حول مقولة -التقدم الإنساني- : مساهمة أوّليّة في البحث الفلسفي


محمد عبد الشفيع عيسى
2021 / 8 / 31 - 01:43     

عالجنا في مقالنا السابق ما اعتبرناه تحفظا على فكرة التقدم التاريخي السائر بصورة خطية إلى الأمام. واليوم نواصل. فما نظّن أن إنسان عصر الاستنارة العقلية أصبح هو أكثر رغبة وقدرة على العمل الجماعي المشترك، بروح الغيرية والإيثار، مع أخيه الإنسان، بل ربما يكون قد وقع العكس، و لو أحياناً ، وأحياناً كثيرة . وما نظّن أن الإمبراطوريات الحديثة والمعاصرة والراهنة، وآخرها الإمبراطورية الأمريكية (الإمبريالية الكبرى)، المتحالفة مع إمبرياليات صغرى على المستوى الإقليمي- و خاصة الحركة الصهيونية– ما نظّن بأن هذه و تلك أقل عدوانية، بل ربما أكثر، من امبراطوريات قديمة ووسيطة فى منطقة البحر المتوسط مثلا (امبراطورية روما القديمة ثم الرومانية الوسيطة والبيزنطية) أو في منطقة الشرق الأقصى (من الصين واليابان).. و إن كانت الإمبراطوريات المعاصرة وفى مقدمتها الأمريكية، (أكثر أناقة) مما قبلها. و لا نظّن أن ممارسات التتار فى بعض بداياتهم، أشدّ هولاً بالضرورة من ممارسات حديثين و معاصرين.. أو أن حروب الإبادة التي اصطلت بها بعض بلدان قارتنا "إفريقيا السمراء – الخضراء" في الثمانينات والتسعينات من القرن المنصرم، أقل هولاً مما وقع من ممارسات الصراع القبلي الدموي، أو بين مجتمعات متنوعة فى الشرق والغرب خلال العصر الوسيط .
كما لا نرى أن ما جرى من خنق لحرية المعتقد فى جنوب أوروبا خلال نهايات العصر الوسيط ، على أيدى أنصار الحكم الكنسي المغلق، يصلح حجّة من أجل (شطب) "عالم الروح" لصالح عالم العقل المستريب .
لم يحدث تقدم جوهري ملحوظ إذن في العلاقات الدولية، و في سياق النظم الاجتماعية المتعاقبة تاريخياً، و برغم تغير للأفضل في أحيان كثيرة بدون ريب، إنما كانت أشرِبَةً جديدة تُعبّأ دائماً أو غالباً، في قوارير جديدة أو متجددة .
ليس هذا فقط ، بل لعل ما حاول علماء الغرب أن يقنعونا به من حدوث "تطور" في سياق "التقدم" على مسار العلم الاجتماعى ، هو بدوره محل شك كبير. فمن قال أن الفكر الفلسفى الحديث أكثر تطوراً جوهريا– فى الجانب القيمي – من الفكر الفلسفي القديم، و إن كانت أكثر تعقيدا و أشدّ تقعيدا و أصلب عودا. و إنه عدا عن "التعقيد" (المتقدم) المصاحب للفلسفة الحديثة ، فإنها ليست بالضرورة أكثر "إنسانية" من فلسفات وأفكار وبعض عقائد الشرق القديم – سواء منه الشرق الأدنى من مصر والعراق وغيرهما( أنظر إلى "إخناتون" و "كتاب الموتى" فى مصر ، "وشريعة حامورابي" في العراق)، أم الشرق الأقصى عند الصينيين وغيرهم. وليس جان بول سارتر أكثر تطوراً (إنسانيا) من (أرسطو و أفلاطون) إلا أن يكون أكثر تعقيداً. و ليس توماس الأكويني بأفضل (من ناحية التركيب الفكري) من ابن رشد. و قد لا يطاوله قيمة وقامة. وليس بعض فلسفات الغرب مطالع العصر الحديث وما بعدها، بأكثر إنسانية بالضرورة من بعض فلسفات الإسلام في عوالمه الهندية والفارسية والعربية والإفريقية .. وإن كان جزء منها أشدّ اتّباعاً للقواعد المنهجية الصارمة من بعض ما لدى عوالم الإسلام.
وليس صحيحاً ما أشاعه مفكرو وفلاسفة الغرب حول إعادة بناء صورة الثقافة الغربية المعاصرة على هيئة بناء هرمي يبدأ من فلسفة الإغريق ويتوسطه الفكر القانوني الرومانى ثم ينتهى إلى عصر النهضة بدء من المدن الإيطالية في مطلع العصر الحديث؛ و هكذا دون المرور بمرحلة (الفكر الإسلامي الوسيط)..!
ولقد نجد أن الكتب التدريسية التى دأبت على تقديم "تطور الفكر السياسى" (جورج سباين مثلاً ) وتطور الفكر الاقتصادي (من التجاريين أصحاب الفكر "المركنتيلي" إلى الطبيعيين "الفيزيوكرات" ثم التقليديين "الكلاسيك" و المحدَثين منهم "النيوكلاسيك" ..إلخ )، و كذا تطور علم الاجتماع، وتطور "الفكر الفلسفى" ، كلها قد ارتكبت ما قد يعتبر بمثابة (جناية عظيمة)-إن صحت العبارة- على المعرفة الحقة والعلم القويم، حين اعتبرت أن ما جرى يمثل تطورا بالمدلول الحقيقي على نهج التقدم الحقّ المفترَض- ما عدا قفزة (الفكر الاشتراكى) بمدارسه المختلفة خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين حتى الستينيات. فلم يحدث بالضرورة "تطور" development كعلامة على حدوث تقدم progress على هيئة بناء هيكلي عامودي مفترَض، بعضه فوق بعض، كما قد توحي العبارة، وإنما حدث ما هو أقرب نسبيا إلى تجاور صفوف أفقية عبر تاريخ الفكر البشرىّ الطويل. فليست (يوتوبيا) توماس مور مثلاً أفضل بالضرورة من (المدينة الفاضلة) للفارابى و (جمهورية) أفلاطون . وليس فلاسفة (العقد الاجتماعى) الأوروبى الحديث "هوبز" و "جون لوك" و "روسو" أفضل بالضرورة – من الناحية الفكرية – من ابن حزم وابن طفيل عندنا. و ليس دوركايم مثلا فى علم الاجتماع بأفضل من (ابن خلدون)، مع التسليم باختلاف السياق.
و لا يمكن إنكار فضل التطور الفلسفي القائم على العقل من سلسلة ديكارت و اسبينوزا و كانط و هيجل وصولاً إلى سارتر ثم هابرماس، ولكن يجب وضع الرجال من فلاسفة و متكلمي الشرق و الإسلام في مقاماتهم المحفوظة ( من سلسلة الفلاسفة الكِنديّ والفارابي وابن سينا والمتكلمين خاصة المعتزلة "أهل العدل والتوحيد"). ودع عنك إسهامات العلوم العربية الوسيطة و الرياضيات من الجبر والحساب (أنظر أعمال د. رشدي راشد) وذلك من أجل وضع الإسهام الحضاري العربي-الإسلامي الأصيل في موضعه التاريخي الصحيح و ليس كمجرد قنطرة ناقلة أو مرحلة انتقالية عابرة بين الإغريق و أوربا الحديثة، كما صور المتغرّبون و بعض المستشرقين وعموم مفكري الغرب المحدثين.
الخلاصة أنه ينبغي أن نعيد بناء تصور العلم العالمي لتعيد وضع الأمور فى نصابها ، مع إعادة الاعتبار للفكر الإسلامي الوسيط، ومع الحرص على البناء المتوازن لعالم العقل وعالم الروح .
فماذا بعد ..؟ هل نقول إن "فكرة التقدم" بذاتها فكرة زائفة، بلا معنى حقيقي أو بلا صِدْقيّة..؟ لا ليس هذا ما نقصد إليه. إنما التقدم غاية ينبغي أن ندركها ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً ، وبكل الطرق المتاحة ، وربما غير المتاحة حالاً، وإن كانت كذلك مآلاً .
إنما التقدم يجب أن يكون مفهوما فى إطاره الحقيقى كتقدم فى الإطار المرجعىّ من القيم الناظمة للسلوك الإنساني، أفراداً وجماعات . بهذا المعنى، لم يحدث تقدم جوهري ملحوظ منذ عبرنا (ما قبل التاريخ) إلى (التاريخ)، و إن كان حدث تقدم فهو فى (الدرجة) وليس فى (النوع)، فى الكمّ وليس فى النوع إلى حدّ بعيد.
قد وقع تقدم "مادى" في مجال التحكم النسبي في الطبيعة، من حيث "تطور" أدوات الإنتاج والسيطرة وممارسة العنف (آلات وأجهزة معملية وأسلحة ذكية) ولكنه ليس تقدماً "إنسانياً" –قيميا محققا لنقلة نوعية فارقة عن (عالم الحيوان)- أي بالمعنى الشامل والعميق بحق .
ويبدو لنا أنه ربما من المحق أن نقوم بمجازفة فكرية فى حقل "فلسفة التاريخ" بما قد ندعوه "فلسفة المعرفة" بمعنى أوسع من "فلسفة العلم" ، نذكر بمقتضاها أنه ما لم تتغير تركيبة "الطبيعة البشرية" الراهنة ، فلن يحدث تقدم بالمعنى الذي حاولنا تلمّسه لماما. تلك هى الطبيعة القائمة منذ بدء (التاريخ) ، بل وربما منذ ظهور الإنسان العاقل ، قبل خمسين ألف سنة تقريباً، وفق بعض التقديرت المتاحة، دون أن يعنى ذلك، التسليم بصحة أو بخطأ نظرية (داروين) فى كتابه "أصل الأنواع" عن (التطور) أو (النشوء والإرتقاء) .
ولطالما أنحى المفكرون (التقدميون) باللوم على الفريق الذى يقول بمبدأ "الطبيعة البشرية الثابتة" كمحدِّد للسلوك البشرى فى مقابل "الطبيعة المتغيرة" للأنظمة الاجتماعية، واعتبروا ذلك ضرباً من ضروب ما قد يسمّى "التفكير "الميتافيزيقي" أو "اللاعلمي" .
و لكنّا نجازف اليوم لنقول بالطبيعة البشرية، ولكن القابلة للتغير، فى الأمد الزمنىّ غير المنظور؛ ولكن متى وكيف ؟ هذا ما لا نعلمه يقينا في اللحظة. و ربما يعلم من يأتون من بعدنا ، حين، و حيث، يكون من وراء كل ذي علم عليم ..!