بناء العلاقات الداخلية الفلسطينية واستعادة وحدة النظام السياسي الفلسطيني التعددي، والتغلب على افة الانقسام الخطير وفق ثوابتنا الوطنية والمجتمعية، وبإرادة وطنية تقوم على المشاركة والتعددية فإننا سنملك بالتأكيد القدرة على تحديد معالم مستقبلنا بوضوح، بدل تكريس انفصال قطاع غزة اقتصادياً وسياسياً عن جناحه الرئيسي في الضفة الفلسطينية التي يعمل تحالف العدو الإسرائيلي الأمريكي على ترك مستقبلها غامضاً بما يعني المزيد من تفكك وتراجع المشروع الوطني التحرري الديمقراطي الفلسطيني، وهي الغاية الأساسية لدولة العدو الصهيوني التي تستهدف التبديد السياسي للفلسطينيين، بعد أن بات قيام دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة نوعاً من الوهم.
صحيح أننا نقر بمسؤولية العدو الصهيوني وحصاره وعدوانه المستمرين، كسبب أساسي من أسباب التراجع والتدهور الاقتصادي إلا أن ذلك لا يعني إغفالنا لدور الانقسام والصراع على المصالح الطبقية والفئوية لحركتي فتح وحماس، ولدور الممارسات والسياسات الداخلية من قبل حكومة السلطة في رام الله، و"حكومة" حماس في غزة طوال الـ14عاماً الماضية ، التي عمقّت مظاهر الخلل والهبوط والانحطاط والتفكك السياسي والمجتمعي ، إلى جانب التراجع في كافة القطاعات الإنتاجية وغير الإنتاجية في القطاعين الخاص والعام على حد سواء، بما يستدعي العمل الجاد لخلق ومواصلة حالة جماهيرية شعبية ضاغطة لإنهاء الانقسام واستعادة مقومات الوحدة الوطنية ، بما يمكننا من تفعيل العملية التغييرية الديمقراطية الداخلية التي يجب أن يرتكز محورها أو جانبها الاقتصادي، على المفاهيم والخطوط العامة للاستراتيجية التنموية التي يجب العمل على بلورتها وتبنيها للخروج من هذا المأزق الحاضر إلى المستقبل، وذلك لتحقيق هدفين :
الأول: إيجاد إطار مفهومي يوضح الأولويات الاقتصادية الفلسطينية وفق اسس اقتصاد التقشف.
الثاني: تعريف ماهية المراحل المتعاقبة التي من خلالها يمكن تحقيق الأهداف التنموية بأسلوب تدريجي.
على أن ندرك أن الإطار المطلوب ما بعد إنهاء الانقسام "يجب أن يقوم على أساس توفر شروط التطور الذاتية والموضوعية للاقتصاد الفلسطيني، وأن يتجه صوب تحقيق الطموحات الفلسطينية الوطنية، آخذين بعين الاعتبار دروس التنمية الهامة في بلدان أخرى من جهة، وبوضوح الأهداف ذات الصلة بالموضوع، لتطوير رؤية تنموية فلسطينية تسلط الضوء على أهداف واحتياجات الجماهير الشعبية الفقيرة، عبر دور مركزي للسلطة من جهة، وللقطاعين الخاص والعام من جهة ثانية.
وفي الحالة الفلسطينية الراهنة، فإن هذه المتطلبات لا تتوفر بسبب الانقسام، وحتى ولو تمكنت السلطة الفلسطينية من توفير بعضها، إلا أن افتقارها للسيادة هو أكثر ما يعيقها عن تحقيق تنمية اقتصادية نشطة ومستدامة، لأنها تفتقر إلى السيطرة على مواردها الذاتية وعلى حدودها المادية، وعلى أمنها الداخلي والخارجي، وعلى سكانها وعلى حركة الدخول والخروج من الأراضي الفلسطينية.
وفي هذا الصدد، أشير إلى أن استمرار افتقار السلطة الفلسطينية لعوامل السيادة والسيطرة على مواردها، إلى جانب استمرار تراكم مظاهر وعوامل الركود والكساد الاقتصادي في قطاع غزة المرتبطة بالحصار واستمرار الانقسام، لا يعني سوى مزيدٍ من التدهور الخطير ليس في مكونات الاوضاع الاقتصادية في قطاع غزة فحسب، بل أيضاً ستؤدي إلى مزيد من التفكك السياسي والاجتماعي (الشباب والمرأة والأطفال وتزايد البطالة وما يؤدي إليه من توليد وانتشار الجريمة بأنواعها في قطاع غزة) الأمر الذي يؤكد على أن قطاع غزة لا مستقبل له سياسياً واقتصادياً واجتماعياً إلا بالارتباط السياسي والاقتصادي والاجتماعي مع الضفة الغربية المحتلة في إطار نظام سياسي فلسطيني وطني وديمقراطي يلتزم بكل مواثيق ومقررات م.ت.ف. ، إلى جانب التزامه بنصوص القانون الأساسي من جهة والالتزام بالمنطلقات الأساسية للاقتصاد الفلسطيني كما تحددت في القانون من جهة ثانية.
فعلى الرغم من وجود تحديات اقتصادية واجتماعية كبيرة: البطالة، والفقر وفجوة الموارد المحلية، واختلالات هيكلية جذرية وجوهرية في الاقتصاد وسوق العمل المجزأ والمفتت بين الضفة الغربية وقطاع غزة وإرث الاحتلال الثقيل، إلا أن المُشَرِع الفلسطيني قد سارع إلى إقرار منهج اقتصاد السوق الحر، وتحقيق التنمية الاقتصادية وفق ذلك المنهج دون تقدير أو دراسة لإمكانيات التطبيق للرؤية التنموية، فقد حدد القانون الأساسي منهج الاقتصاد الحر حسب المادة (21) التي نصت على أن: النظام الاقتصادي في الضفة والقطاع يقوم على أساس مبادئ وآليات الاقتصاد الحر على الرغم من المعوقات الخارجية والداخلية التي تمنع هذه الآليات من الانتشار والتطور واستغلال الموارد والاستثمار وتحقيق الكفاءة الاقتصادية، وتحول دون تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية التي تلبي الاحتياجات الاساسية للفقراء.
وفي كل الأحوال، فإن اقتصاد السوق –وفق آلياته الرأسمالية – يعجز عن تحقيق الكفاءة في تخصيص الموارد او تنمية الموارد او كليهما، ناهيك عن تحقيق العدالة الاجتماعية، هذا فضلاً عن أن الأسواق في بلادنا (فلسطين والوطن العربي) كما هو الحال فيما يسمى بدول العالم الثالث أو الرابع الفقيرة والمتخلفة غالباً ما تكون الأسواق ذاتها متخلفة او مجزأة ومبعثرة، او حتى قد تكون غائبة في بعض المجالات –كما يقول د. ابراهيم العيسوي- ومن ثم لا يجوز الاعتماد عليها كالية رئيسية لادراة الموارد.
وهنا تكمن أهمية عدم الاستغناء عن التخطيط وتدخل الدولة في السعي لتحقيق التنمية، خاصة وأن اقتصاد السوق لا يلقى بالاً إلى الاعتبارات غير الاقتصادية وحتى في هذه الحدود فانه لا يتعامل سوى مع مؤشرات الربحية الخاصة، الأمر الذي يفرض العمل على ايجاد البديل أو النموذج التنموي الذي يضمن تحقيق العدالة الاجتماعية للخروج ليس من أزمة الاقتصاد فحسب، بل أيضاً الخروج من أزمة المجتمع الفلسطيني بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والتنموية... إلخ، وفق قواعد الديمقراطية والمشاركة الشعبية، وذلك من خلال تطبيق العناصر الرئيسية التالية للنموذج أو البديل المقترح:
العنصر الأول: إن للدولة، ولسياساتها المتناسقة من خلال التخطيط، دوراً حاسماً وحاكماً في نجاح التنمية. والدولة المعنية هنا ليست دولة البيروقراط، ولا الدولة التسلطية الشمولية، ولا الدولة التي يتحكم في مقاديرها الأغنياء، بل هي دولة الديمقراطية والمشاركة الشعبية والعدالة الاجتماعية.
العنصر الثاني: إحداث زيادة كبيرة في معدل الادخار المحلي كشرط لازم للتنمية السريعة والمطردة، فضلاً عن ضرورته لاستقلالية التنمية وتقوية الاعتماد على القوى الذاتية والوقاية من التبعية، وفي هذا النموذج التنموي البديل يقع على الدولة واجب أساسي وهو ضبط الاستهلاك والاستيراد من أجل رفع معدل الادخار المحلي.
العنصر الثالث: المشاركة الديمقراطية والتوزيع العادل للثروة والدخل كمبادئ ومنطلقات وآليات أساسية للتطور الاقتصادي التنموي بين قطاع غزة والضفة الغربية ، لكن الانقسام الكارثي –الذي مضى عليه حوالي 12 عاماً – أدى ليس إلى تدمير التجربة الديمقراطية فحسب، بل أيضاً عزز وكرس الكثير من مظاهر الاستبداد والفساد والاستغلال الطبقي وغياب العدالة الاجتماعية.
العنصر الرابع: التعاون فيما بين السلطة أو الدولة الفلسطينية مع الدول العربية في إطار الاتفاقات الاقتصادية الصادرة عن الجامعة العربية ، أو في إطار الاتفاقات الثنائية مع بعض الدول العربية وبعض الدول النامية والمنظمات الدولية بهدف تذليل الكثير من مصاعب التنمية الفلسطينية، وإمكانية تقديم المساعدات والخبرات الممكنة.
وأخيراً فإن التأكيد على دور الدولة ودور التخطيط في إحداث التنمية الشاملة لا يعني إن النموذج البديل يناهض القطاع الخاص ولا يعني أيضاً أنه يستبعد آليات السوق كلياً. فثمة مجال للمزج بين دور القطاع العام ودور القطاع الخاص ودور القطاع التعاوني، كما أن ثمة مجالاً للجمع بين آليات التخطيط وآليات السوق، وأن تكون الآلية الرئيسية للتنسيق بين القرارات هي التخطيط والآلية المساعدة هي قوى السوق.
لذلك إن تحقيق بعض أهداف التنمية، تتطلب منا المطالبة بتعديل المادة (21) من القانون الأساسي بحيث تصبح كما يلي: يقوم النظام الاقتصادي في فلسطين على أساس مبادئ الاقتصاد المختلط والتخطيط الذي يضمن تدخل الدولة وملكيتها لوسائل الإنتاج الرئيسية بما يضمن تطبيق مبادئ العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص والضمان الاجتماعي والربط بين مبدأ الاقتصاد الحر ومبدأ التوازن الاجتماعي، أسوة بالبلدان الرأسمالية التي تخلت عن الهيمنة المطلقة لمبادئ الاقتصاد الحر وربطت بينها وبين مبادئ العدالة الاجتماعية والضمانات الاجتماعية والصحية.
وفي هذا الجانب، أشير إلى نجاح المنظمات الدولية، خاصة البنك الدولي في نشر وتثبيت مفاهيم ملتبسة وغير علمية للتنمية، ولا تلبي متطلبات التطور الاقتصادي بالمعنى التنموي الحقيقي في مواجهة التخلف والتبعية، ومن تلك المفاهيم على سبيل المثال: الحوكمة و التنمية المستدامة و الانعتاقية والسلام الاقتصادي ... إلخ، وهي مفاهيم منبثقة من الفكر الليبرالي الذي يستهدف تكريس عملية التطبيع والاعتراف بالعدو الصهيوني، وقد نجحت تلك المنظمات الدولية بالتعاون مع بعض منظمات NGO s بتعميم تلك المسميات أو الشعارات الفارغة من محتواها الوطني، ارتباطاً بمفاهيم التنمية الرثة أو اللا تنمية كما عبرت عنه الباحثة الأمريكية سارة روي التي أدرجت في عملها المرجعي عن قطاع غزة مفهومها للاتنمية، بقولها : "إن مصطلح اللاتنمية يعني بصورة أساسية "التفكيك المنهجي والمنظّم لاقتصاد السكان الأصليين على يد قوة مسيطرة"، وذلك بهدف تجريد الفلسطينيين من مواردهم ومن أي وسيلة من شأنها أن تتيح لهم "إنشاء قاعدة اقتصادية لدعم وجود مستقل في أرضهم .
وإحدى الفرضيات الأساسية في تحليل روي هي وجود كيانَين وطنيين سياسيين متمايزَين، وليس فقط اقتصادَين، داخل المساحة الجغرافية نفسها من النهر والبحر، حيث يعمل الجانب الإسرائيلي على تجريد الفلسطينيين من حقوقهم.
وتُعرِّف روي مضمون اللاتنمية بأنه عملية تفكيك البناء، والتي بسببها تتوقف التنمية، ويتعثّر تراكم الرساميل، ولا يحدث أي تحوّل بنيوي، ويُمنَع التفاعل بين القطاعات المحلية )الزراعة والصناعة والطلب المحلي والإنتاج المحلي(.
ففي نظر الباحثة سارة روي، "لم تكن اللاتنمية جزءاً من مخطط مدروس، وهي لم تحدث عرَضاً، وإنما كانت نتيجة السياسات الرسمية التي هدفت إلى إحكام القبضة العسكرية والسياسية والاقتصادية على قطاع غزة والضفة الغربية، وحماية المصالح الوطنية الإسرائيلية" "( (.
فضلاً عمّا سبق، فإن التنمية كمفهوم تحرري ومقاوم تتعارض جوهرياً مع الانقسام وتفرد حماس بمثل ما تتعارض مع التحولات السلطوية القمعية في قطاع غزة والضفة الغربية.
وهنا لابد من أن نواجه أنفسنا بالسؤال التالي: عن أي تنمية نتحدث؟.لا شك أن الحديث عن التنمية (كمشروع حضاري اقتصادي وثقافي واجتماعي) في الأراضي الفلسطينية هو حديث أقرب إلى الوهم في ظل العلاقات الرأسمالية الرثة والمصالح الطبقية للتحالف البيروقراطي الكمبرادوري المهيمن في كل من الضفة وقطاع غزة من ناحية، وطالما بقي الانقسام والصراع على المصالح الفئوية بين حركتي فتح وحماس قائماً من ناحية ثانية، الأمر الذي يعني بوضوح استحالة الوصول إلى أوضاع اقتصادية تنموية موحدة ومتكاملة وقابلة للنمو والتطور، بمثل ما يعني أيضاً استحالة تحقيق أي إجراءات إصلاحية جذرية في بنية الاقتصاد الفلسطيني في الضفة والقطاع تسهم في تطوير قطاعات الإنتاج (الزراعة والصناعة) والقطاعات الاقتصادية الأخرى.
المعلومات المتوافرة لتفسير خصوصية، إن لم يكن فشل التنمية الاقتصادية الفلسطينية –كما تقول د.ليلى فرسخ- "تختلف في تصوّرها للصهيونية، فالخطاب النيوليبرالي الذي تبنّته السلطة الفلسطينية، والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، والمؤسسات الاقتصادية الدولية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي اللذان كانا يقدّمان المشورة إلى السلطة الفلسطينية ويؤمّنان لها الضمانة المادية يميل إلى التركيز على منطق السوق وما يستطيع الفلسطينيون أن يفعلوه لأنفسهم من أجل تحسين أوضاعهم الاقتصادية.
وقد تعرض هذا الخطاب للتحدي من جانب خبراء الاقتصاد السياسي الذين يركّزون على الاستعمار ويستخدمونه إطاراً تحليلياً لفهم الأوضاع و"الخيارات" الاقتصادية الفلسطينية.
وفي الواقع، "فإن الجزء الأكبر من الكتابات والأبحاث الاقتصادية التي تمحورت حول التنمية الاقتصادية الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة منذ سنة 1993 ، يتجنّب الإشارة إلى أن الأراضي المحتلة تعيش في ظل نظام استعماري، بل دخل النموذج الاستعماري غياهب النسيان في الخطاب الرسمي للسلطة .
وقد دفع اتفاق "أوسلو" بكثيرين إلى التغاضي عن الواقع الاستعماري للصهيونية بوهم تطبيق حل الدولتين، انطلاقاً من قناعتهم أن اتفاق أوسلو أعاد تأطير الصراع –من وجهة نظرهم- بأنه بين مجموعتين وطنيتين متساويتين، مع التعتيم على التفاوت في القوة بين الجانبَين، وأصبح مصطلح التعاون، لا الاستعمار، المفهوم المهيمن في الخطاب السياسي والأكاديمي، "وأصبح إرساء اقتصاد حيوي قادر على مؤازرة دولة فلسطينية قابلة للحياة، هدف التنمية الفلسطينية ومغزاها في عيون كل من السلطة الفلسطينية والمؤسسات المالية الدولية التي تقدّم لها الدعم والاستشارة، أي البنك الدولي ولجان الارتباط الخاصة.
لقد اكتفى النموذج النيوليبرالي في خطاب الوكالات الدولية والسلطة الفلسطينية بنقد سياسة الاحتلال، ولم يتطرق إلى البنية الصهيونية الاقتصادية والسياسية لإسرائيل، كما أنه يعزل الاقتصاد الفلسطيني عن علاقته البنيوية بالاقتصاد الإسرائيلي.
ومن دون التقليل من أهمية دور الفرد في تقرير مصيره واختياراته، أو مقاربة "القدرة على الإنجاز" التي تنتهجها السلطة الوطنية الفلسطينية، فإن الأجندة النيوليبرالية التي تتقيد بها السلطة الوطنية الفلسطينية، تقتلع الصراع وأسباب الاستبداد الذي يعيشه الفلسطينيون من السياق التاريخي، الأمر الذي يطرح مشكلة من وجهة النظر الاقتصادية لأنه لا يمكن تقديم شرح وافٍ عن أسباب إخفاق المسعى الفلسطيني لتحقيق الاستقلالية الاقتصادية والسياسية من دون اعتبار الاحتلال امتداداً للصهيونية.
وهكذا، -كما تستطرد ليلى فرسخ- "تستوعب الرؤية الاقتصادية للسلطة الفلسطينية الاحتلال بدلاً من تحدّيه بطريقة فاعلة، والأخطر من ذلك، هو أن الأجندة النيوليبرالية يمكن أن تؤدي إلى نزع الطابع السياسي عن النضال الفلسطيني.
فالمقايضة التي يقترحها السلام الاقتصادي تعني أن يستدفئ كيان فلسطيني يشبه دولة بالنمو الاقتصادي الإسرائيلي، لا بل أن ينعم ببعض النمو أيضاً، لكن في المقابل، سيتوجب عليه تأجيل أو التخلي فعلاً عن النضال في سبيل الحقوق الوطنية الفلسطينية.
نخلص من كل ما تقدم ، إلى أن كل حديث عن الاستقلال السياسي والاقتصادي وفق أوهام أوسلو وبروتوكول باريس، ليس سوى تكريساً لمخططات وشروط دولة العدو الصهيوني، ما يعني أن تحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي يستحيل بلورته دون مقاومة الاستعمار الصهيوني بكل الأشكال الشعبية والكفاحية خاصة في الضفة الغربية.
وبالتالي فإن الحديث عن استعادة وحدة الاقتصاد للضفة الغربية وقطاع غزة في إطار وحدة النظام السياسي الفلسطيني كهدف مركزي يسدل الستار على الانقسام الراهن ويدفنه إلى الأبد، بما يضمن تحقيق وتنفيذ حزمة من التغييرات الأساسية في النظام السياسي والأطر المؤسسية، بمثل ما يحقق أيضاً كافة الإمكانات لتطبيق القوانين التي تضمن تأمين المصالح الاقتصادية المحلية والمغتربة (المستثمرين) وتوفير الإيرادات (ضريبة الدخل والمقاصة والرسوم بأنواعها)، وبالتالي توفير فرص الاستقرار التي تتيح التطبيق الأمثل للقوانين من ناحية، ومتابعة القضايا الاقتصادية والتنموية من ناحية ثانية، بما يُمَكِّن من ضمان الأسس الكفيلة بتحقيق مبدأ الشفافية والكفاءة والديمقراطية كقاعدة أولية لهذا النظام، بما يؤهله كنظام سياسي وطني ديمقراطي فلسطيني من صياغة رؤية سياسية اقتصادية، بعيداً عن الوصفات والشروط الخارجية الضارة باقتصادنا ومستقبلنا السياسي.
وبالتالي فإن فكرة الإصلاح السياسي- الاجتماعي – الاقتصادي الشامل هو الهدف المركزي الذي يجب أن تتضافر كافة جهود القوى والفعاليات الوطنية من أجل العمل على بلورته – ارتباطاً بإنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة الوطنية- كإطار ناظم لمجتمعنا الفلسطيني في هذه المرحلة الدقيقة، بما يؤكد على الالتزام بثوابتنا الوطنية وتحقيق أهداف شعبنا في الاستقلال والدولة كاملة السيادة على أرضنا المحتلة.
وفي هذا السياق يأتي الحديث عن الإصلاح الاقتصادي كواحد من أهم العوامل أو الركائز المطلوبة لعملية الإصلاح الشامل والتنمية المنشودة.
لكن الحديث عن الإصلاح وبالتالي التخطيط والتنمية في بلادنا قد يبدو مفارقة أو ثنائية متناقضة في ضوء واقعنا المنقسم الراهن الذي تكاد أن تكون فيه كافة السبل مغلقة في معظمها أمام التخطيط والتنمية – باعتبارهما أحد أهم ركائز الإصلاح الاقتصادي- وذلك بتأثير عاملين أساسيين ينفصل أحدهما عن الآخر:
العامل الأول: فبسبب الاحتلال الإسرائيلي وطبيعته العنصرية واستراتيجيته النقيضة لمبادئ الشرعية الدولية والسلام العادل، يتعرض شعبنا لأشكال من المعاناة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في ظل الحصار والعدوان والاضطهاد، تتجلى في العديد من الممارسات والمظاهر: غياب السيادة السياسية والاقتصادية/الضغوط الإسرائيلية على العمالة والاستيراد والتصدير وحرية الحركة والتنقل والتصاريح والإذلال والتحكم في المعابر/ وتجزئة الأرض إلى وحدات سكانية وجغرافية مغلقة، محاصرة بالمستوطنات، والجدار العازل، إلى جانب الحصار الاقتصادي المستند إلى الوحدة الجمركية والتبعية الاقتصادية الكاملة للاقتصاد الإسرائيلي كما حددها بروتوكول باريس، بحيث أصبح اقتصادنا رهينة للاقتصاد الإسرائيلي وآلياته وشروطه.
العامل الثاني: أوضاعنا الداخلية المتردية بسبب الانقسام التي أصبح تشخيصها واضحاً لكل الناس، غياب هيبة القانون والنظام/غياب تطبيق النظام الدستوري/ التداخل بين السلطات/ الفوضى ومظاهر الفساد في الضفة والقطاع / والإثراء غير المشروع/ وتفاقم مظاهر الفقر والفقر المدقع والبطالة في قطاع غزة / تنامي قطاع الخدمات/ تراجع قطاعي الزراعة والصناعة/ تراجع نسبة النمو وغياب السياسة الاقتصادية الواضحة المحددة المعالم، وهي أوضاع أسهمت في تراكم وتعميق عوامل الإحباط واليأس في صفوف أبناء شعبنا عموماً وفي قطاع غزة بشكل خاص.
لذلك فإن الحديث عن التنمية في الضفة الغربية وقطاع غزة سيظل دون أي معنى أو أي أفق مستقبلي طالما استمر الانقسام والصراع على المصالح الفئوية الضارة بين فتح وحماس قائماً، ما يعني أن إنهاء هذا الانقسام الكارثي وتحقيق المصالحة وفق الوثائق التي تم الاتفاق عليها خاصة اتفاقيتي القاهرة 2011 و 2017 ، وعند ذلك يمكن استعادة وحدتنا الوطنية بكل معانيها وابعادها السياسية والاقتصادية والمجتمعية بما يمكننا عندئذ من توفير المناخ المطلوب للتنمية الفلسطينية في الضفة والقطاع.
ويبقى السؤال.. عن أي تنمية نتحدث ولماذا التنمية ؟
إن التنمية التي نتحدث عنها، هي تنمية نقيضة لمفاهيم الاقتصاد الرأسمالي وآلياته، خاصة في بلادنا وبلدان العالم الثالث التي لن تتمكن من الخروج من مأزقها الراهن وأزماتها المتراكمة وفق منهجية وآليات الليبرالية الجديدة أو النظام الرأسمالي، الذي بدوره لن يسمح لهذه البلدان بأي شكل من أشكال التطور إلا في ظل بقاء هذه البلدان أسيرة وتابعة للنظام الرأسمالي وخاضعة لشروطه.
وفي هذا السياق، فإن من المفيد مراجعة تاريخ تطور بلدان العالم الثالث والبلدان العربية، في مرحلة الستينات من القرن العشرين أو ما كان يسمى آنذاك بمرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية – لأخذ العبر والدروس -، حيث شهدت تلك البلدان تجربة غير اعتيادية في مجال التنمية والتطور الصناعي والزراعي، أثمرت تقدما في العديد من القطاعات الإنتاجية والاجتماعية، إلا أن هذا التقدم، أو الإنجاز المتحقق، اتسم بطابعه الكمي والأحادي المرتبط في قراره ومساره بالقيادة الوطنية آنذاك، وطابعها الفردي المركزي شبه المطلق من ناحية، وبالرؤية الوسطية الأيديولوجية والسياسية والاقتصادية لهذه القيادة، التي عجزت عن الوصول إلى الجماهير الشعبية والاعتماد عليها كقاعدة أساسية لنظامها، نظرا لفشلها في بناء ومأسسة الأطر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية من ناحية، وفشلها في بناء الاطر السياسية والمجتمعية المعبرة عن مصالح تلك الجماهير، التي غاب دورها ولم يسمح لها بالمشاركة أو التعبير عن مصالحها من ناحية ثانية، وقد أدى ذلك الوضع إلى إفساح المجال لتنامي الدور الانتهازي الطفيلي للشرائح البرجوازية الكومبرادورية والعقارية والطفيلية بأنواعها في إطار البيروقراطية الحاكمة، واستفرادها في التحكم بكافة أجهزة الدولة ومؤسساتها، الأمر الذي أدى إلى انهيار منجزات "الثورة الوطنية الديمقراطية" فور غياب الزعيم او القائد الفرد.
ولذلك لم يكن مستغربا انهيار تلك التجربة الوطنية والتنموية، بعد أن تعرضت لسلسلة من الأزمات السياسية والاقتصادية، كان من أهم نتائجها إعادة إنتاج علاقات التبعية مع بلدان النظام الرأسمالي، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، وهي علاقات لم تنقطع تماما في المرحلة السابقة، إلى جانب تفاقم الأزمات الاقتصادية الداخلية التي عبرت عن الفشل في استكمال مهام مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، وتفاقم تبعية هذه البلدان وانكشافها وضعف وتراجع اقتصادها وتراكم ديونها، بعد انهيار قاعدتها الإنتاجية في القطاع العام بالذات، لحساب مصالح الشرائح الطبقية الطفيلية "الجديدة" المتنامية، البيروقراطية والكومبرادورية والعقارية وغيرها، الأمر الذي أدى إلى فقدان هذه البلدان لقدراتها في السيطرة الكاملة على مواردها وثرواتها الطبيعية والاقتصادية، واستفحال مظاهر الفساد والتضخم والغلاء والإفقار للسواد الأعظم من سكانها عموماً، والطبقات والشرائح الفقيرة الكادحة والمضطهدة خصوصاً، وبالتالي البروز الحاد لمأزق التنمية فيها، معلناً بوضوح أن لا إمكانية للخروج من هذا المأزق إلا وفق منهجية وبرنامج وأيديولوجية نقيضة لمنهجية النظام الرأسمالي وبرنامجه وأيديولوجيته، ونقصد بذلك النظام الاشتراكي الذي لا تملك شعوبنا، وشعوب العالم الثالث، خيارا آخر سواه.
على ضوء ما تقدم، فإن التنمية التي نتطلع إلى تطبيقها في بلادنا لا علاقة لها بمعدلات النمو الحسابي في الناتج الإجمالي، بل بمدى إسهامها في تحقيق التقدم في عدد مهم من مجالات الحياة الإنسانية، وبالذات في مجال اشباع الحاجات الاساسية للفقراء ومحدودي الدخل بما يضمن تحسين مستوى معيشتهم.
ولذلك من المهم التمييز بين النمو الاقتصادي والتنمية، فالنمو الاقتصادي يشير إلى مجرد الزيادة الكمية في متوسطه الدخل الفردي الحقيقي الذي لا يرتبط بالضرورة بحدوث تغيرات هيكلية اقتصادية او اجتماعية.
"اما التنمية فهي ظاهرة مركبة تتضمن النمو الاقتصادي كاحد عناصرها الهامة، ولكنها تتضمنه مقروناً بحدوث تغيير في الهياكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والعلاقات الخارجية، ويمكن ان يتحقق نمو اقتصادي سريع ولا تحدث تنمية، عندما يكون النمو الاقتصادي مصحوباً بتقليص المشاركة الشعبية في اتخاذ القرارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكبت الحريات كما هو الحال في بلادنا".
إن التنمية وفق هذا المفهوم هي مشروع حضاري، اقتصادي اجتماعي وثقافي ، تحمل أهدافاً لا تقتصر على الأوضاع الاقتصادية فحسب، بل تتعداها إلى أهداف أخرى غير اقتصادية ، ومن أهم هذه الأهداف.:
1- زيادة إنتاج السلع والخدمات ذات القدرة على إشباع الحاجات الأساسية للبشر، وهو ما يعني تحرير الإنسان من الفقر والعوز والجهل والمرض.
2- رفع مستوى الحياة البشرية من خلال توفير فرص أفضل لتحقيق الذات لكل البشر وتمكينهم من إطلاق طاقاتهم على العطاء والإبداع، وبما يحقق لكل إنسان الشعور بالانعتاق وبالكرامة الإنسانية والتحرر من استغلال الآخرين واحترام الذات.
3- إن تحرير الانسان من الاستغلال والمهانة، من خلال توفير أفضل الفرص لتطوير قدراته وانطلاقها لا ينفصل عن تحرير المجتمع كله من استغلال المجتمعات الأخرى له، وتحرير الاقتصاد من التبعية للاقتصاد الرأسمالي العالمي، وزيادة درجة اعتماد المجتمع على ذاته.

بهذا المدخل يمكن أن نتناول واقع وآفاق التنمية في فلسطين، بسؤال أي تنمية لفلسطين؟ وهو سؤال تفرضه علينا ظروفنا الراهنة في الصراع والتناقض التناحري مع العدو الصهيوني من ناحية، والتناقضات السياسية المجتمعية الداخلية التي تدفع إلى تغييب أو إزاحة المجتمع السياسي الفلسطيني لحساب المجتمع العصبوي أو العشائري، ولحساب أجهزة السلطة ورموزها في مناخ من الهبوط السياسي والأخلاقي والقيمي المرتبط بتزايد انتشار مظاهر التفكك والانهيار الداخلي بكل أبعاده الأمنية والقانونية والمجتمعية، بما يجعل من الحديث عن التنمية المستقلة في هذه الظروف نوعاً من السخرية والوهم.
المسألة الأخرى في هذا الجانب، إننا حينما نتحدث عن التنمية في فلسطين يتبادر إلى الذهن، المسافة الواسعة بين الإمكانات الضعيفة والمحدودة المتاحة للتنمية من ناحية والمعوقات المادية- الداخلية والخارجية خاصة الإحتلال- من ناحية ثانية، التي تحول دون تفعيل تلك الإمكانيات، بدرجة يتبدى معها أن محاولة الإجابة عن سؤال التنمية، يظل يحمل طابعاً نظرياً لا يملك القدرة على التفاعل مع الواقع الراهن بسبب حجم التناقض بين الرؤية التي نتوخاها لواقع التنمية في فلسطين كجزء فعال في إطار مفهوم التنمية المستقلة العربية من جهة وبين العوامل السلبية الذاتية أو الداخلية وطريقة الأداء التي لا تنسجم في جوهرها مع تلك الرؤية وآلياتها المطلوبة في السياق الوطني والقومي العام من جهة أخرى، دون إغفال دور العامل الخارجي المتمثل في العدوان الصهيوني الهمجي التدميري شبه اليومي لشعبنا ومقدراته، بأساليب فاقت بما لا يقاس أبشع أساليب الأنظمة العنصرية والفاشية النازية في العصر الحديث، وهو عامل معرقل بصورة رئيسة لعملية ربط التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الفلسطيني في إطاره العربي، من خلال حرص دولة العدو الإسرائيلي على إبقاء الاقتصاد الفلسطيني أسيراً وخاضعاً لمقتضيات وشروط وآليات الاقتصاد الإسرائيلي وفق اتفاق أسلو عموماً وأسس وبنود برتوكول باريس خصوصاً.
على إننا في موازاة هذه الصورة القاتمة، لا يجب أن نقفز عن أسباب وعوامل داخلية أخرى أفسحت المجال- بهذه الدرجة أو تلك- إلى تراكم هذه الأحوال أو النتائج، وفي مقدمتها ضعف وتقاعس دور قوى المعارضة اليسارية والديمقراطية في فلسطين، وهشاشتها وعجزها عن تقديم ونشر البرنامج الاقتصادي التنموي البديل بين جماهيرها من جهة إلى جانب عجزها عن استنباط الرؤية الاستراتيجية السياسية الواضحة المستندة إلى كون الصراع هو صراع عربي – صهيوني بالأساس، الأمر الذي أدى إلى مزيد من تراجع امكانات وقدرات هذه القوى في فضح ومواجهة، ومن ثم طرح البديل الشعبي المطلوب، عبر الرؤية النقدية والتغييرية الشاملة لواقعنا، التي تقوم على أن التنمية بالنسبة لنا – كعرب في صراعنا مع المشروع الإمبريالي الصهيوني – هي جزء من رؤية اشتراكية نقيضة للنظام الإمبريالي، وهي في جوهرها، جهد وطني اجتماعي كلي مؤسسي، يهدف إلى الارتقاء بالحياة الاجتماعية إلى مستويات أعلى عبر تطوير إنتاجية العمل وتجسيد إنتاج فائض مادي وثقافي، واستخدامه بشكل إيجابي يؤدي إلى توسيع العملية الاقتصادية الاجتماعية، من أجل توفير افضل للحاجات البشرية، وفق مبدأ الاعتماد الجماعي العربي على الذات، الذي يعني ضرورة التعبئة الرشيدة والقصوى لكل الموارد الاقتصادية والبشرية والمالية وتوجيهها في خدمة التنمية، وأن يكون التعاون مع العالم الخارجي منطلقاً من استراتيجية التوجه الداخلي التي تعتمد على السوق المحلي الفلسطيني والعربي، وأن تصاغ أهداف العملية التنموية لتتناسب مع متطلبات هذه الاستراتيجية التي تضمن تأمين شروط السيطرة على مواردنا وثرواتنا الطبيعية، والسيطرة على أسواقنا وحماية منتجاتنا، وامتلاكنا لآليات التطور الصناعي والتكنولوجي كمدخل أساسي في عملية التنمية المنشودة .
وفي هذا السياق فإن التنمية الهادفة إلى إشباع الحاجات الأساسية للأغلبية الساحقة من أبناء شعبنا (الطبقات والشرائح الفقيرة ) وتقدمها وتطوير إنتاجيتها، لا بد و أن تستند إلى المشاركة الشعبية الفاعلة في المؤسسات الديمقراطية، كضمانة وحيدة لعملية التجنيد الطوعي لكافة الطاقات البشرية في مختلف القطاعات الإنتاجية وغيرها، للقيام بأعباء التنمية الوطنية في إطارها القومي، وما تتطلبه من معاناة وتضحيات في بداياتها الأولى تعزيزاً لمبدأ الالتزام المشروط بعلاقة جدلية صاعدة نحو آمال واقعية صوب العدالة الاجتماعية، هذا الالتزام الجماهيري الطوعي لن يتحقق بدون أن يترافق مع تحقيق مبدأ المشاركة الديمقراطية، الذي يضمن ترسيخ وعي الجماهير بأن عملها وإنتاجها يصب في خدمة مستقبلها ومستقبل أبنائها، بما يدفع ويحمي التراكم الإيجابي سواء في الأداء السياسي الاجتماعي أولاً، أو في أداء و تطوير القطاعات الإنتاجية وارتفاع معدلات النمو بشكل متدرج ثانياً، وبما يكفل خلق المقومات المطلوبة لبناء القاعدة المادية للإنتاج والنهوض والتقدم الاقتصادي والمجتمعي في الإطار القومي الديمقراطي العربي ثالثاً.
بهذا المعنى فإن التنمية المطلوبة لفلسطين بالترابط الوثيق مع الرؤية الاستراتيجية العربية تشكل مشروعاً أو حدثاً تاريخياً ينتمي إلى اللحظة / الحاضر، تفرضه احتياجات القوى الشعبية كأساس لمستقبلها، يصيب مختلف الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية في مجتمعنا، ويحمل في طياته متغيرات نوعية لكل أشكال هذه الأطر ومحتواها . إنها ليست فقط عملية شمولية لكل جوانب الحياة – كما أسلفنا – بل هي تقترب من كونها عملية تبادلية ذاتية، هدفها الجماهير، وأدواتها المشاركة الجماهيرية في إطار الاستراتيجية الوطنية والقومية التحررية والديمقراطية التقدمية باعتبارها الحاضنة التي تتسع لخيارات التنمية المتعارف عليها في بناء القدرات البشرية وتحسين مستويات المعيشة والصحة والمعرفة والعلم والمهارات، كما تتسع لضرورات التناقض الرئيسي مع العدو الإسرائيلي، وما تفرضه تلك الضرورات من ترابط مفهوم التنمية وتطبيقاتها مع هدف التحرر الوطني والاستقلال والسيادة كجزء من أهم أهداف التحرر القومي العربي المعاصر، إذ أن تحقيق هذا الهدف هو في حد ذاته أحد أهم أولويات تلك الاستراتيجية.
وفي سياق تناولنا للرؤية المستقبلية للاقتصاد الفلسطيني، فإننا نقترح المحورين التاليين كما طرحهما رائد الاقتصاد الفلسطيني المرحوم د.يوسف الصايغ:-
أولاً: الموجب الإنمائي: يدعو في هذا المحور إلى تحديد الأولويات الوطنية الاستراتيجية ذات الأهمية النسبية الكبرى للاقتصاد الفلسطيني وخاصة في قطاع غزة بما ينسجم والواقع الحالي المأزوم للاقتصاد داخل القطاع، الأمر الذي ندعو فيه كافة المعنيين الفلسطينيين إلى إعادة قراءة البرنامج الإنمائي الفلسطيني الذي أعده مفكرنا د.الصايغ، لكي نتمكن من وضع أسس المستقبل الاقتصادي الفلسطيني بصورة صحيحة قابلة للتقدم.
ثانياً: المنظور الفلسطيني للإنماء: بمعنى أن يتم التركيز على قضية التنمية وفق مفهومها ورؤيتها الوطنية التي تراعي والأولويات الاستراتيجية من منظور فلسطيني وطني، ينطلق بالأساس من المصالح الاقتصادية للمجتمع الفلسطيني وما يستدعيه هذا التوجه من ضرورات العمل على إلغاء اتفاق/برتوكول باريس، ومتابعة وإيجاد كافة السبل والآليات التي تعزز ترابط الاقتصاد الفلسطيني بمكونات وآليات الاقتصاد العربي.
وفي هذا السياق أقدم فيما يلي اقتراحاً لمجموعة من الأسس المكونة لهذه الاستراتيجية التي يستحيل تطبيقها في ظل استمرار الانقسام وفشل القوى السياسية عموماً، وحركتي حماس وفتح خصوصاً في تحقيق المصالحة واستعادة وحدة النظام السياسي الفلسطيني ، ذلك إن الحديث عن التطور الاقتصادي والتنمية يتناقض كلياً مع استمرار الانقسام :-
أولاً : حصر كافة البيانات والمعلومات الخاصة بالموارد الطبيعية والبشرية الفلسطينية عبر فريق وطني اقتصادي متخصص، تمهيدا للسيطرة المباشرة عليها وإدارتها، كهدف وطني يستحيل بدون تحققه تطبيق أي خطة تنموية فلسطينية
ثانياً : خلق مقومات اقتصاد المقاومة والصمود انسجاماً مع متطلبات هذه المرحلة، وما يعنيه ذلك من العمل الجاد على تطبيق سياسة اقتصاد التقشف، بكل ما يعنيه من إجراءات تلغي – بعد المحاسبة القانونية- امتلاك أي مواطن أو مسئول لأي شكل من أشكال الثروة الطفيلية غير المشروعة وإلغاء كافة مظاهر الإنفاق الباذخ بكل أشكاله وأنواعه وأساليبه عموما وفي مؤسسات السلطة خصوصا.
ثالثاً : فك الارتباط والتبعية والتكيف مع الاقتصاد الإسرائيلي ووقف هذا التضخم في حجم الواردات، وفرض الرسوم الجمركية العالية على الكماليات المستوردة مقابل تخفيف الرسوم على الواردات الأساسية، ووقف عمليات الاستيراد المباشر وغير المباشر من السوق الإسرائيلي، الأمر الذي يعني تجاوز أو إلغاء بروتوكول باريس، على الرغم أن عملية إلغاء البروتوكول في ظل أوضاع السلطة الحالية بما في ذلك المصالح الطبقية للعديد من رموزها وأجهزتها البيروقراطية المتحالفة مع البرجوزاية الكمبرادورية، ليست قابلة للتحقق، علاوة على تذرع السلطة بأنه لا يمكن إلغاء اتفاق باريس بسبب كونه جزءاً لا يتجزأ من اتفاق أوسلو الذي لا تستطيع سلطة الحكم الذاتي إلغاؤه لأن معنى ذلك –من وجهة نظرها- قد يؤدي إلى إلغاء السلطة، وهي ذريعة يرددها بعض المسئولين في السلطة على الرغم من توصيات وقرارات المجلس المركزي الفلسطيني في دوراته المعقودة عامي 2017 / 2018.
لذلك فإن النضال من أجل إلغاء اتفاق أوسلو لا يضمن فحسب إلغاء بروتوكول باريس، بل يضمن أيضاً تحقيق المعنى الجوهري للاستقلال والسيادة الكاملة على أرضنا وحدودنا ومواردنا الاقتصادية، وتحقيق المعنى الجوهري للتنمية بعيداً عن أي شكل من أشكال التبعية ، وكما يقول عميد الاقتصاديين الفلسطينيين الراحل د. يوسف صايغ "ليس أمام الأراضي المحتلة خيار سوى السعي إلى تخليص أنفسها من التبعية، وبناء على ذلك، فإن ما يحرف ويعيق ويشوّه الاقتصاد ليس نتيجة لليد الخفية لقوى السوق، بل بسبب فرض اليد الظاهرة الثقيلة للقوة المحتلة".
رابعاً : التخطيط التأشيري والمركزي لتفعيل العملية الإنتاجية في الصناعة والزراعة، والعمل على تفعيل العلاقة بين هذين القطاعين بما يخدم تطوير المنتجات الصناعية المعتمدة على الإنتاج الزراعي، وإقرار مشروع القانون الزراعي بهدف تحديد وإرساء استراتيجية زراعية فلسطينية تتناسب مع أهمية القطاع الزراعي، في إطار سياسة تنموية زراعية آنية ومستقبلية تقوم على التخطيط و تفعيل دور مؤسسات الإقراض الزراعي والبنوك لتقديم الدعم للمزارعين الفقراء، وتطوير وتوسيع الأراضي الزراعية وأراضي المراعي والثروة الحيوانية والصيد، إلى جانب المبادرة إلى تنفيذ مشاريع اقامة محطات لتحلية مياه الشرب ومعالجة المياه العادمة ، ومشاريع حكومية للطاقة الشمسية وتدوير النفايات.
خامسا: تطوير دور القطاع العام والتعاوني والمختلط بعيداً عن أشكال الاحتكار، بما يدفع إلى توسيع القاعدة الإنتاجية الفلسطينية، والسوق الفلسطيني، ودعم وتشجيع الصناعات الصغيرة، على نحو يؤدي إلى إيجاد المزيد من فرص التشغيل المتواضعة، لليد العاملة، في الإنتاج والسوق المحليين من ناحية، ويسهم في ضمان معدلات عالية – نسبيا- من النمو لقطاعي الإنتاج الرئيسيين – الزراعة والصناعة- من ناحية ثانية. وفي هذا السياق فإن من الواجب والضروري، الأخذ بمقترحات البرنامج العام للتنمية الذي أشرف عليه المفكر الاقتصادي الفلسطيني الراحل د.يوسف صايغ، إذ أن هذه المرحلة وضروراتها الاقتصادية-السياسية معا تقتضي من كافة المسئولين في السلطة الأخذ بتلك المقترحات بعد إهمال طويل وغير مبرر لها.
سادساً: تحقيق سبل وآليات التكامل بين الضفة الغربية وقطاع غزة، بما يضمن تعزيز الآفاق الاقتصادية فيهما، ومن ثم تحقيق زيادة في الناتج الإجمالي بما لا يقل عن 20% من حجمه في عام 2017، والى أن يتحقق هذا الهدف، لا بد من تطوير آليات واستخدام وسائل تضمن تعزيز العلاقات الاقتصادية بين المنطقتين بالحد الأدنى من المخاطر والتكاليف، والمطلوب إعطاء الأولوية للمشاريع والأنشطة التي تعزز التكامل والمصالح المشتركة بين الضفة والقطاع (من خلال الشركات والمشاريع المشتركة وتفعيل وتنشيط التجارة البينية والمشاريع الصناعية والخدماتية المشتركة وخاصة قطاع السياحة).
سابعاً: العمل على "إنشاء صندوق للإنقاذ الوطني بتمويل من الحكومة ورجال الأعمال والفلسطينيين بالخارج لدعم وتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة وبدون فوائد وبفترات سماح عالية.
ثامناً: مراعاة الحفاظ على ثبات الأسعار للسلع الأساسية الضرورية للفقراء ورفع أجور الفئات والشرائح الاجتماعية من ذوي الدخل المحدود.
تاسعاً : إنشاء وتفعيل المؤسسات الاقتصادية الكبرى في قطاع الصناعة على نمط الشركات الصناعية المساهمة العامة والشركات القابضة والمختلطة بين القطاعين العام والخاص، لمواجهة هذا الضعف في البنية الصناعية ونقلها من طابعها الحرفي-الفردي- العائلي إلى طابعها الإنتاجي العام الكفيل وحده بتطوير القطاعات الإنتاجية في بلادنا.
عاشراً: العمل بكل جديه، وعبر كافة السبل والضغوط السياسية الممكنة، من اجل تفعيل وتوسيع مجال التبادل التجاري الفلسطيني العربي، ووقف احتكار السوق الإسرائيلي لهذه العملية. وكذلك التركيز على فتح سوق العمالة العربي، في مختلف البلدان، أمام العمالة الفلسطينية، الماهرة وغير الماهرة، وفقا لقوانين وأنظمة التشغيل في تلك البلدان، دون أن يؤثر ذلك إطلاقا في هوية الفلسطيني أو يتخذ أي بعد سياسي يتناقض مع حقه في العودة أو الإقامة الدائمة في وطنه، علما بأن السوق العربي في دول الخليج والسعودية يستوعب أكثر من خمسة ملايين عامل أجنبي سنويا.
حادي عشر: متابعة تنفيذ البرامج والدراسات والتوصيات المتعددة الخاصة بتفعيل دور رأس المال الفلسطيني في الشتات، رغم وعينا بارتباطه برأس المال العالمي المعولم .
إن هذه الرؤية، أو الخطوط العامة الأولية المقترحة، لا بد لها لكي تملك مقومات التغيير الإيجابي المطلوب، أن تتبنى منهجا علميا، وفلسفة ذات مضمون ديمقراطي، وطني وقومي، تقوم على الإيمان العميق، بوجوب تمتع شعبنا الفلسطيني بحقوقه وحرياته الأساسية وممارسته لها، كمقدمة تؤدي إلى وقف تراكمات الأزمة الراهنة، وتفاقم تناقضاتها المحكومة بثنائية غير منطقية أو منسجمة، تتراوح بين فردية القرار وأحادية الخطاب في السلطة وأجهزتها من جهة، وبين جماعية المعاناة والتضحيات والآمال الكبيرة من جهة ثانية، وبالتالي فإن إلغاء هذه الثنائية المتناقضة، هو سبيلنا الوحيد نحو نظام الحكم الديمقراطي الوطني، العادل والقوي، الممتلك للفهم السليم والواضح لوظيفته الجوهرية بشقيها: الوطني والديمقراطي الداخلي بما يضمن رسم السياسات الاستراتيجية المعبرة عن مصالح جماهير شعبنا، بمثل ما يضمن أيضا، توجيه وزارات ومؤسسات وأجهزة السلطة نحو تحقيق تلك السياسات أو الرؤى في الاقتصاد كما في السياسة، بكفاءة عالية تخدم أهدافنا وثوابتنا الوطنية العامة، بمثل ما تخدم وترتقي بأهدافنا المطلبية الداخلية دون أي انفصام بينهما.
على أن تطبيق هذه الخطة الاستراتيجية، مرهون بعملية تغيير جدي وعميق، بدايتها الأولى إنهاء الانقسام والالتزام بالثوابت الوطنية والسياسية التوحيدية المستندة إلى الديمقراطية ببعديها السياسي والاجتماعي، بما يضمن تحقيق العدالة الاجتماعية والتعددية والحرية، وتطبيق مبدأ تكافؤ الفرص وسيادة القانون وقواعد المحاسبة ضد أي شكل أو مظهر من مظاهر التفرد أو الصراعات غير المبدئية أو الخلل والفساد من جهة أخرى، إذ أن تطبيق هذين الشرطين في إطار الرؤية الاستراتيجية سيمكننا من الحديث بثقة عن تحقيق أهم ركيزتين من ركائز صمودنا على الصعيد الداخلي همـا :-
1- ضمان وحدة وتعددية النظام السياسي واستمراه وفق مبادئ حرية الرأي والمعتقد وسيادة القانون، ووقف استخدام السلطة، من قبل الكثير من رموزها، كجسر لجمع وتراكم الثروات الطفيلية غير المشروعة على حساب قوت وحياة الجماهير الشعبية، حيث أدى هذا الاستخدام الأناني البشع التي تراكم العوامل التي دفعت بدورها إلى الصراع الدموي الداخلي ومن ثم الانقسام بين فتح وحماس عبر حكومتين غير شرعيتن في كل منهما، كما أدى إلى فقدان مساحات واسعة من جماهيرنا لدورها وحريتها.
2- تقوية وتعزيز الوحدة السياسية لمجتمعنا وتوفير قدراته على الصمود والمقاومة حتى طرد الاحتلال وتفكيك وإزالة مستوطناته على طريق الحرية والاستقلال وتقير المصير والعودة والتنمية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية.
أخيراً: إننا نفترض أن هذا الفهم للاقتصاد الفلسطيني بكل مضامينه التنموية يجب أن يشكل أحد المحاور الرئيسية لنشاط وبرامج الحركة الوطنية الفلسطينية لأنه المحور المكمل عبر علاقة جدلية ومتصلة لعملية التحرر الوطني والاستقلال والدولة، فالانهيار الاقتصادي– الاجتماعي الناتج عن استمرار تفكك وانقسام النظام السياسي الديمقراطي الفلسطيني، واستفحال مظاهر الفساد والاستبداد والهبوط السياسي والتفاوض العبثي وغياب سيادة القانون العادل، يدفع أو يراكم بالضرورة نحو خلـق المزيد من مقومات الانهيار السياسـي والاجتماعي بما يجعل من الفوضى والعشوائية والفلتان الأمني والاقتصادي من ناحية وتزايد تحكم القوى الخارجية (الأمريكية الإسرائيلية) في مستقبلنا من ناحية ثانية، عاملاً مقرراً في أوضاعنا السياسية الاقتصادية المجتمعية، وفي كلا الحالتين يصبح مستقبل شعبنا معلقاً بعوامل لا دخل لإرادة جماهيرنا في تشكيلها أو التأثير فيها، وهذا بالقطع وضع بائس، ما أتعس الأمة التي تجد نفسها فيه .