عشاق أفنيون - إلزا تريوليه ( النص كاملا )


سعيد العليمى
2021 / 9 / 1 - 18:22     

مقدمة الرواية - بقلم المفكر والناقد الكبير إبراهيم فتحى
ترجمة سعيد العليمى
الشعر والرواية والتاريخ

تبدأ الشاعرة "إلزا تريوليه" روايتها القصيرة " عشاق أفينيون" بتأكيد حضورها الشخصى وحبها للبطلة ، وهى تعلن عن هذا الحضور فى مواضع أخرى ذات دلالة من الرواية . وفى النهاية تنزل الستار على الأحداث بكلمات تسجل تاريخ الكتابة فى فبراير 1943 قائلة : أنها تترك لحركة التاريخ ان تسبق أغنيتها الى هدفها . فالكاتبة تريد من البداية أن تضع قصتها المتخيلة ( أو أغنية الحب كما تسميها ) فى قلب الواقع ، وهى لا تريد من القارئ ، الذى تخاطبة باعتبارها " إلزا تريوليه" مباشرة كما لو كان حاضرا أمامها ، أن ينسى المؤلفة وهو يتابع حياة البطلة ، أو ينسى نفسه مع البطلة والمؤلفة .

فالمؤلفة تقول فى مقدمة كتبتها بعد ما يزيد على عشرين عاما (1964) أنها تخيلت قصة عاشقى أفينيون ، أى قصة " جولييت" و"سلستان" بل وحلمت بها بين أمواج المشهد الواقعى لحياتها هى أثناء المقاومة" لقد وضعت قدمى " جولييت"الصغيرتين داخل آثار خطواتى ".

جولييت نويل :
ومن هى هذه البطلة ؟
تؤكد " إلزا" فى المقدمة التى جاءت بعد أعوام أن " جولييت" فتاة كالأخريات ، بل وتصفها بأنها عادية تافهة مبتذلة ، مثل الكثيرات فى الأوقات العادية التافهة المبتذلة . وتكاد أن تكون تكثيفا لخصائص آلاف من الفتيات وأحلامهن ... بائعات وكاتبات على الآلة الكاتبة ومدرسات للأطفال وعاملات فى مشاغل الخياطة والتطريز ممرضات و.......... وهى تبدو كأنها خرجت لتوها من بين الصفحات المصورة لمجلة نسائية . وما أكبر الدور الذى يلعبة " الحب" وأغانيه وقصصه الحزينة فى رؤس هؤلاء الفتيات ، وفى قلوبهن وطرائقهن فى المشى وفى أرتداء الثياب ... وخلعها ، ثم فى تأوهاتهن ودموعهن .

و"إلزا" تكسر الايهام الروائى عامدة ، وتستخدم أسماء الشخصيات مطابقة لدلاتها على نحو يذكرنا بالحكايات الشعبية فهى تسمى بطلتها جولييت نويل ، جولييت التى أصبح أسمها مرادفا للحياة والموت من أجل الحب . ونويل أى عيد ميلاد المسيح ، معجزة طهر وخلاص وأمل . فالرواية تدور كلها أيام أعياد الميلاد فى فرنسا عام 1943 عند منعطف حاد لحركة المقاومة ضد النازى ، وتلاحم صفوف المناضلين من شيوعيين وديجوليين وديمقراطيين ، وميلاد الانتفاضة .

ولم تعد الأيام عادية تافهة مبتذلة ، فقد عصفت الاحداث بالتفاهة والابتذال وكشفت فى الفتيات المنذورات للعبة الحب الصغيرة عن منابع حب آخر عميق رائع وبطولة لم يكن من المستطاع أن يتخيل أحد حتى مجرد امكانها . فكل الناس العاديين أحاط بهم وضع خانق فى أسر الاحتلال الاجنبى والمتعاونين معه ، وهو وضع للأشياء من المتعذر مواصلة تحمله كما تقول المؤلفة ، أصبح الخطر والمخاطرة خيوطا معتادة فى نسيج الحياة اليومية العادية .

وتتخذ جولييت لنفسها فى المقاومة اسما آخر تخفى به عن العدو شخصيتها ، فتختار "روزتوسان" أو وردة جميع القديسين ، تألق العذراى والشهداء بالمجد وسط الجلادين ، ففى المعنى الصوفى تصير ألوان الورد ألوانا للعذارى ودم الشهداء والشهيدات .

أما اسم الحبيب الموعود فى الرواية " سلستان " فينتسب الى عالم السماء فى دلالته اللفظية المباشرة ، وهو ضابط ديجولى يعمل فى تنسيق الكفاح مع الشيوعيين ويرى أبعد من اللحظة الراهنة ، وهو أكثر سموا من قادة تنظيمية وأكثر تحررا من ضيق أفقهم ... ويرى الشيوعيين حزب الشهداء الذى صدت صدور أبطاله رصاص العدو ، وليس من الممكن تصور مستقبل فرنسا دون التحالف معهم .

وتصف المؤلفة وجه" سلستان " بأنه يشبه وجه كبير الملائكة ... بعد السقوط .

والمؤلفة ليست من السذاجة بحيث تختزل الشخصيات الى رموز مجردة ، ولكنها تومئ الى عنقود صور نموذجية تحيا فى وجداننا بمقدار ما تحيا فى التراث الادبى والثقافى . وهى تستخدم تلك الصور النموذجية لكى تخرج شخصيات روايتها وأفعالهم والاحداث التى يواجهونها من نطاق بقعة محلية وفترة زمنية محددة ، الى آفاق لحظة تاريخية شاملة . وتلك اللحظة التاريخية هى تجل لعملية صراع بين تيارين ، بين مبدأين أساسين للحركة الاجتماعية ، ولصياغة روح الانسان ، وهى تجسيد لمواقعهما الفعلية فى معركة حياة أو موت تمتد جذورها الى الماضى وتستشرق آفاق غد يظل فى صيرورة دائمة . ولا تمثل الصور الشعرية النموذجية عند المؤلفة أشياء ثابتة جامدة .

الطابع الشعرى :
وقد نرى على سطح "عشاق أفينيون" أنها تتابع وهما استقر فى الظنون عن الطابع الشعرى للأعمال القصصية النثرية .. وهذا الوهم يتخيل أن الطابع الشعرى يدور على لحظات الاشراق والصفاء والانفعال العميق ويترك للرواية أو القصة "الواقعية " تناول غثاء اللحظات العادية اللصيقة بالارض وانفعالاتها الرمادية . والبطلة الساذجة "جولييت" تشارك فى هذا الوهم عن لحظات الاشراق والتحليق .

فالحب عند جولييت الصغيرة تفصله عن روتين الحياة أسوار وأسوار وهى تعيشة باعتباره وجدا مقدسا ، وذكرى فردوس ضائع وحنينا اليه ، يمارسه كهنته وكاهناته ، المطربون والمطربات ونجوم السينما وأبطال الروايات الغرامية ، فى هياكل نائية . فالحب بأكمله يحلق متعاليا على المجرى المعتاد لحياتها ، كما يقع " التاريخ "خارج نطاق هذا المجرى المعتاد ، ويصنع داخل أماكن عالية بعيدة : قلاع وأرض معارك وفرسان وثكنات ومبان مسورة محظور دخولها ، وفى لحظات متوهجة متألقة .

ولكن المؤلفة تستخدم المنطق الداخلى للرواية لكى تقول شيئا مغايرا.

فهى لا تلعب اللعبة السهلة السطحية ، لعبة اصطناع حيل شكلية للمزاوجة بين لحظات الانفعال العميق المشرقة المجيدة واللحظات العادية ، من خلال ترتيب أجزاء الرواية فى تتابعها ترتيبا ايقاعيا يضع فى اعتباره النغمة الانفعالية لكل جزء تآلفا وتضادا وفقا لمعادلة حسابية . بل أن الطابع الشعرى لعشاق أفينون ينبع من ارتياد التوتر بين الامكان والواقع فى " اللحظة التاريخية " – لا بمعنى التاريخ المكتوب على الجرائد اليومية – لاحداثها ولكتابتها وتلك اللحظة هى البعث الشعرى فى فرنسا . لقد قفز الشعر فيها الى مكان الصدارة بين الانواع الادبية ( وليس الشعر هنا هو ذلك الطلاء اللفظى الصارخ اللزج) : فالشعر كان أكثر الوسائط فاعلية للتعبير عن حب فرنسا ، فرنسا الهزيمة والمقاومة فى آن معا ، بعد أن أصبح حبا محرما فى الأشهر المخضبة بالدم . وباعت الدكاكين صنفا ساما مغشوشا منه يجعل حب العدو شرطا لحب الوطن . ويؤكد مؤرخو الأدب فى تلك الفترة – وفى فترات تناظرها فى بلاد مختلفة – أن الشعر كان تعبيرا عن وجدان البطولة عند الافراد العاديين فى حالات وجودهم اليومى الرتيب . فدبابات العدو ( مرئية أو متخيلة) وأساليب بطشه وجرائم المتعاونين معه أكاذيبهم تقيم سورا رهيبا ثقيلا على الصدور ، يحول بين الأفراد العاديين وبين سكنى وطنهم وان كانوا داخله ، لم يبتعدوا خطوة واحدة . ولكى يسترجع الناس بيوتهم ولكى يطردوا منها ما يجثم عليها من غربة ولكى يستأصلوا طابع المنفى فى حضن الزوجة والأم ، كان من المحتم أن يعملوا على تغيير معانى الاشياء النثرية المعتادة .

فالهزيمة ( ولواحقها) قد أغارت على سياق شامل كان يحدد للفرد طابع فرديته ، وكان يغرس تلك الفردية فى " الوقائع" المألوفة داخل المصانع والمكاتب والمنازل والأشياء ، وهى وقائع كان السياق الشامل – أى البنية الطبقية ومستوى توازن القوى المتصارعة داخلها – يحدد لها مداها وعلاقاتها ومعناها .

وبعد أن جعل هذا السياق الهزيمة ممكنة ، لم يعد النصر والسلام مرادفين للعودة اليه فى واقع الهزيمة والتعاون مع العدو ، حين أصبح أفراد طبقات الشعب يحسون بالغربة داخل جلودهم ، أمام محاولات حشو تلك الجلود بالعفن المستورد.

وأصبح الافراد العاديون يحسون فى تمزق وجودهم بأن عليهم ، لانقاذ فرديتهم وذواتهم ومشاعرهم الشخصية ، أن يشتركوا معا فى خلق سياق شامل جديد ، ولو فى الحلم المقتسم بتصور اطار كلى تتنفسى فيه الفردية . ولا يجعل من الهزيمة امكانا وواقعا .

وعلى هذا النحو التقت الفردية الجامحة بجماعية الواجب الوطنى . ووجدت المشاعر الفردية شروط تحققها فى أحضان الوجدان الجماعى ضد العدو وأنصاره . ففى ذلك الوقت كانت عيون الاطفال الموتى – كما يقول أرجوان – تحول بين الفرد وبين صورته فى المرآة ، وكانت الكلمات تأخذ شكل الدموع . وفى تلك الفترة أصبحت الرواية شعرا والروائيون شعراء .. لتحرير فرنسا من نفسها ... من ذاتها القديمة ، التى انتهت الى جنرالات الحكومة الحالية ، حكومة فيشى المتعاونة مع النازى . لقد كانت رواية " عشاق أفينيون " مخطوطا مهربا تدور حوادثها فى نفس الاماكن التى كان الشاعر " أراجون" و"الزا " المؤلفة يناضلان فيها باسمين مستعارين . وكان أراجون فى تلك الايام يحمل الزا فى قلبه كأنها عصفور جريح ، باكيا صارخا فى قصيدته "مامن حب سعيد ".

ونحن نقرأ هذه الرواية القصيرة ، كما نقرأ قصائد أراجون بعد انقضاء الطابع الخاص لفترة الكتابة ، ونرى فيها جميعا ما يستطيع تجاوز تلك الفترة ويحيا فى أيامنا .

الأغنية القصصية الغرامية :

تنتمى جولييت نويل ، كما تنتمى كل جولييت ، الى الاغنيات القصصية التى تدور حول وقدة الهوى ومغامرات الفروسية ( الشعر الرعوى فى المصطلح النقدى ). ومن المعروف أن هذا القالب أصبح مثقلا بالافتعال والتكلف ولا علاقة له بالبساطة الطبيعية التى يدعيها ، ولا بعالم البسطاء ووجدانهم . انه مهرب وهمى من تعقيد حياة الترف والمدينة عند السادة ، يضعون فيه مشاعرهم وقيمهم وصورتهم المتخيلة عن " الانسان الطبيعى " الذى تدور حياته كلها على الحب .

وفى هذا القالب الشعرى الموروث تجسد البطلة جولييت أو غيرها كنوز الطبيعة من شذى ولون ونغم . خصلاتها تتموج والعيون تتألق بالنجوم ونبراتها ان لم تردد الموسيقى الغدران فلابد أن تردد شدو طائرما . و" جولييت نويل" تتحرك فى مشهد عناصره النجوم والفجر والاشجار والغدران ولا بأس من قليل من أوجه القمر أو غناء قبرة على الأقل .

وبطلة روايتنا محاطة " بقوس قزح" وجدانى ، بكل ألون الطيف ، من " كلمات القلب" . فالصغيرة قد أبتلعت كل الخدع التعبيرية المصطلح عليها ، والتى تتراكم تراكما جاهزا اتفق عليه بائعو الاحلام العمومية فى السينما والأغانى . وكلمات الحب وتعبيراته الملونة تهئ بمجرد النطق بها جوا خاصا وانفعالا هشا عابرا رقيقا بلا شكل ، فى لعبة لفظية يعرف الباعة قواعدها وطرائق الغش فيها ، ولا علاقة لاجادتها بوجود المشاعر ولا بعمقها .

ولكن جولييت تعيش داخل هذه الاكذوبة الغنائية الشعرية ، بل أنها تتقمص هذه الأسطورة العاطفية حتى تكاد أن تفقد قوامها النفسى الواقعى ذائبة فيها . فانفعالاتها الخاصة الشخصية قد تشكلت وتلونت وتعرضت للتشوية داخل قالب عاطفى ملتهب يفرضه سياق اجتماعى بارد القلب أو بلا قلب .

لقد كانت جولييت قبل الهزيمة والمقاومة فتاة عادية تافهة مبتذلة ، تنتج العلاقات الرأسمالية أمثالها بالجملة ، تقوم الاساطير الرائجة المعتمدة بالترتيب الداخلى لخبراتها وأعمق استجاباتها ، وبتشكيل عناصر ادراكها وحسها وصبها فى قالب يخدم أهداف المسوخ المهيمنة واستمرار سيطرتها ... وتظل الامكانات الحقة لحياة القلب ضائعة غائبة .

والمؤلفة تقدم لنا منذ السطور الاولى للرواية " جولييت " فى واقع ابتذالها وامكاناتاها الغافية القابلة للتحقق . كأن جولييت ممثلة سينمائية تقوم بدور كاتبة على آلة . والمؤلفة لا تصف لنا منها ملامح مميزة ، بل تكتفى بلمسات تشير الى سحرها وجاذبيتها وهى لمسات تؤمى جميعها الى الرقة والعذوبة وتألق موجات الشعر ووردية الانامل ، طابع حسن وأناقة طبيعية فى رداء متواضع ملتصق بالجسم . الراعية الجميلة أو الريفية الحسناء فى ثيابها البسيطة تنفق عمرها انتظارا للفارس . ولكن الرواية تسلب الراعية السيننمائية سمات مقررة تتعلق بالنهدين والخصر والردفين ومقاييسها المعتمدة ولا تترك لها الا الاستغراق فى الاحلام .

وكما يحدث فى القصيدة الغنائية القصصية ... لابد أن يجئ فارس مزيف وفارس جدير بالتسمية . وفى الرواية يتقدم لجولييت فى السطور الأولى رئيسها الكبير وهو جنرال متقاعد من الفرسان متزوج يعرض عليها منصبا مرموقا هو منصب العشيقة المتفرغة . كما يتقدم رئيس آخر لها . ونكاد نتوهم ان جولييت لا تخضع لاغواء وانها تحتفظ ببكارتها كأنها حصن منيع .

ولكننا نعرف بعد سطور قليلة ان جولييت قبل ان تصل الى العشرين كانت قد تعرضت فى الحب للمهانة والاذلال وانكسار القلب .

وهل تبخل علينا البدائل المعاصرة لقصص الحب الشعرية القديمة أى الفيلم والاغنية والرواية العاطفية بصرخات اللوعة والوجد ؟ ان هذه الاشكال المعاصرة التى تعيش جولييت داخلها أكثر مما تعيش داخل واقعها تبدو لها كأنها رفض للنزعة السوقية الغليظة فى مجتمع يعبد النقود والنجاح التجارى ، وهل كان باأمكان جولييت ان تدرك أن الهرب العاجز الى عالم العواطف الرقيقة الحالمة يعقد صلحا مع شرور العاالم ؟ وهل من الممكن أن يبنى أمثالها أعشاش الحب السعيد على الشجرة الملعونة ، شجرة السباق الاجتماعى القائم ؟

وتننزع " عشاق أفينيون " غشاء الألفة عن أسطورة الحب المعاصرة التى تعيش البطلة لها . وتدمنها فتلتئم علاقات الواقع فى ذهنها ، ففى " أركاديا " المعاصرة – أرض أحلام البساطة الطبيعية – يكون الفرسان ورجال العشق العذرى ملاكا وتجارا وسماسرة ومتسلقين يقطع بعضهم رقاب بعض كل لحظة داخل السوق فى حلبة المنافسة ، وهم ممتلئون حتى الحافة بالجشع الحر النقى ، فى حربهم الفروسية الدائمة حول الغنائم والأسلاب من عرق ملايين العاملين والعاملات ، ولا يفوت فرسان السوق أن يرتدوا حريرا مثاليا ناعما من قواعد الشرف بين اللصوص عند توزيع المسروقات . وهنا يصبح الحب صفقة ،و" الخيانة " نوعا من توكيد الذات يتفق فى اخلاص وأمانة مع المنطق الكامن وراء عقد أى صفقة : حاول أن يكون نصيبك من الربح أعلى دائما من الشريك العزيز وحبيبتك الغالية .

ترنيمة عيد الميلاد:

وبعد أن تعرضت جولييت فى حبها للمهانة والاذلال وانكسار القلب نجدها تعيش مع خالتها العانس . فهى مثلها مرشحة لان تكون عانسا . وتتبنى طفلا لقطيا بدلا من ثمرة حبها المجهضة . لقد كان حبها لفارسها الخائن ضائعا لقيطا ملقى به على الرصيف . وكذلك كانت بلادها .. منزوعة السلاح ، لم ينجح أحد فى اخفاء دموعها ، على الرغم من الأمجاد الزائفة التى يتشدق بها حكامها الخونة . باريس أيضا كانت عريانة جائعة مرتعدة بردا على ركبتى جندى المانى .

وبعد أن تسمع جولييت بمصرع شقيقها بأيدى الغزاة تقودها زميلة فى العمل الى حركة المقاومة .

وهل يبدو من الغريب على جولييت التى تشبه سحابة وحيدة هشة – بعاطفيتها الملونة التى تشكل مهربها من ضياع تألف جمعى تستقر فيه حياتها المبددة – ان تنزلق الى العاصمة العاتية ؟

لقد كانت المسألة على العكس من ذلك . انها التحقت بالمقاومة ببساطة ابن يعود الى بيته بعد أن تأخر قليلا فى المساء ، هى التى فقدت مع أبناء وبنات شعبها البيت والوطن .

وتصور الرواية بكل احداثها ان "الامر" بالانضمام الى جيش المقاومة بالنسبة الى جولييت ( وبنات وأبناء فرنسا) كان أمرا لم يصدره رئيس أو زعيم أو قائد . لقد كان صادرا من تاريخها الشخصى ومن تاريخ بلادها ، كان أمرا يمليه قلبها الذى جرحه السكين جرحا عميقا . ونرى جولييت ، السحابة الهشة الوحيدة تنزلق ببساطة الى العاصمة العاتية بموسيقاها الجديدة ، وانفعالاتها الجماعية المقتسمة ، وافقها الذى لا يحنو على فرد واحد بل يحنو على الجميع .

ولكن الرواية لا تقدم لنا اسطورة غنائية عن حب الجماعة بدلا من اسطورة الحب الفردى .

فالرواية لم تفرض على " الجماهير" ولا على " جولييت" طابعا عاطفيا مثاليا يزيفهما معا . وليست " الجماهير " فيها الها خرافيا كلى القدرة على حين بغتة . ولا نجد جولييت مرتدية دروع جان دارك على مقاسها الصغير . فالناس ظلوا يضطربون فى مناشطهم المعتادة .

ولكن الرواية تصور – داخل العادية والابتذال والمجرى المألوف – لحياة الناس وانفعالاتهم ميلاد نقطة تحول حاسمة . فلم تعد المقاومة والحركة الثورية عند شعب فرنسا تنظيمات نضال وقتال فحسب ، لم تعد جيوشا فى معسكرتها وقلاعها يقودها الجنرالات .

ففى هذا الميلاد الجديد اصبحت "المقاومة" طريقة لتنظيم الحياة العادية والفكر والشعور خروجا على "قانون" الطغاة . وارساء لقوانين جديدة تسير عليها الحياة اليومية فى السلوك والفكر والشعور .

وفى ترنيمة عيد الميلاد تنزع كلمة " الحب " الشهيرة التى تعيش جولييت فى أسرها ، أقنعة ابتذالها الزائفة متحسسة فى تعثر وعجلة طريقها الى التحقق الفعلى ، باحثة فى حيرة عن معناها فى حياة الافراد وعلاقاتهم ، بل وفى طريقتهم فى التضحية بهذه الحياة .

مغامرة الخارجين على القانون :

وننتقل مع جولييت الى مفارقة مريرة ، انها بعد ان انتقلت الى حياة الفعل الجمعى ، واكتسبت مشاعرها وعيا اكثر نضجا وان لم يكن اقل الما ، نلتقى بها مرة ثانية : أمرأة وحيدة فى مخبأ للمقاومة ، ريفى ضائع داخل الجبل ، تشن عليها الجرذان غارة صاخبة وسط ثلوج عيد الميلاد . فالرواية لا تقوم على تطابق مباشر بين رمز عيد الميلاد والواقع ، ولكننا فى هذا المخبأ أمام صورة استعارية تكثف حلقات حياة جولييت السابقة وسط المخاض الجديد .

المكان كله كأنه مغارة من مغارات قطاع الطرق ، غرفة ضيقة خانقة بلا منفذ ، وتنفذ الاعاصير مع ذلك من الواح أرضيتها المتفسخة وماذا يحيط بذلك الواقع النضالى ؟ لا شئ من أمجاد أرض معركة سينمائية ، بل تحيط بالمنظر كله زجاجات مكسورة وأوان مثقوبة وأحذية قديمة . لقد جاءت لتلتقى بالفلاحين باحثة عن اماكن لايواء المناضلين الهاربين من العدو ، ولتلقى مساعدات قوات الحلفاء من الجو . وهى لذلك تخوض المستنقعات والوحل وتستخدم اسماً مستعارا .

ومع هذا الانتقال نجد انفسنا داخل شكل روائى آخر تقدمة المؤلفة ليقوم بالتعقيب على الشكل السابق شكل الاغنية العاطفية القصصية ( الرومانس ) وليشاركه فى متابعة السرد . انه اول شكل للرواية الحديثة : مغامرات الخارجين على القانون . ولكن عشاق أفينيون تخضع عناصر هذا الشكل للتعديل الملائم . وهى عناصر اضمحلال اجتماعى ، تحفل اماكنة ومسافاته وارتحالاته بما هو مهترئ وبال ومتآكل من رفات العالم ، وبما يهدد من مخاطر وحبائل . وتقع جولييت فى سلسة من المواقف الحرجة والمآزق وتخرج منها ، تمشيا مع منطق هذا الشكل الروائى ( البيكاريسك) الذى يكاد أن يكون نقيضا هازئا بقصة الحب الشعرية . وتنقل الينا عشاق أفينيون جولييت جائعة ترتعد بردا وقلبها يهفو فى عنف الى الاشياء العادية وملمسها ومذاقها ، الى مجرد مياة حمام ساخن او قدح قهوة ممزوجة باللبن مع الزبد والفطائر . وتجيد جولييت الكذب للخروج من المآزق ، ولا نسمعها وهى تنام فى المغارة مع افرازات الجرذان وحولها المقاعد العرجاء متغنية باناشيد الثورة ولكن نسمعها تصرخ : أبلغت بهم الصفاقة أن يرسلونى الى مثل هذا المكان ؟
وبطبيعة الحال فان جولييت التى تتغلغل الاحلام فى حياتها وهى تحياها ، وتبتاعها مع تذكرة السينما وتأخذها معها الى فراشها تعرف الافلام العاطفية ، الشكل الجماهيرى المعاصر للأغنية القصصية الرومانسى كما تعرف أفلام المغامرات وشجعان السينما وهى الشكل الجماهيرى المعاصر لرواية قطاع الطرق القدامى . وهى تقلد أثناء هروبها من الجستابو قفزات الممثل السينمائى دوجلاس فيربانكس . وليس تزاوج هذين الشكلين الروائيين وتناقضهما فى عشاق أفينيون حيلة شكلية خارجية . فجولييت الحالمة التى كانت تخاف أن تبقى وحدها عند حلول الليل وهى فى قلب باريس ، فى منزل متخم بالسكان ويدركها الاغماء حين ترى فأرا صغيراً أصبحت تأوى الى مغارة جرذان داكنة محاطة بالأشواك وسط الفراغ الجليدى الممتد . بل انها لو مشت على الماء مكررة معجزة المسيح لوجدت ذلك " عادياً " ، بعد أن أصبح هول الاعدامات المتوالية وبشاعات السوق السوداء ، ومغامرات الهروب الخيالية من قبضة العدو أمورا عادية .

ولكن أكان ذلك حلم جولييت ؟ لقد كان ذلك يبدو كأنه حلم شخص آخر غيرها انزلقت اليه يقظتها . انها تواصل حلمها بالحب راقدة على كومة قش بين رقص الجرذان وظلال سقف يوشك أن ينهار على رأسها ... وفارسها مازال يشبه جارى كوبر أو شارل بواييه . فلا بد أن يكون جميلا كما ترسمه الاغانى .

بل انها وهى تسير الى أهدافها فى الطرق الوعرة الموحلة وترى الجو هادئا عذبا توقن بأن الله انزل العذوبة فى هذه الايام ( الحافلة بالرعب ) لكى تلد العذراء أثناء ربيع متوهج فى قلب الصقيع . وترى القمر عروسا متألقة وترى الهالة المحيطة بالقمر خاتم زفاف ، فما أجمل أن يقتسم تلك العذوبة اثنان . وتستمر المزاوجة المتناقضة بين أغنية الحب الريفية ومغامرة الخارجين على القانون لتصل بنا الرواية الى تركيب جديد .

فالقبرة التى تعودنا الاصغاء اليها فى قصائد البساطة الطبيعية العاطفية لا يستطيع الفلاحون الذين تعقد معهم جولييت الصلات الآن أن يستمعوا اليها ، فشواغل الابقاء على الجسم والبحث عن الطعام والوقود تجعل الحياة الريفية رعبا بليدا . وتشبه القرية بجدارنها المتداعية مقبرة صغيرة . والعدو بملابس جنوده الرمادية يشبه القمل فى شعر الطرقات . ورجال الشرطة ككل المتعاونين مع العدو مكتنزو الارداف والأفخاذ بالشحم وسط الجوع .

وأثناء الرحلة تبيت جولييت فى فندق مريب لتجار السوق السوداء وللممارسات الغرامية المحرمة ، وتقوم بدورها الصغير فى الميلاد الجديد . وفى أوتوبيس مزدحم تصبح ركبتها نقطة ارتكاز لسلال فلاحة عجوز تحمل ديكة رومية ، البند الاساسى فى وليمة عيد الميلاد وتحتفل الديكة بالعيد على طريقتها ، فترمى بإفرازتها فى كرم شديد على جورب جولييت وحذائها .

البحث عن آفق جديد:
أن عشاق أفينيون تحاول الوصول الى النواة الحية الواقعية فى اسطورة الحب الغنائية ، وتقدم داخلها تمثيلية تلعبها البطلة مع زميل فى المقاومة هوسلستان فى تجربة لوضع الاسطورة التى تقف فوق رأسها على قدميها . وما قامت به الزا مماثل لما قال أراجون أنه يقوم به من "قلب" لقصيدة الحب العذرية وقصيدة العشق الالهى ، وانزال ما فيها من جذوة الوجد والفناء المحموم فى المحبوب والاستشهاد فى سبيلة . الى أرض الواقع والمعركة .

وفى عيادة " طبيب ولادة " له دور بارز فى حركة المقاومة – هو الدكتور أرنولد – الأشقر الأصهب فى لون الشروق وميلاد الصباح الجديد – تكون نقطة الوصول فى رحلة جولييت أو نقطة البدء .

كان المفروض أن تنتهى مهمتها هنا لتعود الى خالتها ، وجوزيف طفلها بالتبنى لتحتفل بأعياد الميلاد . ولكن الطبيب يدعوها لأمر طارئ عاجل أن تذهب لأفينيون لانقاذ عمال على وشك الاعتقال ... ولتلتقى بسلستان .

وهنا تنشا علاقة تناهض المنطق السابق لحب جولييت المجهض . فهى علاقة ترفض منطق القفص الوثير والحظيرة مكيفة الهواء وتناصب قانون سوق النخاسة العداء ... بل تحلم بسلم موسيقى جديد لنبضات القلب لكى تتجاوب مع الموسيقى الجديدة للعاصفة النضالية ، موسيقى خارجة على القانون الجائر العتيق تعلن عليه العصيان وتقترح قوانينها الجديدة لنفسها .

وتتلقى جولييت فى أيام عيد الميلاد عمادة بالنار . فحينما كانت فى مغارة اللصوص فى المزراعة المهجورة هيمنت صورة النار فى الصقيع على المشهد . والرواية تصف الكدح المبتذل المقزز لايقادها فى تفصيلات طبيعية النزعة ، ثم تصف النار وهى تندلع متفجرة متوثبة الالسنة كأنها كائن حى شديد المكر ، فهى تبدو منكمشة ضئيلة على وشك أن تخبو ، واذا بها تنبعث عالية غامرة الضياء فى مرح صاخب ونهم لا متناه كأنها صبوات الحب ، كأنها فاعلية الشعب ، وحينما تلتقى جوليت بسلستان تحيط بهما فراشات النار المتراقصة المحترقة فوق المدفأة العالية .

وتضع الرواية جولييت وسلستان فى قلب أسطورة الحب الغنائية فهى تضعهما أولا فى " أفينيون " . وتتحدث المؤلفة بصوتها هى عن أفينيون . المدينة المقدسة التى كانت مقرا بابويا ، وظلت تابعة للبابوية حتى نهاية القرن الثامن عشر ، وهى فى نفس الوقت مدينة شيطانية مدنسة بآثام المتع الجسدية ، مدينة منذورة للسيدة العذراء ولفينوس وللابالسة ، منذورة للحب الصوفى الشاحب النقى المتحرر من الجسد فى الأديرة ، ومنذورة فى نفس الوقت لآثام الشفاة والعناق المحرم . وأفينيون موطن لأسطورة الحب وقصائد الحب وقصصه .

والمؤلفة تعلق بصوتها لتضيف بعدا جديدا عن الحاضر : فهى تقول والآن لقد نزع منا كل شئ حتى احلامنا بالحب . فلا يسكن العالم الان الا أحباء قد انفصلوا . وبدلا من كتابة محفورة على جدران شوارع أفينيون – كانت تمجد ميلاد أى قصة حب واقعية كأنه ميلاد رجل عظيم – تجد الآن رايات الغزاة على الجدران .؟

وفى حرارة غرفة سلستان ، يبدو الدفء كأنه ينبعث من جسم هذا الفارس ، فهو ضخم كأنه قد قفز لتوه من أغنية حب شائعة . ولكنة يتساءل مبددا ما تثيرة الاغنية العاطفية من توقعات عند اللقاء والوصال .." أين يجد الحب مأوى وسط المجاعة والرصاص والسجن ...؟ لقد فر بعيداً ".

وهو يقدم ما يتوهم أنه بديل للحب بين الرجل والمرأة ، فلم يبق ألا الحب الذى يحمله المناضلون لقضيتهم ورفاقهم .

" أن أرجلهم تخوض فى وحل الخيانة ... والخونة مندسون فى صفوفهم " .

وتقترح جولييت أن يقوما بتمثيلية حب ، أن يلعبا لعبة أن كلا منهما يعشق الآخر . ولكن سلستان يتحدث عن الكراهية ، فقد فرغ لتوه من قتل متعاون مع العدو وقد أتعسه ذلك . كان لابد أن يبذل جهدا ضخما لكى يؤمن بأن الخائن يستحق القتل .. وأن يمتلئ بالكراهية من أجل الحب .

ولا تقدم لنا الرواية ليلة زفاف وأغنية عرس مثلما نجد فى دراما الحب الغنائية . فنحن أمام لاعبين لا عاشقين ، وهما يطرحان فحسب سؤالا عن مكان الحب . أن سلستان مثل جولييت تتستغرقه قصة حب مات .

فالبطلان – بكلمات أراجون – وحيدان مع مسرحية لم يمثلاها ، مع نص لم ينطقا به . ولم يبق ألا أن يؤديا دوريهما حقا ... فى مسرحية لم تخلق لعيون الاخرين .

ولكن الليل الذى ذبح فى السجون ، وتحت أقدام فرق الاعدام وفى علاقات السوق البيضاء والسوداء التى تفصل بين الشفة والشفة أو تسمم القبلات ، مازال كثيفا بينهما .

وتواجه الرواية لعبة الحب وأسطورة الحب ، بواقع مغاير لعلاقة حب تحققت بالفعل ، بحثا عن بذرة حية فى كومة قش الأسطورة :

ان جولييت وسلستان يتجولان وهما يلعبان لعبة الحب فى القلاع الأثرية لأفينيون ، حيث أعتاد العشاق قديما أن يكتبوا على الجدران فى مزار الحب المقدس ، ونراهما يتتبعان فى مشقة كبيرة ما تبقى من سطور قصة حب مسجلة على الجدارن . وقد تخلل السطور مرور سنوات وسنوات " لقد أتت ... لقد عادا ثم أدركته الشيخوخة ولكن قلبه مازال وفياً ... ثم تعاسة أن قلبه العاشق وحده بقى مخلصا .. لقد أدركته الشيخوخة وهى جميلة .. ياالهى اجعل الحب الذى يكنه لها أبديا آه لو يستطيع أن يموت قريبا منها " وفى النهاية لا تحرمنا السطور المنقوشة من لقاء سعيد .

" لقد أدركته الشيخوخة .. وهى جميلة ... وقد عادا " وكان تاريخ العودة المنقوش 30 أغسطس 1937 .

وتحدثنا المؤلفة فى مقدمة عام 1964 أنها بعد نشر الرواية تلقت خطابا بلا توقيع يسألها هل ترغب فى التعرف على عاشقى البرج؟ وكان فى الخطاب عنوان للمراسلة . لكنها لم تكتب ردا فقد خشيت أن يكون الأمر خديعة أو مزاحا . ولكنها عادت كثيرا الى ذلك المكان وصعدت الى البرج .

وحين تحولت القلعة الى سجن للمتعاونين مع العدو أيام الاحتلال سدت فتحات البرج بألواح تحجب الضياء ، وغمر الظلام النقوش المكتوبة . ولكن الزا كانت تشعل ثقابا أو تستخدم " الولاعة" لتتأكد أن نقوش الحب باقية ، وكانت تقرأ فى اللهب مصادفة ماكتبة العاشقان فى 1934 أو 1937 .
وفى عام 1964 اصطحبت معها الفنان لوسيان كليرج ليلتقط صورا لهذه النقوش ، وصعدا معها الى القلعة. وأراد الحارس منعهما من الدخول فثمة خطر أنهيار البرج .


أما العاشقان القديمان فلم يعد فى استطاعتهما الصعود . وقد شاهدت الزا ومعها الفنان نقشا أسفل السلم الحلزونى الضيق لقد عادا ...1960.

لقد واصلت الحياة مسيرتها .

وتتحدث جولييت عن يقين لا يقدمه الا الحب . وحينما يفتقد الانسان هذا اليقين ، فما أقسى الضجر الذى ينقض على العالم .. الضجر الذى يسرى فى كل ايماءة وحركة ومنظر وصوت . أنه ضجر قاتل يجعل الانسان يموت فى ابتذال لامذاق له مغطى بالرماد والبقايا التالفة .

ألا يعنيك أن تصبح جميلا ؟

وتعمد الرواية الى تحرير التمثال الذى تحجر فى أساطير الحب القديمة والحديثة من قالبه الخانق . وهذا القالب هو قالب اكتمال شكلى ساكن لجمال طبيعه ميتة. ان الحب مرتبط بجمال ذى مواصفات مقررة ، وهو امتياز للشباب الجميل بهذه المواصفات ، ولا تمارسه الا شخصيات الخيال والحلم .

وتضع المؤلفة البطلين فى ديكور ملائم لاختبار هذه الأسطورة ولاعتصار ما فيها من رحيق . فهما يذهبان الى حانة صغيرة ، كل ما فيها صغير ضئيل ، ولكنه يقلد تقليدا متقنا الأشياء ذات الجحيم الطبيعى ، من مقاعد وستائر وأوانى وأقداح ، وكأن المكان يقوم بتمثيلية مصغرة لوقائع العالم الكبيرة .

وتقول لنا المؤلفة بصوتها : حاول أن تتصور أن شخصيات الحب الضخمة ، شخصيات الخيال والحلم .. مدام بوفارى وأنا كاريننا وفرتر وجارى كوبر وشارل بواييه قد أتوا جميعا فجأة ليجلسوا على المنضدة نفسها . أنها شخصيات قريبة منا جدا ولكن ما أشد ابتعادها ! فليس من الممكن الامساك بها . ولكن جولييت وسلستان يمسكان بها فجأة ، فى صورة لكل منهما تتكشف لعين الآخر ...

جولييت الطفلة المنذورة للحب متجسدة فى طابع حسن وفى مروج شعرها وفى لون أظافرها وشكل خاص للأذن .. جولييت تلك الطريقة فى اخراج المرآة من حقيبة صغيرة تعانى من الارهاق ، الطلاء الذهبى وقد سقط من غلاف أصبع الشفاه ، قفازات الصوف مرتقه بعناية عند الابهام . ويلاحظ سلستان بدهشة وفضول كما لو كان يعيد خلقها ، طريقتها فى ارتداء القبعة وفى تمرير أصبعها خلف أذنها وتعبيرات عينيها والهالة حولهما .

وسلستان كذلك يترك قالب التمثال أو اطار الصورة ليقفز الى عينيها بيديه الخشنتين والسبابة التى صبغها التدخين بالاصفرار والزر الناقص فى سترته والتجاعيد تحت عينيه المستطيلتين ، نظرته التائهة والشعر المتمرد والابتسام النادر .

ويتألق الناس العاديون بما كان وقفا على أبطال الأساطير ....وبكلمت " أراجون "

أهناك شئ أجمل من بسمة تضئ حتى أسارير الوجه الذى فرض عليه التشوية ، ألا يعنيك أن تصير جميلا ؟ ... فالدمامة هى فقدان التناغم ، وما من جرح لا يستطيع قليل من التجميل بأنامل الاستجابة اليقظى وتدفق الحيوية والقدرة على التلقى والاغداق أن تجعل منه شفتين .

الشعر والرواية والتاريخ :

والكاتبة هنا ليست عينا ترصد أو عدسة تسجل تسجيلا دقيقا . فهى لا تخفى أنها تضفى على المرئيات رمزية اجتماعية ونفسية لتخلق جوا منذرا وواعدا فى آن معا ... وارادة للتجاوز . وتلتحم أسطورة الحب ومحاولة اعادة خلقها بخلفية شديدة الواقعية . الا أن الاحداث لا تتحرك وفقا لمقتضيات الرمز والمجاز فيها ليسا الا منطق الواقع فى أعمق مستوياته .

ونلاحظ أن اللقطات الجزئية تتجاور وتتابع فى تصميم محدد متعين ينقل الحياة فى ملامح عامة تسهم كل تفصيلة فى خلقها . وهذا التصميم المتعين يجمع شتات التفصيلات فى بناء موحد أو صورة معممة تكثف كل الحلقات . أن النموذج الذى يجتمع لقطة بعد لقطة فى الزمان وفى اتصال السرد القصصى ، يقفز فى وجداننا كأنه لوحة شاملة متواقته العناصر ، تستطيع أن تقفز خارج لحظات بعينها لتعبر عن وضع عام .

ويعمل التقشف الشديد فى صيغ الأفعال الذى نلاحظة فى عبارات الرواية على أعطاء انطباع بالتواقت على الرغم من ان السرد يصف تتابعا ، كما يسهم فى ذلك ما يكاد أن يكون فى الأصل غيابا للروابط بين الجمل والفقرات ، وذلك قد ينقل أحساسا بسلاسة الانتقال بين الجمل والاحداث وكذلك البناء المتماثل اعرابيا للجمل .

وفى الرواية ايماءات متعددة الى تراث الدراما الغنائية الشعرية وخاصة روميو وجولييت .
فكما ياتى الفجر فى نهاية زفاف روميووجولييت ايذانا بالفراق تاتى الطرقة على باب سلستان وجولييت – ولكنها تأتى قبل الشروع فى الرقص ويقول هو ليست اللعبة الالعبة وتقول هى الحب عملة مزيفة .. والأوهام عنه وحدها هى كل الحقيقة .


وثمة ايماءة مماثلة الى موكب جنازة جولييت والتعبير عن الأسى والأمل فى الخلود والاشتياق المحترق الى عصر الحب الذهبى فى بساطته البدائية .

ولكن الزا تريوليه لا يستهويها أن تعيد تشييع جنازة جولييت للمرة الواحدة بعد الألف كما لايستهويها أن تستبدل بها أنشودة زفاف حافلة بوعود المتعة .

ان جولييت نويل تحلم بأنها ترقد فى تابوت من توابيت الموتى داخل سرداب حجرى ، وتحس بأنها لن تخرج من بين تلك الجدران أبدا فهى قد دفنت حية ... فالعدو يحكم الحصار حول المقاومة ويتكاثر الخونة ويتساقط الضحايا . ولكن عود المقاومة يشتد فى اختبار النار وتتأهب المعارك الفاصلة ... وجولييت تواصل طريقها الجديد . ولكن العدو يواصل وضع الحواجز بينها وبين سلستان واذ توشك أن تلتقى به يحول العدو دون ذلك وتضحك فى هسترية وتبكى لقد كان جميلا فردوسها المفقود .

ولكن الفردوس المفقود ألف مرة حاضر فى متناول أيدنا ألف مرة كما يقال أراجون . ويواصل قارئ الرواية تتبع الكفاح من أجل استعادته ، فى هذه الرواية الجميلة التى تغرس البذرة الحقيقية المنتزعة من الأكذوبة العاطفية فى أرض جديد ذات أفق جديد ، والتى تخلق من المزاوجة بين صيغ أدبية متغايرة سردا روائيا واقعيا عن شخصيات نموذجية فى مواقف نموذجية .لقد أحببت دائما على نحو شخصى "جولييت نويل " الى أقصى مدى. فأنا أراها شديدة الفتنة والجاذبية .ويقال لى أننى أحسن الظن كثيراً بالنساء ، وأجدهن جميعاً جميلات ، أو على الأقل اننى أجد فيهن جميعاً " شيئا ما" ، جميلاً . ومن الصحيح أنه يكفينى أن أجد أمامى ، بشرة جميلة ، أو شعراً متموج الخصلات ، أو أنامل وردية ، أو شامة ، أو طابع حسن . ولكن يمكنك هذه المرة أن تصدقنى دون أقل تساهل من جانبك ، فمن الصعب ألا تجد أنت جولييت " شديدة الجاذبية والاغراء ، كأنها ممثلة سينمائية تقوم بدور كاتبة على الألة الكاتبة . فهى ذات شعر حريرى . وأهداب طويلة ، وتتمتع بأناقة طبيعية تتبدى وهى فى ( بلوفر) متواضع من الصوف ملتصق بجسمها ، وتنورة قصيرة جداً، وحذاء ذى كعب عال ، ولكن جولييت بالاضافة الى ذلك كاتبة فعلا على الألة الكاتبة ، كاتبة من الطراز الأول ، تجيد الكتابة ، لذلك فبعد ان كانت واحدة بين عشرين كاتبة فى مصنع الطائرات ، ثم سكرتيرة مسيو مارتان ، المهندس ، أصبحت السكرتيرة الخاصة للرئيس الكبير نفسه . وقد حدث هذا ، كما لو كان يحدث فى مسار حياة ممثلة ناشئة تحل بخطى سريعة محل نجمة مشهورة ، ثم تفوز بالنصر ، فلم تكن كاتبة اختزال مجلس الادراة ، قد حضرت ، وفى الدقيقة الأخيرة ، بعد اليأس من مجيئها ، استدعيت جولييت كحل أخير . وقد تولت بكفاءة تسجيل التقارير كافة ، والمناقشات أيضاً ، حتى أن الرئيس الكبير أعلن على الفور أنها ستعمل معه . أما المهندس مارتان فقد صار حزينا الى حد لا يجدى معه العزاء .

كان يبدو على جولييت بوجهها الجميل الذى يمكن أن يوضع على غلاف مجلة مارى كلير ، نوع من التحفظ والوقار ، يجعل الناس تتعامل معها من بعيد . فقد مر عليها عامان وهى فى مصنع الطائرات ، ولم يساور أحد الشك – حتى فى أنها تنام مع المدير ، رئيسها ، ( وهو جنرال متقاعد من الفرسان ، يتشبث بطريقة خاصة فى المشى ، ويرتدى سترة سوداء مزينة بشارة القائد ، وسروالا مخططا ) وذلك على الرغم من المارون جلاسيه الذى كان يحمله اليها فى رأس لسنة ، والزهور فى عيد ميلادها . ولكن كل الناس كانوا يعرفون رقة السيد المسن فى معاملة النساء ، أما ما لم يعرفه الناس فهو أن السيد كبير السن قد اقترح عليها ، مع كل التحفظات الخطابية الممكنة ، أن تعيش معه كعشيقة متفرغة . ولم يكن بمقدوره أن يقدم لها شيئاً أفضل ، لأنه كان متزوجا ، كما أن المهندس مارتان كان قد طلب من جولييت الزواج .... وقد رفضت الواحد بعد الآخر ، برقة وكياسة وبطريقة استطاعت بها أن تواصل عملها كما كانت الحال فيما مضى . لقد اكتشف مديرها فيها ، قوة وارادة وشعوراً بالواجب يماثل كلاريسا هارلو(1) أو أميرة كليف (2) ، وهو لم يكن يعتقد . أذا أردنا الدقة ، أنه فى الفترة التى عملت فيها عنده كانت قد التقت قبل بمن يماثل ( لا فليس ) فى حياته الخاصة ... ولكن ، كان هناك بصفة عامة اتفاق على أنها فاتنة ، على الرغم من أنها باردة قليلا ، أو حتى كما يقول بعض الناس عنها غامضة ، ولكن ذلك لم يزدها الا جاذبية .

ومع ذلك فليس هناك شئ غامض فى حياتها ، فقد ولدت ونضجت فى باريس ، وانتقل أبوها الموظف الى مدينة الجزائر بعد ذلك . وكان لها ثلاث أخوات أصغر منها . وأخ أكبر . وبعد أن ماتت أمها ، تركوها ترحل مرة أخرى الى باريس ، لانهم لم يكونوا أثرياء ، ولأن الخاله ألين ، شقيقة أمها ، كانت قد طلبت أن تكون جولييت فى رعايتها . غير أن جولييت لم تبق طويلاً فى ظل هذه الرعاية ، فما أن بلغت الثامنة عشرة ، حتى عملت كاتبة على الآلة الكاتبة عند محام باريسى ، وبقيت لديه مدة عام . وبعد ذلك غادرت هذا المكان ، وكانت الخالة ((ألين)) مضطرة لأن تصدقها حين قالت أنها مريضة ، فقد أصبحت شديدة الهزال والشحوب .

ولم تكن الخالة (( ألين )) فضولية أو مياله لتكدير الجو ، لذلك لم تطرح عليها أسئلة من قبيل .( لماذا أحمرت عيناك ؟ لماذا لا تأكلين ؟). وحينما كانت تجلس بالقرب من المدفأة . لم تكد ترفع رأسها ببياضة الرائع ، عن عمل الابرة ( فهى التى تصنع بلوفرات جولييت ) الا لكى تقول ،( لقد سخنت عشاءك . وهناك قطعة صغيرة من القشدة...) وخلفها كانت تنتصب ساعة الحائط بقوامها الضئيل حتى لتشبه آله كمان نحيلة العود قد تمددت بطولها ، كما كان ينبعث ما يشبه الوميض من كل أدراج المكتب الصغيرة ، أما أدوات الطعام الخاصة بجوليت فكانت موضوعة على مائدة صغيرة مستديرة ، مشدودة الغطاء ... كان كل شيئ يدعو جولييت الى الهدوء والراحة ، فهدأت ، واستعادت ألوانها الجميلة ، فهى لم تكن قد بلغت بعد العشرين من عمرها .

وفى اليوم الذى أقترحت فيه على الخالة (( ألين)) أن يتبينا طفلا ، تركت الخالة أعمال الأبرة . وخلعت نظارتها فى حيوية ، وأجابت بلا تردد :- ( ولم لا ؟.... أنا أظن أنك ستبقين عانساً مثلى ، لذلك من الأفضل لنا أن نتبنى طفلا على الفور) . وعادت جولييت تقود معها طفلا أسبانيا لقيطا بلغ من العمر عاما ، عثر عليه محموما فى قماط داخل قطار قادم من أسبانيا ، ثم جئ به الى باريس ودون أن تفكر كثيراً . أطلقا عليه أسم جوزيه .

وفى ذلك الوقت كانت جولييت تعمل فى مصنع الطائرات ، وقد أصبحت الأن أكثر لهفة الى العودة الى المنزل ، ولم تعد الخالة ((ألين)) أو هى تذهبان الى دار السينما بعد ذلك ، حتى لا تتركا الصغير وحيداً . وبدت جولييت مغتبطة ، بل لم تكن ترغب فى رؤية أشخاص آخرين . ما عدا أسرتها بطبيعة الحال ، وخاصة أخاها الأكبر ذلك الطائش الذى يستثير منها حبا رقيقاً.

وبعد ذلك جاءت الحرب ، والرحيل ... وأخيراً أستقرت جولييت والخالة (( ألين )) ومعهما الصغير ، فى مدينة ليون ، وعملت جولييت آنذاك كاتبة أختزال فى الصحف .

*****

أثارت الجرذان طوال الليل ضجة جهنمية ، حتى ليمكن القول بأنها شنت غارة على المنزل على الرغم من أن الأمور كانت أحسن وأفضل فى الداخل . وكانت الأشياء تسقط ، وتتدحرج ، وترتطم بالجدران ، وسيطر على المكان ركض مجنون، وهنا كان صوت الأسنان القارضة .... وثيق الاقتراب .

ومع ذلك ، وجد الفجر المنزل صامتا ، بلا حركة . وسرعان ما بدت النافذة تومض بالثلج المتساقط فى تلصص أثناء الليل . والى أقصى مدى تستطيع فيه ألين الرؤية من خلال هذه النافذة ، كانت المنطقة الواسعة المحيطة تبدو ناصعة ملساء مثل غطاء مائدة حديث الكواء .لم يدنسها خطو انسان أو حيوان .. – لقد كان من الجسارة أن تنام امرأة بمفردها فى هذا المنزل الضائع داخل الجبل . انها تنزل من فوق المنضدة التى كانت قد وضعت فوقها فراشا من القش . وهى ترتعش من البرد داخل معطفها الذى ارتدته فوق قميص النوم . ثم تجلس القرفصاء ،أمام المدفأة . وكان من حسن الحظ أن النار ظلت مشتعلة طويلاً فقد بقيت جذوة من الليلة الماضية ، وراحت أسنان المرأة تصطك، لكن الأمور الآن سارت على نحو أفضل ، بعد أن أستطاعت أن تدفئ أصابعها حول كومة النيران . وأخذت تفكر ( على الرغم من كل شيئ ، أبلغت بهم الصفاقة أن يرسلونى الى مثل هذا المكان !).

لقد كان هذا المكان بمثابة غرفة كبيرة منخفضة السقف ، ذات دعامات عتيقة من خشب القسطل ، الصلبة ، الداكنة مثل الحديد ، وذات جدران كانت قد طليت باللون الأبيض منذ زمن بعيد وبها نافذة واحدة صغيرة لا تتجاوز مساحتها متراً ، وأرضيتها الخشبية ذات الواح متفسخة ، تنفذ منها الاعاصير ... وبها المنضدة التى نامت عليها ، وبعض المقاعد الصغيرة العرجاء التى لا مساند لها ... فالمكان مزرعة مهجورة ، وفى هذه الأصقاع ، حيث تبدو المزارع الآهلة بالسكان نفسها وكأنها تنتمى للعصر الحجرى ، فان مزرعة مهجورة تأخذ على الفور مظهر مغارة من مغارات قطاع الطرق .

ويمكن القول بأن المرأة قد وضعت نفسها بالكامل داخل الموقد ، حتى تتمكن من أن ترتدى ملابسها ، بينما كان الاقتراب من النار على مسافة عشرة سنتيمترات لا يحتمل . ومشطت شعرها بقدر ما أستطاعت ، أمام المرآة الصغيرة لحقيبة يدها . وكان الرماد يتساقط على شعرها بغزارة ، وضحكت حين رأت السواد على أنفها ، ووضعت قبعتها على رأسها ، ثم دخلت فى معطفها .

ولكن بعد أن أغلقت الباب خلفها ، واخفت المفتاح داخل فرن الخبز الذى يقع خلف المنزل ، هو فرن مملوء بالزجاجات المكسورة ، والأحذية القديمة ، وأوانى الطعام المثقوبة ، وحينما جاوزت الفناء المبلط بالأحجار الكبيرة المسطحة ، المزادنة بالثلوج ، وبخيط طويل من الماء الساقط فى حوض حجرى تحيط به أزهار الجليد من كل ناحية ، آثار هذا المنظر الريفى فى نفسها افتتنانا ، فالمنزل يبدو منخفضا وواسعا يحتضن المنحدر وكأنه مشيد على نحو يجنبه الريح والناس ، وهو مغطى بالقرميد العتيق الذى يكتسى لون البشرة الوردية ، ولم تعد صفوفه مستوية لطول ما دفعتها الريح . لقد كان المنزل يشبه تصميما غليظا فى لوحة تصور منظراً ريفياً شاسعاً ، وكانت أشجار الصنوبر الجبلية تختفى كل منها وراء الأخرى . وكانت الأشجار تغادر مكانها فى تتابع كلما تحركت المرأة نفسها الى الأمام ، وتسلقت المنحدر ، دون أن تترك وراءها على الثلج الذى لا تشوبه شائبة سوى آثار لا تزيد عن تلك التى تتركها قدم طفل . لقد أصبح لها الآن لون وجه الطفل بعد أن زال تعب الليل بفعل النسيم الذى استروحته فى سيرها ، وأختفى هذا التعب من عينيها الواسعتين ... وكان هناك طريق فى قمة المنحدر ، سارت المرأة فيه حتى بلغت الغابة الصغيرة ، فتركته وارتادت ممراً يخترقها . ورائحة الثلج كانت نضرة داخل هذا المكان ، مثل رائحة الطزاجة المنبعثة من خزانة ثياب غسلت وجفت لتوها . بيد أن الجو لم يكن بارداً على الاطلاق ، ولو كانت الشمس قد نشرت حرارتها برهة أطول قليلا ، لأذابت كل هذا البياض ، الهش كأنه الدانتلا الرقيقة .

لقد غلف الثلج تماما كل غصن عار ، وكل ورقة تشبه الابرة .. وهناك ظهر المنحدر الآخر ، فثمة واد تصنع الجبال قاعه ، لكن الجبال بدت أشد وعورة ، وأكثر عرياً . فهنا ، لم تكن الثلوج قد غطت كل المنحدرات ، ... فظهرت مثل صفحة وجه رديئة الحلاقة ، داكنة وعرة ، هاهى ذى بعض المزارع .... وعبرت المرأة حقلا به كوخ ، حتى وصلت الى طريق . وكانت الشمس تسكب بريقاً باهراً على صخور القمم ، وعلى طيات الثلج البيضاء . وفوق المنحدرات كان قطيع من الخراف يتحرك فى تراص ويرعى عشباً لا لون له . بينما وقفت الراعيات تحت الشمس يطرزن وقد ارتدين جميعا ملابس سوداء ، تلفهن مناديل العنق والشالات ، تغطى رؤوسهن قبعات سوداء مستديرة ، أنهن يطرزن وعيونهن على المرأة العابرة . وراحت كلاب الرعى تنبح بمرح ، وهى تجرى . خلفها ، وتقفز أمامها ، ثم تعود ادراجها فى هدوء الى ما كانت تعمله .

غادرت الطريق مرة أخرى لكى تقفز قفزة فى اتجاة رأسى ، لكى ترتاد طريقاً آخر، يفضى الى الأرض المنبسطة وكأنها تريد أن تدور حول الجبل وهى تواجهه . وسرعان ما ظهر على جانب الطريق منزل يشوب بياضة اللون الرمادى ، ويشبة الدخان الذى يخرج من مدخنته .... والآن أصبح الطريق موحلاً . وكانت كومات القش الضخمة تنتصب من الجانبين حتى تبلغ البوابه . فقد كانت هناك بوابة على الرغم من عدم وجود جدار . وفى الفناء كان الوحل مختلطا بالقش ، بينما تراكمت الأخشاب حتى بلغت ارتفاع قرميد السقف ، وراحت حزم الأحطاب تتداعى على مقربة منه .وكان فى الفناء قدران كبيران غطاهما السواد تمتلئان بطعام الخنازير ، بينما كان الدجاج يتنزه على هواه ، أما الديكة الرومية فقد شكلت سربا تنحى جانباً . أما الكلاب فقد نبحث حتى بح صوتها دون أن تقترب من المرأة الدخيلة ، لانها ارادت أن تعلن فحسب ، أن هناك شخصا غريباً بالقرب من المنزل ... وأخيراً ظهرت من خلف المنزل امرأة ضخمة ، تضع على رأسها قبعة ، بينما تقاطع على صدرها الممتلئ شال صغير من الصوف ، كان لابد أن يحدث شئ كهذا : أن شيئا كهذا كان لابد أن يحدث !

وقالت صاحبتنا للمرأة الضخمة ... صباح الخير ياسيدتى ، لا شك أنك مدام بورجوا؟ لقد أتيت من قبل دومينيك وادعى روز توسان .
لقد كانت جولييت نويل تجيد الكذب .
وسرعان ما أهتمت بها المرأة الريفية .
وعاد الزوج حوالى الساعة الحادية عشرة، وكان يشبه زوجته يماثلها فى الضخامة ، واستدارة الوجه وصفاء العينين ، أما الأولاد الخمسة الذين التقوا حول المائدة – فهم ، يبشرون بأن يصبحوا مثل والديهما . وكانوا يأكلون حساء مطهياً بشحم الخنزير ، وجبنا أبيض ، ويشربون النبيذ الاحمر ، ثم بعد ذلك القهوة المصنوعة من الشعير مع كوب من شراب المار ... وفى هذا النهار نفسه زارت جولييت مزرعتين بعد ذلك ، أشارت بهما عليها عائلة بورجوا ، وقد كانوا قوما متفهمين مثل آل بورجوا، حتى شعرت بينهم أنها بين أسرتها . وما اعتقدت جولييت ابدا ان بمقدورها ان تجد لغة مشتركة مع الفلاحين ،حتى فى اللحظة التى كان يربطها بهم أمرما ، وكان ذلك نادر الوقوع فى النزهات الصيفية ، أو لكى تسأل عن طريقها الى الريف ، وقد بدا لها دائما انهم يتحدثون لغة أجنبية ، أو أن الصمم قد أصابهم ، وهى نفسها لم تكن تفهم شيئاً منهم ، الا بصعوبة . لكن آل بورجوا فهموها جيدا ، فهم يتكلمون بالتأكيد نفس لغتها ، الجميع يتكلمون الفرنسية ، كما تبدى فى المزرعتين كرم الضيافة أيضا ، فأكلت جولييت مرة أخرى الحساء المطهى بشحم الخنزير ، والجبن الأبيض ، وشربت مرة أخرى النبيذ الأحمر ، وشراب المار ، ثم بعد ذلك جلسوا حول المدفأة وهم يكررون نفس الأشياء... وما أسعدها بهذا القمر فى السماء ! لقد أنصرفت جولييت وهى تأمل أن تكون فى الطرق الصحيح حيث أدفأها النبيذ والأمل . وقد كان صحو شتاء هذا العام - 1942- مثل الفأل الحسن . ولم يدع الريف الشاسع الذى يتلألأ تحت ضوء القمر ، الخوف يتسرب الى نفسها .وهل يعتريها الخوف حينما يكون الجو جميلاً الى هذا الحد !! ولم تشعر برغبة فى العودة ، لأن المرء لا يعود تاركاً أمسيات كهذه ... أن الآخرين لا يحسون بالسعادة ، الا حينما يقتسمها اثنان ، لكنها ليست كذلك ! وتذكرت فى أسى ملتاع حبها الغابر .. وكانت هناك حركة مباغته داخل الغابة الصغيرة التى تسير بجوارها – كان جسما ثقيلا يهوى ، ثم أعقب ذلك صوت زمجرة ... حيوانات، ويقال أن هناك ذئابا فى هذه البقاع ... الذئاب !! أفى هذا الجو الهادئ ، فى مثل هذه العذوبة . شئ لا يصدق أن يكون الجو هكذا عشية عيد الميلاد . لقد أنزل الله هذه العذوبة حتى تستطيع العذراء أن تلد فى صحو ربيعى معتدل .... تشابكت ضفائر أشجار الصنوبر الجبلية وبدت بيضاء ، تحت ضوء القمر النائى فى علوه على حين كان يحيط بالقمر خاتم زواج ذهبى ضخم ...هذه هى شجرات الحور الثلاث ، تقف كثلاثة حراس تخفر المنزل خلف المنحدر ... وهذا هو المنزل ... يقع فى اتجاه معاكس لضوء القمر ، ولم يكن الا كتلة داكنة ، ولكن حينما طافت جولييت ، توقفت عند ما يحيط به من مكامن ، لقد أضاء شخص ما الكهرباء فى الفناء ! لكن لا ... كم كان هذا بلاهة منها ، لان القمر بكل بساطة هو الذى أضاء بهذا الشكل كل حجر ، مع الحذاء القديم الملقى ، وحطام اوانى الطعام ، وقرميد السقف ، وكان صوت النافورة مسموعا ، فى خفوته النحيل ، مثل خيط الماء الساقط فى الحوض .
وفى هذه الليلة ، لم تسمع جولييت صوت الجرذان ، لقد نامت وهى بكامل ملابسها ، فوق فراشها المصنوع من القش ، بعد أن قطعت عشرين كيلو مترا سيراً على الأقدام ! ولم تكن اللمسات الرقيقة لا شعة الشمس الأولى هى التى تستطيع ايقاظها ، فجرس المنبه بح صوته فوق أذنيها ، ولا يكاد يصل اليها . فتحت عينيها ، وتيقنت أن جسدها كله يعتريه انهاك شديد وأن الجو بارد برودة بشعة فى هذا المنزل ، وهفت نفسها الى حمام ساخن ، والى قدح قهوة باللبن ، مع الزبد والفطائر ، وكانت الغرفة الكبيرة مظلمة وخاوية . ليس فيها ما يسترعى النظر غير مربع النافذة الابيض الصغير والمدفأة الباردة . وعلى المنضدة بالقرب من رأسها ، تراكمت افرازات الجرذان....
ولكن فى الخارج ، كان الجو أكثر عذوبة من الليلة السابقة فالضباب الخفيف يحيط بالمنطقة ، بينما ذاب الثلج قليلا فى كل مكان .وواجهت جولييت المستنقعات والوحل .

ولم يكن هذا النهار سعيدا كسابقة . فقد استقبلت استقبالا سيئاً فى المزرعة الأولى ، أما فى المزرعة الثانية .فقد كان جليا ،أن الأمر خطأ كله حتى أن جولييت لم تتحدث عن أى شئ ، وكان هذا منزلا أسود ، وكان الوقت أوج النهار ، ولكن يمكن القول ، أن النهار لم يحب الدخول الى هذا المكان ، وتوقف عند هذه النافذة الشاحبة وكانت فى المدفأة جذوة ضئيلة ترمى هنا وهناك بوهج أحمر ...هذه فتاة تجلس على الأرض وفتاة أخرى تجلس على مقعد بلا مسند أمام النار ... وأستطاعت جولييت أن تتبين مائدة ومصباحا بتروليا ، وأدركت أن الفتاتين مازالتا صغيرتين ، ربما فى السادسة عشر ، ورأت خلف المائدة ، فتى ظل واقفاً ، وعلى رأسه قبعة ويرتدى ((بلوفر))ممزق المرفقين ، لقد كانت الفتاتان ضئيلتين أيضاً ، ورثتى الثياب .كانتا تقشران القسطل ، بينما تناثر القشر على الأرض ، وراح يطقطق تحت الأقدام ، وسألت جوليت عن الطريق الى قربة ب.....، فقد كانت تحتاج الى ذريعة من أى نوع لتبرر – ليس هذا هو الطريق الصحيح ، ياسيدتى المسكينة ، فهو لا يؤدى الى أى مكان ...

وبدأت الفتاتان الكلام فى آن واحد حتى توضحا لها كيف يمكنها الذهاب الى حيث تريد . وكان للفتاة التى تجلس على الأرض صوت عاو مبحوح ، وكانت كلما تقول شيئاً ما ، تندفع كل مرة متحركة الى الامام ، كما لو كانت ستقفز فى وجهك . وفى غمار المنافشة ، لم تنقطع الفتاتان عن تقشير القسطل ، وبد الارهاق على الفتاة الصغيرة الجالسة على الأرض ، كما لوكانت تقوم بعمل شاق .

قالت جولييت – اتقشرانه قبل سلقه؟ لقد كنت أفعل العكس دائما !
وقالت الفتاة الشقراء الجالسة على المقعد – ان الأمر يتم على نحو أكثر سرعة بهذه الطريقة . وكان يمكن للمرء ان يرى فخذيها العاريتين، اللتين احتفظت بهما متباعدتين حين تدع القسطل يسقط فى تنورتها . وبدت هناك ثقوب واسعة فى جواربها الصوفية السوداء بينما عقدت حول رأسها ضفيرتين صغيرتين . وكان الصبى الذى يقف خلف المائدة يلعب بسكينة دون أن يمس شيئا من القسطل الذى تبعثر امامه على المنضدة .
..... عوت الفتاة التى تجلس على الارض ، والقت بنفسها نحو جولييت مثل قطة متوحشة وهى تقول : هل ستبقين فى قرية ب....

- لا، سأمر عليها فحسب .
- لان بمقدورك أن تأتى الى المقهى غدا ، فسيتم الاحتفال بخطوبة أخى هناك .
وأشارت الى الفتاة الشقراء الصغيرة .
- أوه ، حينئذ ربما أبقى . اما الآن فليس أمامى ألا أن أجد طريقى .صافحت جولييت الصغار الثلاثة ، وخرجت الى الريف الذى يلفه الضباب ، وكان أكثر تألقاً بعد هذا المنزل الأسود .

وصادفت فى المزرعة الثالثة أناساً اعتبرتهم معقولين ، وحين قالت أنها كانت فى مزرعة بها خطيبان ، هزت امرأة ريفية عجوز ذات شعر أبيض ، رأسها وقالت :
- لقد مات الأب مجنونا ، ولو كانت الصغيرة قد رفضته فى تلك اللحظة لأصيب هو أيضاً بالجنون ، فهو يهيم بها الى هذا الحد . يجب أن تكف عن ألاعيبها والا أصابة الجنون أو الموت . لا يوجد من يرعى هؤلاء اليتامى منكودى الحظ ... لقد أكلو كل ماكان بين أيديهم ، ما كان موجودا ! كم من المرات قلت له : (رينيه أذهب لتغتسل ... أصلح ثقوب ثوبك ...) ولكن ما من شئ يمكنه عمله . من قال لك اذن ان تذهبى اليهم ؟

وألقت المرأة العجوز فى الموقد ، تكريما للزائرة ، بعض الأعشاب العطرية التى تطلق سهاما نارية . مثلما يحدث فى يوليو ! وغمغم رجلها المسن غاضباً ، بشاربه المتدلى ، وحذائه الخشبى الذى صنعت حاشيته من القش ، وهو ينظر الى النار :
- لا أقول أننى .. حافظت جيداً على بندقيتى ، ماذا يمكن أن يحدث فى الربيع ، حين تأتى الثعالب لتسطو على دجاجنا ؟ .. البندقية عون دائم .
وصبت المرأة العجوز الشراب فى الأقداح الصغيرة الموضوعة على الصينية .

وواصل الرجل الريفى كلامه :- يقول رجال الشرطة ، (( سلموا مسماراقديماً ، واحتفظوا بالمسمار الجيد ، دبروا أموركم ولكن أين تريدون أن أذهب بالمسمار القديم ؟ أنهم يقولون ( اذبحوا الخنزير لانهم سيأتون اليكم ليصادروه ) هل اثق فى ذلك ؟ هؤلاء هم رجال الشرطة ، أنهم يصعدون الى هنا من أجل أن يذبحوا لأنفسهم ما يلزمهم ، ولهذا يحدثونك عن ذبح الخنزير ... والآن ياآنسة ، يامن تلقت تعليما فى المدارس ، ما هو رأيك ؟.
وانهمكت المرأة العجوز فى تقديم الاقداح الصغيرة ملأى ، فوق صينية .

قالت جولييت موافقة – لا أستطيع أن أقول لك شيئاً فيما يتعلق بالخنزير ، لأن الأمر كما تقول . ورجال الشرطة هم رجال الشرطة ، لكنهم أيضاً فرنسيون ... ولو كنت مكانك ، لما سلمت البندقية ، لأنك لن تجد لها بديلاً حين تحتاجها من أجل الثعلب ، أو لأى سبب آخر . لا تحمل البندقية الى دار البلدية .

- ابنى يقول نفس الشئ ، انها لا توجد الا لمساعدتك .

نعم ، لم يكن هذا النهار طيباً ، وكانت جولييت متعبه للغاية ، فقد كانت المسافة بين المزرعة والأخرى خمسة أو ستة كيلو مترات ، ولم يكن الفلاحون كلهم مثل آل بورجوا ، وكان الضباب قد ارتفع , وتألق قمر جميل , انها ليلة جميلة كالبارحة , لكن فى الواقع ، لم يكن لدى جولييت الاحساس الذى يجعلها تعجب بجمال الطبيعة ... ولم يفتح منزلها الواقع خلف المنحدر ذراعية لاستقبالها ، كان الفناء مضاء كالبارحة . وأحست جولييت بساقيها تتخاذلان تحتها نتيجة الارهاق ، لقد نبشت طويلا فى جوف الفرن ، دون أن تعثر على هذا المفتاح اللعين ...

وكان الجو داخل المنزل أشد برودة من خارجه . وكان ارهاق جولييت عظيما الى درجة لا تمكنها من النوم على الفور ، وفضلت أن تشعل النار ، وتسهر بدلا من أن نتظر النوم الذى تقفز فيه الجرذان ، وكان الخشب مكوما فى الحظيرة التى تتصل بالغرفة مباشرة . وحين انسلت الكهرباء اليها ، تبينت أن مزودا بطوله قد تعفن نصفه ، وان هناك جرذا ضخما بنى اللون ، فأطلقت جولييت صرخة حادة ثم أتجهت فى هدوء نحو كومة الخشب . وكان الضوء يعابث الاعمدة التى تحمل السقف ، كما يعابث ذراعى عربة مرفوعتين الى السماء . وكانت الأرض المرصوفة بالطوب اللبن والمغطاة بالقش والدريس ، وغصون الشجر الصغيرة ، باردة كالثلج ، بينما تراكمت بالقرب من الجدار كومة من القمامة وآنية مهشمة وطسوت ، واكواب ، وزجاجات ، وما يجب عليها ان تجره الى المدفأة كان جذوع أشجار حقيقية ، لا تشبه الأحطاب ، وقد بلغتها فى كثير من المشقة ، كانت تلك الأحطاب متشابكة كأنها سلك واحد من الحديد الشائك . وقد أحست جولييت بالدفء حتى قبل أن تشعل النار . وخرج اللهب من الخشب وهو يطقطق ممزق الألسنة ، كأنه قصاصات نسيج جميلة فاخرة ، وعلى هذا النحو تصبح النار رفيقا لك ، بحركتها ، بالضجة التى تبدد الوحدة ... والمرء يراها تحيا ، تندلع ... بوثباتها المرحة ودقات أقدامها وانفجاراتها ... ومكرها ، فحين تبدو ضئيلة للغاية وتنكمش تحت قطعة حطب حتى يعتقد المرء أنها قد خبت ، فأنها آنذاك تنبعث عالية مضيئة ! بمرحها الصاخب ، وتجاوزها الحدود ، بشهيتها اللانهائية ، وبرصانة متوهجة فى الجذوات .... وكانت مساند الحطب الصغيرة السوداء داخل الدفأة تحمل اللهب على هيئة تمثال نصفى لامرأة ، رقيق الصياغة .. الرأس الجميلة لفتها عصابة بينما تقاطعت قطعة من القماش على نهديها العاريين . وهذان التمثالان الانيقان الصغيران لابى الهول فى الصالون ، يقاسيان محنة النار ، وربما لم يوضعا فى هذا المنزل الموحش إلا من أجل ألا يدعا جولييت وحيدة ، فهى أيضاً قد أبعدت عن مكانها الطبيعى ، مثلهما ، فقد سقطا هناك ، ويتساءل المرء : لماذا وكيف . كل ذلك يثير السخرية .. وخلعت جولييت حذاءها وجلست أيضاً بقدر ما أستطاعت قريباً من المدفأة ، واستسلمت للأحلام .
الأحلام ؟ كانت جولييت تعرفها .. لكن حين يينساب الحلم متغلغلا فى الحياة ، فمن الطبيعى تماما أن يعيشة المرء ، وسيمشى على الماء ، وسيجد أن هذا طبيعى تماما ... ( هذا أمر عادى ) كما كان يقول الدكتور الأشقر حين تحكى له حكاية من أشد القصص اغراقاً فى الخرافة والبشاعة ، تتعلق ، بمغامرة هروب ، أو بأسعار السوق السوداء ، أو حين يحكى له أحد عن الرعب الذى يحيط بالرهائن حين يطلق عليهم الرصاص ... هذا عادى ... ومع ذلك فليس الأمر الا حلما ، يتمثل فى أن جولييت نويل ، الكاتبة على الآلة الكاتبة ، بدلا من أن تعمل فى الجريدة ، وتعود الى الخالة ألين والصغير جوزية ، استطاعت أن تسير بمفردها فى الطرقات التى تغطيها الثلوج ، وأن تبقى وحيدة فى هذا المنزل ، محاصرة بفراغ أبيض ممتد ، تنصت الى ركض الجرذان ... ولم يكن من الواجب أن يكون هذا هو الحلم الجميل الذى يلهم حياتها ، لقد كان حلم شخص آخر ، لأن أحلام جولييت ، فى الأعماق الخفية لقلبها ، كانت ببساطة أحلام بالحب ، ليس حباً مثل الذى عرفته ، فلن يكن سوى عار وهوان ... أه ! أن الرجل الذى لا يرقى الى مستوى ما ينبغى ان يكون للحب من سمو، يجب أن يطرد بعيداً عن مملكته حتى لا يكون الحب دنسا ، وحتى يصبح شاملاً كأنه الحرب .

ولكن أى زمن ، هذا الذى لم يدع جولييت وقت الفراغ الذى يتيح لها أن تحلم بالحب ، بل جعلها تجرى فى الطرقات التى تغطيها الثلوج ؟

بدأ اللهب يتضاءل ، تشوبه الزرقة ، ومازال للحطب شكله الأصلى ، الا أنه أصبح مثل الآنية الشفافة ، تملؤها نار سائله . حركت جولييت النار بقضيب من الحديد ، واضرمت نارا جميلة يتطاير شررها ... وفى الماضى ، كانت تخاف ان تبقى وحدها فى الليل ، وهى فى قلب باريس ، فى منزل كبير يملؤه السكان ، من أعلى طابق الى أسفل طابق ، وكان الاغماء يدركها حين كانت ترى فاراً صغيراً !

هكذا كانت : جولييت كان بمقدورها أن تختار ، كانت تخاف ، تشعر بالبرد ، تحس بالأرهاق . أما حين لا يعود بمقدورها أن تختار... وهل كان بمقدورها أن تختار فى عام 1942 ؟ ( بعد غزو فرنسا ) لم تعد النار الا كومة من الذهب . وكان عليها أن تنام قبل أن ترتعش من البرد مرة أخرى .

نعم ، الأحلام .. كانت جولييت تعرفها ... لقد كان فارس أحلامها يشبة أحيانا جارى كوبر ، وأحيانا أخرى شارل بواييه .. لكن كيف تحلم بالحب ، وهى راقدة على كومة من القش ، بين رقص الجرذان ، مع هذه الظلال التى تترامى على السقف المخطط باللونين الأبيض والأسود ، تحت هذه الدعامات التى تبدو وكأنها تهبط رويدا رويداً ، حتى توشك أن تهوى على رأسها؟.. لم تطفئ جولييت المصباح ، فربما أبعد الضوء الجرذان ... لقد بقيت الكهرباء فى هذا المنزل بمعجزة ، وهى لم تكن تبدو هنا على طبعيتها ، فقد كانت تنقطع ، وتضعف ، بينما كان المصباح الكهربائى – وهو معلق بمسمار فوق المنضدة فى نهاية سلك حتى يمكن تحريكة – يحمر ويضئ بصعوبة ، ثم يكتسب لونا أبيض باهراً ... لقد كان هناك كثير من المسامير والخطاطيف المثبتة فى الدعامات السوداء ، وفى المسافات المدهونة بطلاء أبيض وأصبحت قذرة ملوثة بالدخان بين هذه الدعامات . ومن المؤلم الاعتقاد أن فوقها بيدراً غير معروف ، تركض فيه الجرذان ... وحين بدت تباشير الصباح ، كانت ضجة محرك طائرة تملأ الفضاء كله ، وهى تنطلق ، بينما على الأرض تحتها ، فى المنازل التى تنتمى الى العصر الحجرى ، كان الناس ينهضون ليعنوا بدوابهم ، ويشعلوا النار ، ويخرج الاطفال فى الصباح الباكر ، وهم يتخذون طريقهم الى المدرسة ، رافعين أنوفهم فى الهواء حتى يروا الطائرات الالمانية وهى تمر ، وفكرت جولييت مرة بعد مرة فى صبى الأمس ، بقبعته التى وضعها فوق رأسه ، وسترته الصوفية الممزقة ، والذى كان سيصبح مجنونا اذا لم تكن الفتاة الصغيرة قد رغبت فيه . وتراءت لها ضفيرتاها الصغيرتان الشقراوان اللتان تحيطان برأسها ، وفى ثقوب الجورب الاسود ... أى قوة يهبها لك الحب داخلك ! لقد تمنت جولييت أن تحب انسانا جميلاً ... كالتالى يبدو من خلال الموسيقى ، والأغانى .

نهضت جولييت ، فلابد أن تشعل النار ثانية ، ذلك رعب الحياة الريفية ! رمقت يديها الملطخة بالسواد . لا حياة هنا الا من أجل بقاء الجسم ، والغذاء ، والتدفئة ... آه ! ألا ينبغى أن يسمع الفلاحون أحيانا غناء القبرة ؟ فكرت أنهم يحتاجون الى آلات الحرث حتى يتوفر لهم الوقت لسماع هذا الغناء ، لكنها لم تدرك خطورة أفكارها ... وألتقطت جولييت بيديها المخدرتين من البرد ، حاجاتها ، وكانت المؤن التى أعطتها لها عائلة بورجوا موجودة من قبل فى لفافة ( وكان من بينها أرنب ) ! فلا يستطيع الانسان ان يعرف ابدا ماذا سيحدث ....

كان عليها أن تقطع عشرة كيلومترات حتى تصل الى قرية ب.... وأرتادت جولييت الطريق الصغير الذى يخترق الغابة ، هاهوذا السفح الآخر ، بجبالة العارية . من حسن الحظ ان هذا السفح كان منحدراً ! أن جولييت كانت تخاف الطريق الطويل ، بعد أن قضت ليلتها دون نوم ، رغم هذا الصباح الجميل ، ورغم هذا الاستعراض الذى يقوم به اللون الابيض حولها ، فقد تساقط الثلج مرة أخرى أثناء الليل ، ولا أحد يسير فى الطريق ، وكانت المزرعة الوحيدة التى تجاوزتها تبدو مهجورة ، ولم ينبعث من مدخنتها دخان . ومع ذلك فقد كان هناك عمال يعملون هنا ، وكان الطريق مبقور البطن يبدو خليطا من التراب والحصى المسنن الكبير . وأحست جولييت بالضيق بسبب حذائها ، الحذاء الوحيد المتين الذى تمتلكه على الرغم من أنه لم يكن متينا بما يكفى بحيث يصلح لمثل هذا الطريق ...وبدأت الحقيبة ولفافة الأرنب تثقلان ذراعيها . لذلك كان عليها أن تتوقف عددا من المرات ، والحق أنها لم تعد تحتملها أكثر من ذلك . وأخيراً ظهر الطريق العام : ولا بد أن القرية التى تراها هناك فى قاع الوادى . هى قرية ب .... كان الطريق المسور بعلامات المسافات البيضاء الجميلة المزخرفة باللون الأحمر ، ناعما وعريضاً للغاية ... لكن كانت هناك أبر رقيقة من الجليد ، وتلك كارثة آخرى . وتقدمت جولييت فى بطء . وهى تضع مرة بعد مرة أمتعتها على الأرض .

أعلنت القرية مقدمها بخرائبها غير البهية ، لقد كانت لا تزيد ببساطة عن أن تكون جدرانا ضخمة تستند كل منها على الأخرى ، ثمة مقبرة ، ومنازل صغيرة ذات حدائق صغيرة ، وقنطرة صغيرة ، والشارع ... ومكتب البريد ، وحانوت لوزام الخياطة ... ومقهى ... والكنيسه ... وميدان صغير ... هاهوذا المقهى الذى يتوقف خلفه الأوتوبيس .

وكان فى المقهى موقد جميل مثقوب فى المنتصف يبعث الدفء ، وضعت جولييت أشياءها على الطاولة ، وذهبت لتجلس بالقرب من الموقد ، وهى تكتم زفرة ، لان ذراعيها يؤلمانها ، لقد أتت مبكرة كثيراً بالنسبة الى موعد قيام الأوتوبيس ، ولم يكن فى المقهى سوى فى اللفافات والطرود ، بينما جلس عاملان يتناولان وجبة سريعة فى أحد الاركان ، وأتى كلب هزيل يتشمم يدى جولييت ، سألتها صاحبة المحل وهى امرأة ودود بشوش ، عما تريده ، من باب العادة فحسب ، فلم يكن لديها ماتقدمه لزبائنها ، لاشئ بالمرة ، لا للشرب ولا للأكل، سوى شراب الليمون المحلى بمادة السكرين . لقد كانت المرأة المسكينة تحس بالخجل يغمرها : (لولم نكن نقدم خدماتنا فيما يتعلق بالطرود لأغلقنا ...) ، وضع العاملان ما تبقى من طعام وزجاجة النبيذ الفارغة فى مخلاة . لقد كان شيئا حسنا أن اعطت المرأة الشجاعة مدام بورجوا ، جولييت بالاضافة للأرنب ، قطعة كبيرة من الخبز ، وبعض الجبن ، والبيض المسلوق ، وتهيأت جولييت للأكل وسرعان ما خرجت صاحبة المقهى من مؤخرة الحانوت وأتت وهى تحمل لها قدحا من النبيذ ، ثم قالت ( هذا على حسابنا ، ماذا تريدين ، أندعك تآكلين هكذا دون شراب ... ) فشكرتها جولييت بوقارها البسيط الذى تعودته ، وأضفت الغمازة التى بدت حينما ابتسمت قيمة أكبر على شكرها .

وصل الأتوبيس الصغير الرمادى الكريه ، متأخرا ساعة كاملة ومزدحما ، ونسى الناس الآن كيف كانت فرحة الأعياد ، عشية عيد الميلاد الطهور فى الأعالى . وظهر مع الأتوبيس فى نفس اللحظة أحد رجال الشرطة . ويشعور بأهميتة طلب بطاقات الهوية من الرجال ، الذين يهبطون ، والذين يصعدون . وكان هناك مكان لجولييت على مقعد خشبى فى الصف الامامى وواجهتها تلك المساحة المزدحمة بالحقائب . وكان جارها قوى البنية يرتدى شارة حصولة على وسام من أدنى الدرجات . وقد طوى ساقية الطويلتين حتى تتمكن جولييت من أن تضع حقيبتها الصغيرة . ثم تخلى عن مكانه لامرأة تحمل طفلا على ذراعيها . أعلن عن حضوره بأقصى ما استطاع من صراخ ، وقد أصبح هو أيضاً فى وضع أفضل لكى يختلس نظرات الاعجاب الى جولييت ، وكان الطفل الصغير كارها للسفر ، ويعتقد أن الجدة أيضاً ( كانت هذه جدته ) تكره السفر أيضاً كما تكره صراخه . وأخذ كل المسافرين يضاحكون الطفل ، ويسألون الجدة عن أخبار ابنتها ، وعن الاطفال الصغار الآخرين ... كان الناس يصعدون فى كل محطة ويودعون الطرود عند السائق حتى اكتظت العربه بها . وفى مثل هذه الظروف ، لا تعود مسألة تتبع المنظر الريفى ممكنة . وكان أمام جولييت ظهر امرأة عجوز ، مغطاة بملابس سوداء ، وقد اختارت لها كنقطة ارتكاز ركبتى جولييت ، حتى تستطيع أن توازن بين ثقل سلالها الثلاث ، وفى احدى هذه السلال ديك رومى على قيد الحياة ، وفى الثانية ، ديكان روميان آخران ، وكانت الثالثة محشوة بالطرود ، وانتشرت رائحة كريهة فى داخل الأتوبيس منذ أن ظهرت المرأة . وكانت رؤوس الديكة الرومية المذعورة بلونها الأحمر تخرج من السلال . وكان الجالس بجوار جولييت قد نبه المرأة العجوز مرتين أو ثلاثا ، حين كانت على وشك أن تجلس على ركبتى جوليت ، وكان الاوتوبيس يتعثر ، بينهما راحت الديكة الرومية ترمى بافرازتها على جورب جولييت وحذائها . وأخيراً .. وأخيراً وصلوا . وتوقفت العربة أولا أمام مكتب بريد لارسال الطرود ، وكان عليها أيضا أن تخترق المدينة الصغيرة بكامل طولها حتى تصل الى مستقرها بالمحطة .

انتظر المسافرون ، لكن الأمر لم يكن قد أنتهى بعد ، مادامت هناك ، طرود عيد الميلاد . كان الأوتوبيس الذى انحشر فى الشارع الصغير ، والذى يسمى ( بالشارع الكبير ) يسده تماما . بينما راح بوق سيارة مزعج يجلده على ظهره . لقد أنتهى أمر الطرود ولكن مولد الغاز أصابته نزوة ، فلم يعد الأوتوبيس يتحرك . حاول السائق اصلاح المحرك ، بينما كان المسافرون نافذو الصبر يهبطون ... ظهر أمام الرادياتير جندى المانى فى ملابس الميدان الرمادية . وهو يشير اشارات معينة . والآن ، حين أصبح الأوتوبيس خالياً تقريباً استطاعت جولييت أن ترى عبر النافذة الخلفية عربة المانية ، وقد كانت هى التى تطلق بوقها مثل كلب مسعور . تحرك الأوتوبيس فجأة . وابتعد الألمانى عن طريقه . ثم أستقر السائق امام عجلة القيادة وصرخ قائلاً ) هذا حسن ! هؤلاء الناس متعجلون ! وكأنهم يجرون وراء النصر !... ) انحنت المرأة الجالسة خلف جولييت عليها حتى تقول ) سيان يرغب المرء حقا فى أن يراهم يرحلون ! متى ينتهى كل هذا ... قالت جولييت – بالتأكيد ...)

أودعت حقيبتها فى الأمانات ، وتسلمت ايصالاً بها ، ثم ذهبت للبحث عن غرفة : اذا وجدت غرفة ، فسوف تنام هنا ، وإلا ستأخذ القطار فى نفس المساء ، وتقضى الليلة فى مكان آخر .
كان الشارع الكبير مليئا بالحركة ، وكان يمكن للمرء أن يعتقد حين يرى واجهات المحلات ، أن هناك حقا أشياء يمكن شراؤها . لقد عرضت المحلات كل ما لديها من أجل الأعياد . الأحذية التى تصرف بالبطاقة ، الصناديق الملفوفة بشعر الملائكة . وأيضاً الدمى الصغيرة ، والمزاود . وكانت الكنيسة ذات الاعمدة تبدو هناك حيث يتسع الطريق ، وكأنها شخص كبير بين أطفال ، بمقدار ما كانت عالية ، وضخمة ومهيبة ، اذا ما قورنت بمنازل ( الشارع الكبير) ولم يكن الفندق بعيداً ، وكانت توجد بالفعل غرفة ، ولكن لم يكن بها أغطية ، بمعنى ، أنه كانت هناك أغطية ، لكنها لم تكن جافة ، لانها بدلا من أن تجف تجمدت : ( اذا كنت تودين الانتظار حتى تجف ياآنسة ... لم تتم بعد تدفئة الغرفة ، لكن يمكنك الجلوس فى قاعة الطعام ).

كان يمكن تدفئة قاعة الطعام ، حيث لم يعد يقدم الطعام ، اذا أراد المرء . جلست جولييت على مقعد بالقرب من المدفأة ودخلت امرأة ترتدى ثيابا صوفية بعضها فوق بعض ، ويبدو أنها عانس يتبعها كلب . وكانت لها مشية من به مرض فى قدميه ، ولا يستطيع أن يقرر على أى قدم يعرج . كان الكلب البكينى يعدو خلفها ، ثم مدت الآنسة يديها المشوهتين فوق المدفأة ، وتسلق الكلب مقعداً وأخذ يعطس .

قالت الآنسة وهى تبتسم الى جولييت – انه مصاب بالروماتيزم ، وعرفت كيف تضع فى هذه الكلمات الثلاث ، كثيراً من اللكنة الانجليزية ، سمعتها جولييت قبل ذلك فى الطريق تتحدث الانجليزية ، ربما كان هذا مكانا للاقامة الجبرية . وأخرجت العانس طعاما من قاع حقيبة ووضعته ليجف على المدفأة ، لانها لا تغامر بأن تحرق الطعام ، وقالت وهى توضع الأمر : (أن الجو رطب فى الغرفة ، ولا شئ يجف فيها ... أوه .أوه ، ميلى ، لا تسعل هكذا) ! وكان الكلب يشهق .

كانت الشمس تسطع فى الخارج ، بينما تتساقط الثلوج كقطع من الماس ، منتثرة فى غير انتظام . وقالت الآنسة الانجليزية : ( ألا يمكنك أن توقفى هذا ؟) ، وهى تشير بيدها الى الثلج مخاطبة صاحبة الفندق التى ظهرت من كوة فى الجدار ، كانت تمرر منها الأطباق قديماً ، وأبتسمت صاحبة الفندق ، للدعابة : ( آه ، هذا لا ، أننى أريد ذلك حقاً ، لكن فى ليلة عيد الميلاد لابد وأن تسقط الثلوج ..) ثم اختفت ، ودخلت الى القاعة فتاة فى حوالى الخامسة أو السادسة عشرة ، صاحت :( ماما ، هل سنأكل هنا أم فى الغرفة السفلى ؟) ثم نظرت الى جولييت دون رقة ، فربما كانت جولييت هى التى سدت قاعة الطعام الى الحد الذى يجعل الناس مضطرين للأكل فى الغرفة السفلى ..! لقد كان لها قد جميل ، وغديرتان ليستا فى حاجة الا الى طراز خاص فى التصفيف . وواصلت الآنسة الانجليزية المزاح قائلة : ( ألا يمكنك أن توقفى هذا )، ( لا ، ياآنسة ، فى ليلة عيد الميلاد لابد وأن تسقط الثلوج ...).

وفتحت الباب على مصراعية لتخرج منضدة ، فربما سيأكل النزلاء فى الغرفة السفلى ، لقد أحست جوليت بمزيد من الضيق فى هذا الفندق ، الذى لا يبدو أن أصحابه يحبون النزلاء . ثم التقطت لفافة الأرنب وخرجت بينما الفتاة الصغيرة تصرخ فى أحد الأشخاص ، بصوت مستثار : ( تعالى الى الغرفة السفلى ، لقد أشعلوا النار فى المدفأة ... ماما ، الشطائر ..!).

كانت الثلوج تسقط على أرض رمادية ، بينما كان النهار قد تراجع ، واتخذت جولييت طريقها الى المحطة ، وتوقفت من جديد أمام واجهات مصففى شعر السيدات الكثيرة ، وهى ترمق باعجاب زجاجات الروائح العطرية ، والشعر المستعار ، والأزرار فى محل يبيع الخردوات ... وحينما دخلت الى محل أحذية ، وقد فتنتها أحذية قماشية للأطفال تباع خارج البطاقة ، لم تجد بينها مقاس جوزية لأن قدمية كانتا كبيرتين بالنسبة الى طفل فى السادسة من عمره وأشترت فتاة يصاحبها فتى زوجا من الأحذية له نعل خشبى ، لكنة مبطن بالجلد ... ! لابد أنهما خطيباًن ، ثم دخلت جولييت الى صيدلية وهى تحاول ان تشترى مقياساً للحرارة ، فقد كسر جوزية ما كان لديها ، ربما وجد المرء فى المدن الصغيرة ، ما يحتاجه بسهولة أكبر من المدن الكبيرة ... لكنها لم تجد مقياسا للحرارة .. والناس يعتذرون فى كل مكان بأنه ليس لديهم ما يطلبه الآخرون منهم ، وتبدو عليهم المهانة بسبب ذلك .

وفى القطار الصغير ذى الألواح المهشمة ، كان هناك ضابط شرطة حسن التغذية ، ذو فخذين سمينتين تملآن سرواله الأزرق ، يتحدث طوال المسير الى شاب يبدى له الاحترام ، لابد انه كان خارجاً لتوه من عند الحلاق ، لأنه كان معطراً . وقد يمكن استنتاج أن ضابط الشرطة متجه الى الجنوب ليدفن حماته . وتساءل الشاب ليعرف اذا كان ذلك يستلزم العزاء ، (آه .. ذلك من سوء الطالع . ففى بعض الأحيان أيضاً ... ليست هذه الحالة ... ) وترك الجملة دون اكمال ولم يجعل ضابط الشرطة مهمته سهلة ، فلم يقل شيئاً ، وبقى العزاء معلقاً هناك على نصف ابتسامة . بعد ذلك تطور الحديث ، فلم يعد فيه الا ما يتعلق بجبال التزحلق على الجليد ، بالبطولة ، وكان هذا الحديث يدور حول الحدود الايطالية حيث لا يقوم المرء بعمل سوى الانزلالق الممتع على المنحدرات ، بيد أنه من وقت لآخر كان الحديث عن الحرب يطرق الآذان ، قال الشاب : - ( بلى ، لقد كنت أعرفه جيداً ، كان فتى أسمر ضئيلاً ، وقد سقط بجانبى فى يونيو عام 1940 ، لقد كنا فى نفس الفصل الدراسى ...) . ولم يكن القطار يتقدم ، وكان ذلك مأساويا ، أثناء الحديث عن التزحلق على الجليد ، وبعد أن تطور الحديث أكثر فأكثر ، ظهرت أسماء نساء ، تصحبها نظرات قليلة فى اتجاة جولييت ، وأخيراً ، أخيراً ، جاءت نهاية الخط الحديدى .

وكان الليل مطبق الظلام ، وفى هذه المحطة المضاءة بمصباح ساهر خافت ، كان هناك حراس متحركون ، أشد سوادا من الليل ، بينما احتشد المسافرون على الرصيف ، فكان عليهم عبور الممر ، ولهذا لابد من انتظار رحيل قطار آخر ، كان قطار بضاعة ، بدأ فى الحركة على الفور ، ورمقه الناس وهو يمر صامتين : السيارات ، والرشاشات ، والمدرعات موضوعة على منصة مكشوفة ، بينما وقف الجنود الالمان يحرسونها ... بعد ذلك مرت العربات المغلقة ... انه قطار يشبه شبحاً ينزلق بلا نهاية ، وضجيج العجلات يعلن حقيقته ، وأحياناً يرى المرء رأساً ترتدى خوذة تنحنى على باب عربة موضوعة على منصة ... قال شخص ما وراء جولييت بصوت خفيض : ( لم يبق لديهم كثير من البنزين ، ما داموا ينقلون العربات بالقطار ....) ولم يكن لدى جولييت اجابة على ذلك . وقال صوت نسائى : ( أنهم يتجهون الى باريس ..) آه ... لقد كانت هى نفس المرأة التى التقت بها فى الأوتوبيس ... فأجابت جولييت : ( نعم ، وأنا الذى كنت أعتقد أنهم يجب أن يتجهوا الى البحر ...)

قالت المرأة : هذا امر غير مفهوم ..انهم يخطفون كل شئ من هنا, وحين نذهب الى الريف , لكى نحصل على قليل من المؤن , فاننا نخاطر كثيرا .. توقف القطار , وكوابحه تحدث ضجة كبيرة , ثم بدأ فى التراجع , كانت الاصوات الالمانية تصرخ بشئ ما , وركض جندى المانى بطول الممر , وقام القطار بمناورته وقالت المرأة التى كانت معها فى الاتوبيس مرة ثانية ( ان الجو بارد .. ان هذا القطار مجهز بحيث يسافر فى الميعاد سوف يفوتنا القطار ) . ارتج القطار من جديد , ثم بدأت العربات فى التتابع , عربات كأنها بلا عدد.

وكان لابد من انتظار القطار طويلا . انتظرت جولييت وهى تستند الى عامود ( كم تدفعين ثمنا للأرنب ياانسة ؟ ) لقد بدأت هذه المرأة تزعجها , ولم تكن قد حلت فراءها , فقد كان الجو باردا , بل وتتزايد برودته ... وواصلت المرأة حديثها ( لكنك ترين ، أنهم سوف يرحلون سريعا ، كأنهم لم يجيئوا على الاطلاق ..)) كان الناس ينفضون نعالهم وينظرون بعيدا ،آملين أن يأتى القطار ، أخيراً ، شوهد مقبلاً ، مخيفاً فى سرعته ، فى قوته ، وجذبت جولييت الحقيبة وتسلقته ومعها لفافة الأرنب ، والمرأة خلفها ... لقد كان القطار ممتلئاً بالركاب .. ممتلئاً ... ولكن هاهوذا مكان للجلوس ، ودخلت جولييت الى الديوان ، ثم قالت للمرأة التى كانت تتبعها دائماً : ( لا يوجد سوى مكان واحد ) ،( ليس هذا امرا مهماً ...) لكنها بدت حزينة ، وكأن أعز صديقاتها قد خانتها . ودون أن تواصل البحث أستقرت فى الممر بالقرب من ديوان جولييت وحقيبتها الصغيرة السوداء على قدميها ، وادارت عينها حتى تتثبت من وجود جولييت ، وشعرها يشبه ياقة فرائها الاسود المبتل بالثلج .

وفى ديوان الدرجة الثالثة – هذا – كان هناك شاب نحيف ضئيل الحجم ، شاحب اللون ، ترافقه زوجته ، وطفلة صغيرة رقيقة ، بينما فى أحد الأركان ، جلست امرأة فتية يصعب تحديد عمرها ، ترتدى الملابس السوداء ، وربما كانت فى فترة حداد ، أما فى مواجهة جولييت فقد كان هناك رجل عائد من عربة الطعام ، لونه يترواح بين الأشقر والرمادى ،فظهر كأن لا لون له فى جملته ، وكأنه يسبح متضائلا داخل سترته الواسعة . انه ديوان مريح ، وجلد مقاعده متين . وبعد أن تلقى الرجل النحيف ضئيل الحجم والد الفتاة الصغيرة ، من خلال النافذة حقيبة يد لأحد السيدات ، ولفائفها ، وأيضاً حافظة أوراق من الجلد الأصفر ، قال : ( والبقشيش ياسيدتى ! البقشيش ) . كانت حقيبة اليد لأمراة تلبس قبعة ، لابد أنها كانت أمراة جميلة ، فى يوم غير بعيد ... أما فى اللحظة الراهنة ، فيبدو أنها لم تعد تفكر فى زينتها الا لماما ، بحكم العادة ، وتصبغ شعرها بالحناء . بينما كانت تستخدم المساحيق كيفما اتفق . وتبع حافظة الأوراق الجلدية صفراء اللون ، شاب شرقى الملامح ، جميل الوجه ، ذو شعر طويل الى حد ما ، يرتدى معطفا محكم التفصيل ، واضطر الناس الى تبديل أماكنهم حتى تتجمع العائلة فى مكان واحد ، وقد كان ذلك أكثر مدعاة للراحة حين تناول الطعام .

سألت جولييت المسافر الذى يواجهها ، وهو الرجل السابح فى سترته التى لا لون لها : عفوا ياسيدى ، هل يوجد مكان فى عربة الطعام ؟

- يمكنك أن تذهبى الى هناك ! لكن مقابل خمسة وثلاثين فرنكا سيكون لك الحق فى بطاطس ، مجرد قطعة صغيرة ، هذا كل شيئ . آسف – الكرفس ... الكرفس ... ستهيمين به حباً ، ولكن لأمثالى المصنوعين من مواد دسمة ، فأنه لا يصلح !

ورفوف الابتسام على الديوان .

قال الرجل- حسنا ، أنا اذهب عادة الى مارسيليا وأتجه الى صاحب حانه يعمل فى السوق السوداء ، وهناك تقدم لى شرائح باردة من لحم الخنزير ، ثم انتظر ما يليها ... وعلى المائدة التى بجوارى يوجد بعض السادة الذين يتناولون عشاءهم مثلى ، أننى أقول مثلى مثل الملوك ! وما كدت افرغ من لحم الخنزير الذى كان امامى ،حتى نهضوا وأتوا الى وقالوا :( أيها السيد ، لقد أكلت لحم الخنزير ، بطاقة اثبات هويتك ،من فضلك ) قلت لهم آنذاك انه اذا كان المرء قد تناول عشاءه مثلهم ، فلا موجب لأن يأتى أحد لينازع الناس من اجل قطعة سجق وأن يطلب منهم بطاقة اثبات هوية ... ورفضت أن أطلعهم على بطاقتى ، هاهى ذى القصة بكاملها ، لقد أحضروا الشرطة ، وهكذا ! أمضيت فترة عقوبة اصلاح سلوكى .

قال والد الفتاة الصغيرة – كلنا ننعم بحرية مؤقتة .
- فى غضون ذلك ، لم أعد ( بكرا )
- ضحك المسافرون ،وفهمت الشابة التى ترتدى الملابس السوداء ما يعنية ذلك ، أما السيدة ذات القبعة ، فقد سألته :
- وكيف ذلك ؟
- لم تعد صحيفة سوابقى عذراء – وكان يبدو شديد الانزعاج – ونقص وزنى بمقدار عشر كيلو بقصص الكرفس هذه . أنظرى ياسيدتى ! واخرج من حافظته اوراق بطاقته الشخصية وبها صورته – أنظرى كيف كنت وكيف أصبحت !...
قالت السيدة – حقاً .
واصل الرجل الذى يسبح داخل ملابسه حديثه قائلاً : - ان أقل وقت لاستمرار ما نحن فيه .. هو عامان على الأقل ... وصاح كل المسافرون – أوه ، لا !

قال الرجل العائم فى سترته مؤكداً : - ان الألمان مازالوا شديدى القوة ، أنظروا اليهم ، كيف يلبسون ، والى العتاد الذى لديهم ....!
يجب أن تروهم فى باريس ..
- هل أتيت من باريس ؟
- أنا اتحرك مثل المكوك ....
قالت جارته ذات القبعة :- مثلى تماما ، لقد عبرت الخط خلسة ما يقرب من عشرين مرة .
قال والد الفتاة الصغيرة : - آه ، لا ، اننى عامل فى السكك الحديدية ، وقد أتيت من باريس ، ويمكن للمرء ان يرى فى باريس أنهم هالكون .. ان (( دوريو)) قد أصبح على وشك الاختفاء .
- هل هذه القصة حقيقية ؟
- أعتقد ذلك تماما ! بمعنى ، أننى لا أعرف ما اذا كان قد مات ، لكن فيما يتعلق بمحاولة الاعتداء فهى محققه !
قالت المرأة ذات القبعة :- أن ابنى سجين ، وقد كتب لى أنه فى اليوم الذى سيعود فيه السجناء .... فأنهم لا يستطيعون ان يفهموا كيف يستطيع احد ان يكون على وفاق مع سجانيهم . انه لأمر شنيع ! هل يمكن القول بأن الذين يتصرفون على هذا النحو فرنسيون .... لا شئ سوى تدابير ضد اليهود ، ما يحدث ، يقتلنا عارا وخزيا ... يالهم من فرنسيين !

وقال السيد الذى لم يعد بكراً : - الآريون الطيبون .... ليسوا طيبين فى شئ ! وحركة الانتفاضة ؟ لا أعرف ما هو رأيكم فيها ، لكن جدى على سبيل المثال ، لم يعد يفكر فيها !
واعتدل الجميع فى جلستهم وبينهم الفتاة التى ترتدى السواد، فقد ظهر المانى فى الممر ، حاملا بين ذراعية حقيبة ، وكان يبلغ من العمر سبعة عشر عاما ! لا أكثر .. يتبعه آخرون فى ملابس الميدان الرمادية ... ثم أستند على باب ديوان جولييت ، بينما كان هناك رجل يرتدى قبعة ملساء يقرأ جريدة بسط صفحاتها على اتساعها ، سادا الطريق تماما أمام المسافر حامل الحقيبة وأمام رتل الالمان ، وتسبب هذا فى نوع من التدافع المضطرب ، وكان الألمان يبتسمون جميعاً ، بينما الفرنسى يصرخ فى حده ، حتى أمكن سماعه بوضوح عبر الباب المغلق ، داخل الديوان :
( لا تدفعونى اذن ياعصابة الاوغاد ) كان حانقاً؟ بيد ان الالمان مروا بحقائبهم وابتساماتهم .
هتفت المرأة ذات القبعة – هذا ، انه احد اخواتنا ، انه احد اخواتنا ، لقد سمعتوه ، لابد ان يدعوه احد للجلوس ، لان شخصاً ما سيدفعه !...

فتحت الباب وقالت : تعالى ياسيدى ، هكذا يجب ان يكون الكلام ! انك احد اخواتنا ، سندبر لك مكان صغيراً ..........

دخل الرجل وهو مرتبك بهذا الفوز غير المتوقع ، وتحرك الجالسون ودبروا له مكاناً صغيراً ، ثم بدا على الفور ، فى قص حكاية طويلة عن رجل المانى دفع امرأة كان يرافقها طفل ، أثناء وجود صديق له ، وما قاله هذا الصديق ( وما فعله هو بهذه المناسبة )

قال الشاب ذو الملامح الشرقية ، الذى لم يكن قد شارك فى الحديث حتى هذه اللحظة ، قال مجازفاً :
- لقد سمعت ما يقال عن ان الانجليز قد قصفوا مطارا بالقرب من باريس .
- آه ؟
أصبح الاهتمام عاما ، فهكذا كل الباريسيين ، سواء كان يعنيهم الامر أم لا ، فأخذوا يخمنون أى مطار يمكن أن يكون .
قال الرجل العائم فى ثيابة الذى يواجه جولييت ، ذلك الفتى المرح – نعم ، ذلك لا يمنع أنهم مازالوا شديدى القوة .....

قالت جولييت : سوف يصمدون حتى الربيع ، اذا كانت هناك فرصة ، وحتى الخريف ، اذا لم تكن هناك فرصة . وقد ازعجه هذا الطراز من النساء .

-ومن اى مصدر تستمدين معلوماتك ، ياانسة ، من العراف نوستراداموس؟
ابتسمت جولييت له ابتسامة رقيقة ، حتى ظهرت غمازتاها
وقالت له – من الوضع العام ، ثم اخرجت بقية غذائها ، لأنها لن تذهب الى عربة الطعام – فتدفع خمسة وثلاثين فرنكا ثمناً للبطاطس .
قال عامل السكك الحديدية ، وهو يرمق جولييت بنظرة تعاطف :
- لو أن الانجليز قد فتحوا جبهة ثانية فى عام 1942 ، لكان الألمان مهزومين الآن . ان الانجليز هم الذين أنقذوا وضعهم .
ولم يقل الذى يواجه جولييت شيئاً ، بل رمقها وهى تأكل فحسب .
وقال الرجل ذو القبعة الملساء :
- اننى أوافق على هذا ، فالانجليز يتملصون بشكل سئ ، ولنا أن نقول انهم يفعلون ذلك بوضوح ... لكن الروس سوف يحرزون النصر فى الربيع ... وأول كل شئ لم يفعل أحد غير الكذب علينا ، وواصل حديثه فى حمية ، وبدت الحمية بالنسبة اليه امرا طبيعياً لقد كانوا يقولون ، الروس ليس لديهم جيش ، الروس ليس لديهم جنرالات ، الروس ليس لديهم تموين ، وكل أنواع اللغو المماثل ....حسنا ، والآن يقولون لنا أن هذه الأشياء لا تنقصهم !

قاطعه الفتى المرح الذى يسبح داخل سترته :
- هل تعرف كيف تنظر عديد من البلاد الى الجيش بصفة عامة ؟ أن الانجليزى يعتبره حرفه ، والألمانى يعده ضرورة ، وهو للايطالى بمثابة ملابس جميلة ، أما بالنسبة للفرنسى ... فأنه يدفعه الى التبرز .
هاها هاها.... ضحك كل من فى الديوان . وبينهم الفتاة التى ترتدى الملابس السوداء . وقد ابتسمت المرأة ذات القبعة ، التى كانت قد أغلقت عينيها منذ لحظة محاولة أن تنام .

قال الفتى المرح : انك لا تنامى الا بعين واحدة ، اذا جاز لى ان اقول ذلك ، واخذ يهمس لها بأشياء فى أذنها لانها كانت تجلس بالقرب منه .

اغمضت جولييت عينيها ايضا، وبدا الشاب ذو الملامح الشرقية يشارك فى الحديث . تحدث عن تركيا ، ومعادة النازية فى تركيا ، عن مصلحة الأتراك فى أن يقفوا بجانب الانجليز والروس ، لقد كان له صوت خجول ينم عن ثقافة ولا شك أن اللكنة التى كانت لديه لكنة تركية ... وكان الجو حاراً فى هذا الديوان .
قال صوت الفتى المرح – من المتوقع الا يصل الانجليز بسرعة ما لم يصلو الى تونس عبر الرمال ...
اثار قوله موجة استنكار شاملة : هذا يعنى انه لم ينصت الى الراديو ، أو أنه يتصور الخريطة بشكل سئ ! هيا لنرى ! بين له أحدهم بتفاصيل مفحمة ، وبأسماء مؤكدة ، وهو يشير الى عدد الكيلوا مترات التى تفضل النقاط المختلفة والتى سيكون الانجليز فيها خلال وقت قصير جدا....
قال الرجل العائم داخل سترته فى معرض الدفاع عن نفسه :
- لا توجد طرق عامة مرصوفة فى الصحراء ، أنها رمال !
أعقب ذلك نوع من الهدوء المؤقت ، بينما كان الليل فى الخارج شديد السواد ، والسماء تمطر ، وقد بدت القطرات الصغيرة مرسومة على زجاج النوفذ . وفيما يتعلق بالدفاع السلبى ، رفعت الستائر ، وأضاء المصباح الكهربائى الديوان برقة.
قال الفتى المرح مخاطباً جولييت :
- هل لديك غرفة فى ليون ياآنسة ؟
- نعم ياسيدى
- لأننى أجد غرفة دائما . وأنا لا أقترح عليك أن تشاركينى فيها . فان مثل هذه الفكرة بعيدة عن ذهنى ! لكننى فكرت أنه فى مثل هذا الوقت ، اذا لم يكن لديك غرفة ، فأننى أستطيع أن أجد لك ... فى الفندق الذى أقيم فيه عادة ، لقد قلت مرة لفتاة الخزانة ، أنه اذا لم تعطنى غرفة سأنام معها ، كعقوبة ! الآن تفهمين ! هل أحمر الشفاه هذا من السوق السوداء ياآنسة ؟
نظر الى جولييت كمن يلدغ بكلامة دون أن يظهر عليه شئ.
وحينما كانت جولييت تحاول التقدم وسط الزحام على الرصيف ، فكرت أن رجل القطاركان مثيرا للقلق . فالتقتت وراءها عدة مرات . وبدا أنها تقدمت كثيراً على المسافرين الذين كانوا معها فى العربة . وفضلا عن ذلك ، أكان عليه ان تحس بالقلق من كل شخص يدعو للقلق ؟ هل كان من الطبيعى على سبيل المثال أن تتشبث بها المرأة الحولاء ؟ ربما كانت مجرد امرأة تجلب المؤن من الريف للمتاجرة ، وتصورت أن جولييت تفعل مثلها ، ولأنها كانت خائفة ، فقد يطمئنها أن تتصور أنهما شريكتان ... وخرجت جولييت من المحطة ، وأطبقت عليها المدينة ، مظلمة موحلة .

كان موعدها فى صباح الغد ، وكان احدهم قد أعطى لها عنوان أحد الفنادق الذى يمكن أن تجد فيه غرفة ، اذا ما وصل قطارها متأخرا للغاية ، وقد وصلت الى هناك نصف ميتة من الارهاق ، فلم تعد قادرة قطعاً على أن تحتمل ما هو أكثر من ذلك . كان الفندق يقع وسط فناء ، وعلى مقربة من صاحب الفندق كان كلبان ضخمان من نوع الوولف ، بدينان ، يقاومان وهما يزمجران محدثين ضجة هائلة . ولم يطلب من جولييت أن تملأ استمارة فندقية . وقادها من خلال سلم ضيق الى أحدى الغرف ، شديدة الدفء ، وكان هذا هو كل ما عرفته : فقد خلعت ملابسها ، وعيناها مغمضتان ، وتأهبت للنوم فأستغرقت فى النوم على الفور ... ثم نهضت وهى تقفز وارتدت معطفها فوق قميص النوم ، ولبست خفها ، وخرجت الى الدهليز ، فقد نسيت فى مكتب الفندق لفافة الأرنب .

كان الدهليز خانق الصمت تنبعث منه رائحة التدفئة المركزية ... أخذت جولييت تتلمس طريقها حتى السلم ، وأستعدت للهبوط حين رأت من مكانها المرتفع ، باب المدخل يفتح : أنهم رجال ... ثلاثة ... خمسة ... ثمانية ... قبعات ملساء ، ومعاطف ، وظهور غليظة ، وصخب ... وأستندت جولييت على الجدار . ، أملة أن يظنوها أحد رسوم الحائط ، ولم تفر حتى فى أن السلم لم يكن مضاءا ، وأن هناك احتمالا ضئيلاً جداً فى أن يراها أحد من أسفل .
قال أحد الرجال وهو يفرك يديه :
- ها هو ذا المخبأ .
قال آخر – حسناً ! ، وهو يلقى بنظرة دائرية شملت الفندقى الذى خرج من مكتب الفندق والكلبين الضخمين اللذين يتبعانه ، واللذين أخذا يدوران بين الرجال فى الحال بخطوات ذئب ، وهما يزمجران ....
- آه حسنا ، لابد من السير ثمانية كيلو مترات حتى نصل الى هناك ...
ثم مروا ... واحدا بعد واحد ، الى داخل المكتب ... وانتظرت جولييت أعلى السلم فى الظلام ، لابد لها من لفافة الأرنب ، لابد بأى ثمن ... وأخذت تفكر مع وجود مثل هؤلاء الرجال داخل الفندق ، رجال العصابات ، والسوق السوداء ، المسيرة الطويلة على الثلوج ، ولفافتها التى يسحبونها وراءهم على الجليد !! خيم الصمت تماما مرة أخرى ، وانتظرت جولييت برهة طويلة ، ثم اندفعت هابطة . كان المكتب غارقاً فى الظلام ، لكن لم يكن عليها الا ان تضئ النور ، وتذكرت أين وضعتها ... ياليتها لاتزال هناك ... لقد كانت هناك !... حمدالله ... ثم أخذت تصعد السلم قفزاً .

ورقدت مرة أخرى دون أن تطفئ النور ، وظل قلبها يخفق بجنون ، وقد كانت تشعر بخوف شديد ، قبل أن تنام ... وشيئاً فشئياً ، بدأت معالم الغرفة تتبين أمامها ، وبدأـ تفكر من جديد مثلما كانت تفكر فى المنزل الريفى ،(مع ذلك , الديهم الصفاقة ليرسلونى الى مثل هذا المكان ... ! ) لان المرء ليس فى حاجة لان يقيم فى مثل هذه الأماكن لكى يعرفها ، ثم نامت على الفور .

كان هناك بالقرب من الباب لافته نحاسية ممكتوب عليها : دكتور أرنولد ، أمراض نساء ، فقد كان منزلاً جديد تماما ، شديد البياض ، يشبه منديلاً أبيض سقط فى وحل منازل ليون ، ارتقت جولييت سلما، وكانت رائحة الطلاء والجص تنتشر ، ثم قرعت جرس الباب المصنوع من خشب الماهوجنى ، وكانت اللافته النحاسية وزر الجرس يلمعان ، وكأنهما شمسان حقيقيتان وأتت خادمة لتفتح الباب : ( هل لديك موعد ياأنسة ؟) . ثم قادت جولييت الى صالون صحى للغاية ، ذى مقاعد من الخيرزان ، وخشب أرضيته يلمع ، دون سجاجيد ، به منضدة للكتب والجرائد يستقر فوقها غطاء زجاجى ، وخزانتان زجاجيتان فيهما آنية خزفية ، وقد كان مدهشاً للمرء أن يراها بدلاً من الادوات الطبية المصنوعة من الصلب . وأستقرت على الجدران رسوم بالألوان المائية تحت الزجاج ، بينما كانت هناك فى أحد الاركان منضدة مستديرة ذات سطح زجاجى ، تستقر فوقها باقة كبيرة من أزهار الميموزا ( الست المستحية )) ، وجلست ثلاث سيدات ينتظرن وهن ناعسات فى صمت صالون الانتظار . وتناولت جولييت مجلة ( الأحد المصورة ) وحاولت أن تقرأ ... لم تحاول السيدات ان يفعلن حتى ذلك ، فهن ينتظرن فحسب ، ومر الوقت ، ولا شئ يتحرك خلف الأبواب ، فأخذ الصمت يطن فى أذنى جولييت وكأنه ذبابة ضخمة سوداء ، وبدأت تغفو حين أنفتح الباب وظهر الدكتور الأشقر ، وقفزت احدى السيدات منتصبة على قدميها ، فتنحى الدكتور جانباً حتى يدعها تمر . وعادت جولييت الى الانتظار مرة أخرى . ولكن هذه المرة لم يطل ذلك . وحين فتح الباب من جديد . خاطبها الدكتور قائلاً ( هلى تأتين ياآنسة ) قال ذلك وهو يشير بيده فى نفس الوقت الى السيدة الأخرى التى كانت قد تحفزت للنهوض حتى يعيدها الى مكانها ، وقد فعل ذلك بطريقة مفاجئة وكأنه يقوم بحركة جراحية .

قال – ماذا وراءك ؟ وهو يغلق الباب ويذهب للجلوس على مقعد خلف المكتب ، وجلست جولييت فى الاتجاه المقابل . وقد كان لمنضدة الفحص التى جلست وراءها مظهر أداة تعذيب تنتمى الى الماضى ذات أهاب أبيض . أما التحف الصينية فى الخزانة الزجاجية فلم تكن موجودة بالنسبة الى جولييت .
- يمكنك أن ترسل الى هناك عشرة والحد الاقصى أثنا عشر ........ من الواضح ، أنهم ينتظرون تقريباً فى كل المزارع دفعة حاسمة للعمل ... ولكن الرجال هناك سيأكلون جيداً حتى دون بطاقات التغذية ، هناك من الممكن ارسال رجال حركة الانتفاضة بل يمكن اخفاء السياسيين أيضاً .
- - آه . لا يضايقنى هذا ، لدى منهم أثنان ينامان فى صالون الانتظار على الارض . ثم فرك الدكتور يديه ، وكانتا ورديتين لأنه يغسلهما مائة مرة فى اليوم .
- - لقد أحضرت لك هذا ... ونقبت جولييت فى اللفافة ، ورفعت الأرنب ، وأخرجت رزمة من الأوراق المالية :- ان مجموعها مائه ألف .
- - هل حملت هذة الرزمة فى لفافة طعام مفتوحة ، معرضة لكل الرياح ، ألا تكونين حذرة على الأقل ؟. وأحصى النقود سائلا – كيف تسير أحوال دومينيك ؟
- لايبدو أن أحواله تسير بشكل سئ – أنه يبعث اليك بتحياته .
- - هناك أمر آخر ، لقد علمت فى التو ، انهم على وشك أن يعتقلوا ستة رجال من أفينيون ، وهم من عمال السكك الحديدية ومن طراز ممتاز ، وأعتقد أن أمامنا وقتاً نحول فيه دون ذلك ، وعلى اى حال فهناك فرصة ... وليس لدى أحد على الأطلاق لأرسل به الى هناك ، ولا أستطيع أن أذهب بنفسى ، هذا مستحيل تماما بالنسبة الى ..... هل بمقدورك أن تذهبى الى هناك على الفور ... انهم ستة رجال ....
- قالت جولييت – حسنا ، لكن هل سيكون لدى وقت لأعود الى بيتى ، كى أغتسل وآكل ....
- - هناك قطار فى الساعة الرابعة وبعض دقائق .... هذا رائع ! ، شئ آخر : وبما أنك ستذهبين الى أفينيون ، فيمكنك ان تحملى الى هناك فى نفس الوقت بطاقات التغذية ذات اللون الأبيض : لان الفتية اذا كانوا سيرتادون الادغال فسوف تكون ذات نفع لهم ، وعلى اى الأحوال فقد وعدت سلستان بها .... انه يدعى سلستان. الرجل الذى سترينه فى افينيون ، اثناء عودتك ستتوقفين فى فالانس لانه لابد من توصيل بعض البطاقات الى رجالنا هناك ، سوف تكونين حذرة ، اليس كذلك ؟

قالت جولييت – أنى شديدة الحذر ... لكن اذا كان بمقدورك أن تقدم لى قدحا من أى شراب ساخن ... فليست صحتى على ما يرام ... لا اعرف ما بى . اننى لم أتناول افطارى هذا الصباح .

- أننى أسالك الصفح ، فأنا أنسان فظ غليظ القلب – ودق الدكتور الجرس – سوف تحضر اليك ما تريدينه، ثم تتناولين قدحا ضغيراً من الخمر ... لقد رحلت زوجتى مع الأطفال بمناسبة عيد الميلاد .... لكن ليس عليك الا ان تذهبى وتتمدى فى الغرفة . مادلين ، خذى الآنسة الى الغرفة ، وقدمى لها طعاما مسلوقاً ، وخبزاً محمصاً ، يجب أن تستريح قبل ان ترحل . سوف اصرف السيدات بسرعة ثم اصبح تحت امرك .

وكان يبدو على جولييت ما يكفى من الكآبة . فالخادمة التى أظهرت عناية فائقة بهذه الشابة التى ربما كانت حاملا ، لم يثر دهشتها شئ .. ثم رفعت بسرعة غطاء الفراش الحريرى ، وتمددت جولييت على الفراش الزوجى العريض ، فراش الدكتور ونامت بعمق حتى دخل الدكتور الى الغرفة .

قال الدكتور ، وهو يجلس على الفراش :
- شئ آخر ، ان الوقت هو الظهيرة واذا كنت تودين ان تمرى على بيتك ... حين عودتك من أفينيون ...
- لا تنس أنه عند عودتى من افينيون ستكون الاعياد قد انتهت ، ولن اكون حرة الا فى الصباح . وهناك صناديق الخطابات ... ألم تحدثنى عن كوب صغير من الشراب ؟
- أننى انسان فظ غليظ القلب ... مرر الدكتور يدية الورديتين فى أمواج شعره الأحمر :- سوف أبحث لك عنه ... وبدلا من أن يفعل ذلك تناول يد جولييت وقبلها :
- ياطفلتى المسكينة ، هذه ليست حياة ، فى فراشى فتاة جميلة ... وبدلا من أمارس الحب معها ، فأننى اسعى لارسالها الى الشيطان ، لتمارس مهنة لا تلائمها مطلقاً ... اتقولين لى أن هذا شئ عادى .....!
- لا ، انت الذى تقول ذلك !
- لك أن تسخرى منى ، هيا ... انت لا تقولين ان هذا شئ غير عادى ، بينما فى الوقت الراهن كل شئ غير عادى يمكن للمرء ايضاً ، اذا لزم الامر ان يوقع بامراة ... لكن كيف يمكن ان يتوفر الوقت ، وراحة البال الضرورية حتى يمكن للمرء ان يتحدث عن الحب مع طفلة ساحرة مثلك . فلا أحد يجد الوقت لانجاب الاطفال الا بصعوبة ...
وقالت جولييت – لك كل العذر ! وأحمر وجه الدكتور كأنه فتاة صغيرة ، ثم نهض قائلاً :
- سأذهب للبحث عن هذا الشراب وغادر الغرفة .
ارتدت جولييت حذاءها والتهمت الطعام البارد الذى كان موضوعاً على صينية بالقرب من الفراش :
- آمل أن يكون طيب المذاق فى فمك ...- لقد عاد الدكتور وفى يده زجاجة من النوع الممتاز ، وقدحان – أنت تعلمين أن مثل هذا لايمكن العثور عليه فى الوقت الحالى ... ها هى البطاقات ... أين ستضعينها ؟
- تحت الأرنب .
- رائع ، هل هى جيدة ... رائع ... عجلى الآن باعطائى كل التفاصيل ... عن المخابئ عند الفلاحين .
- من الأفضل الذهاب أولا عند آل بورجوا ...
بدأت جولييت تشرح فى تسلسل كيف يجب التصرف – كان دومينيك قد كلفها بأن تقول ، بأنه لا شئ يمكن التأكد منه فيما يتعلق بمنطقة الهبوط ، وأنه سيكون عملا شيطانياً فى هذا البلد المهجور ، حيث الناس طيبون ، طيبون للغاية ... فى بلد آل بورجوا ، اذا كان يمكن للمرء ان يسمى ذلك بلدا رغم المسافة التى تفصل بين المزارع ، لقد صوت الناس جميعاً للشيوعيين فى 1936 ، وهذا يدلك على مقدار حب الالمان لهم (!!) ، لقد حكى لها آل بورجوا ذلك . ومن المضحك أن يكون اسمهم آل بورجوا وهم شيوعيين ... اما منطقة الهبوط القديمة فتعمل بصورة جيدة ، فقد وضع دومينيك بعض الناس هناك ليتلقوا الطرود الملقاة بالمظلات ...

- رائع ... ان قطارك سيقوم فى الرابعة والدقيقة الخمسين . كل ما يجب عليك فعله حين وصولك هو أن تتصلى هاتفياً ، هذا هو الرقم ، وهذه هى قائمة عمال السكك الحديدية المطلوبين ، عليهم أن يهربوا على الفور ، دون أن يضيعوا الوقت فى جمع حاجياتهم ، وفى تقبيل زوجاتهم ... فربما توقف الأمر كله على دقائق ، وربما كانت مسألة حياة أو موت ... هل فهمت ؟ عليك أن تسألى هاتفياً عن السيد سلستان ، وسوف يحدد لك موعداً لتسلميه القائمة ، اذهبى بسرعة ياطفلتى ، هذه مسألة حياة أو موت ، لا تنسى ذلك ...
- - لن انسى ...
- - حسنا ... هل أنت حذرة ؟.
- أنى حذرة .
- تعالى لرؤيتى عند عودتك .
-
- *****
-
حين عرفت الخالة (ألين) و (جوزيه ) انها سترحل مرة أخرى ، اصابهم الغم ، أترحل ليلة عيد الميلاد ... لقد وقفت الخالة ألين فى الطابور طوال ثلاث ساعات لتحصل على المحار ، ولديهم كرنب بالنقانق الحقيقية كبديل عن الديك الرومى ... ولم يستقبل الارنب الذى احضرته جولييت الا بنصف حماسة لانهما سيأكلانه دون أن تكون معهما ، وكان حريا ببابانويل الا يأتى اذا عرف ان جولييت لن تكون هناك ، وارتمى جوزيه على الفراش ... فى الغرفة . وكان سماع انتحابه امرا بشعاً ...
- انى اؤكد لك ياخالتى الين انها مسألة حياة أو موت ...

ولم تقل الخالة الين التى كانت منتصبة القامة دائما على الرغم من أن صدرها قد تهدل وكان رأسها الأبيض يترنح قليلا ، شيئاً ، وبدأت تعبث بالاوانى الموضوعة فوق الفرن . كان المصباح الكهربائى مضاءا فى وضح النهار ... وكان المطبخ مطلا على الفناء وكان يمكن للمرء أن يبقى فيه لانه المكان الوحيد الذى تمت تدفئته ، ووضعت أدوات المائدة على الغطاء ، الذى تقشر طلاؤه ، أدوات لشخصين اثنين ، فلم يعد أحد ينتظرها على الافطار ، ولم يكن هناك سوى البطاطس ، وقطعة جبن بالصدفة ... هل كانت تريد قدحا من النبيذ ... من ناحية المبدأ ، فأن الناس يحتفظون بالنبيذ من أجل ليلة عيد الميلاد ، أوه ... الأمر سواء بالنسبة الى ... فى الغرفة الطويلة الضيقة ، حيث يوجد مخدع بعيد الغور ، كانت جولييت قد جذبت الاسرة بعيدا عنه لانها لم تكن تحب ان تنام فى كوة الجدار ، وقد كانت تلك الكوة مناسبة على العكس من ذلك لتخزين البطاطس ، فى هذه الغرفة الضيقة التى يوجد بها سريران متماثلان من الحديد ، وعند مؤخرتهما سريرجوزية الصغير ، راح جوزية يبكى وهو نائم على بطنه ، وقد دفن رأسه فى وسادة جولييت ( كان ينام دائماً فى فراش جولييت)...

قالت جولييت – يامعبودى الصغير ، ياقلبى ، وراحت تمطره بالقبلات قائلة ، كن رجلاً ، أنت تعرف جيداً ان الالمان اشرار ويجب طردهم من وطننا...

لا أريد أن تطرديهم حين يكون اليوم هوعيد الميلاد ، أطرديهم فى يوم آخر...

سوف تحصل على حصانك وأنا غائبة ، لقد وعدتك به ، وسوف تتعلم كيف تمتطيه حتى تصبح فارساً حقيقياً عندما أكون قد عدت ، بعد غد ، هه، وسوف تحتفظ لى بالكرنب المسلوق ، فهو يبقى فى حالة جيدة ، وأنت تعرف ...
- والمحار ؟
- المحار ، سأشترى منه ثانياً ، ربما أجد بعضاً منه ... أتريد ... سوف تنال قطعة كبيرة من الأرنب ، هل تحب الأرنب .... ياقلبى الصغير المعبود .

أنها لم تعنفة حتى على صعوده بحذائه فوق غطاء الفراش المطرز الذى أحضروه معهم من باريس ... أخذته بين ذراعيها ... بينما بدا الصغير جوزية ، وهى يحترق بالدموع والحزن ، وعيناه ماستان سوداوان ، شعره مموج الخصلات ، وجسمه قوى ، ووجهه متورد من الدم النقى ، كفلاح قطالونى صغير .

- لقد قالت لى الخالة الين أنك تعرف القراءة الآن .... هل هذه القصة حقيقية ؟
جرى جوزية الى المنضدة الصغيرة الواقعة بين السريرين ، وهى منضدة استقرت فوقها صورة فوتوغرافية كبيرة فى اطار من الفضة ملفوفة بشريط حداد أسود (وهى صورة شقيق جولييت الذى استشهد فى ليبيا ) . ودورق ماء ، والكوب الذى تضع فيه الخالة الين طاقم أسنانها قبل أن تنام ، ومنبة صغير مطلى بالنيكل ، حملته أيضاً معها من باريس ، لأنه ثمين ... ولم تكن كآبة هذه الشقة المفروشة لتحتمل من جانب الخالة الين ، دون بعض هذه الاشياء التى تخفى عنها بؤس قطع الاثاث العرجاء ، ( لقد تم طلاؤها بعناية ، لكنها بقيت دائماً مغبرة ، تالفة ، بعيدة عن النظافة ، والآنية المشدوخة ، وأوعية الطهو المثقوبة ، ما أشد كآبة هذا المنزل ، الدهليز ، والدرج المظلم ..... يقال أنهم يدفعون فى هذا الكوخ القذر سبعمائة فرتك فى الشهر ، وهم راضون أيضا بحصولهم عليه بعد عام من الحياة فى الفندق ، ومعهما طفل ..

لقد كان هناك أيضا مغسل فى الغرفة ، ذو مياة جارية ، وخلعت جولييت ملابسها ، واغتسلت بينما جوزية على ساقيها . وقدمت لها الخالة الين ( بلوفر من الصوف ) قد أنتهت من صنعه : هديتها فى عيد الميلاد . فأرتدته جولييت على الفور ، وما أسوا ذلك فسيتسخ خلال الرحلة ، وقد كان جميلا جدا ... أزرق مثل الذى يرتدية الملاحون . يصل حتى أعلى العنق ، وطراز ( غرزته ) شديد التعقيد من ابتكار الخالة الين .

تناولوا أفطارهم فيما يشبه المرح ، وشربوا القهوة ... رغم ان جولييت غمست يدها فى الماء الساخن ، ألا انها لم تنجح ابدا فى تنظيفها بعد هذه الأيام القليلة التى قضتها فى الريف ، ان نار الخشب هذه شئ فظيع ، ونفضت الخالة الين عن معطفها الأرزق – فى لون معاطف البحارة – الغبار بالفرشاة ، وقد كانت الخالة تقول فى كل مرة تضع عليها يدها ، أن جولييت قد أحسنت صنعا فى اليوم الذى اشترته فيه نقدا من بيت تجارى كبير لانه لا يبلى ، وبالاضافة الى ذلك فان هذه المعاطف(السبور) لا يبطل طرازها ابدا ...
( أننى اسأل نفسى عما اذا كان حذاؤك سيبقى صالحا حتى ينتهى الشتاء .... ) قلبته الخالة فى كل اتجاه ، وهى تدهنة بطلاء نفاذ الرائحة ، أن جميع أنواع الطلاء فى الوقت الحاضر لها روائح نفاذة ... لكنها لا تنظف شيئاً ... هل استقبلها الفلاحون بحفاوة آنذاك ؟ لقد كان هناك تقدم اذن فى الروح المعنوية للبلاد ، لذلك ربما ينتهى بهم الامر الى الوعى ... هل تتناولين قدحا من الشاى قبل ان ترحلى ...

وأرتدت جولييت غطاء الرأس ، ثم قبلت جوزية والخالة الين متأهبة لان تلحق بقطارها ، نعم ، سوف تكون حذره ، حذره جدا...

كانت فراشات النار تتراقص امام عينى جولييت المغمضتين ، وظلت تواصل رقصاتها حين فتحت عينيها ، تجسدت شجرة عيد الميلاد خلال ألسنة اللهب الصغيرة ، وكانت تنتحى ركنا قصياً معتمة مفضضة ، وراح الشرر يلامس قبة السقف متقاطع الدعامات ، وظلت الشموع تحترق على المنضدة الخالية ، بينما كانت هناك نار داخل المدفأة ، تترامى ألسنة لهبها ، طليقة هنا وهناك ، كاشفة بين الأثاث ، والأبسطة والاغطية الصوفية ، واللوحات ، عن أحجار الحائط فى لون لؤلؤة رمادية . وفوق الأبواب كان هناك تمثال عاشقين من الحجر يمسكان بأكليل زهر ثقيل منحوت . وبدا عاشقين من الحجر فوق المدفأة العالية ، لكن فتحات الحائط الضيقة تختفى الآن خلف الستائر ، وكان العقد القوطى رقيق التشكيل ، يصلح الآن يكون عقد كنيسة . ويصدق ذلك أيضاً على الأثاث : كانت أرائك ومقاعد ذات ظهور عالية مستقيمة ، وأخرى يمكن للمرء أن يضيع فيها . بقدر ما هى عريضة ووثيرة (3) .

- الهواء ، والماء ، والأرض ، ومتعة الحب . الحب يحاصرك بين جدران مدينتى ...( أفينيون أيتها المدينة المجنونة ) ، انها مدينة مقدسة ، مدينة شيطانية ، منذورة للمعجزات ، وشر السحر ، للعذراء ، لفينوس ، للأبالسة ، يعانقها لهيب محرقة الأجساد وأعياد الليل ... اثام الشفتين ، والاستهتار ، وأشد النساء جمالا ، النساء المعبودات ناصبات شراك الغزل ، والرجال من نفس الفصيلة ... ها هى ذى لا ترفرف بأجنحتها الا للحب .... انه الحب المقدس ... الحب الخالد .... بينما الأديرة تغلق أبوابها على النساء اللاتى يهجرن هذا العالم ... سوف ترون ما معنى سحر أفينيون ... فى أى مدينة أخرى تجدون على أحد جدرانها نقوشاً تمجد ميلاد حب ، وكأنه ميلاد رجل عظيم : هنا، بترارك يحمل بين جنبيه من أجل لورا حبا ساميا يجعلهما خالدين ... لا تظنوا أن أفينيون تسقط تحت أقدام التاريخ ، فهذه المدينة منسوجة من الأساطير ، كل يوم يضيف اليها خيطاً ، هنا كل رجل بترارك ، وكل أمرأة لورا ... كم من حبيبين خالدين فى طرقات الحب هذه ، فى تلك المدينة المتصوفة ، المولعة بالغزل ... والآن ... نزع منا كل شئ ،... حتى أحلامنا بالحب ... لم يعد يقطن العالم سوى أحباء منفصلين ، سوى الحب الذى يمزق ويتمزق ، وذلك لان راياتهم على جدراننا ، جحافل الفاتحين .

كان ينظر من خلال النبيذ الاحمر فى قدحة ، بينما ارتدى سروال ركوب وحذاء طويل العنق . وسترة من المشمع دون أشرطة ، مفكوكة الأزرار ... له جسم ضخم ذو حركات مباغتة ، حتى ليتوفع المرء أن يقلب كل شئ ولكن لم يحدث شئ من ذلك ، وكانت له سمة الجواد الذى يتخطى الموانع دون أن يشتبك به ، له رأس مثل رأس كبير الملائكة رصين ، منهك ، وعين تومض جاحظة تحت حاجب شامخ ، لقد بدت النار ، تلك الحرارة الاستوائية للغرفة ، كما لو كانتا تنبعثان منه .

- وسط المجاعة ، والمسدس ، والسجن ، أين يجد الحب مأوى ... لقد انتقم لنفسه وفر بعيداً عنا ... لقد فقدناه ... سوف أذهب أنا ، وسوف تذهبين أنت بأقدام عارية فى الصقيع حتى ندع رفيقاً مجهولا يفلت من الموت ... نهم يقتلون ... الخونة ... انهم يقتلون دون أدنى خدش فى الروح أو فى القلب ... ما من مكان لحب غير الحب الذى يعرفه مقاتلو المقاومة ... رجال أضنتهم البطولة دون تألق ... دون أن يدفعهم أحد ودون جوقات موسيقية ... منهكين بالحرمان ، وفقدان الأوهام وبشاعة العدو والخونة ....

وتابعت جولييت طيران فراشات النار أمام عينيها ، وأحست بأن النار تملؤها ، حتى أصبحت أناءا مملؤاً بالنار حتى الحافة ، مثل هذه الجذوة التى أمامها ...

قال – صديقتى الرقيقة ، لقد استطعنا اليوم أن ننقذ ستة من رجالنا ... وأنت لم تأت راكبة مذنبا سماوياً ... ولا ممتطية جواد فروسية ، لقد ركبت القطار ، وواجهت رجال الشرطة ، وتناولت شطيرة من السجق ، مصنوعة من المطاط ، وأنا ركبت دراجتى ... لقد رأيت أناسا بؤساء مذعورين ... تاركين زوجاتهم وأطفالهم ، ليختفوا قابعين فى مكان ما ... المرء يفعل ما فى مقدوره ، المرء يدافع ، يهاجم ، يقول لنفسه أحياناً ، انه ليس أكثر من بعوضة على جلد فيل رمادى ... روز .. أنت لم تقولى شيئاً ...

- لا ... لا تقل روز ، بل جولييت ... أعطنى شراباً ، سوف اقترح عليك لعبة ... سنمثل دورين كما لو أن كلا منا يحب الآخر .
- وكيف بلعبون هذه اللعبة ؟
- كما يلعب المرء دور القيام بزيارة خاصة ، أو الذهاب الى الطبيب ... هكذا الامر ، أنت تعرف ذلك جيداً ...
- لست واثقاً جدا من أننى أعرف كيف ألعبها ...
- بلى ، أنت ستعرف ذلك جيداً ، أننى فى حاجة اليه .
- انك الشجاعة والأنوثة ذاتها ... بما أنك ياجولييت ، قد أصبحت منذ هذه اللحظة حبيبتى ، فان لدى ما أقوله لك .. هذا لأننى أحبك ، ولأننى ثمل قليلا : أول أمس ... قتلت رجلا ...
قالت جولييت – آه – أننى أحبك ...
لقد تعذب ... مقتولاً ... لقد قررنا تصفيته . وهو الآن فى نهر الرون ..
انها الحرب ...
- كان من الواجب ، ولعدة أيام ، تتبعه والتجسس عليه . وكان من الواجب أن تتملكنى الكراهية والايمان بعدالة حقى لكى أفعلها دون غضاضة .
- - ألم يشك فيك أحد ، اننى أحبك ، ولا أريد أن أفقدك
- جولييت....
انزلق سلستان على الأرض ... وجثا على ركبتيه ، وأخذ يقبل أقدام جولييت الصغيرة العارية .
قالت – الآن سأنام .
اعتمدت على ذراعها . وراح ذيل ردائها الداخلى الطويل يتبعها وهو رداء ذو أكمام منتفخة ... وكان لنصفة الأسفل ثنيات حول الخصر جعلت هذا الخصر يبدو واهنا على وشك الانهيار ... واختفت قدما جولييت العاريتين داخل خف ذى كعبين مذهبين وتألقت ثلاثة مصابيح صغيرة فى عاكسة الضوء ( الاباجورة ) ذات القوائم . وكان غطاء الفراش قد سوى . وقميص النوم قد بسط بينما تقاطع كماه المصنوعان من الدانتلا ... وكان السرير ذو الأعمدة يواجه مرآة داخل اطار مذهب .. وفى كل جانب من المرآة ، حامل جميل منحوت . واختفت النوافذ خلف ستائر الحرير البيضاء ، المطرزة بخيوط بيضاء ، وكانت هناك منضدة زينة بين النوافذ ذات غطاء مرفوع ، ولها مرآتان ، تزدحم بالقوارير ... والعلب متعددة الأشكال والألوان ... وكانت هناك بعض الأوانى المزخرفة موضوعة على المدفأة حيث مازالت النار مشتعلة وتناثرت الوسائد على المقاعد وعلى الأرض ... وكانت صورة فوتوغرافية معلقة على الجدار فوق منضدة الزينة ... وهى كبيرة الى درجة تثير الدهشة ، كأنها بالحجم الطبيعى ، لقد كانت صورة امرأة تجلس فى انتصاب حاد ، ذات نظرات مختلسة ، وذراعاها معقودتان فوق المائدة ، دون أن تعتمد عليهما بينما أرتدت ثوباً ذا ياقة عالية .

نظر سلستان فى عينى جولييت مباشرة وقال :
- لقد أردت أن تقيم معى فى هذا المكان حتى وهى غائبة عنه .
قالت جولييت – طابت ليلتك ياحبيبى . وفى صفاء ، أحاطته بذراعيها ... وقالت : الى الغد.
- الى الغد ، سوف تستريحين ، تنامين .........
ثم أخذ يغنى :
فى وسط الفراش
النهر عميق
حتى ليمكننا أن ننام فيه
حتى نهاية العالم ......
أغنية جميلة أهديها اليك ......
ضمها سلستان اليه وابحر فى سماء ليلة عيد الميلاد ، السوداء المزدانة بالنجوم . وجعلت العذوبة التى أجتاحته من الصعب عليه ان يجد القوة ليقول : انى احبك ...
- وقالت جولييت مرة ثانية ، طابت لبلتك .
- وخرج سلستان .
- عيد الميلاد ... عيد الميلاد .. عيد الميلاد
-
أحب الحديث عن أى مدينة ، بعد أن أكون قد غادرتها ، حين لا يعود بمقدورى أن أرسم لها صورة بالنظرات المباشرة ، وأسد مواضع ثقوب الذاكرة وأنا فى المكان نفسه . أحب أن يكون فى مستطاعى الحديث عنها بانطلاق . على مثال الصورة التى تتبدى فى داخلى عبر الزمان والمكان على مثال تلك الصورة التى تنعكس فى مرآة الذكرى التى تتطلع نحو السماء ... تبدو فى قلبى وأمام عينى مثل آلة ( هارب) موسيقية ضخمة ، أعلامها يلمس السماء ... وأسفلها يرتكز على قاعدة من الحجر الرمادى الفاتح . لقد جاست رياح أفينيون الرهيبة بين هذه الجدارن ، ويخيل الى أننى سمعت فيها نغمات ذات تآلف زائف لا تقدم خلاصاً .

لكن جولييت فى صبيحة النهار الذى أعقب الليلة الماضية ، وهى ليلة مرت دون أحلام فى السرير ذى الأعمدة ، كانت تمشى مع سلستان ، وقد تعانق الذراعان على ضفاف نهر الرون ، ولكنها لم تر وهو كذلك لم ير المنظر الطبيعى هناك . لا آلة الهارب الضخمة ، ولا الرون الذى ينساب فى عذابه المعتاد ، لقد رمقا فى شرود ذهن الاشجار والسماء ، فلم يسترع اهتمامهما الا ان يظل كل منهما غير بعيد عن الآخر ...... ولو بمقدار بوصة واحدة . ان الناس الذين يذهبون هناك متشابكي الذراعين ، يبدون وكأنهم يمارسون طقساً ، انه عيد ميلاد ناصع البياض ، ذو نجوم تبدو فى وضح النهار ، يحتضنهم جميعا بصليل أجراسه .

وكان الغداء الذى تناولاه فى المطعم غداء احتفال بعيد الميلاد . لقد بذل الناس جميعاً فى فرنسا كلها جهوداً مستيئسة لكى يحصوا على طعام شهى . أو باختصار . لكى يحصلوا على أى طعام ، كائنا ما كان فى هذا العيد ... وكانت هناك الديكة الرومية المحشوة بالقسطل ، وكان مئزر الخادمة منشى واستقرت على المائدة زهور القرنفل .. وفوق الرؤوس تدلت كرات من أغصان زينة عيد الميلاد . وفى الركن كانت هناك شجرة عيد الميلاد صغيرة ، والقاعة دافئة ، والحديقة من وراء النوافذ كانت تحتفل بالعيد ، وبعد أن احتسيا القهوة ، صعدا الى قلعة سان اندريه .

لقد كانت القلعة رمادية وحيدة فى سماء رهيبة ، نسر فوق صخرة ، بيد أن برجى المدخل كانا يشبهان منظاراً مزدوجاً يتطلع منه الى السماء مارد من علماء الفلك . وكان يتضخمان شيئا فشيئاً كلما تقدمت نحوهما ، ومرا تحت القبة بين هذين البرجين ، وكانت القلعة القديمة منزوعة السلاح ، تدع الأمور تسير فى مجراها ... وكانا وحدهما ، فلم يكن موسم السياحة قد حان بعد ، وربما لم يكن هناك أحد غيرهما فى حضن هذه الجدران ... كان الطريق مغطى بالحصى ، وخرائب منازل تعرت محتوياتها للعيان ، وبدت قطع القباب سليمة ماتزال ، والدرجات بقيت كما هى ، وفى بعض المواضع بقى درج بكاملة . وكانت هناك جدران تداعى نصفها ، بينما ظلت فيها نافذة أو باب ... وهذه الانقاض من الحجر بلون الصلصال الجاف الرمادى الفاتح ، الرمادى مثل اللؤلؤ . وتصاعد الطريق يشق المكان المسور ، وانتهى عند جدار أملس منخفض . من هذا الموضع يرى المرء البلد بأكمله بعيداً جدا ، بلد فى علو صومعة راهب وتقشفها ، يستدعى الرؤى والمعجزات ... واستنشاق هذا الهواء الذى يعصف بالرأس ، والكتف لصق الكتف ، ومرفقاهما على حافة الجدار ... ثم تبعا سور القلعة الضخم الملئ بالنتوءات ، الذى يبدو وكأنه يحاول أن يصون كل ما يتداعى داخل نطاقه . وبينما هما جالسان ملتصقين ، فى ركن عميق عبر احدى كوى اطلاق النار ، وكأنها ثقب رتاج ، استرقا النظر الى البلد المتألق – لقد كان هناك فى مأمن من الريح التى اشتدت فى هذه اللحظة وهى تهز الأدغال المضطربة فى جنون . الادغال كانها خضرة داكنة ... وحينما صعدا حتى أصبحا فى مستوى الكنيسة الصغيرة ، فتح المنظر لهما ذراعيه على اتساعهما . وشاهد المدينة السحرية : أفينيون !

كانت الة الهارب الضخمة تلمع فى السماء بأوتارها المشدودة المتألقة مستقرة فوق قاعدة من المنازل المختلطة بلون رمادى فاتح كلون الصلصال الجاف . وسرى دفء الشمس فى الريح حاملة شذى النباتات العطرية التى سحقتها خطواتهما . وتلالأ نثار من صقيع عيد الميلاد فى شريط الظل الضيق أسفل جدار الكنيسة ، ليذكرهما كل هذا بسر الصخب حولهما ...انه عيد الميلاد ، عيد الميلاد ... كان الجدار الذى يحيط بهما ضخما ، مضيئاً ببرجيه كقبضتى يدين تؤكدان قوتهما ، أما الهواء ، والأحجار والشمس ، وهذا العشب تحت أقدامهما ، الريح . فلم تحاول جميعاً أن تبدو وكأنها كفت عن القيام بالهجوم ، أنها تصرخ معبرة عن سلطانها السحرى ، أن هذه السطوة تحيط بهما وتمتكهما ....

قادتهما خطواتهما مرة أخرى قريباً جداً من السور . ورفعا رأسيهما ليعجبا بالمستطيلات الناتئة ذات الحواف التى تقتحم السماء الندية النقية . وانفتح باب أمامهما ، فدخلا قاعة حجرية ، ذات نوافذ بيضاوية جميلة ، وكان سلم البرج يصعد طوليا فى انحناءات حلزونية ..... ويمتد صحن السلم مسطحاً وينتهى بباب منفرج ، هذه غرفة من الحجر تكاد تكون زنزانة سجن ، لها نافذة فى أعلاها . وكان عليهما أن يعتادا الظلال ، آنذاك انكشفت الاحجار الكبيرة الخشنة ، وانكشفت حلقة من الحديد مثبتة فى الجدار ، وبلاط حجرى تحت أقدامهما .... جذب سلستان الباب . تناهى الى سمعهما فى صمت الأحجار فجأة صوت أطفال ، واضحا جدا ، صافيا للغاية ، كان البرج عاليا ، والأرض نائية . أخذ سلستان جولييت بين ذراعيه ، هذا الوجه الذى يستحق العبادة ، لن ينتهى أبدا من تغطيته بالقبلات .لا. ما هذا الا شكل من أشكال ممارسة الحب ... يجب تجاوز الحدود الانسانية ... واستندت جولييت وقد اعتراها الشحوب على الجدار وكان باردا ... باردا ...

قالت – انظر ان الذين يعشقون يكتبون على الجدار .

كان الجدار قد غطى تماما بالكتابات ، بالقلم الرصاص ، أو محفورة : الان ومارجريت ، السابع من يوليو سنة 1938 ... رينو من سانت سيسيل ، 1799... أربعة قلوب ، متداخلة ، لكنها متحدة المركز ، سوزان ، لوسى ، فيليسيان ، روبير ... أسماء أخرى ، تواريخ ، ويحيط بالباب عامود كبير من الكتابة بحروف الاستهلال الكبيرة تبدأ من أعلى بالكلمات الآتية :
5-6-26. لقد أتت
لكنهما تركا الجدار لقراءة ما على البلاط تحت أقدامهما : وكان محفورا فى الحجر ، ما يشبة مسلة ضخمة على رأسها قبعة فريجية (4) بينما القاعدة المربعة تحمل نقشاً كاد نصفه أن يطمس ولكن مازال ممكنا أن يقرأ منه ، الى الشهداء .... من .... وعلى بلاطة حجرية أخرى ، صليب خشبى ، فى جانبيه شمعدانان يحملان الشموع . عاليان علو الصليب ..... وبالاضافة الى ذلك ... نقش : عاش هؤلاء
..... الذين ... ثم قلوب ، وكثير من حدوات الخيل ، وايد بالحجم الطبيعى ، أصابعها متباعدة ... لوران درلى 1815 .... وكان يلف الأركان سواد مظلم ، فلم يعد ممكنا تمييز أى شئ . وعادا من جديد الى قراءة النقوش التى تغطى الجدار ، حيث يوجد الباب فى مواجهة النافذة ، وتمد الشمس نحوه الآن شعاعا شاحباً :
5-6-1926 لقد أتت :
وفى أسفل ، كانت هناك نفس الكتابة ، نفس حروف الاستهلال الكبيرة مكتوبة بقلم غليظ ، أزرق ... نعم ... أزرق ...
1-26-29- لقد أتت . 1929
24-7-31 لقد عادا .
وقلبه يرتجف دائما أمامها.
استندت جولييت على سلستان بثقلها ، وسألته :" هل هناك المزيد منها ؟ " . لقد كان هناك المزيد ...

لقد جاءا
مخلصين لهذا المزار المقدس
انه يحبها فأى جسارة
7 أعوام 1932
23-8-33- لقد أدركته الشيخوخة
لكن قلبه مازال وفياً
8 أعوام.

كانت الكتابة تهبط الى أسفل أكثر فأكثر ، ولابد للمرء أن يجثو على ركبتيه ، ليتمكن من حل رموزها ... وربما لا يوجد منها المزيد ؟ ولكن بلى

27-7- قلبه وحده بقى مخلصا
أدركته الشيخوخة وهى جميلة
يا الهى اجعل الحب
الذى يحمله لها خالدا
9 أعوام ...1934.
"جولييت، لماذا تبكين ... اننا متحابان .. قولى انك تبكين من الحب .. قرأت جولييت وهى جاثية على ركبتيها امام الجدار :

لقد تقدمت به السن .
وهى دائما جميلة .
آه لو يستطيع أن يموت .
قريبا منها
19 يوليو1936
وبحثا طويلا وهما جاثيان : لقد انتهى . ولكن عند نهوضهما وجدا مكتوبا عند أعلى الباب :

1937،30 أغسطس – لقد تقدمت به السن
وهى جميلة
وقد عادا

" جولييت ، لو أننى كنت هنا ، مقيدا فى هذه الحلقة الحديدية ، ما كنت سأشعر بأغلالى ، لأنك موجودة ، لأن أسمك يحيا ... كم أود أن أقول لك كل كلمات الحب القديمة ، التى أبلاها الاستعمال ، ومع ذلك كانت حقيقية ذات مرة فى حياة انسان ... فاذا قلت لك أننى أحبك حتى الجنون ... فانما اقول ذلك لأنه حقيقى ، فما أشد الجنون الذى سيدفعنى اليه هذا الحب ! " .

كان الجو الازرق المختلط بالبياض ، صاعدا نحو الشمس هاتفا باسم عيد الميلاد ، وقد استقبلهما وحملهما حتى أفينيون ، حيث احتوتهما الشوارع التى تشبه نسيج العنكبوت ، وفى منتصفها ، قصر البابوات ، مثل عنكبوت كبيرة تحمل على ظهرها صليبا . تجولا فى الطرقات الضيقة التى تتشابك كأنها أذرع ، دون أن يتباعدا بمقدار بوصة ، بين الأسوار التى تختلط فيها كل من فرنسا ، وايطاليا وأسبانيا ويحرس كل سور الأسوار الأخرى ، وكانت الأحجار تحمل مجدها وسقوطها بين أطواء ما فى الطراز القوطى من وعيد وكان ما فى الطراز الباروكى من ترف مجنون يبدو أحيانا وقد تشكل على غرار عجينة " الجاتوه" . أسوار قلاع ، كنائس ، فنادق قديمة سرية ، مسارب ... داخلية ، وحدائق خلف جدارن عالية ، تتراخى غصونها الخضراء .. ما من مكان آخر يمكن أن يكون فيه مثل هذا الصمت المخيم على هذه الكنيسة ، فى شارع ميت اسمة شارع الصباغين . وبدا أن مياة الفيضان التى اجتاحت الكنيسة ( منذ كم من القرون؟) والأمواج التى تدفقت هنا بمعجزة ، تثقب هذا الصمت المعتم ، مع نجوم القناديل الحمراء المكرسة للعبادة الابدية . وانتزعا ذاتيهما من هذا الصمت ، وتبعا مجرى قناة تشوب لون مياهها الخضراء زرقة . وعلى ضفافها عجلات النساجين والصباغين .. ضخمة بغير حدود ، بلا حركة ، وقد غمرتها المياة العطنة . وأستولت عليهما الشوارع ، فمشيا طويلاً ...

قال سلستان كأنه يخطب " ها هو السجن ، لكن أحدا لن يأخذنى اليه ما دمت تحبيننى ، وما دام يجب على ان أساهم فى تحرير وطننا من قبضة الشر ..."

وبدأت الشمس تهبط أمام الأسوار الضخمة ، وأحست جولييت ببرودة شهر ديسمبر ، وكان هناك جمهور لا يتحرك ، من الرجال ، والسيدات ، محملين باللفافات ، يقف منتظراً أمام البوابة المغلقة . واحتضنت ( كنيسة الرحمة للتائبين ) سور السجن .. وهو طويل ... طويل ضرير . وكانت الكنيسة بعيدة عن الجمهور الساكن ، ولم تكن واجهة الكنيسة بأعمدتها الساحرة ، والكوى الانيقة على النمط الفرنسى ، التى تشبة نظيراتها فى فندق صغير فريد ، الا فى وسط الطابق الأول ، وهو طابق يغمر داخله كله ، مجد متألق ، شاسع بغير حدود ، ففى وسطه رأس القديس يوحنا المعمدان ، تحمله الملائكة . وكان البهو الداخلى يصلح لأن يكون قاعة رقص : صفائح جدران مذهبة ومرمر ولوحات دنست قداستها اطارات ضخمة مذهبة ... وطلاء ذهب فى السقف .

وشرح لهما البواب ، قائلا " هنا ،ن كان بمقدور المحكوم عليهم بالاعدام أن يشتركوا فى القداس ... المحكوم عليهم بالاعدام ....!! لم تكن هذه أسطورة ربما كان الرجل الذى بجوارها محكوم عليه بالاعدام ... كان سيقيد بالسلاسل فى هذا السجن ، وكان سيحس بأغلاله ... وأختلطت جولييت بالجمهور أمام الباب ، وظهر لها من جديد طوال هذا النهار فيلم بيتر ابيستون ، لقد بكت كثيراً اثناء مشاهدة هذا الفيلم ، بينما كان الناس حولها يضحكون وتحتم عليها أن تنتظر قبل أن تعود للمنزل حتى لا يتكشف أمام الخالة الين وجهها الممتقع ، لقد كان بيتر ابيتسون وهو مقيد بالسلاسل , يضحك مع الملائكة ، أثناء التعذيب ذلك لأنه كان يحب . ولم يكن يستطيع ان يحس بشئ آخر غير الحب .. الحب الذى هو حاجة ملحة لحضور ما ... لقد قيل فيه وأعيد القول وتغنى به الناس وبكوا من أجله ...." منذ حمل الفجر يقينا – قبل الليلة التى لمحتك فيها ..." وعندما لا يمتلك الانسان هذا اليقين ، ما أقسى الضجر الذى ينقض على العالم ، الضجر فى كل ايماءة يمكن أن يقوم بها الانسان فى كل كلمة يمكن أن يقولها ، فى كل ما يراه ، فى كل ما يسمعه ، ولا يكون قد عرف بعد كيف يمكن له أن يتوافق مع الحياة ، مع الزمن الذى لا يمر ، انه ضجر يجعل الانسان يختنق فى هذا الابتذال بلا مذاق ، فى هذا الرماد ، فى هذه البقايا التالفة ... أما أن تكون مثل بيتر أبيتسون ، فهو أن تكون أقوى من الغياب ، فلا شئ يستطيع أن يفصلها عنه ، لانها تعيش فيه ، حقيقية ، مجسدة ، هازئة بقيوده ، مبتسمة له ، عاشقة أياه ... لقد قتل من أجلها ، ولكن سلستان حينما يقتل فلن يقتل من أجل جولييت ....! وقالت له " تعال".

صعدا نحو حرف الالف الهائل من كلمة أفينيون ، أى نحو قصر البابوات ، وكانت نظراتهما تبحث عن نهاية الاعمدة الهائلة التى تضيع فى السماء ، قلعة ، كاتدرائية ، قصر ، كعب القدم على الصخرة ، والرأس عال فى مدخل الميدان الطويل المرصوف ، فارس يرتدى السواد ، هبطا الى الشوارع ، فى حى منعزل متشبث بقدمى العملاق . وهنا ينمو العشب بين الاحجار المتباينة الحجم . وتحت القدمين ... كان المكان الصغير المربع هادئاً ومهجوراً مثل فناء مدرسة اثناء الفصول الدراسية ... بينما احتلت منتصفه مبولة عمومية .. مغطاة بالاعلانات، كأنها نافورة ، أو تمثال فروسية ، ولم يكن يبدو على النساء اللاتى يطرزن على عتبات الأبواب ، طارحات معاطفهن على الاكتاف ، أى نزوع الى العدوان . وعلى الواجهات ، كانت هناك حروف مرسومة " الى الصغير شابانيه " ...( عند مارجو) ، وامتد الشارع ، وقادهما دون انعطاف نحو حى الغجر . وكان الشارع من الضيق بحيث زاد من تلاصقهما ، سمعا لحنا يعزف ، منتشراً فى الهواء ، ثم ينقشع ويتكرر ... ثم شاهدا مجموعة من الغجر تجلس على الطوار ، وهم يرتدون خرقا ممزقة قذره . لكن أصابعهم على أوتار الجيتار ترسل انغاما تمزق الهواء الى الف قطعة ... وقال سلستان ،"آه" . كم احب هذه الآلة التى تثير الاشجان ، وأنت ... انصتى الى هذه الالحان ... ان لها أصداء جميلة ، لا يلحق أى منها بالآخر ، وكل مقطع منخفض من هذه المقاطع بمثابة هوة يسقط فيها القلب ، وانتهت الاغنية . لكن لا . لقد عادت ، بدأت من جديد ... أنصتى ... هؤلاء هم الذين يغنون ... تبعتهما الاغانى والحان الجيتار وهما يضيعان فى الطرقات . والآن أصبحا متأهبين للالتقاء ...

كانت ترتدى رداء محبوكا يكشف عن عنقها وكتفيها ، قصيرا جدا ، كما لو كان الوقت أوج الصيف ، وامسكت باحدى النافورات ، معانقة ، والتصقت بها ، أحاطتها بذراعيها البضتين العاريتين ، بينما ظلت تحت رذاذها ، وبدت فى الناحية الاخرى جرة عالية . كانت رائعة ، وكأنها لوحة فى متحف أو قصر للبابوات ، أو حديقة دير ... توقفا مبهورين ، على حين راحت أصوات الغجر والجيتار تغيب ، ولم يبق سوى صوت النافورة وحده وهو ينساب ، واقترب رجل من النافورة ، رافعا الجرة الممتلئة باحدى ذراعيه ، بينما احاطت ذراعه الاخرى كتفى فتاة ، ثم مضيا هكذا ، تاركين وراءهما خطا مرسوما من قطرات . ولم تر جولييت ولم ير سلستان الرجل الا من الظهر ، كان يرتدى قبعة مستديرة وبدا معطفه مصطبغاً بلون الشفق ...

بعد ذلك نجدهما جالسين وجها لوجه فى حانة صغيرة جدا ، حتى يمكن أن يقول المرء عنها أنها واحدة من تلك اللعب الجميلة ، التى يفتتن الانسان بها ، ففيها كل شئ يقلد تقليدا متقنا ، الأشياء ذات الحجم الطبيعى مصغرة ، المقاعد،..... والستائر ، والأوانى ، كانت الجدران الوردية تختفى تقريبا خلف الاعلانات المرحة التى تشبه الرايات : لقد كان كل ما فيها لا يزيد على ست مناضد من الرخام المغطى بالتراب ، وكان على القصدير الذى يغطى مائدة دفع الحساب شديدة الارتفاع رسوم بارزة منقوشة على الحافة ، وخلفها تألقت الزجاجات من كل الألوان ، أما الفتاة التى كانت تقف عندها فقد بدت صغيرة جداً وكأنها تلعب لعبه خدمة الزبائن .

استراحا من عناء نزهتهما الطويلة ، اليدان فى اليدين ، العينان فى العينين ، وفوق المائدة الضيقة راح كل كل منهما ينظر الى الآخر ، تخيل أحدا لم تره ابداً الا على مبعده ، أوفى الحلم ، أو فى الخيال ، مثل : مدام بوفارى ، أنا كاريننا ، فيرتر ...جارى كوبر ، شارل بواييه ... ثم ها أنت تراه فجأة جالسا معك على نفس المنضدة . هذه الشخصيات التى يعرفها الواحد هنا تماما . الشخصيات المألوفه لنا والبعيدة عنا . التى لا يمكن الامساك بها ، اذ بها تمتلك بغته طابع حسن ، أو مرجا من الشعر ، أو أظافر ، أو شكلا خاصاً للأذن . وكل هذه التفصيلات التى لا يفكر المرء فى أن يتخيلها . ان كلا منهما يتأمل الآخر ، بدهشة وفضول . كما لو كان ذلك من خلال عدسة مكبرة ، المرآة الصغيرة التى أخرجتها جولييت من حقيبتها المرهقة ، أصبع أحمر الشفاه الذى سقط الطلاء الذهبى عن غلافه ، وقفازات الصوف المرتقة بعناية عند الابهام ... طريقتها فى وضع قبعتها على شعرها الأشقر الدقيق مثل شعر طفل ، وحين تمرر أصبعها خلف أذنها الرقيقة مكتملة الدقة ، والسلسة الصغيرة التى تحيط بالعنق ، وربما كان فى نهايتها ميدالية ، الهالة البنفسجية حول عينيها ، وأسنانها تلك الاصداف اللؤلؤية فى نصاعة السوسن ، أما هو فقد كانت له ، يدان جميلتان ، خشنتان ، أصفرت سبابتهما من أثر التدخين ، وخاتم عريض ... وقد كان هناك زر ناقص فى سترته ... وبعض التجاعيد تحت عينيه المستطيلتين . وكانت فيهما نظرته القلقة ، وشعره الذى يميل الى التبعثر .... والابتسام النادر ... كانت اقداح الشراب صغيرة الى درجة تثير الضحك ... وكأنها ... تلك الاقماع المعدنية الدقيقة حول أصبح الحائك . لذلك ارتفعت فوق كومة من أطباق الفناجين .

كانا يتناولان العشاء لدى سلستان , فى تلك الغرفة , ذات القبة , والنار المتوهجة , وكان سلستان قد أوصى خادمة بأن يخرج ما لديه من مؤن احتياطية فائقة القداسة ، علب السردين ، علب الاناناس المحفوظة ، وبقية أوزة البارحة ، ولذلك كان العشاء طيباً ، عشاء فاخراً .

وراح المذياع يعزف موسيقى المائدة التى تلائم المناسبة ، ومن ناحية النبيذ ، كان فى مقدور سلستان أن يفخر بقبوه . وقد كان به فخوراً ، لقد كانا مرحين بجنون ، بغباء ، وحين طرق الخادم الباب، كانا على وشك الشروع فى الرقص ...

قال الخادم – سيدى الكابتن ، أنه نفس الشخص مرة أخرى ، وهو يصر...

خرج سلستان بسرعة وجلست جولييت على مقعد تحرك كتفيها وترقص بمفردها ، تدور وتعتدل ... وأغرقها المذياع بالالحان التى تغرى بالرقص .. لكن سلستان لم يعد ... وكم كان الوقت طويلا, بدت شجرة عيد الميلاد فى قلب الغرفة كأنها حافة غابة ليلية معتمة ، بينما الشموع على المائدة تذرف دموعها الأخيرة ، وأصبح الراديو قتيلا . قابعا هناك عديم الجدوى مثل ليمونة أعتصرت .


وعاد سلستان ومعه وريقة مكتوب عليها : يامارشال ... ها نحن أولاء ، وذهب الى الراديو وأغلقه .

وقال – اننى مضطر للرحيل ، يحزننى أن اتركك هكذا ...اذا اردت أن تقضى الليلة هنا فانك فى منزلك ، اذا لم تفضلى الرحيل هذا المساء ... سوف يصحبك فرانسوا ألى المحطة ...


- ألم يحدث أمر سئ ؟
- لا، على الاطلاق ، أنه يرتبط ببساطة بتلك المهام التى تتوالى وتلح ، هل ستتجهين الى ليون مباشرة .
- سوف اتوقف فى فالانس
- هيه ، حسنا ياجولييت ، والآن أقول لك، الى اللقاء ، هناك قطار بعد حوالى ساعة ، وليس عليك الا أن تصدرى أوامرك الى فرانسوا ...
- سلستان !....
- خطا سلستان نحو أحد المقاعد ، ثم ترك نفسه يسقط على مقعد منخفض أمام المدفأة ، أما نظرته الغريبة ، التى كانت تقفز أحياناً ، وتثبت أحيانا أخرى ، فكانت الآن مثبتة مباشرة أمامه على النار .

- جولييت ، لقد قلت لى : فلنلعب !

- آه !

- وكانت تلك صرخة صغيرة .

- لعبة رهيبة ... لقد اعطيتنى فكرة عن كل ما لا أملكه ، وما لن أملكه أبداً ياجولييت أيتها المعجزة ، اننى أكثر تعاسة من ذى قبل ، واننى الآن اعرف ان لا شئ تحت الرماد ... لقد اعتقدت فى لحظة قصيرة أن ... لكن لا ، واذا كنت لم تستطيعى أن تكملى هذه المعجزة ، فلن يستطيع أحد أن يفعل ذلك ، جولييت لا تبك ، فما من أحد يستطيع أن يكون سيدا على قلبه ، اننى رجل صريح ...

قالت جولييت –" اننى لا ابكى " ، وجذبت قبعتها ووضعتها على شعرها ،" لقد عرفت دائما أن الحب ليس الا عمله مزيفة ، وان الاوهام وحدها هى الشئ الحقيقى ، لا أحد يحب ، لا أحد يحب أحدا ... اننى لا أحبك ... أين معطفى ؟
- اذن سترحلين هذا المساء
-
كان سلستان قد نهض ، وظل منحنيا قليلا ، ويداه عن مستوى قلبه .
- نعم ، سوف ابيت فى فالانس . ماذا فى ذلك ... اليس ملائما ؟
- بلى ... وداعا ، ياجولييت .
- لماذا تقول وداعا ؟ الى اللقاء ، هذا اكثر طبيعية اليس كذلك ؟
- اذن ، الى اللقاء...
- وتصافحت الايدى .
-
كان خادم سلستان يسير خلف جولييت ، حاملا حقيبتها ، بينما كانت الطرقات سوداء ، ولكن لم يكن احد فى حاجة الى ان يرى الجنود الألمان ، فالسمع يكفى ، ولم يكن احد سواهم يثير هذه الضجة الجهنمية التى تسببها الاحذية الطويلة العنق ، وكأنه مصنوعة من الرصاص أو سبائك حديد . لقد أصبحت أفينيون مدينة ألمانية ..........
*****

هاهى ذى جولييت نويل ، الكاتبة على الآلة الكاتبة ، فى القطار من جديد . فى قطار مزدحم مثل كل القطارات ، لقد كانت تجلس على حقيبتها الصغيرة . فى الممر المزدحم بالحقائب والناس ، على الرغم من وجود أربعة دواوين خالية فى هذه العربة ، ومغلقة بالمفتاح . وكان القادمون الجدد ، فى كل محطة ، يهزون هذه الابواب ، التى يمكن للناس أن يقرأوا عليها : مخصص للفرماخت ( الجيش الالمانى) فقط ، ومع ذلك فقد كانوا يهزونها ويحتجون ثم يمشون بعيداً ، لانه لا يمكن لاحد ان يتمكن حتى من الوقوف ، الى أن اعلن رجل كبير السن وكان يرتدى معطفا صارخ الاناقة ..ويضع لؤلؤة فى رباط عنقه ، وليس له داخل فمه الا سنتان فقط ، بصوت عال ، انه لو كان احد الالمان موجوداً هنا ، لكان سعيدا بأن يفتح الأبواب ويدع الناس يجلسون ، لأن الالمان يكونون سعداء للغاية حين يؤدون خدمة ، وانهم يتصرفون دائما التصرف ( السليم ) ... وحينما سمع كل من فى الممر هذه الكلمات . ( انهم يتصرفون دائما التصرف السليم ، رددوا فى الحال كأنهم جوقة من الجوقات القديمة : (آه. فلنتصرف التصرف السليم لان الالمان هم من يتصرفون التصرف السليم ).. فى هذه الاثناء فض احد الفتيان قفل احد الدواوين المخصصة للفرماخت بمبراة ، وقد شجعته نصائح المجاورين له ... وقالت جولييت بطريقة جعلتها رقيقة !- سوف يرمونك بالرصاص ..... بطريقة ( سليمة ) وقال الفتى المجاور لها الذى كان يسافر بتعقل تام مع والدته ، على الفور :- آه .. فلنتصرف نحن التصرف السليم لانهم يتصرفون التصرف السليم الى ان ظهر احد الناس ، واتى الى جولييت وهو يقدم ساقا ويؤخر أخرى .. وقال بصوت خفيض ، حتى تسمعه جولييت فقط :- هل رموا عددا كبيرا من الناس بالرصاص فى فالانس ... اجابت جولييت فى غير اكتراث :- فى بعض الاحوال فى فالانس او فى غيرها ... لم تغلق النافذة ابدا ، فكان احد الركاب يرفعها كل دقيقتين ، ولكنها تبدأ فى الانزلاق على الفور ، فى بطء . فى بطء ، ثم تسفع ريح ثلجية المسافرين فى الممر .
سألت جولييت ، قاطع التذااكر ، وكان فى مروره يسحق الناس على حواجز العربة :
- ألا تستطيع أن تفتح لنا هذه الدواوين الخالية ؟
- الا تعرفين القراءة ؟ انها مخصصة للمحتلين ...
وقالت جولييت – انى لا افهم هذه الرطانة ، وقهقهة كل من فى الممر ، وهز قاطع التذاكر كتفيه وواصل طريقه .
كان الناس يصعدون فى المحطات ، وهم يجرون الحقائب ، والاطفال ، بينما الحمولة كاملة كما يقال ... لقد كانوا يروحون جيئة وذهابا . ويهزون أبواب الدواوين الخالية . كان الناس سيمتنعون عن فتحها لو كان ذلك ممكنا ... ثم يأخذون فى الثرثرة
- ما هذا ... هل هى مخصصة للبريد ؟
- ألا ترى أن هذه مخصصة للألمان ؟
- شئ قذر !، مخصصة للالمان !
ثم يمرون ، ويتساءلون كيف ، لكنهم يمرون او يقفون على اقدام الآخرين ...
انغرزت يد الحقيبة الصغيرة وأقفالها فى لحم جولييت . وقد أحزنها ذلك كثيراً ، حتى ثارت أعصابها الى اقصى الحدود ، وراودتها الرغبة فى ان تعبر بصوت مرتفع ومفهوم ، عن كل هذه الأمور ، ولكن يجب الا يقال شئ ، فهى قد لاحظت من قبل الرجل الطاعن فى السن ، خاوى الفم من الأسنان يختلس اليها النظر . ان هذا الكائن المقزز تسيل من الخطب : (ارأيتم ما يرتدونه ؟ والعتاد الذى عندهم ؟ ما أعظم انضباطهم !.....).
وساورت جولييت رغبة فى ان تبصق فى وجهه.. بينما كان جوقة الممر تردد ( ما اعظم انضباطهم !... ) وهبطت النافذة تاركة الريح المبللة فى الليلة السوداء تتسلل .. وكان أمرا طيبا بالنسبة اليها ان الفتى الذى كان يسافر مع والدته يشير لها من بعيد ، فقد اصبح الان بعيدا بعد ان دفعه الناس شيئا فشيئا ، وبالاضافة الى ذلك . كان يحاول الاقتراب منها ، وهو يزيح الناس جانبا ، الى ان قال لها : (ياانسة ، هناك مكان تحتفظ به والدتى من اجلك ).
-شكرا .. هاهى ذى فالانس ، وسأنزل .

وفى فالانس ، لم تكن هناك تدفئة فى غرفة الفندق ، على سبيل التغيير ، ونامت جولييت نوما مضنيا ، وهى قلقة الى حد ما ، تترقب كمينا ، لانها كانت قد ملأت استمارة الفندق باسم روز توسان ( لأن الدكتور قد أمرها بحزم أن تفعل ذلك لانها تحمل معها (أشياء ) ولأن بطاقة هويتها المزيفة لم تكن جاهزة بعد ، وحين تحصل عليها لن تخاطر بشئ ، وأخذت تحلم بسراديب حجرية للموتى لم تتمكن من الخروج منها ، فالجدرات داكنة ، خشنة ، بينما الظلال الرمادية تتأرجح حولها وتهمس لها بأنها لن تخرج منها أبدا ، أبدا ...! وهل كانت فى حاجة لان يقال لها ذلك ، لقد كانت تعرفه تماما ، لم يكن هذا سوى مغالاة فى احساسها بالعذاب ، كان مكتوبا على جدار سجن الكابوس بحروف الاستهلال الكبيرة: ( لقد عادا ). وهذا اليأس الذى كانت تشعره ، لم تكن تعرف أيرجع الى انهما قد عادا أو الى انها أدركت أن الجدران ستسجنها الى الابد، وأخذت جوليت تصلى فى حلمها قائلة :
( أيها القديسون عشاق أفينيون الذين فى السماوات – هبونى من لدنكم رحمة وعونا ..)
وفى اليوم التالى ، أثناء انتظارها الساعة التى تعرف أنها ستلتقى فيها بشخص معين فى الموعد المحدد ، أخذت تتسكع فى الطرقات . كم هى كبيرة مدينة فالانس . بها محطة كبيرة .. مقاه كبيرة ... محلات كبيرة .. دور سينما كبيرة ... وألمان وايطاليون أيضاً ، أعداد كبيرة وما أغرب هيئتهم ..آه ليس على هذا النحو اذن ، أنهم مضحكون ، فليس من الجدية أن يتزين الرجال بريش الديك .. كانت جولييت تشعر ببرودة قدميها الى درجة تدفعها الى البكاء ... ومن حسن الحظ أن موعد اللقاء يقترب بما أنه فى مقدورها أن تذهب الى هناك ابتداء من الساعة الحادية عشرة صباحا ...
كان الموعد فى مقهى قريب من المحطة ، أحد المقاهى المزدحمة بالطرود التى تودع هناك :
- لا ... لا أريد شراب ليمون محلى بالسكرين ، ان الجو بارد ، أريد قهوة شديدة السخونة ... هل ترغبين فى قرميدة ساخنة تدفئ قدميك يا أنسة ؟. أوه ، نعم ، كانت تريد ذلك حقا ... وبينما كانت تنتظر قدح القهوة رأحت تنظر الى الرجل الواقف خلف المنضدة المعدنية ، لابد أن يكون هو . ولكن كان هناك شرطى يتناول قدحا من القهوة وهو واقف ، بينما جلس شرطيان آخران على احدى الموائد ... ثم نهضا ، وذهبا ، كانت بدانتهما تحتجز الهواء . يطعمونهم جيداً فى هذه البلاد ، بل يحشونهم حشوا وذلك مما لا يفترض فى حراس يتنقلون كثيراً ، وكان هناك ضابط ألمانى فى مواجهة جولييت يحتسى قدحا من القهوة . بجواره سائل أصفر فى قدح صغير . وكان له وجه هزيل ، شاحب ويدان بارزتا العظام ، ولم يكن برميلا ضخما من براميل الحرب .
نهضت جولييت وذهبت الى منضدة دفع الحساب :
وقالت : هل يمكن أن تعطينى قدحا صغيراً مثل الذى يحتسيه هذا الألمانى ؟ أن الدكتور أرنولد يبعث اليك بتحياته الحارة ... قال صاحب المقهى :- أن المشروب الذى يحتسيه ليس بالشئ الممتاز . هل تريدين أن تضعى حقائبك فى الخلف بالقرب من دورة المياة ؟ وقالت لها زوجة صاحب المقهى وهى تتبعها – أفعلى ذلك سريعا فربما أتى أحدهم بين لحظة وأخرى ... أخرجت جولييت من حقيبة يدها بطاقات التغذية ودفنتها زوجة صاحب المقهى ودستها فى صدرها ثم قالت : ( اذهبى ياانستى الصغيرة ، سوف أقدم لك قهوة شديدة السخونة ، وقدحا صغيراً من شراب منعش ... غير مغشوش)

وكان الضابط الألمانى هناك دائماً ، والشرطى على منضدة الحساب أيضاً . وكان هناك رجلان يلعبان الورق . خشب الاثاث ، واللون الأصفر الذى يصبغ الجدارن ، والبنى الذى يصبغ المقاعد ، والسترتان الجلديتان للاعبى الورق ،... ورباط عنق أحدهما ، ووشاح الاخر الأصفر ... كان كل ذلك يحتاج الى لمسة واحدة من اللون الاصفر لتتألق أمامها لوحة الفنان العظيم المعروفة : لوحة لاعبى الورق .

وكان هناك قطار بعد الظهر ، وتناولت جولييت غذاءها فى مطعم حقير ، كئيب ، عفن الرائحة ، مزدحم ، واحتست قدحا من القهوة فى مكان آخر . كان الجو باردا ، والثلوج فى طريقها الى الذوبان تحت الأقدام ، وكان هذا هو الجو الذى يعقب الاعياد ، قاسيا مثل العودة فى الفجر ، بعد ليلة حافلة صاخبة ، مثل مائدة لم تعد عليها الا بقايا الوليمة ، وتوقفت جولييت أمام احدى دور السينما : كانت هناك حفلة فى فترة ما بعد الظهر ، وعلى الفور ... دخلت جولييت .

لقد كانت سينما جميلة ... تقارب فى جمالها سينما بارامونت فى باريس .. كانت خالية ، خالية تماما ، ودافئة ، واختارت جوليت مكانها فى المنتصف تماما على مسافة معقولة من الشاشة ، وكان المقعد المغطى بالقطيفة مريحا ، ولم يكن بجوارها أحد . ولم يكن هناك أحد يشغل نفسه بها ، وقد أحبت جولييت هذه اللحظة الا يهتم بها احد ... لم يكن هناك الا شاب ، يبدو كأنه طالب ، يقرأ جريدة يجلس خلفها ، أما عاملات السينما فقد كن واقفات بلا حراك مستندات على الجدار . ودخل ثلاثة صبية فى صخب ، لكنهم نسوا على الفور صخبهم فى هذا الصمت الذى يشبة صمت الكنيسة ، وما أعذب الدفء ، وجلس الصبية بالقرب من الشاشة ، ويستطيع المرء فى هذا الصمت المذهب أن ينسى المنزل الجبلى ، والحذاء الموحل ، والغجر وقهوة الشعير ، وجنود الاحتلال وهم القمل الرمادى فى خصلات شعر الطرقات . لقد كانت جولييت دافئة ، هانئة ، على وشك النعاس ... وكانت قد بدأت فى الاغفاء حين تحرك شئ ما .. جفلت جولييت وهى تشم رائحة الخطر ، وواصلت من ناحية الشاشة أصوات مختلطة ، أخذت تتجسم ، وأصبحت موسيقى :
صوت اديث بياف وهى تغنى كما تغنى دائما
..... كان عظيما ، كان جميلا
وهو يستمتع بالرمال الحارة.........

ويمكن القول بأن دفء هذه القاعة ، قد أذاب ما فى قلب جولييت من جليد ، وأن قطراته الذائبة هى تلك التى تسيل من عينيها ، آه ... كم يكون مؤلما أن يعود الدم الى عضو من أعضاء الجسم كان قد تجمد ... هل جربت جولييت قبل ذلك أن يتجمد طرف أذنيك ، أو أصبعك ، وأنت تقوم بالتزحلق على الجليد على سبيل المثال ، لا يشعر الانسان بشئ طالما كان متجمدا ... فى لون بياض الثلج , غائب الدماء , لكن حين تعود اليه الحياة يصبح مؤلما ...مؤلما جدا ، حتى ليحس بوخز آلاف الابر الملتهبة ... يا الهنا ... ما أقصى عذاب قلبها . وما أقسى وحدتها فى هذه السينما الضخمة المذهبة ، وقد دفنت حية فى هذا التابوت الهائل . أيها القديسون عشاق أفينيون صلوا من أجلها !
ظلت القاعة أثناء عرض الجريدة الناطقة أيضا نصف مضيئة : ربما كانوا يخافون أن تقوم جولييت بمظاهرة عند مرأى هؤلاء الجنود المثاليين فى أرديتهم البيضاء الجميلة وهم يصلحون خطا تليفونيا أثناء هبوب عاصفة ثلجية عنيفة ، بينما الروس الاشرار غير المرئيين ، يطلقون عليهم النار من أعلى . وبدأت بعد ذلك تتبع الفيلم الاساسى ، الذى كان رديئاً ، حتى أنها استطاعات أن تغفو ، ولا تفكر فى شئ .. حتى كاد أن يفوتها القطار .
*****
- جولييت .. ألست مريضة ؟
- مريضة ؟ ... لماذا ؟
- يبدو هذا على وجهك ! هل حدث شئ ما ؟ ألم تجر الامور على ما يرام .
- خلعت الخالة الين عنها معطفها ،وأحاط جوزية بذراعيه ركبتيها كان مبتهجا:
- - لقد عادت جولييت ! لقد عادت جولييت .
- ألا تريدين أن تقولى عما اذا كانت الامور على ما يرام ؟
- بلى ، ياخالتى الين ، لو عرفت كيف يكون السفر فى هذه الآونة ... يامعبودى الصغير جوزيه ، ياقلبى الصغير ، سوف تخنقنى هكذا .. هل كنت ولدا عاقلا؟
- دع جولييت لتستريح ! أذهب وجهز المائدة . مثلما يفعل صبى كبير مثلك ، أذهب بسرعة ...
تبعت الخالة ألين جولييت داخل الغرفة .. وقالت لها :
( ياطفلتى . ( بينما جولييت تخلع ثيابها وتلبس ردائها المنزلى القديم وخفها ) ياطفلتى ، يعلم الله انى ابارك كل ما تقولين وما تفعلين . لكنى امرأة عجوز ... لم أعد أستطيع المزيد .. لو كان بمقدورى فقط أن أتبعك .. لكن الانتظار!! ومع كل خطوة على السلم أقول لنفسى : لابد أنها الشرطة .. وأقول لنفسى أنك لن تعودى بعد ذلك ، وأنهم قد أخذوك ... ألا تستطيعين أن تتوقفى ،حتى تتنفسى قليلا فحسب ، فكرى فى جوزية ، ماذا يصبح بدونك ...)

غسلت جولييت يديها .. عدد قليل جدا من الناس هم الذين يقومون بالعمل ... يقال ان الناس جميعهم موافقون ، لكن حين يتعلق ذلك بعمل شئ ... هل جوزية راض عن جواده ؟ هل استمتعتما بعيد ميلاد طيب ؟ كيف أعددت الأرنب ؟ لا تنشغلى ابدا .. ياخالتى الصغيرة ، أننى حذرة للغاية والآن ، على اى حال ، حين أرجع الى الجريدة فلن أعود للسفر بعد ذلك .
- أنت تقولين هذا ... نعم سوف ترين ، انك شاحبة وتفزعيننى ستسقطين مريضة ...
- أن أفكارك هى التى تشغلك ... اننى فى حالة طيبة جدا ... ومن الواضح أننى متعبة للغاية ... وأننى مبتهجة بعودتى .
صاح جوزية :
- جولييت . جولييت ، أسرعى !
- *****
-
قال لها رئيس التحرير وهو يملى عليها الرسائل :
- تبدين متعبة يا انسة . ألا تريدين أن تستريحى يوما أو يومين ؟
كانت جولييت تثير رقة الرجال دائماً .
- لا يا سيدى اننى فى حالة طيبة للغاية ، شكراً ... هذا يعود إلى أننى لا أحب مدينة ليون.
وقال رئيس التحرير وهو يتنهد – أنا أيضا لم أعد أحبها ...
وجعلت لوعة الحنين الى باريس وهى لوعة استشعرتها جولييت منذ بداية المنفى ، كل مكان لا يطاق بالنسبة لها لمجرد انه ليس باريس ، وقد تفاقم هذا الشعور فى مدينة ليون كذلك ، فأحست بها ، مدينة خانقة مغلقة ، مثل ألم خفى لا خلاص منه ، مدينة تعجز عن أن تقدم عزاء ، ووصل الامر بجولييت الى المدى الذى جعلها تبغض هؤلاء الذين كانوا يتظاهرون بأنهم معجبون بمدينة ليون ، وتعتبرهم كائنات شاذة ، قد تربت على التعاسة وتجد فيها متعة كئيبة . ما الذى يمكن أن يحبه المرء فى هذه المدينة ، المنازل ... هذه المكعبات التى لا لون لها ولا ملامح ، أو الطرقات التى تشكلها مثل هذه المنازل ، أم هى بعض الاشياء المريبة . أشياء البرجوازى الصغير ... والتاجر ، التى تجعلك تفكر فى شوارع باريس الخارجية ؟ أيحب سلالم المنازل ؟ كل هذه الدرجات التى يصعدها المرء على أنها سلم الخدم . أم صفوف صناديق الخطابات الصغيرة التى تستقر على جدران فى لون الوحل ، ذات حواف بنية . أم درابزين السلم المصنوع من قضبان السجن ، أو ربما هى الشقق بمخادع نومها والمخادع داخل المخادع ، والمخادع داخل المخادع . وهى تظلم شيئا فشيئا ... وهى تستتر شيئا فشيئا ، أم هو الولع الجنونى بما هو ضيق وسرى وغير مغسول ؟ ... لم تكن جولييت قد قرأت روايه ( سجينة بواتييه ) ، لكن الاحساس الذى كانت تحس به نحو مدينة ليون والمعجبين بها ، يمكن أن يقارن بهذا الذى أحست به السجينة . وأنا أتخيل ( المغارة الصغيرة ) أو ( مالامبيا الصغير ) أى فراش السجينة .
هل كان عليها أن تحب ليون ؟ مناخ الضباب ، الوحل والجليد الذائب ..؟ ففى باريس لا يتابع الانسان حالة الطقس الا ليكتشف ان الجو جميل فلا يعتزم العودة للمنزل حتى لا يفقد قطعة صغيرة منه .. أليس الخروج الى الطريق فى باريس يعنى الولوج فى احداث مثيرة مدهشة .. بينما السير فى طرقات ليون .. يعنى خوض الوحل البارد ... ومحاذاة الثكنة الرمادية ذات العلم متعدد الالوان الذى يرفرف على البوابة .. بينما يذرع الطوار حارسان المانيان فى ملابس الميدان الرمادية ، مرتديين خوذتيهما ، مسلحين حتى الاسنان .. ورؤية البحارة الصغار الذين يتسكعون فى طرقات ليون فى خطوة عاطلة .( ولماذا يوجد البحارة بادئ ذى بدء فى مدينة ليون .. هل عليهم أن يطوفوا قليلا بكل مكان ؟... لكن جولييت ، رأتهم فى ليون ...) لقد فقد البحارة الصغار لونهم الزاهى ... فلم يعودوا متأنقين ... ولا متألقين ... لم يعودوا كذلك ... وكل هؤلاء البحارة يسيرون على غير هدى ... هذا الجيش الذى نزعت منه دروع شرفه وعلاماته العسكرية وهو مدحور ، مهان ، مثل ضابط عجوز عن الدفاع عن شرفه . يظهر على وجهه الذى حال لونه غضب أولئك الذين انحدروا الى قاع الضعف وسلب منهم كل شئ . وكان مكتوبا هناك على الجدران : 1918و1918و1918 ... مثلما حدث فى باريس دون شك ، مثلما حدث فى باريس ، مثلما حدث فى كل مكان عام 1918... الجرى خلف الترام أو انتظاره الى ما لا نهاية والشعور بالبرد ينفذ حتى العظام ، الوقوف على السلم ، واليدان مثلوجتان على وشك ارخاء القبضتين ... آه من دفء المترو الممتع ، والنساء اللاتى فى ملابسهن الجميلة ، والرجال يتخلون لك عن مكانهم ، وما أبشع الترام فى ليون ... نهر الرون الشاحب المأسوى مثل كم قميص خال من ذراع .. مبتورة ... لا ، انه لا يقارن بنهر السين الذى ينساب فى رشاقة ، ولا يسبب قشعريرة مماثلة .. ولا فائدة لنا فى معرفة ان ليون كانت فى الاوقات الماضية جنة فن الطهو ، وأن هذه الحانات والمطاعم الحقيرة ، وحانات الخمر حيث ينسحق الانسان انسحاقا لكى يتمكن من أن يصيب فتاتا مصنوعا من دقيق عفن يلتصق بسقف الحلق ، كانت بمثابة معابد لحضارة الذوق المرهف فى متعة الطعام والشراب !
لكن يعلم الله أن ليون ليست هى التى أضفت على جولييت هذا الشحوب ، وهذه الهالات التى تحيط بالعينين ... وتثير اهتمام رئيس التحرير ، لقد كانت مدينة مظلومة .. فالآنسة جيرار وهى كاتبة آخرى على الآلة الكاتبة تعمل فى الجريدة ، سمراء صغيرة ، كانت جولييت قد ارتبطت بها . قالت ايضاً :- جولييت هل ترغبين فى أن أعنى أنا بصناديق الخطابات .. اذهبى واستريحى .. وسأتدبر هذا الأمر .. ان مظهرك يخيف .. – اننى أؤكد لك يامارى ... أن صحتى حسنة لأقصى حد ... ولست مريضة ... اننى أعانى .. وكلما لاحت النهاية زادت معاناتى ... ان الامر الذى لا احتمل التفكير فيه هو أن الناس يهلكون عشية النصر ... وهمست لها مارى جيرار قائلة : لقد أخذوا بيرو ، عامل التعدين الشيوعى – الصغير – لقد ذهب الجستابو الى المنزل الذى يقيم فيه . وضربوه بوحشية فى الحانة ، على مرأى من كل الناس .. ثم آخذوه ... انه طفل .. بالأمس كانوا يفتشون عند بينوا ، ولم يكن قد عاد بعد ، بالصدفة ... فأقتادوا زميلا كان ينتظره .

لقد كانت الصغيرة جيرار هى التى قامت بالحديث الأول مع جولييت عن المقاومة ، وفعلت ذلك فى البداية من خلال كلمات حذره .. لأنها لم تكن تعرف الكثير عما يدور فى ذهن هذه الفتاة الرقيقة جدا ، المتحفظة ، المتباعدة.. لكن فى اليوم الذى وصل فيه نبأ استشهاد شقيق جولييت فى ليبيا .. اقترحت عليها السمراء الصغيرة بصراحة ، من مدخل الألم المبرح والشفقة أن تعمل ... ودم الشقيق كان يحمل ضمان الثقة بجولييت . لقد مر على هذا اليوم ما يزيد على العام وهى منخرطة فى العمل ، لقد وجدت جولييت نفسها وقد احتوتها الدمامة وقد أمكن لهم استخدامها اكثر فأكثر ، لأنها كانت متروية هادئة ، دقيقة ، لا ترفض ابدا أية مهمة .. فى وقت كثرت فى الاعمال . كانت الأنباء التى يجب أن يتبادلها الذين يعملون بالمقاومة كل يوم .. مثل كلمات السر ، أخبار الاعتقالات ، أخبار حركة الانتفاضة ، اعمال التخريب التى تمت والتى ستنفذ ، اكتشاف جاسوس ، أو وشاية ، التخريب الذى يقوم به الجستابو ، الادب السرى .. كانت الانباء تجمع وتوزع ويتم الاتصال عن طريق صناديق البريد ، وكان جيش المقاومة ينظم صفوفه .. ويتسلح سرا بأسلحة ، تم الاستيلاء عليها ، القليل بعد القليل من كل مكان : تلك التى سرقت من مصانع الأسلحة ، أو التى خبئت من عام 1940 ، أثناء وقف اطلاق النار ، أو التى أنزلها الانجليز بالمظلات .. كان قلب الوطن يخفق .. وشاركت جولييت نويل ، الكاتبة على الآلة الكاتبة ، أيضاً فى عملية دفع الدم ، وتشكلت جبهة وطنية فى مواجهة المحتل بمثابة خط ماجينو حى ، دام ، موجع ، يقوى على مر الايام .

عرفت جولييت الآن كل خبايا ليون ، فورفيير ، لاكرواروس ، سان جان ، فيل أوربان، لم يعد لدى هذه الاماكن ما تخفيه عنها .. لقد عرفت كل خطوط الترام ، والقطار الصغير الازرق ، المقاهى ، الحانات ، مقاعد الميادين ، الحارات ، هذه الانفاق الضيقة ، التى تخترق فى كل اتجاه مجموعة من المنازل القديمة ، المشهورة كأقصر الطرق ، ( بعض الحارات لها حوالى ستة أو سبعة منافذ . تؤدى الى كل الاتجاهات ، لو كان الانسان سيبقى هناك ليلعب لعبة الاستخفاء ) واصلت جولييت القول ( اننى لا أحب ليون ... ) ولكن ربما لم يعد هذا حقيقيا الى درجة بعيدة .


أصبحت ليون شريكة فى حياتها ، وفى عملها ، فوهة المنازل المغلقة ، منافذ الحارات الخفية ، افتقاد الاناقة .. وابتذال هذه الاسوار الضخمة البرصاء وما ينسج خلفها من ترف ، وما يراكم من كنوز وما يحاك من مكائد ... وفى هذا اليوم الطلق من أيام شهر فبراير حين تسنمت ذروة لاكرواروس ، مستندة على جدار صغير فى أعلى سلك المصعد ، وقفت تشاهد المنظر ، ورأت العذوبة تسرى فى مشاعرها ، والشمس تورد وجه ليون قليلا . هذا الوجه الشاحب الاسود من الفاقه ، ان لم يكن ممتقعا تحت تأثير شهية نهمة أنانية ، وكانت أمامها مجموعة من النوافذ متحاذية على جداران ضخمة ... لم يكن لديها ما تقدمه سوى هذه المجموعة من المستطيلات السوداء ...وكانت تراها من خلال غابة من المداخن، العالية الحجرية ... التى لا يتصاعد منها دخان ، غابة مأسوية ، لكأنما النار بقدرتها على الاتلاف قد مرت هناك ، وجعلتها عارية ، وفى الغور ... كان هناك نهر الرون بالابنية الضخمة على ضفتيه ، وكانت مجاورتها للنهر تضفى عليها جلالا وأهمية وقد جعلها ذلك جميلة . وهناك بعيدا ، كانت ناطحات سحاب . فيل أوريان تشرب كل الضوء . كانت جولييت تتأبط تحت ذراعها لفافة وهى تحلم ، كان الجو جميلاً ، عذبا ... ماذا يوجد خلف هذه الجبهة الرصينة ، الأحلام ؟ وهذه كانت تعرفها جولييت ... مررت جولييت أحدى أصابعها خلف أذنها ، ثم أدرات ظهرها للمنظر الطبيعى . كانت قد تأخرت وعلى وشك أن تنسسى الوقت !

بدت ضجة الأنوال وكأنها حركة التنفس التى تقوم بها منازل تضج بالحياة ... ولم يكن لدى منازل النسيج الضخمة هذه ، شئ آخر سوى النوافذ ، وحركة التنفس ، وأرتادت جولييت عددا من الشوارع ... وحينما كانت تشق طريقها ، انفتحت السلالم أمامها ، عريضة ، عارية ، لا متناهية ، مهيبة ، وكأنها معطف طويل من الحجر ينسدل على كتفى عملاق جليل ... بدأت جولييت فى هبوطها ، ولم تستغرق الا برهة قصيرة ، وبحذاء المنازل كان يهبط درابزين من القضبان المستقيمة ، السوداء ، كما لو كانت مثبتة على نوافذ سجن ... وخطت جولييت عند أول السلم بعض الخطوات ، ثم غاصت فى احدى الحارات .


كانت هذه الحارة ، مثل كل الحارات ، تبدأ ... بجزء أول بسور تقشر طلاؤه على نحو غريب ، وقد استقرت عليه صناديق الخطابات ، وكان كل صندوق صغير يحمل اسما على لافتة نحاسية ، أو على بطاقة زيارة ، أو على قطعة من الورق ، ولكل صندوق صغير قفله الصغير ، ويشهد عدد هذه الصناديق الصغيرة على كثافة سكان المنزل ، وقد احتفظ كل سكان بمفتاحة الصغير حتى يؤمن سرية مراسلاته ، وكان أحد الصحفيين فى الجريدة التى تعمل بها جولييت ، تطارده أمرأة تكتب له رسائل عديدة يومياً ، وكانت خطابات الحب هذه التى كتبتها امرأة مجنونة ، توضع دائما فى ثلاثة أو أربعة مظاريف بعضها فوق بعض ، كل واحد منها قد ألصق بعناية ، ولم يكن هذا منفصلا عن الروح ، ان لم تكن روح أهل ليون ، فربما كانت روح مساكنهم وبدت الحارة التى سلكتها جولييت تكشف القناع عن سرها فى فناء مربع : فقد كان فى منتصف الفناء سلم . لأن الفناء منقسم الى بسطتين مختلفتى الارتفاع الى حد ملموس – ان هذا السلم وشبكة الحديد المطروق السوداء التى تسد مدخله ... والفانوس الموضوع على ارتفاع ، وأفاريز الشرفات الداخلية الخالية من النتوءات التى يشكلها السلم الصاعد فى طوابق المنزل : تضفى بأجمعها على هذا الفناء مظهر السجن ، مظهر التعاسة ، وغاصت جولييت بعد السلم الكبير الذى يقع فى منتصف الفناء ، فى باطن المنزل ، وهبطت بعض الدرجات الغروية التى تبدو كأنها تفضى الى أحد الأقبية ، لكنها كانت تقفز الى ممر آخر ينتهى بصناديق الخطابات ، ويطل على الطريق . وعبرت جولييت هذا الشارع ( كانت له جدران عالية ، فيها نوافذ مستطيلة ولا شئ غير ذلك )... ثم سلكت حارة أكثر ضيقاً ، أكثر قذارة ، وأشد ظلاما من الحارة الأولى ، بأركانها المنزوية ، ودرجاتها ، ومنعطفاتها الملتوية بفنائيها الضيقين المظلمين مثل جوف مدخنة المزدانين بذلك السلم الذى يشكل فى كل طابق شرفة خلف أفريز من قضبان السجن ... هبطت جولييت حتى ميدان تيرو ، وهناك ركبت الترام .


كانت قد دقت جرس الطابق الارضى ، حين خرجت امرأة البواب ( كان بيتا جميلا ، حديثا ، له أبواب ) من غرفتها . وقد كانت هذه المرأة شاحبة الوجه . وهى تقول لها لاهثة – يا آنسة ... أنهم هنا .. أنا لا أعرف ماذا أتيت تفعلين هنا ... ربما كان من الضروى ألا تذهبى هناك ... أنهم خمسة ... من الألمان ، فيما أعتقد ... وأقتربت خطوات خلف الباب ، وحين فتح الباب ، لم يكن أمامه أحد ، وكان باب المدخل الثقيل مغلقاً ...

جرت جولييت فى الطريق ، أعنى أنها لم تجر ... لقد مشت بسرعة جدا ... مثل جواد يترك الخبب لينتقل الى الركض . وقد أحست بألم فى جنبها . ها هو ذا ترام يأخذها الى كورديليه ... كانت الطرقات قد أظلمت ، وهى منسحقة تحت وطأة الاظلام الكامل . ولو لم يكن هناك أحد ... وبدأت فى الركض ... ياللخسارة ...

كان الفناء الصغير مضاء بالنوافذ التى ينساب من خلفها الضوء ... وفى أحد الاركان مقاعد المقهى ، المستديرة ، موضوعة بعضها فوق بعض .. بينما صفت صناديق فى مدخل السلم ، حيث أستطاعت أن تقرأ على باب زجاجى ، على الضوء البرتقالى الذى ينبعث من الداخل : ( بار مدخل الموردين ) ، تعثرت جولييت بصنوق قمامة ، ثم صعدت وهى تتحسس طريقها ، ودقت الجرس بعدد المرات المتفق عليها ... وفتح لها دومينيك بنفسه :
- قال وهو يجذبها من ذراعها – ماذا حدث ؟
- أنهم يفتشون ، الشارع ..
أدخلى ..
وكان فى مؤخرة الغرفة مخبأ حقيقى . كان هناك رجل نائم مرتديا ملابسة بالكامل على حشية مبسوطة فوق ارض ... فقفز على قدمية ، ومرر أصابعه فى شعره المشعث ... بينما أحاط الأحمرار بعينيه، وكان خداه مجوفين بشكل فظيع ...
- لم يتح لى الوقت لاسلم الصندوق ، فقد كانت متأخرة ، ستدركنا رحمه الله وها هى ذى رسائل .
ووضعت على المنضدة اللفافة التى كانت تتأبطها تحت ذراعها .
- يجب تغيير كل عناوين صناديق الخطابات – ارتدى دومينيك سترته الجلدية ، كان طرف سرواله قد تداخل فى جنزير الدراجة ، فبدا ردئ المظهر ... وقال مواصلا حديثه ، جولييت اذهبى وأخطرى الدكتور ، قولى له أننى سأراه غدا فى استشارة طبية .. هيه .. والسيد جورج .. لا كل الناس أسمهم جورج ... السيد أميديه ... هيا ، لتذهبى الى هناك ... ألم يتبعك أحد؟
- لا أعتقد ، لقد أطلقت ساقى للريح .
ضرب الدكتور أرنول بقبضته المكتب فى حده ، صرخ قائلا: " الأوغاد ، سوف نقتص منهم !- ضرب المكتب بقبضته مرة أخرى وقال :- لدى الآن يقين بأن هذا الفعل النذل لم يصدر الا عن جاك ، انها نفس الضربة التى وجهت الى لافون ... سيكون حسابه عسيراً ... هذا الكلب ... هذا الكب ... غادر الغرفة ، وسمعته جولييت يقوم باتصال هاتفى ... فتح الباب بهدوء ، لقد كانت زوجة الدكتور هى التى دخلت ، وهى امراة صامته لا يحس أحد بوقع أقدامها ( تكبر زوجها بنحو عشر سنوات )...قالت ( - أى حظ سئ ياآنستى المسكينة نويل ، ألن يكون لهذا نهاية أبداً ... ثم أنخرطت فى البكاء دون ضجة ... وأنهته قبل أن يعود الدكتور ...

قال لها – ياجولييت الصغيرة .. ياطفلتى أى مصادفة سعيدة أنه لم يقبض عليك ... قولى ، هل من الكثير أن أطلب منك أن تذهبى لحجز غرفة لزميل سوف يصل بعد غد ... انه يدعى سلستان على وجه التحديد ، لكن انتظري ، لم أفكر فى ذلك ، انك تعرفينه، لقد رأيته فى مدينة أفينيون – هل تتذكرين .. هذا أمر حسن يمكنك أن تذهبى الى المحطة لتأخذيه ، إذا لم تكونى مشغولة ، بطبيعة الحال ..
قالت جولييت .. انى غير مشغولة .
- رائع ، يجب أن نضعه فى هذا الفندق الذى نمت أنت ذات ليلة فيه ...
اتصلت جولييت هاتفيا بالجريدة ، لكى تقول أنها مصابة بالانفلونزا ... وكذلك فهى متعبة للغاية .. وخلصها هذا من حكاية التفتيش .

رأته يأتى من بعيد – لانه كان أعلى قامة من جمهور المسافرين حين وضعت يديها على كم سترته ، كانت نظرة سلستان واحدة من هذه النظرات السريعة ، التى كانت احدى خصائصه ، لم يتوقع أن يراها ، لكن أى آهة ... من الدهشة .. وأى بسمة تدل على تعارف سابق لم تستطع أن تجعل قبضة يده أقل خشونة :

- هل أتيت من أجلى .
- نعم من أجلك .. لقد طلب منى الدكتور أن أحجز غرفة ، وأن أذهب الى المحطة لأبحث عن شخص يدعى سلستان ... سوف تنام فى فندق قريب ، ستكون هناك فى وضع طيب ، لقد سبق أن قضيت فيه ليلة ، ولا أحد يسألك أن تملأ أستمارة الفندق .
- هل نركب الترام ؟
- لا ، انه على بعد خطوتين
- له كل المميزات ... وخلاف ذلك ؟ هل أحوالك على ما يرام يا...جولييت ؟
- هل نسيت أسمى ؟ ان أحوالى على ما يرام – وأنت ؟
- لا ، أنا لم أنسى أسمك ... لكن لا أعرف ان كان فى مقدورى أن أسمح لنفسى أن أدعوك دون كلفة باسمك الأول ؟
- تستطيع أن تفعل ذلك .. سيكون ذلك طبيعيا أكثر أمام صاحب الفندق ... انى مضطرة للصعود معك ... فلدى خطاب لابد أن أسلمه لك ، أما زال الألمان يوجدون بنفس القدر فى مدينة أفينيون ؟
- أكثر ، بقدر ما يستطيعون
أخذا يحصيان كل الفنادق التى فتشها الالمان ... وتحدثا ... عن المكتبة الألمانية التى فتحوها فى شارع الجمهورية ... الى آخره ... الى آخره ...
قالت جولييت – ها هو الفندق – أنظر ، ان له ثلاث مخارج ، أو ثلاثة مداخل ، كما تشاء أن تعتبرهم ، أحدهم فى الفناء ، وهو الرئيسى ، والآخران مختفيان عن النظر لا يسهل معرفتهما ، أنظر أحدهما هناك بالقرب من دار السينما ، والآخر يطل على الطريق من الخلف ...

لم يظهر صاحب الفندق ولا كلباه أيضاً .. نظرت خادمة ناعسة بلا مبالاة الى جولييت ، التى أخذت المفتاح المعلق على اللوحة . وكانت الستائر مسدلة فى الغرفة . وهى من الساتان الأزرق .. ذات أزهار زرقاء . وكان للسرير العريض غطاء من نفس الساتان الازرق ... والبساط المفروش على الارض كان أزرق أيضا . كانت المرايا تعكس هذه السماء المزهرة . الاضواء المتسربة ... لقد كان هناك دفء الجنة ، حتى ليمكن للمرء أن يعيش فيها الى ما شاء الله .

سألت جولييت – هل يلائمك هذا ؟
- أى قصر فى قصص الجنيات الخيالية لا يمكن أن يحقق أمانى مثلما يحققها هذا الفندق ...
- عبرت ابتسامة وجهه القائم الذى يشبه وجه كبير الملائكة ... بعد هبوطه على الارض .
- هل تريدين اعطائى الرسالة ياجولييت ؟
بسطت اليه رسالة ، أخرجتها من بطانة معطفها .
- الدكتور يقول لك أنه التقطها من المذياع هذا الصباح ، لقد ظن أن من الممكن أن تكون قد رحلت ، ونقل اليك نصها ، أما ما عدا ذلك فلا أعرف ...
فض سلستان المظروف – ثم مشى حتى النافذة ، لكن لا ، فقد كانت تطل على جدار ... كان عليه أن يكتفى بلوح الزجاج المغبش الوردى .. قرأ بسرعة صفحتين صغيرتين ، وهو ينظر الى جولييت بعينين تائهتين ، ثم أحرق الوريقة فى الحوض ، وترك الماء يتدفق حتى يزيل الرماد – وكان مازال يرتدى نفس السترة .
قال : - سوف أخرج أنا أولا ، انتظرى خمس دقائق ... عشرة ... الى اللقاء ياجولييت ، مادمت لا تحبين أن أقول لك وداعا . وشكرا لك .

خرج . واستراحت جولييت على غطاء الأريكة الازرق ، كانت الغرفة بالساتان المصنوع من القطن ، بفراشها العريض ، والمرايا ، تثير احساسا بأنها مكان للقاءات الغرامية ... بدأت جولييت فى الضحك بهستيرية ... لقد كان جميلا .. فردوسها المفقود ! الضحك ، ثم البكاء ...آه .. كم يؤلمنى هذا من أجلها ، من أجل كل النساء ... جولييت لابد من قليل من الوقار حتى حينما لا يراك أحد ...أيها القديسون عشاق أفينيون ، من أجل حبكم للحب ..أغفروا لها .. ها هى ذى قد بدأت فى الهرطقة لقد هتفت قائلة :( لقد عادا ، لقد عادا) لا، اننى أفضل ألا أسمع ، ألا أعرف ... لابد أن هذا هو أرهاق الشهور الأخيرة ، مجرد أجهاد الأعصاب .

حين خرجت جولييت نويل من الفندق ... لاحظت فى الطريق ... دون أن تأخذ ذلك بجدية ، رجلا يرتدى معطفا فاتحا وطويلا جدا ... كان يراقب من الطوار ، الذى يواجه بوابه الفناء الذى يختبئ فيه الفندق .. فكرت بغته ... حين ، كانت قد وصلت الى ميدان بلكور ..وأستدارت ، تماما ، لقد كان هناك ، مع رجل آخر .. ربما لا يعنى هذا شيئاً ... ربما .. وأستدرات أيضاً مرة أو مرتين خلسة ، كانا يعبران الميدان خلفها .. حسنا ستركب الترام ... حتى تتأكد جيداً ... توقف الرجلان بالقرب منها ... لماذا يتبعانها ...أبسبب سلستان .. أم صناديق الخطابات ... لم تكن هذه هى المرة الأولى التى يتولد لديها أنطباع بأن أحدا يتبعها ، وقد كان الانطباع دائما ثمرة خيالها ...أو بسبب رجال كانوا يغازلونها ، ليس من الممكن أبدا التمييز بين البوليس السرى والمغازلين ممن يتبعونها .. هاهو الترام ... أسرعت جولييت .. وتركت نفسها تندفع .. هل سيركبان هما أيضاً .. لا يبدو ذلك .. بدأ الترام فى الحركة .. ركضت جولييت ، وتشبثت بالسلم ، وحينئذ انتزعتها يد. وقال الرجل الذى يرتدى معطفا فاتحا " لا نريد فضائح بصفة خاصة ، ولا أحد يريد بك الضرر ".
كان يتحدث الفرنسية بطلاقة ودون لكنة . وأحاط بها الرجلان ولم يبد أنهما يفعلا ذلك ، لكنهما أمسكاها بقوة .. وكان للثانى أنف طويل .. وشعر أشقر مشوش .. يواصل رفع قبعته الملساء فوق رأسه . وقد قال بضع كلمات باللغة الالمانية ...

قالت جولييت لنفسها ( أنا كائن لا قيمة له . ماذا يوجد معى .. لا شئ يثير الدهشة ... الشبهة ... لا ... لاشئ .. معى بطاقة الهوية المزيفة وأدعى روزتوسان .. أعتقد ذلك على الأقل .. اننى لفى غاية التأكد .. لقد حصلت على بطاقة هويتى المزيفة بفضل سلستان .. ياللحظ السئ ... لقد أعطتنى الخالة ألين بطاقة التغذية لاتناول القهوة فى النهاية .. مادمت ذاهبة الى المدينة ... حين تبدأ خالتى البائسة الين فى أن تلح عليك .. يبدو العالم وكأنه يدور حول هذه القهوة . خالتى البائسة الين .. كم شاخت .. لم تكن هكذا فى الزمن .. الخالة البائسة الين لن تحصل على القهوة ... أتمنى لو لم تكن معى هذه البطاقة على الأقل . سأقول أنها لاتخصنى .. وأنها تخص جولييت نويل ، احدى صديقاتى ... وربما كان هذا اشد بساطة .. لن يستدرجنى أحد الى أن أفضى بشئ .. أبدا سأقول أننى فتاة تذرع الارصفة ..

- سوف تقولين لنا برقة اين وفى أى ساعة تلتقين بعشيقك هذا هو كل ما نطلبه منك .. وفور ذلك تستطيعين الذهاب
وارتقوا مرة ثانية طريق الجمهورية ، وكانت جولييت دائما بين الرجلين ..
- أى واحد من عشاقى ؟
- يا آنستى العزيزة – لا تمثلى دور البلهاء ، أنه الرجل الذى كنت تبحثين عنه فى المحطة .. ثم دخلت معه الفندق .
- واذا لم أقل لكما ؟
- هل سمعت قبل ذلك كلاما عن الفندق ترمينو؟
- لماذا.
- الجستابو ، ياآنسة ، الجستابو ، الا يعنى هذا شيئا لديك . هناك ، سوف يجعلونك تمرين باستجواب شديد الوطأة .. هل تودين أن تقولى لنا برقة وعلى الفور .. أين موعد لقائك ...ومتى ؟ .

فكرت جولييت " ياالهى .. أن طرقك عصية على الادراك .. لهذا لم يكن على أن أراه مرة أخرى .؟.. من يعرف .. تحت وطأة التعذيب .. يممكننى أن أكون هادئة ، لن أقول شيئا : ليس لدى مواعيد ".

- لماذا لا تذهبان لأخذه من الفندق – أنتما تفهان ان هذا ليس امرا خطيرا بالنسبة لى ..
- لانه لن يعود الى هناك .. هذا تبرير كاف اليس كذلك .. أسرعى بأعطائنا المعلومات التى نطلبها منك .
- اننى لست على موعد محدد ! انه لم يعد يرغب فى .. لقد قادنى الى الفندق ثم أهملنى
- قال الرجل الأشقر ذو الأنف الطويل ... من جديد ، شيئا بالألمانية .. ثم نظر الآخر الى جولييت فى استرابة :
- هيا ، ان هذه مجرد حكايات .. فالمرء لا يهمل فتاة جميلة مثلك .. أن للكابتن ذوقا طيبا بالتأكيد .. مثل كل الفرسان اذا لم تعرفى ما تفعلين فى هذا الأمر .
- ضحك الاثنان بشدة ... ولكزها الالمانى بمرفقه فى خصرها على سبيل المداعبة .
- قالت جولييت – اننى لا أعرف قطعا مذا فعل فى هذا الأمر .
- أوه ..أوه..أوه.. ألا تعرفين كيف تقومين بالامر ؟ اذا كنت تصرين ، فسوف نقودك الى الفندق ونلقنك درسا ! هيا ، هل ستتكلمين ؟
- تأوهت جولييت – انكما تسببان لى ألما . وتحولت نحو الرجل وعيناها تمتلئ بالدموع : لقد كانت دموعا فاخرة تلك التى تملأ عينيها حتى الحافة .. دون أن تسيل .. مثل دموع الجلسرين الحلوة ، التى تشاهد فى السينما .. مما غير سحنته : حقا ، لقد كان لدى جولييت نوع من الجمال يؤثر فى كل الرجال .
- قال – لا يجب أن تبكى – فليس خطؤك أنك وقعت على عصفور مثل سلستان .. مرة أخرى سوف تكونين أكثر حذرا .. أليس كذلك ؟
- قالت جولييت – أوه نعم ، ومع ذلك فأنا حذرة للغاية كعادتى .. لكن ماذا كنت أستطيع أن أفعل ... هل الأمر خطير جدا؟
- لا،لا ، خذينا اليه ، وسوف نشرح لك أمرنا بأقصى سرعة .. هيا ، هيا ، مجهود صغير ، لن يسبب أحد ضررا لرجلك .. تنهدت جولييت – أوه .. هذا فظيع .. لقد كان لدى موعد معه .. لكنكم تعرفون .. أنه ليس دقيقا فى مواعيده دائما ، ربما كان ضروريا أن ننتظر .. لقد وعدنى بأن يأتى تحت أقواس الاوبرا خلال نصف ساعة ، أوربما ساعة ..
كانت مناضد الحوانيت موضوعة فى الممر ، والناس يتوقفون أمام الواجهات ، بينما حركة الذهاب والاياب تزحم أقواس أوبرا " الجراند تياتر " .. وهى شبيهة بأقواس الأوديون فى باريس ، ولكن الفرق أن هنا يباع القليل من كل الأشياء : البطاقات البريدية المصورة ، النظارات ، الملابس الداخلية .. وكان لمجموع الاشياء جو من الغموض .. والسرية .. تستطيع ليون أن تدخل فيه ببساطة شديدة .

قال الرجل ذو المعطف الفاتح " يمكننا أن ندعها ، فلا فرصة أمامها للهرب " وكان الناس يدفعونهم من كل الاتجاهات لأنهم واصلوا السير فى صف ثلاثى واحد ، تحت أقواس المسرح وكانت الفتحات المستديرة بين الأعمدة مغلقة الى نصف ارتفاعها بحواجز حديدية .. وترك الألمان ذراع جولييت بضيق واضح : ولكنه أخذ يلتصق بها أكثر فاكثر .. وقال لها " الى الامام (5) .. سيرى أمامنا ...." مشت جولييت فى المقدمة .. والرجلان فى أعقابها ، لم تكن تعرف ، ما الذى جاءت تفعله هنا تحت الاقواس ، ولكن لقد كان عليها أن تدع زمن المعجزات يعود الى التحقق ..

توقفت أمام صانع نظارات .. وتطلعت بانتباه الى النظارات .. وواصلت سيرها حتى النهاية الآخرى للأقواس ، حيث كانت الأغانى معروضة على مسطح رأسى ضخم ، وبدأت جولييت تستغرق وقتا طويلا فى قراءة للعناوين : مسيرة ناسجى الحرير ... التانجو الرائع ... مارجو تبقى فى القرية ..آه ملعونة هى الحرب ( بنجاح كبير )... وأصبحت الأغلفة التى بقيت فى الهواء والتراب منذ زمن طويل صفراء ملطخة بالبقع ، وتجعدت أوراقها الرقيقة وكان المطر قد سقط عليها .. واصلت جولييت القراءة ، والموت يملأ روحها ، رقصة الكان كان (( طريق حبنا )) هذه هى أغنية " يافارسى " وعليها رأس المغنية الشابة " بياف " بلون بنفسجى .." الزهور هى كلمات الحب .." ، كيف أفعل ، ماذا أفعل ، لم ترى أدنى فرصة للنجاة ، ولا بارقة أمل .. لقد كان الرجلان خلفها .. فى صلابة بابا السجن وامتلائه بالضغينة ، اتهمس بكلمة الى أحد المارة ، أتصرخ ، ولكن الصرخة سرعان ما تذبح وسط هذا الزحام ... "كمان فى الليل " .. "قلبى يبقى معك " .." مارش اللورين " .." أحلى أغنياتى " . كانت تشعر بأن البرد شديد الى درجة تيقنت منها أنها لن تحس الدفء بعد ذلك أبدا .. يجب أن تشدد من عزيمتها ولا تدع اليأس يمسك بخناقها .. مادامت على قيد الحياة . ثم تحولت الى الاتجاه الآخر.. والرجلان خلفها .. لكى تصل الى نهاية النهاية ثم تعود ... النهاية والعودة .. قال لها الالمانى : انتظرى وتوقف أمام محل لأدوات الكتابة .. وأنحنى بأنفه الطويل وقبعته الجاثمة فوق شعره الكثيف .. على صوان زجاجى موضوع فوق منضدة .. سأل الرجل ذو المعطف الفاتح التاجر العجوز الذى كان يرتدى نظارة ذات اطار ذهبى ، عما اذا كانت هناك بطاقات بريدية مصورة . وكانت هناك بطاقات بالداخل .. ودخل الالمانى هناك .. لقد كان هذا التاجر العجوز يبدو شجاعا .. ولو انه عرف فسيساعدها حتما ، اذا استطاع .. لانه ، حتى اذا عرف ..

قالت جولييت – اننى متعبة – ذهبت لتجلس على الحاجز الحديدى لفتحة فى القوس بطريقة ركوب الحصان . وفى الطريق كانت منازل قذرة ، وعربات نقل ودراجات، جمهور من المارة .. هذا الحى بالعلامات التجارية لحوانيت تجارة الجملة ( تجارة المنسوجات الحريرية .. تجارة المنسوجات الحريرية ..) يشبة ممر باريس ( سنتييه دوبارى ) أو سلع باريس مصغرة ، لقد استقرت هذه البيوت التجارية التى مدت فروعها فى كل أنحاء العالم ، فى هذه الأماكن القذرة ..( لقد أرادوا أن يلوثوا سمعه مؤسسات المواد الفاخرة وكثيرا ما تمتلئ وتفيض فتعوق حركة الذهاب والاياب بالبالات ، بصناديق البضائع ، وتسد الطرق الضيقة التى كان لها طابع تجار التجزئة والباعة المتجولين .. وهنا كانت الحوارى تتشابك ، بسلالها الممتدة فى كل الاتجاهات ، محصورة بين الحجر والحديد .. بدعاماتها .. وممراتها ، ومنافذها التى تفضى الى مداخل ذات سلالم .. وبالابواب ذات اللافتات التجارية ، تجارة المنسوجات الحريرية .. تجارة المنسوجات الحريرية .. وصناديق الخطابات .. هذه الحوارى التى يتحتم فيها صعود طوابق معتمة حيث يجب الانعطاف ثم النزول والعودة القهقهرى ، من أجل العثور على مخرج المتاهة . وكانت هذه الحوارى مدعمة أيضا فى بعض الأحيان بالشبكات الحديدية العالية ، ذات الفتحات الضيقة للغاية ( بخلع قضيب أو قضيبين ) .. بحيث يمكن للمرء أن يمر من خلاله بانحراف .. لكنه لا يمرر صندوقا ولا بالة صغيرة .. احتياطات .. كما يقال ، فى التعامل مع المنسوجات الحريرية .
وقال حارس جولييت – لقد تركك عشيقك تنتظرين .
كان فى الاتجاه الآخر من الحاجز ، درجات من السلالم الحجرية تفضى الى الطريق ، بينما بدت الأقواس عالية للغاية فوق الرصيف ، وخرج الالمانى من المكتبة .. واخذ يكتب على بطاقات البريد المصورة بعد أن سندها على الجدار .

قالت جولييت – هل لى أن أمشى قليلا ؟ وبد الاثنان مرة أخرى فى ذرع الخطى تحت الأقواس .. هى والرجل ذو المعطف الفاتح ، ورأت أمامها ، أقلام الحبر ، والأشياء المصنوعة من الليف ، حوافظ بطاقات التغذية الصغيرة .. كيف تتعلم البريدج فى عشرة دروس .. العاب الحظ .. كمان فى الليل .. النظارات .. ولحق بهما الالمانى بعد أن أنتهى من كتابة بطاقاته البريدية المصورة .. تحدثا الآن فيما بينهما بصوت خفيض ... يعلم الله ماذا كان يدبران ...
قال الرجل الذى يرتدى المعطف الفاتح مازحا:
- قولى ياآنسة ... ان زميلى يسألك عما اذا كنت لا ترغبين فى أن تتقبلى تذكارا صغيراً .
أى تذكار ؟ وانقبضت جولييت فى داخلها : فما هذا الخطر الجديد ؟
- لا تخافى ! انه يريد أن يقدم لك هدية صغيرة – ماذا ... لا يجب أن تغضبى ، أن جيوبه مليئة بالماركات ..
- أننى لا أعرف حقا .. أى هدية صغيرة ؟... التى يختارها بنفسه .. لتكون مفاجأة ، بينما هناك ...
عاد الالمانى الى محل الادوات الكتابية وجلست جولييت على الحاجز من جديد :
قالت – أعتقد أن صديقك سوف يحتاج الى مشورتك ... وكان من الممكن أن ترى داخل المحل الالمانى وهو يتبادل حديثا طويلا مع التاجر ، وقد رآه الرجل ذو معطف الفاتح أيضاً .
قال فى مزاحه الدائم - سيتملص من وعده ...
وقذفت جولييت ساقيها فى الاتجاه الآخر من الحاجز ، وقفزت من قمة الدرجات الى قلب الطريق ...
- لا استطيع أن ادعك ايضا بمفردك هنا .. يمكنك أن تأتى الى صحبتنا ..
وغاصت جولييت مثل طلقة مدفع الى حارة تبدأ من المنزل الذى يواجهها.
بعد أن وصلت الى الفناء .. توقفت فى بلاهة .. لم تعد تفهم شيئاً.... وعرفت بصعوبة اين هى .. اتهبط ام تصعد هذا السلم .. هل هذا ممر ام مجرد فناء .. سكتت كما لو كانت فى لحظة واحدة قد وجدت نفسها ذاهلة وسط موضع شديد الخطر ، تنعطف فيه العربات دون تبصر . وظهر رجل يحمل بالة صغيرة ...
- عفوا ياسيدى هل هى حارة ؟
- نعم ياآنسة ، تلك حارة ، وتلك حارة ، وتلك حارة ...
ومن حارة الى حارة ... كان يجب أن تعبر الطرقات التى تخترق الحارات ... لقد ألقت بنفسها فيها كما لو كانت تلقى بنفسها فى الماء .. ولكنها الآن ... اصبحت واثقة من امرها ... حتى لو حاولا ان يتعقباها ... فان شبكة الحارات ستقتنصهما .

هذه حانة صغيرة ، وهاتف ..
- أريد أن أتحدث الى الدكتور ارنولد .. دكتور .. اننى مدام روزتوسان ... هل يمكنك أن تقولى لزوجى أننى حين خرجت من الفندق اصابنى المرض ... أننى اعتقد ان هذه هى الآلآم الاولى ..الامر خطير للغاية .. خطير تماما ، هل ستراه ...
صاح الدكتور – نعم ، نعم ... هل مازال بأمكانك أن تأتى ، أواثقة من انه ليس هناك خطر ما .. أتودين أن يأتى أحد لمرافقتك .
- سوف آتى .
وقادتها الخادمة مباشرة الى غرفة الدكتور وحين رأوها تدخل ، الشفتان شاحبتان ، مثل الوجنتين . والعينان كشقائق النعمان التى أصبحت بنفسجية .. تلقفها الثلاثة جميعا ، الدكتور وزوجته وسلستان .. ووصلت الى المقعد تكاد أن تكون محمولة على أيديهم ...
وروت .... كل شئ ، فى كثير من التفصيل :

-......آنذاك قلت لنفسى : يجب أن أتحدى ، وقفزت ، مثل الممثل السينمائى دوجلاس فيبربانكس ، ولو كان لحذائى كعب عال. لحطمت وجهى ..... ان رحمة الله واسعة ، كنت قد ارتديت حذائى الجديد فى الصباح ، وكنت غاضبة حينما رأيت رذاذ المطر ... وأن ذلك يقتضى ان ارتدى مرة اخرى حذائى البغيض الذى لا كعب له .. قلت لنفسى : لو كان بمستطاعى ان اصل الى احدى الحارات .. ولهم أن يركضوا ، فهو ليسوا من أهل ليون .. انهم المان . ابدا لن يأخذونى من هناك .. وها انا ذا أمامكم ..
قال الدكتور – هذا عادى ... سوزان ، أتودين ، أن تجهزى لها مشروبا كحوليا ساخنا ، انها ترتعد ... تعالى ياصغيرتى سوف تتمددين وقتا قصيرا فى الغرفة تحت غطاء شديد الدفء ، مع زجاجة ماء ساخن ... ثم تتناولين مشروبا كحوليا ساخنا .
- لا أفضل أن ابقى معكم ...
- سوف نكون فى رفقتك فى الغرفة ولن نتركك ..ابدا...
- وسلستان ؟ الايخاطر ببقائه هنا ؟ - استطاعت جوليت ان تتحدث بصعوبة ... لان اسنانها كانت تصطك .
- اننى لا أخاطر بشئ ياجولييت .. ولقد أتت ، لم أعد أخاطر بشئ...
سمعت جولييت وهى راقدة تحت الأغطية ، الأصوات فى الغرفة ، وكأنها تأتى من بعيد مع أنها حين فتحت عينيها رأت الدكتور وسلستان بالقرب من فراشها ، وكانت تستشعر دفئاً رائعا ، ودارت رأسها من الارهاق والخمر ..
- .. لقد قبضوا على دومينيك ، وكان قد أفلت من بين ايديهم فى المرة الاولى ... حين كان مختبئا فى غرفة يستأجرها فى احدى الضواحى ...والغريب فى القصة أنه كان لديه مسدس من طراز كولت .. ورشاش صغير ، محشوان ... ومع ذلك لم يستخدمهما ... لابد أنه أعتقد أن الشخص الذى أتى اليه صديق ... خائن ... خمسة أشخاص كانوا يعرفون مخبأه . وكان هناك قتال .. والدم على الجدران ... لقد قادوه فى احدى عربات الجستابو التى كانت تنتظر فى الطريق .. هذ عادى ..
- اننى أريد أن أبقى لا لشئ الا لا كشف الخائن ...
- ولكنك سوف تمنحنى فرصة أن تهرب .. دون حكايات .. كل شئ معد ... وأنت تعرف خط السير ... الطائرة ستهبط فى ...
- ليس لدى رغبة فى الرحيل ... لقد عادت ...
- لكنك سترحل رغم كل شئ ... أننى أقول لك ذلك ، وعند الضرورة سوف ، أستخدم القوة ... هل تعتقد أنه لا يكفى ما حدث لدومينيك ، كل مناطق الهبوط قد أحترقت ... اننى لا أتحدث عن رجلنا ... اننى على وشك البكاء ... ماذا سنفعل بجولييت ؟
- هل تعتقد أن هناك خطرا عليها ؟
- اننى أتساءل .. فهم يستطيعون التعرف عليها ببساطة فى الطريق ... انها جميلة جدا بالنسبة للمهنة التى تعمل فيها ... وهى لا يمكن أن تمر دون أن يلحظها أحد ... ان ليون ليست كبيرة ... فكل الناس يلتقون كل لحظة ...
- ألا تعتقد أن بمقدورها أن ترحل معى ؟ لقد عادت ...
- قال الدكتور - كيف ؟...
- خيم صمت طويل .
- واصل الدكتور – لا .. لا يتوفر الا مكان واحد ... شئ آخر : لقد رأيت الشيوعى الذى أرسلته لى ... انهم معتدون بأنفسهم هؤلاء الشباب ... هناك تنسيق فى بعض الأمور معهم ...
- نعم ... بعد الحرب ، لابد من أن نعلق أهمية عليهم ... لانه لا يمكن لأحد أن يحكم البلاد دون حزب المناضلين الذين أعدموا بالرصاص ...
- وخيم الصمت طويلا من جديد .
- قال الدكتور : الأفضل أن نخفى جولييت لبعض الوقت ، وعلى أى حال ، والآن ربما لن يكون هذا الا لبضعة شهور .
- قالت جولييت من تحت الأغطية :
- والخالة الين ، وجوزية ؟
- ألم تنامى ؟ سنهتم بأمرهما .. انك تفكرين كثيرا ... هذا المساء ، يمكنك أن تنامى .. من الممكن مثلا ، عند ... ادرينوبولى ... أو ماذا تدعى هذه المرأة الشجاعة .. انه مكان مأمون لأقصى حد .
- وقالت زوجة الدكتور فجأة وكانت هى أيضا داخل الغرفة :
- اننى لن أسمح بهذا ، لن ترسل هذه الطفلة الى استراحة القوافل هذه ، حيث لا يوجد سوى الرجال فى عنبر نوم واحد ... أن هذه لفكرة رجل حقا ...
- نظر اليها الدكتور فى خجل وحيرة ...
- واسترسلت زوجة الدكتور – سوف آخذها عند ابنة عمى مارتا.
- ماذا عند ابنه عمك مارتا ؟ زوجة تاجر الحرير ؟ والآن ياسوزان ، ما قولك ؟
- نعم سوف تكون فى حالة طيبة .. هناك حديقة كبيرة ... وسوف تقيم فى الغرفة الوردية ...لأنى سأطلب من مارتا أن تعطيها الغرفة الوردية .. انها غرفة ابنتها الصغيرة ... وقد كنت دائما أنام فيها فى الايام الماضية قبل زواجى ... حيث تظهر الأشجار أمام النوافذ ، والشمس تملؤها ، أما الأثاث فأبيض اللون ، ورسوم الطيور تحيط بالسقف كله .. وبها عصافير . أن ابنة عمى تتمتع دائما بذوق رفيع ، وهناك أيضا دولاب صغير جميل .. ومقاعد صغيرة بالغة الجمال ... يمكن للانسان أن يحلم فيها بعمق ... ولا يمكن للمرء أن يحلم فى أى مكان مثلما يحلم فى هذه الغرفة ... والخدم مدربون للغاية... وللمرء أن يأكل هناك مثلما كان يأكل فى زمن السلام .
- كانت تتحث فى طلاقة .. بينما توردت وجنتاها قليلا ..
- وسأل الدكتور فى استحياء – وتاجر الحرير ؟
- تاجر الحرير ؟- هزت كتفيها فى كبرياء – كما لو كان هذا يعينه !
أن مارتا هى سيدة منزلها ! وهى تفعل ما تريد والمنزل كبير بما يكفى ...
وأستسلم الدكتور – حسنا ... سوف أدعك تفعلين ذلك ياسوزان .. وربما كان هذا حلا ممتازا . اذا كنت تعتقدين أن ابنة عمك ستوافق على ذلك .
قالت سوزان – تعالى ياطفلتى .. انهضى .. اننى انتظر بقارغ الصبر أن آراك مقيمة هناك . بعيدا عن كل هذا الرعب .
انحنت ، والتقطت حذاء جولييت ، وبدأت تساعدها فى ارتدائه .
- أوه ياسيدتى ! وقفزت جولييت خارج الفراش .. كانت الارضية تتحرك بشكل خطر تحت قدميها ... لكنها بذلت مجهودا يائساً ، حتى أستطاعت أن تتكلم فى صوت طبيعى وهى ترتدى معطفها ، وتضع قبعتها على شعرها :
- اننى أعتمد عليك يادكتور فى أن تنبئ خالتى .. هذا المساء ، اليس كذلك ، على الفور .. عليك أن تقول لها أننى فى مكان أمين ... وأننى فى حالة طيبة للغاية .. سوف تذهب ، أليس كذلك ؟
- يمكنك أن تثقى فى ذلك .
- الى اللقاء ، يادكتور ، الى اللقاء ياسلستان ...
- الى اللقاء ، ياجولييت ، هل تسمحين لى بأن أقبلك ؟
- وأخذها الدكتور بين ذراعية ، وقبلها ، وأمسك سلستان بيديها ،وكانت ترتدى قفازا فى يدها اليسرى ، بينما كانت اليمنى عارية .
قال : انه مرتق دائما عند الابهام ؟ وقبل يدها اليسرى عند الابهام المرتقة .. أما اليد اليمنى فقد وضعها على وجنته .. وأستقرت نظرته الوالهة عليها ... وقال لها – ياألهى اجعل الحب الذى يحمله لها خالدا .
سحبت يدها وبلغت الباب الذى تركته زوجة الطبيب مفتوحا من أجلها . وكانت متعجلة ، متعجلة لأن يقودها الى الغرفة المزينة برسوم الطيور حول السقف ... حيث الأشجار أمام النافذة .. فهناك يستطيع الانسان أن يحلم أكثر مما يستطيع فى أى مكان آخر ...
أما الأحلام ... فجولييت تعرفها جيداً .

*****




كتبت فى فبراير 1943 .. وأترك للتاريخ أن يسبق أغنيتى الى هدفها .
هوامش


(1) كلاريسا هارلو: بطلة رواية ريتشاردسون عام 1748. عن الانثى الفاضلة تطاردها شهوة الذكور وشرورهم . وفى الرواية يقع لافليس فى حبها ، وأسرتها تناصبه العداء . وترفض كلاريسا الخطيب الذى تقدمه لها أسرتها لانها لم تستطع أن تحبه . وتحيا سجينه فى بيت أسرتها ولا ترضخ للضغظ العنيف . ولكن لافليس يختطفها ، وهى تحبه أو كان من الممكن أن تحبه لو كان فاضلا مستعدا للندم على ما فعل . وتقاوم كلاريسكا محاولات مختطفها فى غضب ولكنه يغتصبها بعد أن يخدرها . وفى النهاية ترفض كلاريسا الزواج منه على الرغم من توسلاته وتوسلات اصدقائه واسرته . ويستولى الهزال عليها الى ان تموت .


(2) أميرة كليف : بطلة رواية مدام دى لافاييت المنشورة عام 1678 ، واميرة كليف تشعر باحترام لزوجها الذى لا تحبه ، وتقع فى غرام الدوق دى نيمور ، وعلى الرغم من ان الدوق على وشك الزواج من ابنة الملك ، فهو يحاول اغراء اميرة كليف ، ولكنها تقاومة وتعترف بقصتها لزوجها طالبة منه أن يأخذها الى الريف . وهو يتحقق من براءتها ولكن الغيرة تعذب حبه البائس لها وتنتهى به الى الموت . ويحاول الدوق اغواءها مرة ثانية ، وعلى الرغم من انها اصبحت حرة الآن ، ألا أنها ترفضة وتختم حياتها فى دير .
(3) بالأسبانية فى الأصل .
(4) قبعة فريجية : قبعة الحرية ، مخروطية وجزؤها الاعلى ينثنى الى الامام .
(5) بالألمانية فى الاصل.

ظهرت الطبعة الأولى من عشاق أفينيون سرا عن مطبوعات منتصف الليل فى باريس ، فى 4 أكتوبر 1943 باسم مستعار هو لوران دانييل . وكان لهذا الاسم المستعار أهمية خاصة عند المؤلفة ، فقد كان بمثابة اهداء الى لوران ودانييل ك
ازانوفا . ففى الوقت الذى كانت تكتب فيه هذه الرواية ، هرب لوران كازانوفا من الاسر فى المانيا وانخرط فى صفوف المقاومة الفرنسية ، على حين نفيت زوجته الى سيليزيا ، وهناك قضت نحبها فى معسكر الاعتقال الالمانى ( أوشفيتز)