الثورة والثورة المضادة في أفغانستان


سعيد مضيه
2021 / 8 / 31 - 12:13     

جون بيلغر صحفي ومخرج أفلام استرالي – بريطاني. أخرج فيلم "كسر الصمت" عام 2003، كشف من خلاله حقيقة الحرب على الإرهاب التي تبرر الامبريالية الأميركية نزعتها الامبراطورية المعاصرة. نخبة من صحفيي التقصي ذوو ضمائر يخترقون حجب الدعايية الامبريالية، يفضحون السطو القرصني الذي تنفذه الامبريالية الأميركية، تجهض من خلاله ثورات التحرر، وتواصل إخضاع الشعوب لهيمنتها و استغلال ثرواتها . لولا ممارسة السطو القرصني لكان العالم في حالة أفضل بكثير مما هي عليه اليوم. ليس لنا سوى تذكر كيف أجهضت الولايات المتحدة وتوابعها الانتفاضات الشعبية في العالم العربي، ومسختها الى ما اطلقت عليه "الربيع العربي"، جائزة ترضية. اندلعت أوائل العقد الماضي انتفاضات شعبية حقيقية ضد استبداد الأنظمة ورعايتها لتخلف وعجز المجتمعات العربية؛ كانت مرشحة لأن تنتشر عدواها لتشمل غالبية أقطار المنطقة؛ لكن تصدت لها في الحال عناصر كامنة داخل أجهزة الدول، وما زالت تقبع في ثنايا الدولة العميقة: عناصر ليبرالية جديدة وعملاء استخبارات أجنبية أميركية وبريطانية وإسرائيلية كامنة داخل الأجهزة العربية ، استغلت انفراد الأنظمة الأبوية بسلطة القرار ونفورها من المشاركة او المعارضة مفضلة الولاء على الأداء. من خلال التمظهر بالولاء وصل عملاء المخابرات الأجنبية الى سلطة القرار في الأقطار العربية وتمترسوا داخل الأجهزة ، لينقضواعلى الانتفاضات الشعبية حال اندلاعها، وقبل أن تثبت ركائزها؛ واختلطت الثورات التحررية بالثورات المضادة، وانطللت حتى على المتعلمين حكاية الربيع العربي.
أما في أفغانستان فالمسافة الزمنية اطول نسبيا بين الثورة والثورة المضادة ، ولم يكن تغلغل وكلاء التآمر الامبريالي داخل الأجهزة الأفغانية بمثل كثافته في البلدان العربية. في المقالة التالية يكشف جون بيلغر حكاية الثورة الأفغانية ومنجزاتها الوطنية والاجتماعية ثم اغتيالها وتبديد إصلاحلاتها . تحدث عن اغتيال العدوان العسكري الامبريالي على أفغانستانر لثورتها الوطنية؛ يميط بيلغر الأقنعة عن جرائم التدخل العسكري للامبريالية والدمار المادي والروحي الذي أنزلته بالمجتمع الأفغاني. في المقالة التالية ، وعنوانها " اللعبة العظمى لسحق الأمم"، المنشورة على الموقع الإليكتروني "كونسورتيوم نيوز" في 24 آب الماضي، يكشف جون بيلغر الجرائم التي تمت تغطيتها بدعايات المساعدة والدعم لمكافحة الفقر ؛ يقول في مقالته:
قبل اكثر من جيل مضى فازت أفغانستان بالحرية التي دمرتها الولايات المتحدة وبريطانيا و"حلفاؤهما". جرى تعطيل العملية التاريخية ، بينما ينهمر تسونامي دموع التماسيح من عيون السياسيييين في الغرب. في العام 1978 أطاحت حركة تحرر يقودها حزب الشعب الديمقراطي في أفغانستان بديكتاتورية محمد داوود ، ابن عم ملك أفغانستان ظاهر شاه. كانت بحق ثورة شعبية فاجأت البريطانيين والأميركيين. من كابول نشرت نيويرك تايمز أن الصحفيين الأجانب ذهلوا إذ وجدوا "كل أفغاني تقريبا سألوه اجاب (انهم كانوا) مبتهجين بالانقلاب." ونقلت وول ستريت جورنال أن "250 الف شخص شاركوا في مسيرة تحيي العلم الجديد...وبدا المشاركون بالمسيرة متحمسين". أما واشنطون بوست فكتبت أن " ولاء شعب أفغانستان للحكومة الجديدة يصعب الشك فيه. نظام إصلاحي علماني ، واشتراكي الى حد كبير ، أعلن برنامج إصلاحات تضمنت الحقوق المتساوية للنساء وللأقليات.تم إطلاق السجناء من سجن بولكال وتم إحراق سجلات الشرطة أمام الجمهور".
في ظل الحكم الملكي كان معدل الأعمار35 سنة ، ويموت واحد من كل ثلاثة أطفال ، وتسعون بالمائة من الشعب أميون.ادخلت الحكومة الجديدة نظام الرعاية الطبية المجانية ، وشرعت حملة جماهيرية لمحو الأمية.
وبالنسبة للنساء تحققت مكاسب لم يسبق لها مثيل؛ وبحلول العام 1980بات نصف طلبة الجامعة من الإناث ، وشكلت النساء 40 بالمائة من الأطباء في البلاد، و70 بالمائة من معلمي المدارس.
بدعم من الغرب
كانت التغيرات جذرية بحيث استقرت في ذاكرة كل من تذوق ثمراتها . تستذكر ساره نوراني، الطبيبة التي هربت من البلاد عام 2001 : بمقدور كل بنت الذهاب الى المدرسة والجامعة .كان بمقدورنا الذهاب اينما رغبنا ...اعتدنا المرور على المقاهي والسينما لمشاهدة أحدث الأفلام الهندية كل يوم جمعة ...كل شيئ بدأ يسير في الدرب الخطأ عندما شرع المجاهدون يكسبون المواقع ... فهؤلاء تلقوا الدعم من دول الغرب."
بالنسبة للولايات المتحدة كانت المشكلة مع حزب الشعب الديمقراطي تلقيه الدعم من الاتحاد السوفييتي؛ ومع ذلك فالنظام "العميل" لم يقابل بالازدراء في الغرب، ولا الانقلاب على النظام الملكي بدا مستنكرا نظرا لأنه "مدعوم من الاتحاد السوفييتي"، مثلما زعمت الصحافة في الولايات المتحدة وبريطانيا في ذلك الحين.
وفي وقت لاحق كتب سايروس فانس ، وزير خارجية الرئيس كارتر " لم نعثر على بينة تشير الى توطؤ سوفييتي بالانقلاب". كان في نفس إدارة كارتر زبيغنيو بريجنسكي ، مستشار الأمن القومي مهاجر من بولندا ومتعصب ضد الشيوعية ومتطرف لم ينته تأثيره على الإدارات الأميركية المتعاقبة إلا بوفاته عام 2017.
في 3تموز 1979، وخفية عن الشعب الأميركي، فوض كارتر سرا وكالة المخابرات المركزية إنفاق 500 مليون دولار على "أعمال سرية "للإطاحة بأول حكومة علمانية تقدمية في أفغانستان .أطلق على العملية اسم "عملية سايكلون". قدم من المبلغ رشوات لزعماء القبائل وأنصار التزمت الديني والمذهبي، جرى تسليح أفراد القبائل والمتعصبين، ممن أطلق عليهم لقب "المجاهدين".نقلت واشنطون بوست عن بوب وودوارد ، الصحفي وثيق الصلة بالمخابرات المركزية ، في كتاب تاريخ شبه رسمي، قوله، "ان السي آي إيه أنفقت 70 مليون دولار رشوات فقط. ويصف لقاءً تم بين عميل سي آي إيه يدعى غاري وأحد لوردات الحرب يدعى امنيات ميلي: قدم غاري رزمة دولارات على الطاولة ؛ خمسمائة الف دولار كلها من قطع المائة دولار . اعتقد انها ستكون أشد إغراءً للتعاون من 200000 دولار ، وافضل وسيلة للقول نحن هنا ، ونحن جادون ، وها هي النقود، ونعلم انكم بحاجة اليها. وفي الحال طلب غاري من إدارة المخابرات المركزية المزيد وتسلم عشرة ملايين دولار دفعة واحدة."
جرى تدريب الجيش السري المجند من كل أنحاء العالم الإسلامي في معسكرات بباكستان تديرها المخابرات الباكستانية بالتعاون مع المخابرات المركزية الأميركية وإم 16 البريطانية. وجرى تجنيد آخرين في كلية إسلامية موجودة في بروكلاين بولاية نيويورك- على مرآى من البرجين المنهارين. احد المجندين كان المهندس السعودي أسامة بن لادن.
كان الهدف المرسوم نشر السلفية الإسلامية في أقطار آسيا الوسطى ونشر عدم الاستقرار داخل الاتحاد السوفييتي ثم تدميره.
"مصالح أضخم"
في آب / اغسطس 1979نقل عن السفارة الأميركية في كابول ان المصالح الأضخم ل "الولايات المتحدة... سوف تلقى العناية بالإطاحة بحكومة حزب الشعب الديمقراطي، على الرغم من النكسات التي ستحل في المستقبل على الإصلاحلات الاجتماعية والاقتصادية في البلاد" . إن قراءة ما بين ألأقواس لا ترى اوضح من النوايا الإجرامية المتضمنة .كانت الولايات المتحدة تقول أن جكومة تقدمية حقا في أفغانستان، وكذلك حقوق النساء الأفغانيات يمكن أن تغور في جهنم. بعد أشهر ستة أقدم السوفييت على الخطوة المميتة رداعلى خطر الجهاديين ممن جندتهم المخابرات المركزية؛في نهاية المطاف استطاع المجندون المسلحون بصواريخ ستينغر الأميركية وأسبغت عليهم مارغريت تاتشر لقب "المجاهدين" ان يطردوا الجيش السوفييتي خارج أفغانستان.
أخضع المجاهدون لهيمنة لوردات حرب أحكموا قبضتهم على تجارة الهيرويين ثم مارسوا الإرهاب ضد النساء الأفغانيات ، وفي تسعينات القرن الماضي برزت حركة طالبان فئة شديدة التطهر ارتدى الملالي اللباس الأٍسود واضطهدوا النساء واغتصبوهن واغتالوا البعض وأقصوهن عن الحياة العامة.
يواصل جون بيلغر سرديته : في ثمانينات القرن الماضي أقمت صلة مع الجمعية الثورية لنساء أفغانستان المعروفة باسم (راوا) ، أرادت تحذير العالم من معاناة تدبر للنساء الأفغانيات . وأثناء حكم طالبان كن يخفين تحت الشادور كاميرت لتصوير المآسي النازلة بالنساء، وعملن نفس الشيئ للكشف عن وحشية المجاهدين المدعومين من الغرب. وقالت لي مارينا من حركة راوا " نقلنا الفيديوهات المصورة الى جميع قنوات الميديا الرئيسة ؛ إلا انها لم ترغب في أن تعرف...". في إبريل 1998 نظمت الجمعية الثورية لنساء أفغانستان مظاهرة بمدينة بيشاور الباكستانية " نددت بالذكرى السادسة لاكتساح السلفيين مدينة كابول . في العام 1992 تمت الإطاحة بحكومة حزب الشعب الديمقراطي .توجه الرئيس محمد نجيب الله الى الأمم المتحدة لطلب المعونة ؛ ولدى عودته تم إعدامه شنقا .
اللعبة
كتب لورد كارازون عام 1898:" أعترف أن (البلدان) لوحة شطرنج عليها تجري لعبة كبرى من أجل الهيمنة في العالم". كان حاكم الهند آنذاك يشير بكلامه الى أفغانستان. بعد ذلك بقرن من الزمن أجرى توني بلير، رئيس حكومة بريطانيا، تغييرا طفيفا على عبارة لورد كارازون؛إذ قال بعد احداث 9/11 : " إنها لحظة نلتقطها. جرى نفض الكاليدسكوب، وتناثرت قطعه، وقريبا جدا سوف تنعيد إصلاحه من جديد ، وقبل ذلك دعونا نعيد ترتيب العالم المحيط". بصدد أفغانستان أضاف التالي: "سوف لن نغادر [إنما نضمن] طريقة ما للخروج من الفقر الذي يشكل وجودكم البائس". كان بلير يردد صدى أقوال سيده ، الرئيس الأميركي بوش ،الذي وجه قنابله من المكتب البيضاوي :"الشعوب المضطهدة في أفغانستان سوف تعرف بالكرم الأميركي . ونحن نقذف بالصواريخ الأهداف العسكرية سوف نسقط كذلك الأطعمة والدواء والمواد الضرورية للجياع والمعذبين....".كل كلمة نطق بها الاثنان كانت كذبا؛ إعلاناتهم عن الاهتمام نزلت أوهاما فظة من توحش امبريالي نادرا ما نقّر به نحن في الغرب.
اوريفا
في العام2001 تلقت أفغانستان ضربات واعتمدت على شاحنات إغاثة طارئة قدمت من باكستان. ذكر الصحفي جوناثان ستيل ،" ان الغزو تسبب بصورة غير مباشرة في هلاك عشرين ألف إنسان حين توقفت المعونات بسبب الجفاف وهرب الناس من بيوتهم". انقضت ثمانية عشر شهرا وعثرْتُ على قنبلة انشطارية أميركية غير منفجرة بين انقاض كابول، وغالبا ما أخطأ الأفغان وظنوها رزم الإغاثة الصفراء المسقطة من الطائرات؛ انفجرت بالأطفال الجائعين ومزقت أجسادهم.
في قرية (بيبي مارو) راقبْتُ أمرأة تدعى أوريفا تركع عند قبر زوجها ، غول أحمد، نساج سجاجيد وسبعة آخرين من أسٍرتها بينهم ستة اطفال وطفلان قتلا في بيت الجيران. طائرة إف -16 أميركية انبثقت من السماء الزرقاء وألقت قنبلة إم كي 82 زنتها 500 رطلا على بيت أوريفا المبني بالقش والطين . في تلك الأثناء كانت خارج البيت ، عادت وراحت تجمع نتف جثث الأطفال. انقضت بضعة أشهر جاءت مجموعة أميركيين من كابول وقدموا لها ما مجموعه 15، "دولاران مقابل كل فرد قتلته من أسرتي"، كما ذكرت.
كان غزو أفغانستان فضيحة؛ ففي أعقاب تفجير 11/9 سعى طالبان للابتعاد عن أسامة بن لادن؛ وفي اعتبارات عدة كان قادة طالبان عملاء أميركا؛ عقدت إدارة بيل كللينتون معهم سلسلة من الصفقات السرية تسمح بمد أنبوب غاز بكلفة 3 بلايين دولار خاص بكونسورتيوم شركات نفط أميركية. تمت دعوة قادة طالبان بسرية عالية الى الولايات المتحدة ، حيث استقبلهم مدير شركة يونوكال في فيلته بولاية تيكساس ، كما جرى لهم استقبال في إدارة المخابرات المركزية.في فرجينيا. ديك تشيني، الذي اختاره فيما بعد بوش الابن نائبا له ، كان احد منظمي الصفقات معهم.
في العام 2010 كنت في واشنطون وتمكنت من إجراء مقابلة مع زبيغنيو بريجينسكي ، الرأس المدبر لمصائب أفغانستان الاخيرة، ذكرت من مذكراته المنشورة فقرة اعترف فيها ان هدفه الأعظم من جر السوفييت داخل أفغانستان تشكيل " قلة من المسلمين المشحونين بالكراهية للسوفييت ". سألته: ألا تشعر بشيء من الأسف؟ وكان جوابه "أسف ، أسف، إيش الأسف؟".
عندما نرى المشاهد الراهنة في مطار كابول ونستمع الى الصحفيين والجنرالات في استوديوهات التلفزة النائية يندبون " حمايتنا " ، ألم يحن الوقت لإشهار حقيقة ما جرى كي لا تتكرر المآسي الماضية من جديد؟