لغز - أولاد حارتنا -


رضي السماك
2021 / 8 / 30 - 22:25     

تمر اليوم الذكرى الخامسة عشرة لرحيل الأديب المصري الكبير نجيب محفوظ عميد الرواية العربية الفائز بجائزة نوبل للآداب 1988، ورغم مضي 15 عاماً على وفاته فإن طيفه مابرح حاضراً بقوة في حياتنا الثقافية العربية، سواء بأعماله الروائية العظيمة أو بكتاباته العقلانية الرصينة والتي ما فتئت تفجر أسئلة كبيرة على شتى الأصعدة الثقافية والاجتماعية والسياسية، فلا غرو إذا ما أستمر توالي إصدارات تلك الأعمال بطبعات جديدة، وإذا ما أستمر أيضاً توالي الكتابات والكتب عن أعماله. ولعل رواية" أولاد حارتنا " التي نُشرت على حلقات في الأهرام عام 1959 هي أكثر أعماله إثارة للضجيج الأحتجاجي الذي وصل إلى حد تكفير صاحبها وقت نشرها، ومع أن الضجة خفتت أو هدأت طوال الستينيات والسبعينيات، لكنها في أعقاب أغتيال الرئيس أنور السادات 1981 على أيدي متشددين دينيين في الجيش، عادت الضجة لتبُعثت من جديد من رقادها، وبخاصة بعد فوز الكاتب بجائزة نوبل 1988 وتزامن ذلك بعد تصاعد موجة التطرف الديني في مصر والعالم العربي، فتناولته خطب معممين في المساجد وعدد من الصحف الدينية بالسهام السامة التي تكفره، وأدعت زوراً إنما نال نوبل كمكافأة له على رواية " أولاد حارتنا" ، ولعل أشهر تلك الخطب للشيخ عمر عبد الرحمن والشيخ جلال كشك ، وكذلك الهجمات التكفيرية التي تعرض لها كاتبنا على صفحات النور السلفية المتشددة، وحتى الشيخ محمد الغزالي أنتقد الرواية بشدة وكفّرها وإن أبدى معارضته لقتل صاحبها . وفي مثل ذلك المناخ التحريضي الموبوء كاد محفوظ أن يفقد حياته في عام 1994 في الذكرى السادسة لنيله "نوبل" وذلك إثر محاولة شاب متطرف أغتياله بتوجيه طعنة إلى رقبته أمام منزله، ورغم تشافيه فإن الطعنة أثرت في حركة يده اليمنى وشلت قدرته على الكتابة. ومع أن كاتبنا تُوفي عام 2006 عن عمر 94 عاماً فلربما عاش أطول لو لم يتعرض لذلك الحادث الأجرامي الغادر وهو في أرذل العمر في الثمانينيات من عمره، وحينما مثُل المجرم أمام القاضي أعترف بأنه لم يقرأ الرواية التي كفّرها وكاتبها بل سمع من زميل له ما يُكفّرها ويكفّر صاحبها !
والحال حتى الأوساط الازهرية التي قيل أنها أبدت أستياءها عام 1959 من الرواية وقت نشر عدد من حلقاتها في صحيفة الأهرام فإنها لم تنتظر أبداء رأيها ريثما تُستكمل بقية الحلقات،هذا أذا قرأت تلك الأوساط أصلا أو بعضها ما نُشر من حلقات ولم يتأثروا بما يتناقل عنها، وكانت الصفحة الأدبية لصحيفة الجمهورية نشرت حينها مقالاً لأحد الأقلام وصف فيه الحلقات التي تم نشرها في الأهرام تنطوي على تعريض بالأنبياء وكان هذا المقال بمثابة من أيقظ فتنة كانت نائمة، وثمة مقال آخر لأحد القراء في مجلة المصور نبّه عليه الكاتب المتميذ محمد شعير . وأخذت ضجة الاحتجاجات تتوسع، وبالرغم من ترحيب محفوظ بأقتراح الممثل الشخصي للرئيس عبد الناصر الدكتور حسن صبري الخولي بترتيب جلسة حوار بينه وبين مشايخ الأزهر المعترضين في مكتبه حول الرواية إلا أنهم تغيبوا عن الموعد المحدد، بل لم يتم ذلك اللقاء المقترح طوال حياة محفوظ. وكان بعضهم أخذ بالتفسير الرائج لفك رموز شخوص الرواية، فالجبلاوي هو الله، وأدهم هو آدم، وادريس هو إبليس، وجبل هو موسى، ورفاعة هو المسيح عيسى، وقاسم هو النبي محمد، لكن موقف الأزهر لم يكن حاسماً قاطعاً بل ظل شفوياً ولم يصدر موقفا رسمياً مكتوبا إلا في عام 1968 إثر مطالبة بعض الصحفيين بالسماح بتوزيع "أولاد حارتنا" وظل هذا الموقف هو الآخر أشبه باللغز على حد تعبير الناقد الراحل رجاء النقاش الذي وصف "أولاد حارتنا" بأنها أخطر رواية عربية، وحينما علِم رئيس تحريرها محمد حسنين هيكل بوصول أستياء الأزهر إلى رئاسة الجمهورية، وخاطبه الرئيس جمال عبد الناصر عنها أقترح الأول على الثاني تشكيل لجنة من الأزهر لفحصها، وكان غرضه من هذا الاقتراح الذي وافق عليه عبد الناصر أستغلال الوقت الذي سيضيع في بيروقراطية تشكيلها للتعجيل بنشر بقية حلقاتها بشكل يومي بعد ما كانت إسبوعية، وكان لبصيرته الأستباقية هذه دور في أستكمالها ولولاه لربما ظلت لم تر النور للأبد. ولم يتم طبع الرواية في مصر خوفاً من مصادرتها بل صدرت في بيروت عن دار الآداب، ولذلك ظلت لسنوات طويلة أكثر انتشاراً في البلدان العربية من مصر التي لم تطبع فيهاإلا بعد رحيل كاتبها في إصدار غير قانوني لأحد أصحاب أكشاك مكتبات سور الأزبكية، كما خصصت جريدة الأهالي اليسارية أحد أعدادها بعد أيام من محاولة أغتيال محفوظ لنشر الرواية كاملة نفذ بالكامل في يوم صدوره . وكان محفوظ يرفض بشدة نشرها في مصر مخافة أن يتعرض أفراد أسرته للأذى بسببها، وحتى دار الشروق صاحبة حقوق نشرها في مصر لم تتمكن من إصدارها إلا أواخر عام 2006 بعد رحيل الروائي الكبير ببضعة أشهر حتى وصل عدد طبعاتها في العام الماضي2020 إلى عشرين طبعة .
وفي رأينا أن تفسير عدد من شخوص الرواية بالأنبياء ، ومن ضمنهم النبي محمد، وكذلك ترميز الله بشخصية الجبلاوي هو التفسير الأقرب للحقيقة، وقد أعترف الكاتب بذلك لكن بصورة اخرى إذ قال أن شخصية الجبلاوي تمثل الدين لكنه لم يسىء لهذه الشخصيات بل قدمها في أدوار الخير وأن شخصية عرفة تمثل العلم فلا يمكن التمسك بالدين وحده ( الجبلاوي ) دون العلم ( عرفة ) كأداة لتقدم المجتمعات، ولا يمكن التمسك بالعلم وحده دون الدين، هذا ما خلصت له الرواية من معان، لكن الأحكام المبنية على قراءة الرواية قراءة مجردة من شروطها وقالبها الفني وكأنها تقريراً تاريخياً كما تتصف به عادة قراءة رجال الدين لشتى أجناس الأدب والفنون من شأنها أن تكون أحكاماً تعسفية غير منصفة لهذا النوع من الأعمال الأدبية.