صاعقة في سماء صافية .


فريد العليبي
2021 / 8 / 29 - 13:23     

علاقة الحرب بالسياسة ، كما علاقة العنف بالسلم ، متداخلة ، متشابكة ، ومن لم يفهم ذلك من المحكومين و الحكام ، والدول والطبقات والامبراطوريات ، حتى الأفراد ، يضيع طريقه وتدركه الهزيمة قبل المنية.
هناك حرب في السياسة ، مثلما هناك سياسة في الحرب، وعلاقتهما ببعضهما البعض مثل علاقة الوجه بالقفا . وفي أية لحظة يمكن لهذه التحول الى تلك ، وتلك الى هذه ، كما الهدوء الى عواصف . ومن هنا وجوب التحلي بالحذر ، و ليس ذاك دليل جبن وهزيمة ، بقدر ما هو دليل حكمة .
.تعني الحرب وجود قوى متضادة ، متقابلة متصادمة ، كما وجود تحالفات ، جنود ، أسلحة ، خنادق ، ظاهر وباطن ، تضليل و اشاعات ومؤامرات ، معارك ، هجوم ودفاع ، تقدم وتراجع الخ ... وأكثر من ذلك كله ، قتل ودمار .
ولا تخلو السياسة من ذلك ، ولكن تحت أسماء أخرى، مثل صراع الأحزاب و النقابات والجمعيات وقت السلم ، حتى غدت البرلمانات في الديمقراطية المغشوشة ساحة وغى ، وبلغ التناقض ضمنها درجته العليا ، حد الانفجار ، ولكن تلك ليست هي الحرب وانما مقدمتها . وهو ما يحاول المتصارعون دوما ادراكه كغاية دون خسائر فأفضل الحروب هي تلك التي تكون صامتة. ولكن قتلى الصمت يمكن أن يفوقوا في عددهم قتلى الضوضاء .
في تونس اليوم فقدت الديمقراطية المغشوشة باعتبارها سياسة وجهها فقد كانت تلك الأحزاب بمثابة شركات و مقاولات تطلب الربح ، ووجدت في السياسة سوقا للمضاربة ، بينما غاب وجه الحزب بالمعنى التاريخي والفكري للكلمة فوصلت تلك الديمقراطية الى أزمتها ومعها ماتت السياسة الكاذبة او أنه جرى تجميدها بين جــدران البرلمان الأربعة.
.وقبل ذلك كان هناك بحث عن حلول بالدستور والقوانين، أي بالكلمات، ولكن دون جدوى فقد كفر الناس بها، طالبين الممارسات .
و عندما جاء قيس سعيد ، رئيسا للدولة ، لم يكن قدومه صاعقة في سماء صافية ، فقد كانت تونس ملبدة بالغيوم فعبر هو عنها ، أو هي أنجبته فكان هو وليدها . وبدت من خلاله كما لو أنها تستعيد أنفاسها بصعوبة.
واذا كان قد قضى وقتا طويلا قبل الاصداح بصوتها ، فقد برهن أنه ربانها، ومن هنا ضرورة الالتفات سريعا الى معضلة الاعلام والثقافة وكل الأجهزة الثقافية لشرح ذلك .
وإذا كان قد نجح في قيادة السياسة فإن عليه النجاح الآن في قيادة الثقافة ، وهو الذي يعلم وجوب ابراز مصطلحات جديدة ، مدركا خطر فقر الأفكار والمفاهيم ،لذلك يستبدل المصطلحات الميتة بأخرى حية ، مع التنبه الى أن تونس تحيا لا في اللغة وانما في العمل ، ومن هنا أهمية تحويل وعيها العفوي الى وعي ثوري متناسب مع برنامج الرئيس ، واذا تطور ذلك الوعي شعبيا فإن الرئيس سيجد نفسه فيه ، متطابقا معه .
في تونس اليوم هناك كتلتان، واحدة تاريخية والأخرى لاتاريخية ، واحدة ميتة والأخرى حية ، الكتلة الأولى فيها تونس القديمة ، الميتة ، التي فات أوانها منذ زمن ولكنها ظلت جثة دون دفن ، و الثانية فيها تونس الحية ، المتوثبة ، المتجددة . المتوهجة .
في الكتلة الأولى هناك طبقات، وأحزاب ومنظمات تمثلها ، وقد جربها الشعب على مدى خمس وستين عاما ، ظلت خلالها تحكم متحدة ، ولكن متصارعة أيضا فلم تنتج غير الخيبة تلو الخيبة .
في الكتلة الثانية ، هناك أيضا طبقات ، وأحزاب ومنظمات تمثلها ، هي الشعب الذي يكدح وينتج الثروة دون الحصول على ثمار عمله كاملة ، ولكنها لم تحكم حتى الآن ، هذه الكتلة ينقصها التنظيم ويعوزها المال و الاعلام ولكنها تمتلك المستقبل ولها سواعدها القوية ، وهى المنتصرة مع مرور الوقت .
قيس سعيد يمثل اختراقا مهما على هذا الصعيد ، و هو يصارع بضراوة من داخل الكتلة الميتة محاولا دفنها وافساح المجال أمام تونس الحية لتحكم نفسها بنفسها وتتمتع بثروتها وسيادتها .
الصراع بين الكتلتين سيشتد وستستعمل فيه شتى الأسلحة ، الآن يستعمل التضليل والاشاعة ، وغدا ستتكلم أسلحة أخرى فتونس الميتة لن تستسلم الا اذا عرفت أن تيار الشعب العارم سيجرفها .في هذا الصراع المحايدون والمتحذلقون واللامبالون خزان تونس القديمة ،ولكنه خزان ملآن بالثقوب وسوف يجف سريعا كلما كان نبض الحياة أقوى فأقوى.