انحلال الحزب الشيوعي العراقي/4


عبدالامير الركابي
2021 / 9 / 2 - 17:15     

من اهم مايبرز كمفارقة شديدة الدلاله، كون الدورة الكونيه الرافدينيه الثالثة الحالية، هي الدورة " النطقية"، الايله الى "الختامية" التحققية، مكملة الرؤية البدئية اللاتحققية الأولى، هذا في حين يذهب التعبير المستعار عند أولى حالات ظهوره، منتميا الى الطرف المضاد الارضوي، والى شكل متدن منه متماه مع آخر يتماثل معه ضد ذاتيته، ذلك بينما كان من قبيل الاستحالة تصور انتقال من وجدوا بحالة تعبير في حينه، الى ممثلين متوافقين مع ماهم عليه مجتمعيا تاريخيا من كينونة لا ارضوية، ناهيك عن الازدواجية التحوليّة، كماض وسيرورة تاريخيه، ومن ثم وعلى وجه الخصوص، كحاضر.
وتبرز هذه الظاهرة ابان التصادمية الكبرى، المواكبة للعملية الكونيه الناشئة عن نهوض الغرب وانتقالته للالة، وتشكل ارض مابين النهرين الازدواجي اللاارضوي الثالث، تسبقها قبلا تصادميه ادنى أخرى مع متبقيات الدورة الثانيه، سواء داخليا، وفي المجال الإمبراطوري المنهار ممثلا ببقايا بغداد عاصمة الدورة الثانيه، ومحيطها، مع من ظلوا يتناوبون على حكمها متوهمين احاديا وبحسب ماهم مجبولون عليه، ان من يحكم بغداد يحكم العراق، وصولا الى العثمانيين الذين يواكب حضورهم، بدء التشكل والانبعاث الراهن الثالث، من ارض سومر الجديدة المنبعثه.
تبدا الظاهرة المجتمعية لاارضوية قبل الاف السنين في ارض سومر جنوب مابين النهرين، محكومة لاشتراطات وكنتاج لحالة "العيش على حافة الفناء"، والنزوع اللاارضوي الاكواني للكائن البشري، مقابل نموذج ونمط ارضوي محلوي، "وطني" محلوي، سكوني اجتراري، هو الاخر نهري، لكنه مناقض من حيث كونه توافقي بيئيا بشريا، احادي، يقابله تكوين دينامي اقصى ازدوادجي ينطوي على الاليات التصيرية الصعودية المجتمعية الموافقة لغرضيتها، وما مودع بين تضاعيفها، وصولا الى اللاارضوية الشامله، عبر الدورات والانقطاعات كما تتجسد في ارض مابين النهرين بثلاث دورات، يفصل بينهما انقطاعان/ غيابيان، يفضي اخرهما الثاني كنتيجه، لحصول الانقلاب الالي البرجوازي على المنقلب الازدواجي الطبقي الاوربي.
والدورات والانقطاعات الرافدينيه، هي بالأحرى دورات كونية لا محلية، ولا من صنف " الوطنيه" الايهامية، التي تسيطر نموذجا على العقل، باعتبارها الممكن الوحيد، وهو مايحصل ابتداء، مع توقف الدورة الأولى الازدواجية التحولية الرافدينية، دون التحقق المفترض الذي لم تكن قد توفرت آنذاك أسبابه، والوسائل الضرورية المادية التي تؤمنه في حينه، ما جعل بناء الأحادية الأدنى، والحالة هذه، بنمطها، واجمالي نموذجها، وتفكراتها، تغلب، يساعدها على ذلك عامل مهم اخر، متات من كونها غالبة وكاسحة عددا ومساحة، مقارنه بحالة ونمط الازدواج المفرد، الوحيد على مستوى المعمورة.
وتصل الأحادية المجتمعية على مستوى الغلبه، قمتها وذروة تجليها، في الطور الراهن الحالي من اطوار صعودها الالي البرجوازي، في موضع الذروة، واعلى اشكال الديناميه البنيوية الانشطارية الطبقية ضمن نمطها، معممة نموذجها، وتفكراتها الكاسحه، عدا عن كونيتها الطبقية الزائفة، لتغدو مذهبا شاملا كونيا، متبنى كحقيقة "علميه"، هي بذات الوقت الدلالة على تهافت الأحادية في ذروتها، واقصى اشكال ممكناتها التصورية والنموذجيه. بينما هي تصر بداهة على كونها الأصل، والمحرك المنطوي على الغائية الأعلى، في الوقت الذي تحتل بالأحرى وواقعا، دور المحطة الأخيرة الأحادية، القريبة من الزوال وانتهاء الفعالية، باعتبارها ضرورة لازمه تحفيزا لمسارات الدورة الانتهائية الثالثة الازدواجية الكونية الرافيدينه.
فالحاصل اليوم على مستوى المعمورة، والمطموس المغيب بقوة فائقة التصور، هو دخول العالم الدورة الثالثة التصيرية التاريخيه مع القرن السادس عشر، مع انبعاث ارض الرافدين من ارض سومر تكرارا، وصولا الى حلول طورالتصادمية الكبرى، اللاارضوية/ الأرضية الأعلى الاوربية، بعد اجتياز العراق فترتين من تاريخ تشكله الكوني الحديث، أولى "قبلية"، وثانيه "انتظارية"، وصولا الى القرن العشرين، مع حضور الغرب المباشر، وشروعه في محاولة الغاء اللاارضوية، والتجاوز على آليات الازدواج المجتمعي، في مسعى لحرف وجهتهما، وماينطوي عليه وجودهما كينونه وبنيه، في محاولة أحادية أخيرة ونهائية، هي نفسها لحظة استنفاد الأحادية اسباب ومقومات استمرارها، بمقابل توفر اللاارضوية المجتمعية، وأخيرا، على الأسباب والوسائل الضرورية اللازمه لتحقق الانتقال الى اللاارضوية الكونيه، على مستوى المعمورة، انطلاقا من موئلها ومنطلقها الأساس التاريخي.
لاتلبث المجتمعية الاوربية، مجتمعية الانشطار الطبقي، ان تفقد مقوماتها والاليات الناظمة لحركتها، لصالح منبعث جانبي ضخم، هو المجتمعية المفقسه خارج الرحم التاريخي، حيث القارة الجديدة، ومجتمع التشبه باللاارضوية ابتداء وتصورا اسقاطيا، مقابل التشكل الاسقاطي المقابل، الالي الراسمالي اللاطبقي، واصطراعيته الازدواجية على المنقليبن وبالقفز على تاريخهما وبنيتهما اللتان ولدتا ضمنها، مايجعل الكيان المذكور محكوما الى اللاكيانيه الرسالية الزائفة، كضرورة "وطنيه/ كيانيه" من غير الممكن استمرار ها من دونها، ماقد يذكروان اعتباطا، بالاصل اللاكياني الرافديني الكوني، المتعدي للوطنيه، ويجعل من انغلاق افق اللاكيانيه الإمبراطورية الامريكيه المحتمل، لحظة نهاية، ومحطة عمليه انتقالية الى مابعد أحادية.
من غير الوارد بالطبع تصور امكان انتقال العقل الذي ظل قابعا تحت سطوة الأحادية ونموذجها، وممكناتها الاف السنين، ان يقبل اليوم انقلابا في السردية، وفي التصورية الشامله للظاهرة المجتمعية، االمنظور لها بتبسيط احادي، بعززه واقع كان وظل يكرس نموذجا بعينه، لم تكن أسباب انتهاء صلاحيته قد حانت بعدـ هذا على المستوى الاعم، اما عراقيا، فالحال ربما كان اكثر ماساوية لسبب أساس، هو ان من يعتقدون انهم "يفكرون" هنا، هم أبناء الاليات الكونيه والتصير التحولي الازدواجي، الماخوذين وهم يتنطنطون ويفركون أيديهم فرحين بعظمة فكرة التشكل الاستعماري" الوطني" ال"ويرلندي"، برغم انهم أبناء واقعة منتفكية، ومدينه لادولتها الأولى "سوق الشيوخ"، ودولة لادولة نجفية انتظارية، وجودهما صارخ، ومتعد فائق ملموسية، للطاريء الغربي، علما بان تاريخ الحداثة العراقية الزائفة، لم يعرف على مدى القرن العشرين، اية محاولة بحث او قراءة في تاريخ العراق الحديث، بكل غزارته وحدثانه الثرة، الدالة،خلال ثلاثة قرون، ولا عرف على هذا الصعيد، أي عمل له قيمة تذكر على الاطلاق.
وهكذا وبظل غياب النطقية الرافدينه، تمكن الغرب مع حضوره المباشر والمفهومي، ان يتوفر على ثلة، المفترض انهم أبناء المكان، تحولوا بناء لوجوده، الى قوة مساعدة له في معركته مع الاليات الازدواجية اللاارضوية، المغايره، والمناقضه لطبيعته، ونوع مستهدفاته، لابل التي تتجاوزه وتتعدى كينونته، وتبقى بناء عليه ممتنعة عليه، تمارس حضورها وان غير الناطق، حبث يتجسد هنا، وفي هذا الموضع، الاحتدام الكوني الأخير، وحيث تصل الظاهرة الغربيه منتهاها، واقصى ماتتوفر عليه من ممكنات، وتفشل في فرض نمطها ومفهومها، في حين تتجدد في طبعة أخرى ختامية تحققية، اليات "العيش على حافة الفناء" وتتغير متطورة لتصير شامله لعموم العراق، الأعلى منه، مع الأسفل، كمقدمه وافتتاح واقعي عنه، من بين تضاعيفة تنبثق النطقية المؤجله، التحققية الاخيره، متخذه صفة الكونيه التحولية، مقابل الكونية الأحادية، واعلى اشكالها الاوربية الانشطارية الطبقية المنتهية الصلاحية.
يوم جاءت إنكلترا للعراق، كان العراق موجودا، خاض فبل ذلك غمار فترتين من التشكل، خضعت لالياته التاريخيه، ومع حضور الاحتلال، لم يختف العراق، ولا غابت آلياته او توقفت عن الفعل، بل نشأت حالة تصادم قوتين، العراق والياته، والغرب ممثلا بالحضور البريطاني، والياته واجمالي عدته التفكرية والنموذجية، مع الاخذ بالاعتبار كون معسكر، او جبهة العراق، كانت وظلت خلال هذه الفترة، محكومة لخاصية نقص تاريخيه عريقة، ظلت قائمه اليوم، هي "اللانطقية"، وتعذر تجلي الذاتيه. ماجعله يحضر بلا تعريف لحضوره، او تسقط له، فكان حضور الاحتلال حضورمتغلب مفهوميا وتعريفا، يتمتع على هذا الصعيد بافضليات الانفراد، بينما الواقع والبنيه "خرساء"، ومن ثم لاوجود لها ظاهرا، واذا كانت " الدولة" المقامه من خارج النصاب المجتمعي، او الأحزاب، بلا أساس موضوعي تاريخي، او طبقي، مكرسة بقوة وثقل المفهوم الغالب، فان حضور البنية المضادة العراقية في الدولة المذكور ( كما كان قد عبر عنها الملك فيصل في مذكراته/ مذكور في احد هوامش الحلقة الماضية)، وفي الأحزاب وبنيتها ودورها، ومسارات تاريخها، ومراحل فعاليتها وتغيراتها، وصولا لانتهاء تلك الفعالية، بمعنى مايعود الى "الرؤية الوطن/ كونيه"، لم يكن لها وجود وقتها، والى اليوم، وتلك اهم خاصيات ومميزات التصادمية الكونيه الاوربية الرافدينيه الحالية.
تسير الدورة الكونيه الراهنه الثالثة ابتداء من القرن السادس عشر، منطلقة من ارض الرافدين المتعدية للكيانية، بطورين، الأول تمتنع خلاله النطقية، الى ان تدخل هذه حالة من الصراعيه الافنائية للكينونه البنيوية الازدواجية التحولية، قبل ان تنتهي بتوفر أسباب واشترطات النطقية الكونيه التحولية اللاارضوية، ما بترافق مع وصول الأحادية المجتمعية منتهى ممكنات وجودها واستمرارها، بعدما ظلت غالبة ومهيمنه على مدى الاف السنين.
في العشرينات والثلاثينات، حين حضر الغرب ونموذجه، لم يكن قد وجد لوحده، ولا كان يتمتع الاظاهرا بالغلبة الشامله، فالاليات البنيوية الازدواجية التاريخيه العراقية كانت حاضرة، برغم لانطقيتها، عمليا وواقعا عبر ماقد فرضته من صياغات مضادة تلائم كينونتها ودورها، واستهدافاتها الوجودية، ماانعكس على مايعرف ب"الدوله"، فابقاها فوقية معزولة بلا اية قدرات او ممكنات سلطوية شامله، كما وفر الأسباب المفضية الى استعمال بدائلها بصيغتها الاسقاطية التوهميه، ليجعل منها قوة مضافه للفعالية من اسفل، تعزيزا لزخمها، وهو ماقد انسحب بقوة وبالذات على ظاهرة الحزب الشيوعي المنتفجي، او ( حزب ارض السواد الشيوعي)، الذي يستمر قائما وفعالا ضمن شروط الاصطرعيه الافنائية الجزئية الأولى، 1921/1958 ، لينتهي دوره ونموذجه المذكور كقوة فعالية "وطنيه"، متلائم وجودها مع الضرورة، ماتلبث ان تتبدل تماما، ليتحول الحزب المذكور الى قوة بلا فعالية ولا حضور يذكر بطوره الأول، الذي مايلبث ان يتحول الى "كلاسيك"، يستعمل للدعاية، وللاستغلال لاجل تبرير الاستمرارية الشكلية والشرعيه المفتقدة، مع تغير المر تكز والديناميات الفعلية المحركة، بعدماغدت جزئية ودولية برانيه.