من مدرسة الحطب إلى السوربون


محمد علي مقلد
2021 / 8 / 30 - 02:49     

بدأت حياتي الدراسية في مدرسة القرية. أربعة صفوف في غرفتين تابعتين للكنيسة ( الأنطش)، التدفئة على الحطب وعلى كل طالب أن يحمل معه في صباحات الشتاء الباردة قطعة حطب. أستاذان، وفي بعض السنوات، استاذ واحد. أذكر أنني كنت في الابتدائي الثاني، وكان أستاذ من آل عواد يعطي حصة في الغرفة التي أنا فيها، فكلفني أن أنتقل إلى الغرفة الثانية لأتلو نص الإملاء على طلابها من الصفين الثالث والرابع.
عام 1958 ،كنت في الابتدائي الرابع، الصف الأخير الذي تتسع له مدرسة القرية. كنا ندور على بيوت القرية ونرتل نشيداً جماعياً بمناسبة عيد الفصح، فنقف أمام باب البيت، مجموعتين متقابلتين، تحملان ورقة طويلة ملفوفة بعناية، كل مجموعة تقرأ من ناحيتها النص ذاته المكتوب في الاتجاهين. ينتهي ما يشبه النشيد، يعاد لف الورقة الطويلة بعناية، وننتظر الهدية، بيضة أو أكثر نضعها في سلة ونقدم الغلة عيدية لأستاذ المدرسة قبل عطلة الربيع المدرسية.
ذات عام كانت سلة البيض من نصيب أستاذ مسلم من جون اسمه سامي عيسى، وفي عام آخر من نصيب الياس عواد الأستاذ المسيحي من قرية روم. كانت مجرد صدفة أن يكون كل منهما من قرية تشبه قريتي بتنوعها الديني. مسلمون شيعة ومسيحيون. في تلك الفترة كانت في قريتي كنيسة واحدة للموارنة والكاتوليك وجامع واحد. بعد الحرب الأهلية شيد الموارنة كنيسة خاصة بهم وشيد أحد المتمولين العرب جامعاً ثانياً، فضلاً عن تشييد قاعتين حسينيتين، تولت لجنة حقوق المرأة اللبنانية جمع التبرعات لبناء إحداهما الخاصة بالنساء، أما قاعة الرجال فقد تولى بناءها الحاج أحمد فرحات على نفقته.
في طفولتي الأولى حملتني إحدى صديقات والدتي من السيدات المسيحيات وأشركتني بطقوس الزياح في الكنيسة، كمساعدة على علاجي من التهاب اللوزتين الدائم. وافقت والدتي على ذلك لا لرغبتها بتأمين العلاج فحسب، بل لأن فهمها للمعتقدات الدينية، وهي التي كانت تمارس كل طقوس العبادة وتحيي مجالس العزاء في منزلها لأنها كانت الوحيدة من بين أترابها التي كانت تتقن الكتابة والقراءة، جعلها تميز بين الإيمان والطقوس. ذات يوم جاءتها سيدة مع سكين لتعقد لسان الوأش، أي الوحش، فأخذت تتمتم وتنفخ على السكين وتغلق نصابها قليلاً وراء كل تمتمة، وحين انتهت أعادت السكين إلى صاحبتها وطلبت منها ألا تفتحها إلا في الصباح. سألتها عما حصل، فقالت إن عنزة صديقتها تخلفت عن القطيع ويخشى من أن يفترسها الوأش، وهو الذئب في تلك الأيام، فقرأت على سكينها آيات من القرآن. قلت لها لكن السيدة مسيحية لا مسلمة، قالت لي يا بنيّ، لن تنجو العنزة، إن نجت، بفعل الآيات، الإيمان هو الأهم.
في أحد الأيام، قادنا أحد الكسالى إلى إضراب لم أعد أذكر ذريعته ونلت في اليوم التالي عقاباً خفيفاً، بضع ضربات على باطن الكف (أو على قفا الكف بحسب قسوة العقاب) من قضيب رمان كنا نحن الذين نأتي به إلى أستاذنا. في العام التالي صرت تلميذاً في مدرسة عربصاليم بأستاذيها مصطفى مغنية وعبد الهادي نور الدين. استاذان بقيت حريصاً على التعامل معهما كأستاذين لي وعلى زيارتهما، حتى بعد أن صرت زميلاً لهما في التدريس غداة تخرجي من دار المعلمين، وبعد أن غادرت التعليم الابتدائي إلى الثانوي ثم الجامعي .
كان على من يريد متابعة الدراسة في المرحلة المتوسطة أن ينتقل إلى النبطية ، إلى مدرسة سميح شاهين التكميلية. هذا ما فعله أخي عاطف وخالي شبيب والعديد من أترابهم في إقليم التفاح. نجحت في امتحانات السرتفيكا، في السنة التي تم فيها تعيين شقيقي عاطف مدرّساً في مدرسة جباع الرسمية، التي كانت قد افتتحت المرحلة التكميلية من الدراسة فيها، فطال المشوار اليومي. المسافة من جرجوع إلى جباع ضعف المسافة من جرجوع إلى عربصاليم. عاماً بعد عام، صارت تقصر المسافات، لا بين القرى فحسب بل بين القارات. من جرجوع إلى عربصاليم، المرحلة الابتدائية، إلى جباع المرحلة التكميلية، ومنها إلى دار المعلمين والجامعة اللبنانية في بيروت، ونهاية مطاف الدراسة كانت في باريس. التعديل لم يلحق بالمسافات فحسب، بل طال الأحجام أيضا. كنا نحمل أثقالا من الكتب والقرطاسية على ظهورنا، صرنا نحشر كتبا داخل قطعة إلكترونية بحجم الإصبع ونطير بها، أو نرسلها عبر الأثير إلى أي مكان في العالم.
ساعدني وجود شقيقي عاطف في مدرسة جباع على إنهاء المرحلة التكميلية بثلاث سنوات بدل أربع، إذ أجاز لي مديرها طانيوس أبو سمرا من بتدين اللقش، وكان أستاذنا في اللغة الفرنسية في صف البروفيه، أن أقفز الصف المتوسط الثالث بعد خضوعي لامتحان في نهاية العطلة الصيفية. وقد بذلت ما يثبت لهما بأنني كنت أهلا لتلك المساعدة. وحين ذهبت إلى امتحانات البروفيه دعت لي والدتي بالتوفيق قائلة بالنجاح انشاء الله فأجبتها، سأنجح شاء أم لم يشأ. استغفرت ربها عنها وعني، وكنت من الناجحين.
في جباع مرت علينا نعمة الكهرباء، بفضل وجود شخص طليعي على رأس بلديتها في ذلك الحين هو الشيخ الأديب علي مروه الذي صنف قريته من بين قرى الاصطياف، وفي جباع ترسخت مع زملاء لي في الدراسة صداقة دامت عقوداً، وظلت تنبض بالحب والوفاء رغم تباعد المسافات بيننا. بعد أن توزعنا مدرسين في قرى شتى، عدنا لنلتقي مرة أخرى في رحاب الحزب الشيوعي، بعد اكثر من عشرة أعوام، ثم في نكبة إقليم التفاح غداة الحرب الشيعية الشيعية، بعد خمسة عشر عاماً أخرى، ثم في الحفلات التكريمية للمتقاعدين بعد خمسة عشر عاما ثالثة.
خمسة وأربعون عاماً مع مصطفى حرشي وعلي عطوي كأنها لحظة. هما اختارا دار المعلمين في صيدا وأنا يممت شطر العاصمة بيروت، لأسكن في السنة الأولى في بيت صغير يكاد لا يتسع لساكنيه، لكنه مثل كل بيوت الفلاحين، حتى لو كان في بيروت، يتسع لألف صديق، فكيف إذا كان هذا الصديق شقيق صهرهم عاطف. لم يكن بيت رضا الشامي بيت عم أخي فحسب، بل كانوا بمثابة أهل جدد، وبقيت أشعر أن البيتين بيت واحد، وأن لي في بيتي الآخر إخوة لي لم تلدهم أمي، منى زوجة أخي، وشقيقتها هدى وأشقاؤها علي وطلال ووليد.
تقدمت لامتحانات الدخول إلى دار المعلمين والمعلمات، وكنت بين الخمسة عشر الأوائل، مع أني لم أكن قد تجاوزت الرابعة عشرة إلا قليلاً. تحسباً لأمر تخرجي وأنا دون الثامنة عشرة، زدت على هويتي عاماً بقرار من القاضي، لم يكن كافيا لتعييني مع من تخرجت معهم. انتظرت "اكتمال العدة" أربعة أشهر، لألتحق في 26 كانون الثاني 1966، بمدرسة عربصاليم. فقمت بتدريس العلوم واللغة الفرنسية والرياضيات في المتوسطين الثالث والرابع .
أوقعتني حداثة سني في ارتباك ليس مرده تحميلي عبئاً فوق طاقتي. على العكس من ذلك، فقد كنت متمكناً من المواد التي أقوم بتدريسها، غير أن بعض تلامذتي في العامين الأولين من وظيفتي كانوا من أترابي، بل إن بعضهم كان يكبرني بشهور. لقد جعلتني حداثة سني رفيقاً لتلاميذي بعد الدوام المدرسي، ما صعّب علي احتمال الصداقة، بالسوية ذاتها وفي الفترة ذاتها، مع زملائي في التعليم. وأعترف أن هذه اللعنة- النعمة رافقتني منذ أن دخلت إلى دار المعلمين زميلاً لطلاب يكبرني معظمهم بثلاث سنوات. احتجت لثلاثة في التدريس لكي أردم هذا الفارق الزمني.
لم تطل إقامتي في القرية. خمس سنوات انتهت في العام 1971. انتقلت بعدها إلى التعليم في ثانوية صيدا للبنات، ولأول مرة قمت بتعليم مادة اختصاصي في اللغة العربية وآدابها. شعرت بوطأة المسؤولية في التعليم الثانوي، وبدأت أدرك أن تعليم الأدب أصعب بكثير من تعليم الرياضيات.
عام 1971 بدأ حزينا بوفاة والدي في شهر شباط، وانتهى بنجاحي في امتحانات الإجازة التعليمية في حزيران، ثم بنجاحي في امتحانات التصنيف في التعليم الثانوي، وبنجاح دنيا التي صارت خطيبتي في البروفيه، فبات علي أن اقضي السنوات الثلاث التالية مقيماً في جرجوع، أنطلق في السابعة صباحاً، خمسة أيام في الأسبوع، في رحلة الذهاب إلى صيدا، ومعي خطيبتي أتركها في ثانوية حسن كامل الصباح في النبطية، ثم أعود في الثانية ظهراً في أول سيارة اشتريتها بالتقسيط، فكنت أدفع نصف دخلي الشهري بدل قسطها وربعه بدل تصليحها وثمن محروقات.
لم أكن قد تدرجت بعد على منبر الخطابة، ولذلك لم يتيسر لي أن أكتب في رثاء والدي. بعد أكثر من ربع قرن توفي صديقه ووالد رفيقيّ يوسف ومحمد فتلوت في تأبينه على منبر النادي الحسيني نصاً يمكن اعتباره استكمالاً للسيرة الذاتيه، تبرز فيه أهمية علاقات الصداقة والقرابة في نمو الحزب الشيوعي وانتشاره، قبيل الحرب الأهلية وخلالها، في صورة خاصة بين العائلات التي ترتبط بصداقة أو بعلاقات قربى.
في تكريم أبو علي محمود يوسف فرحات

قبل ثلاثين عاما، حين أصيب والدي بسرطان الحنجرة، ونصحه الأطباء بعدم التدخين، امتثل أمام عائلته للنصيحة، لكنه كان يأتي سراً إلى رفيق عمره، أبي علي، ليخرق النصائح ورقابة العائلة.
أبو علي وحده كان موضع ثقة والدي، رحمهما الله، في اختيار السجائر وفرم التبغ العربي. كانا، حين ينتحي واحدهما زاوية ويجلس القرفصاء، أو على ركبة واحدة، وفي يده سكين "ماضية" وقطعة خشبية ومنديل أبيض، يستغرقان السهرة أو جزءاً كبيراً منها في تأمين مؤونة اليوم التالي للتدخين، أو ما يكفي لهما وللضيوف، للف خمسين أو سبعين أو مئة سيكارة من لفائف التبغ الأشقر كشعر الصبية.
لست أدري ما إذا كان أبو علي قد حظي بصديق يوفر له السجائر، بعد أن حظر الطبيب عليه التدخين، غداة فاجأه المرض في الرئتين.
لمثل هذا النوع من المساعدة فلسفة عند أبي علي وأبناء جيله. كان على حبه لوالدي يتواطأ معه على خرق المحظور، وفاء منهما لعشرة العمر، والعشرة ليست بين البشر فحسب، بل هي بين البشر وعاداتهم أيضا، بين البشر وأشيائهم وأدواتهم وعدة شغلهم . إنه إذن صنف من الوفاء للعادات، حتى للسيء منها والمضر.
فضلا عن ذلك، هي صيغة من صيغ التضامن بين أبناء الحرفة الواحدة، ضد خصوم هذه الحرفة، تماما كما يتضامن النقابيون ضد أرباب العمل. بين مدخنين اثنين وسيكارتين وطبيب، الطبيب هو الغريب، وإلفة العمر مع عاداتنا، حتى لو كانت مؤذية، تجعل الطبيب بمثابة الخصم.لأنه لم يبق، في نظرهم، من العمر أكثر مما مضى.
ليس هذا آخر ما تبقى في ذاكرتنا من أبي علي. كنت قبل ذلك بعشرين عاما ونيف، أتأتئ إسمه على لساني ولا تطيعني طفولتي على تلفظ إسم محمود صحيحاً. ثم مضى بنا العمر وأبوعلي جزء من حياتنا اليومية حول الموقد في ليالي الشتاء الباردة. عائلتان كأننا عائلة واحدة، وصارت الإلفة وعشرة العمر مدرسة تعلمنا منها ما تعلمناه من أهلنا الفلاحين، من أهلنا فقراء القرى.
تعلمنا منهم، من أبي علي محمود، إباء وعزة نفس لا يملكهما من يملك ثروات الأرض، وتعلمنا منهم صبراً على الفقر وعلى مقاومة العوز وعلى مجابهة الظلم، وكان ذلك كله ذخيرة للجيل الذي قاوم الاحتلال ودحر الغزاة. وتعلمنا منهم الفروسية من غير أن يملكوا أفراساً ولا جاه الفرسان.
وتعلمنا منهم كيف نقابل متاعب الدهر بالرضى وبكنز القناعة الذي لا يفنى.
وتعلمنا منهم قرين الرضى والقناعة، تصميما على مواجهة المتاعب بطموح أصحاب الكفاف من الفلاحين، نمد أرجلنا بطول بساطنا، ونمط أحلامنا بعلو طموحنا. خرجنا من الأرض والفلاحة إلى الجامعات ثم عدنا إلى عاداتنا وتقاليدنا فوجدنا أن الجامعات والمدارس وفرت لنا فرصا أفضل للعمل وتأمين متطلبات الحياة، لكننا وجدنا أن مدرستهم توفر فرصاً أفضل لصوغ علاقات ودودة بين الناس تقوم على الصدق والصداقة
مملكتهم هي الأرض . حقل وبستان وبقرة حلوب وقن دجاج وحطب ودخان وتبغ عربي. ومملكة سواهم قصور وشركات مساهمة وأرصدة بنوك وخدم وحشم وحرس وطائرات. مع ذلك كانوا ، على رأي الشاعر، ملوك الأرض، لا لأن الفلاح المكتفي هو، على قول المثل، سلطان مخفي، لا لهذا فحسب، بل لإنه كان يكفيهم لحماية مملكتهم أن يسيجوها بالشجر الشائك صونا لها من لصوص النهار وثعالب الليل، أما مملكة سواهم فهي التي حماتها اللصوص وثعالب الليل والنهار.
أبو علي كان طبيب الشجرة الجراح. مبضعه لا يخطئ وسكينه مع البراعم مثل القلم في يد الشاعر أو الريشة في يد الرسام أو الإزميل في يد النحات. يعرف مواقيت الشجرة، وتبوح له بأسرارها وتأنس البراعم لدفء أنامله. مثل الطبيب أو المهندس وعدتهما في حقيبة، كانت عدته على خصره أو في جيبه، يلبي نداءات البساتين والفلاحين، ويقول لمولود الشجرة الجديد، كن فيكون: أنت في الربيع وذاك في أول الصيف. وفي كل عام ثمر وخصب. ومن خصبه وثمره أتى يوسف ومحمد برعمين صغيرين، وأصبحا شجراً وارفاً من دفء حبه ومن مدرسته ومن الجامعات والعمل الناجح.
هكذا كان أباؤنا الفلاحون. لم يكونوا فحسب أرضا ًوشجراً ومزروعات. أهلنا القيم، أهلنا الكرم والبيوت المفتوحة.أهلنا القلوب المفتوحة.
بيوت صغيرة كأنها مصممة لتسع القرى بكاملها، وقلوب كبيرة مصممة لتسع هموم الدنيا. أين من تلك البيوت والقلوب قلوب في حضارة اليوم قاسية كالحجارة وبيوت رخوة وشاسعة بعشرات الغرف، لا تجد فيها متسعاً لمظلوم ولا سريراً لمريض .
بيت أبي علي الصغير ظل صغيراً بحجارته وصار كبيراً بأهله ومن تخرج منه. كبيراً بحجم إلفته.
نعاهده ، ونحن نودعه، على أن نحمي هذه القيم، أن نصون أسلوبه الوادع في صنع محبته للآخرين ومحبة الآخرين له، في صنع إلفته مع الناس والأشياء، مع التقاليد والعادات الجميلة في قريتنا وكل القرى.
إنها تقاليد التنوع والتعدد، جسدها بنيان بيته صلة للوصل بين كنيسة وجامع، وجسدها أولاده صلة وصل بين المتنوعين في أفكارهم وعقائدهم ومبادئهم وأوطانهم، المتنوعين في طقوس الحزن كما في طقوس الفرح.
تلك هي قيمك يا أبا علي، تقاليد وعادات لا ترضى أن يتسلط عليها تعسف المطوّع ولا جهل الانكشاري، الغريبين على عاداتنا وقيمنا.
نودعك ونحن نقبض بملء قلوبنا على محبة تبادلتها مع من حولك بسخاء الفلاحين وكبرياء الملوك
مقطع من سيرة ذاتية