أفغانستان وأسطورة العجز الأمريكي


جلبير الأشقر
2021 / 9 / 1 - 10:05     


نادراً ما طغت النزعة الانطباعية، أي النزعة إلى الحكم على الأمور من خلال الانطباعات السطحية، مثلما طغت إزاء المشهد الأليم لألوف الأفغانيين والأفغانيات يستميتون في الهروب من المصير المظلم الذي ينتظر بلادهم، وقد سيطرت عليها «إمارة إسلامية» لا تضاهيها في نظرهم سوى «الدولة الإسلامية» سيئة الذكر التي اختبرناها في منطقتنا، والتي باتت فعّالة في أطراف دائرة بالغة الاتساع، تشمل أفريقيا جنوب الصحراء وصولاً إلى الموزمبيق من جهة، وآسيا الوسطى، ولاسيما أفغانستان نفسها، من الجهة الأخرى.
ولم تعد تُحصى التعليقات التي نعت القوة الأمريكية في ضوء انسحاب القوات الأطلسية الكارثي من أفغانستان، سواء أكان النعي مصحوباً بالنحيب على إخفاق حامي الديار، أم بالتهليل باندحار «الشيطان الأكبر». بل تكاثرت لدى الفريق الثاني التصريحات العنترية وكأنهم أصبحوا جميعاً من الطالبان، في قوس طريف امتدّ من أوساط «الممانعة» برمّتها إلى «هيئة تحرير الشام». هذا ومن المعلوم أن الجماعة الأخيرة مخوّلة أكثر من الممانعين بالتماثل مع الطالبان، وذلك لانحدارها من تنظيم «القاعدة» الذي تربطه علاقة وطيدة بحكام أفغانستان القدامى والمتجدّدين، علاقة كانت هي بالأصل سبب الغزو الأمريكي المطارد لجماعة أسامة بن لادن بعد تنفيذها عمليات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر قبل عشرين عاماً.
والحقيقة أن من يتغنّى بالمشهد الأفغاني من باب العداء لأمريكا إنما يمارس ما تسمّيه اللغة الإنكليزية «تفكير رَغبي» (wishful thinking). ويبلغ التفكير الرغبي والتفكير الانطباعي أقصاهما عند المعادلة بين أفغانستان وفيتنام، بإغفال حقائق لا بدّ من التذكير ببعضها. فقد تعدّى عدد الجنود الأمريكيين في فيتنام، عند ذروته في عام 1969، نصف مليون جندي، وقد سقط منهم ما يفوق 58.000 قتيل خلال السنوات الثماني التي خاضت فيها أمريكا حربها هناك. أما عدد الجنود الأمريكيين في أفغانستان فقد بقي دون عشرين ألف خلال أحد عشر عاماً من أعوام الانتشار الأمريكي العشرين، ولم يبلغ سوى تسعين ألفاً عند ذروته في 11-2010، بينما لم يسقط من الجنود الأمريكيين طيلة عشرين سنة من الحرب الأفغانية سوى ما يقل عن 2.500 (بمن فيهم الجنود الثلاثة عشر الذين لقوا حتفهم من جراء العملية الانتحارية التي نفّذها الدواعش قبل أيام). أما العدد المتبقي من القوات الأمريكية في أفغانستان عندما قرّر الرئيس الأمريكي جو بايدن إتمام انسحابهم في نهاية آب/ أغسطس، فقد ناهز 2.500، لا أكثر.
هذا للقول إن الصمود البطولي للمقاومة الشعبية الفيتنامية في وجه الاحتلال الأمريكي ومقدار القوة العظيم الذي كرّسته واشنطن لكسر شوكتها لا تجوز معادلتهما بانتشار الطالبان في مناطق ريفية لم تكن أمريكا تحاول التحكم بها أصلاً، بعد أن تبيّن أن حلفاءها المحليين عاجزون عن الإمساك بها، ومن ثم انتشار الطالبان في المدن التي انسحبت منها القوات الأمريكية وحليفاتها الأطلسية بقرار سياسي.


إن الصمود البطولي للمقاومة الشعبية الفيتنامية في وجه الاحتلال الأمريكي ومقدار القوة العظيم الذي كرّسته واشنطن لكسر شوكتها لا تجوز معادلتهما بانتشار الطالبان في مناطق ريفية لم تكن أمريكا تحاول التحكم بها أصلاً
والحال أن واشنطن أدركت منذ سنوات أن لا جدوى من بقائها في أفغانستان إذ إن كلفة السيطرة المستدامة على البلد تفوق المصلحة الأمريكية في البقاء فيها. فقد عيّن باراك أوباما سنة 2014 موعداً لانتقال أمريكا من خوض القتال في أفغانستان، بعد الطفرة التي قرّرها هو نفسه تمهيداً لذلك إثر وصوله إلى الرئاسة، إلى الاكتفاء بالإشراف على القوات الأفغانية ومساندتها بشتى وسائط القصف. وقد خفّض أوباما عدد الجنود الأمريكيين الإجمالي إلى حوالي سبعة آلاف في عامي 2015 و2016. وبعد طفرة محدودة جديدة في السنتين الأوليين لعهد دونالد ترامب، بما أوصل التعداد إلى 14.000، عاد الانتشار الأمريكي إلى الانخفاض حتى بلغ الحضيض خلال الأشهر الأخيرة.
وتبقى الهزيمة التي مُنيت بها أمريكا في العراق أعظم بكثير من فشلها الأفغاني، حيث تراوح عدد جنودها في بلاد ما بين النهرين بين 120.000 و170.000 في السنوات الممتدة من اجتياح عام 2003 حتى وصول أوباما إلى الحكم في عام 2009، وقد بدأ هذا الأخير الاستعداد لإجلاء الجنود الأمريكيين الذي استُكمل في نهاية العام 2011، وقد سقط منهم في العراق ثلاثة أضعاف ما سقط في أفغانستان. والحال أن للعراق أهمية استراتيجية واقتصادية تفوق بكثير أهمية أفغانستان في المنظور الأمريكي، بما يفسّر اختلاف حجم المجهود الحربي الأمريكي في البلدين والفرق بين محاولة واشنطن التحكم بالعراق مباشرة واتكالها على قوات محلّية حليفة في أفغانستان منذ البداية، على غرار ما فعلت لاحقاً في العراق وسوريا عندما عادت لتحارب داعش في عام 2014.
في الواقع، كانت حربا العراق وأفغانستان اللتان شنّتهما إدارة جورج دبليو بوش إثر اعتداءات أيلول/ سبتمبر قبل عشرين عاماً، كانتا خروجاً عن الدرس الذي استخلصه البنتاغون من الهزيمة الفيتنامية، وقد عادت فعزّزته الهزيمة العراقية. هذا الدرس هو أن على أمريكا أن تتفادى انتشار قواتها في بلدان تشهد حالة حرب مستدامة، وأن تكتفي بالضرب من بعيد مستخدمة تفوّقها الهائل بالطاقة التدميرية والتكنولوجيا الحربية، وذلك على نطاق يتراوح بين تنفيذ ضربات محصورة، بل اغتيالات فردية لقادة أعداء، وتدمير بلد ما تدميراً كاملاً مثلما فعلت إدارة بوش الأب في العراق في عام 1991. فإن لجوء أوباما بعد خلافته لبوش الابن إلى استخدام كثيف للطائرات المسيّرة وحذو ترامب وبايدن حذوه، وقيام هذين الأخيرين بقصف مواقع داخل سوريا بالصواريخ، كل منهما في بداية عهده بتوازٍ لافت للنظر، إن هذه الممارسات إنما هي نماذج مما ستقوم عليه الاستراتيجية العسكرية الأمريكية بصورة متعاظمة. ومن يدرك هذا الأمر يتفادى الوقوع في مطبّ استبدال أسطورة أمريكا التي لا تُقهر بأسطورة أمريكا العاجزة.